الفصل الثاني

آلية إطلاق جهد الفعل في الخلايا العصبية

نموذج «التسريب – التجميع – الإطلاق»، ونموذج «هودجكين وهكسلي»

«القوانين التي تحكم المبدأ الذي يقوم عليه عمل الجهاز العصبي مختلفة تمامًا عن قوانين الكهرباء. ومن ثم فإن الحديث عن تيارٍ كهربيٍّ في الأعصاب يعني أننا نستخدم تعبيرًا رمزيًّا، وكأننا نُقارن المبدأ الذي يقوم عليه عمل الجهاز العصبي بالضوء أو المغناطيسية.» هكذا اختتم يوهانس مولر كتابه الصادر عام ١٨٤٠ تحت عنوان «دليل علم وظائف الأعضاء البشرية» الذي يزيد عن ٦٠٠ صفحة.

نال كتاب مولر — الذي يُعد بمثابة جولة شاملة عبر الجوانب الحديثة وغير المؤكدة في مجال علم وظائف الأعضاء — حظًّا وافرًا من القراءة. وقد عزز نشر الكتاب (لا سيما ترجمته شبه الفورية إلى اللغة الإنجليزية تحت عنوان «عناصر علم وظائف الأعضاء») سُمعة مولر باعتباره معلمًا وعالمًا موثوقًا به.

عمل مولر أستاذًا في جامعة هومبولت في برلين منذ عام ١٨٣٣ إلى أن تُوفي بعد ذلك بنحو ٢٥ عامًا. كان لديه اهتمام واسع بعلم الأحياء، وكان يتمتع باعتقادات فكرية راسخة. وقد كان من المؤمنين بالمذهب الحيوي، أي الفكرة القائلة بأن الحياة تعتمد على قوة حيوية منظِّمة تتجاوز التفاعلات الكيميائية والفيزيائية. كانت هذه الفلسفة جلية في تناوله لعلم وظائف الأعضاء. ففي كتابه لم يزعم بأن نشاط الأعصاب ليس له طبيعة كهربية فحسب؛ بل أوضح أنه «يستحيل تفسير طبيعته»، أي إن الحقائق الفسيولوجية لا يمكنها أن تكشف عن جوهره.

لكن مولر كان مخطئًا. فعلى مدار القرن الذي يليه، اتَّضح أن الروح التي اعتُقد أنها تتدفق داخل الأعصاب لم تكن سوى الحركة البسيطة للجسيمات المشحونة. وبذلك أصبحت الكهرباء الحبر الذي كُتبت به الشفرة العصبية. وفي النهاية أصبح تفسير طبيعة عمل الجهاز العصبي أمرًا ممكنًا.

اكتشاف الطبيعة الكهربية للجهاز العصبي لم تُبطِل المبدأ الحيوي الذي أقره مولر فحسب؛ بل قدَّم فرصة. وذلك بشق طريق يصل بين دراسة الكهرباء وعلم وظائف الأعضاء اللذَين يتطوران بسرعة، وهو ما سمح بتطبيق الأدوات المستخدمة في دراسة الكهرباء على المسائل التي يتناولها علم وظائف الأعضاء. على وجه التحديد، قدمت المعادلات — التي اختُصِرت عن طريق عدد لا نهائي من التجارب لتحديد السلوكيات الأساسية للأسلاك والبطاريات والدوائر الكهربية — لغةً يمكن بها وصف الجهاز العصبي. اتضح أن هناك رموزًا مشتركة بين المجالَين، لكن العلاقة بينهما كانت أكبر بكثير من كونها علاقة رمزية كما زعم مولر. اعتمدت دراسة الجهاز العصبي اعتمادًا كبيرًا على دراسة الكهرباء. هذا التعاون، الذي نُثرت بذورُه في القرن التاسع عشر، أخرج شطأه في القرن العشرين، وأزهر في القرن الحادي والعشرين.

•••

هب أنك ذهبت لزيارة شخص متعلِّم ينتمي للطبقة العليا في أوروبا في القرن الثامن عشر، ربما كنت تجد ضمن أرفف الأدوات العلمية والمقتنيات الأخرى قارورة لايدن. قوارير لايدن، التي سُميت على اسم المدينة الألمانية لأحد مخترعيها، هي قوارير زجاجية تشبه معظم القوارير الأخرى. إلا أنها لا تخزِّن المربَّى أو الخضراوات المخللة؛ بل تخزِّن الشحنات. وتعد هذه الأداة، التي ابتُكرت في منتصف القرن الثامن عشر، نقطةَ تحولٍ في دراسة الكهرباء. ونظرًا لأن هذه الأداة تُعد صورة حرفية لتخزين الشحنات الكهربية من البرق في زجاجة، فقد أتاحت للعلماء، وغير العلماء على حدٍّ سواء، التحكُّم في الكهرباء ونقلها لأول مرة، موزِّعةً أحيانًا صدمات كهربية قوية بما يكفي للتسبب في نزيف الأنف وفقدان الوعي.

وفي حين أن قارورة لايدن قد تحتوي على مقدار كبير من الطاقة، فإن تصميمها في غاية البساطة. فالجزء السفلي داخل القارورة مغطًّى برقاقةٍ معدنية، وكذلك الجزء السفلي خارج القارورة. ينتج عن هذا طبقة من الزجاج محصورة بين طبقتَين من المعدن. تُضَخ الجُسَيمات، المشحونة داخل الرقاقة المعدنية الداخلية حتى تملأها بالكامل، عبر سلسلة أو قضيب يتدلَّى من أعلى القارورة. تتجاذب الجسيمات ذات الشحنات المتعاكسة؛ ومن ثم فإنه إذا كانت الجسيمات التي تتحرك داخل القارورة موجبة الشحنة، على سبيل المثال، فستتراكم الجسيمات السالبة الشحنة على الجانب الخارجي من الزجاجة. إلا أن الجسيمات لا يمكنها الوصول لبعضها؛ لأن الزجاج يعزلها عن بعضها. وككلبَين متجاورَين يفصل بينهما سور، لا يسع الجسيمات إلا أن تصطفَّ على جانبَي الزجاج آملةً دون جدوى أن تقترب من بعضها.

سنُطلق اليوم على الجهاز الذي يحفظ الشحنة، مثل قارورة لايدن، اسم «المكثِّف». ينتج عن تفاوت الشحنات على جانبَي الزجاج فرقٌ في طاقة الوضع يُعرف بالجهد الكهربي. بمرور الوقت، مع إضافة مزيدٍ من الشحنات إلى القارورة يزداد الجهد الكهربي. إذا اختفى العازل الزجاجي — أو وُفِّر مسار آخر يؤدي إلى تلاقي هذه الجسيمات — فستتحول طاقة الوضع إلى طاقة حركة؛ نظرًا لأن الجسيمات ستتحرك نحو نظائرها. وكلما زاد الجهد الكهربي على جانبَي المكثِّف، أصبحت حركة الشحنات — أو التيار — أقوى. هكذا بالضبط ينتهي الأمر بصعق العديد من العلماء، إضافةً إلى الذين يُجرون التجارب من غير المتخصصين. فعن طريق التوصيل بين الجزأَين الداخلي والخارجي من القارورة بأيديهم، يكونون بذلك قد فتحوا مسارًا لتدفُّق الجسيمات عبر أجسامهم مباشرة.

لويجي جلفاني هو عالم إيطالي ولد عام ١٧٣٧. ونظرًا لأنه كان شديد التديُّن على مدار حياته، فقد فكَّر في الالتحاق بالكنيسة قبل دراسة الطب في جامعة بولونيا. وهناك، لم يدرس أساليب الجراحة والتشريح فحسب؛ بل درس مجال الكهرباء الرائج آنذاك. كان المختبر الذي احتفظ به في بيته — حيث كان يعمل عن كثَب مع زوجته لوشيا ابنة أحد أساتذته — يحتوي على أدوات استكشاف لما هو بيولوجي ولما هو كهربي، تتضمن: مشارط ومجاهر، بالإضافة إلى آلاتٍ كهروستاتيكية، وبالطبع قارورات لايدن. ركز جلفاني في تجاربه الطبية على الضفادع، شأنه في ذلك شأن طلاب علم الأحياء لقرون، سواء الذين سبقوه أو الذين جاءوا من بعده. يمكن لعضلات الضفدع أن تستمر في العمل بعد وفاة الضفدع، وهي ميزة مستحبة، لا سيما عند محاولة تشريح الحيوان، وفي الوقت نفسه فَهْم الآلية التي يعمل بها جسمه.

fig1
شكل ٢-١

ولولا التنوع الذي حظِي به مختبر جلفاني — وربما عدم تنظيمه — لما احتل صفحات في كتب العلوم الدراسية. كما ذكرت القصة، حرَّك أحد الأشخاص في المختبر (من الممكن أن تكون لوشيا) مشرطًا معدنيًّا حيث لامس العصب الوركي لضفدع ميت، في اللحظة نفسها التي انبعثت فيها شرارة عن طريق الخطأ من آلة كهربية ولامست المشرط، وهو ما جعل المشرط يحمل شحنة كهربية. انقبضت عضلات الضفدع في الحال، وهي ملاحظة قرر جلفاني أن يتقصَّى في شأنها بحماس. وفي كتابه الصادر عام ١٧٩١، وصف العديد من التحضيرات المختلفة التي قام بها من أجل إجراء تجارب المتابعة على «الكهرباء الحيوانية»، بما في ذلك مقارنة مدى كفاءة أنواع المعادن المختلفة في استثارة عمليات الانقباض، وكيفية توصيله لسلك بعصب الضفدع خلال عاصفة رعدية. شاهد رِجل الضفدع تنقبض مع كل وَمضة برقٍ.

كان هناك دائمًا تلميحات تُوضِّح أن الحياة تستفيد من الكهرباء. تنبأ ابنُ رُشد، أحد العلماء المسلمين في القرن الثاني عشر، بالعديد من الاستنتاجات العلمية، عندما لاحظ أن قدرة السمك الرَّعَّاش على تخدير الصيادين في مياهها قد تنبع من القوة نفسها التي تجذب الحديد إلى حَجَر المغناطيس. وفي السنوات السابقة لاكتشاف جلفاني كان الأطباء يستكشفون بالفعل استخدامات التيارات الكهربية في الجسم لعلاج كل شيء؛ بدءًا من الصَّمَم ووصولًا إلى الشَّلل. لكن مجموعة التجارب المتنوعة التي أجراها جلفاني جعلت دراسة الكهرباء الحيوية تتخطى التكهُّنات المحضة والتخمين. فقد جمع الأدلة ليوضح أن حركة الحيوانات تنتج عن حركة الكهرباء داخل أجسامها. وبهذا استنتج أن الكهرباء قوة مُتأصِّلة في الحيوانات، وهي نوع من السوائل التي تتدفق عبر أجسامها بانتظام مثل الدم.

تماشيًا مع ما شهده علم الهواة من رواجٍ في ذلك الوقت، لدى سماع أخبار العمل الذي قام به جلفاني، شرع العديد من عموم الناس في تقليده. وعندما قام الأشخاص العاديون الفضوليون بتوصيل قوارير لايدن الخاصة بهم بأي ضفدع تمكَّنوا من الحصول عليه، رأوا الانقباضات والتشنُّجات نفسها التي رصدها جلفاني. كان تأثير العمل الذي أنجزه جلفاني واسع النطاق، لدرجة أنه — جنبًا إلى جنب مع فكرة حركة الكهرباء في الحيوانات — شقَّ طريقه إلى عقل الكاتبة الإنجليزية ماري شيلي وألهمها كتابة رواية «فرانكنشتاين».

ومع ذلك، كان هناك جرعة صحية من «الشك العلمي» تمثلت في أن ادعاءات جلفاني لم تَحْظَ بتأييد تام من جميع أقرانه الأكاديميين. فقد اعترف ألِساندرو فولتا — العالم الإيطالي الذي سُميت وحدة قياس الجهد الكهربي باسمه — بأن الكهرباء قد تكون المتسببة بالفعل في عمليات الانقباض في الحيوانات. لكنه أنكر أن يكون معنى هذا أن الحيوانات تستخدم الكهرباء عادةً كي تتحرك. لم يرَ فولتا في تجارب جلفاني أي دليل على أن الحيوانات تُنتج كهرباءها الخاصة. فقد وجد في الحقيقة أن التلامس بين نوعَين مختلفَين من المعادن قد يولِّد الكثير من القوى الكهربية غير المحسوسة تقريبًا، وعليه فإن أي اختبار لوجود كهرباء حيوانية باستخدام معادن متلامسة يمكن أن تؤثر فيه كهرباء مولدة خارجيًّا. فيما يلي ما ذكره فولتا في خطاب كَتَبه عام ١٨٠٠: «وجدت نفسي مضطرًّا لمعارضة فكرة الكهرباء الحيوانية المزعومة التي ذكرها جلفاني، والإعلان أنها كهرباء خارجية المصدر تتحرك بفعل تلامس المعادن المختلفة.»١

لسوء حظ جلفاني، كان فولتا أصغر سنًّا وأكثر استعدادًا لمناظرةٍ علنية، ونجمُه يعلو في هذا المجال. ومن ثَم، فإنه خَصم هائل في المجال العلمي. قوة شخصية فولتا كانت تعني أُفول أفكار جلفاني لعُقود رغم صحتها في العديد من الجوانب.

صحيحٌ أن كتاب مولر قد نُشر بعد قُرابة ١٠ سنوات من وفاة فولتا، إلا أن اعتراضه على الكهرباء الحيوانية قد سار على المنوال نفسه. فهو ببساطة لم يعتقد أن الكهرباء هي المادة التي ترسِل الإشارات العصبية، كما أن وزن الأدلة في ذلك الوقت لم يجعله يعدِل عن رأيه. بالإضافة إلى نزعة مولر للمذهب الحيوي، فإن عناده قد يكون نتيجة لتفضيله للملاحظة على حساب التدخل أو الوسيط. لا يهم إلى أي مدًى تزايدت أمثلة الحيوانات التي استجابت للكهرباء خارجية المصدر على مدار السنوات؛ فهي لن تعادل أبدًا الملاحظة المباشرة لحيوان يُولِّد الكهرباء بنفسه. في هذا الصدد، أوضح مولر في محاضرته الافتتاحية في جامعة بون: «الملاحظة بسيطة ولا تعرف الكَلل ومثابرة وقويمة، كما أنها ليست مشوبة بأحكام مسبقة. أما التجربة، فهي مختلَقة ولا تعرف المثابرة، كما أنها معقدة واستطرادية ومتأثرة بالأحكام المسبقة ولا يمكن الاعتماد عليها.» لكن في ذلك الوقت، كانت الملاحظة مستحيلة. فلم تكن هناك أداة قوية بما يكفي لالتقاط الإشارات الكهربية الشاحبة التي تحملها الأعصاب في حالتها الطبيعية.

لكن هذا تغيَّر عام ١٨٤٧ عندما ابتكر إيميل دوبوا ريموند، أحد طلاب مولر، جلفانومتر٢ شديد الحساسية، وهو جهاز يقيس التيار الكهربي خلال تفاعله مع المجال المغناطيسي. كانت تجاربه محاولةً لأخذ ملاحظات عالم الفيزياء الإيطالي كارلو ماتوتشي حول العضلات كما هي وتطبيقها على الأعصاب. باستخدام الجلفانومتر، اكتشف ماتوتشي حدوث تغيير بسيط في شدة التيار الكهربي القادم من العضلات بعد إجبارها على الانقباض. إلا أن البحث عن هذه الإشارة في أحد الأعصاب كان يتطلب مجالًا مغناطيسيًّا أقوى لالتقاط التيار الكهربي الأضعف. وإضافةً إلى تصميم العَزل المناسب لمنع حدوث أي تشويش من الكهرباء خارجيةِ المصدر، تَعيَّن على دوبوا ريموند لفُّ ما يزيد عن مِيل من السلك بيده (وهو ما نتج عنه عدد لفات يعدِل ثمانية أضعاف عدد لفات ماتوتشي) للحصول على مجال مغناطيسي قوي بما يكفي لهذا الغرض. وقد نجح عمله اليدوي. مع تمكُّن الجلفانومتر الذي أعده دوبوا ريموند من قياس استجابة أحد الأعصاب، عمِل دوبوا ريموند على تحفيز العصب بالعديد من الطُّرق، بما في ذلك تحفيزه كهربيًّا، أو باستخدام المواد الكيميائية مثل الاستركنين، وراقب قراءة الجلفانومتر التي توضح كيفية استجابة العصب. في كل مرة، كان يرى إبرة الجلفانومتر ترتفع. وقد لاحظ الكهرباء وهي تؤثر على الجهاز العصبي.

كان دوبوا ريموند رجلًا مُحبًّا للاستعراض بجانب كونه عالمًا، وقد تحسَّر على أساليب العرض التقديمي المملة لزملائه العلماء. ولكي ينشر الثمار التي جناها من عمله، أعدَّ العديد من العروض التقديمية الجاهزة للجمهور حول الكهرباء الحيوية، بما في ذلك إعداد التجربة التي يمكنه فيها تحريك إبرة الجلفانومتر، عن طريق شدِّ عضلات ذراعه المغمورة في وعاء من الماء المالح مُوصلٍ بالجلفانومتر. كان كل هذا كفيلًا بأن تسترعي الاستنتاجات التي حصل عليها الانتباه، وأن يُنظر إلى دوبوا ريموند بإعزاز من مفكري عصره. في هذا الصدد، أوضح ما يلي: «ظل مُبسِّطو العلوم في ذهن العامة هم النصب التذكاري للتقدم البشري، بعد أن ارتفعت أمواج النسيان مبتلعةً أصحاب الأبحاث العلمية الأكثر دِقة.»

لحسن الحظ، كان بحثه دقيقًا أيضًا. لا سيما أن العمل اللاحق الذي أجراه دوبوا ريموند مع تلميذه يوليوس بيرنشتاين سيحدد مصير نظرية الكهرباء العصبية. صحيحٌ أن التجربة الأصلية لدوبوا ريموند نجحت في إظهار علامة على تغيُّر التيار الكهربي داخل عصبٍ نشِط. لكن بيرنشتاين تمكن من تعزيز قوة الإشارة وتسجيلها على مقياسٍ زمني أدق، من خلال إعداد تصميم تجريبي متقن ودقيق، وبذلك يكون أول من أجرى رصدًا حقيقيًّا للإشارة العصبية، التي كان رصدها أمرًا مستعصيًا في السابق.

خلال تجربة بيرنشتاين بدأ أولًا بعزل عصبٍ وتثبيته على جهازه. بعد ذلك، حُفِّز العصب كهربيًّا عند أحد الطرفَين، ثم بحث بيرنشتاين عن وجود أي نشاط كهربي على بعد مسافة قصيرة. من خلال التسجيل بدقةٍ تصل إلى ثُلث الواحد من ألف من الثانية، رأى كيف تغيرت شدة التيار الكهربي العصبي تغيُّرًا ملحوظًا بعد كل عملية تحفيز. بُعد الموقع الذي يُسجَّل منه عن موقع التحفيز قد ينتج عنه توقف قصير إلى أن ينتقل التيار الكهربي من العصب إلى الجلفانومتر. لكن بمجرد وصول التيار الكهربي إلى الموقع الذي يُسجل منه، كان يلاحظ دائمًا أن التيار الكهربي ينخفض بسرعة، ثم يستعيد قيمته الطبيعية ببطءٍ أكبر.

كانت النتيجة التي حصل عليها بيرنشتاين، والتي نُشرت في العدد الافتتاحي من دورية «يوروبيان جورنال أوف فِيلوسوفي» عام ١٨٦٨، أولَ تسجيل لما يُشار إليه الآن باسم «جهد الفعل». يُعرف جهد الفعل بأنه نمط مميز من التغيُّرات التي تحدث في الخواص الكهربية للخلية. للخلايا العصبية جهود فعلٍ. ولبعض الخلايا القابلة للاستثارة، كالخلايا الموجودة في العضلات أو القلب، جهود فعلٍ أيضًا.

هذا الاضطراب الكهربي ينتقل عبر غشاء الخلية مثل الموجة. بهذه الطريقة، يساعد جهدُ الفعل الخليةَ على نقل الإشارة من أحد طرفَيها إلى الطرف الآخر. في القلب، على سبيل المثال تساعد موجة جهد الفعل في تنظيم انقباض الخلية. جهود الفعل هي أيضًا الطريقة التي تتواصل بها الخلية مع الخلايا الأخرى. في الخلية العصبية، حين يصل جهد الفعل إلى النهاية العُقدية الشكل للامتداد المعروف باسم المحور، فإنه يدفع النواقل العصبية إلى الخارج. هذه المُركَّبات الكيميائية يمكنها الوصول إلى الخلايا الأخرى وتحفيز جهد الفعل فيها أيضًا. في حالة عصب الضفدع الشائع، تؤدي جهود الفعل التي تنتقل لأسفل الرِّجل إلى إطلاق نواقل عصبية إلى عضلة الرِّجل محفزةً جهود الفعل فيها. تؤدي جهود الفعل في العضلة إلى ارتعاشها.

كان العمل الذي أنجزه بيرنشتاين الكلمة الافتتاحية في حكايةٍ طويلة عن جهد الفعل. والآن أصبح جهد الفعل الأساس الذي يُبنى عليه علم الأعصاب الحديث، باعتباره الوحدة الأساسية للاتصال في الجهاز العصبي. هذه الومضات السريعة من النشاط الكهربي تصل الدماغ بالجسم، وتصل الجسم بالدماغ، كما تربط جميع الخلايا العصبية للدماغ التي تقع فيما بينهما.

بعد أن لمح دوبوا ريموند تغيُّرات في التيار الكهربي صادرةً من العصب، كتب ما يأتي: «إذا لم أكُن أخدع نفسي بدرجة كبيرة، فقد نجحت في إدراك الحلم الذي تعقَّبه علماء الفيزياء وعلم وظائف الأعضاء على مدار ١٠٠ عام، بعبارة أخرى، الطبيعة الكهربية للجهاز العصبي.» تم التعرف على طبيعة عمل الجهاز العصبي بالفعل من خلال جهد الفعل. ومع هذا، ألزم دوبوا ريموند نفسه باستخدام «الطريقة الرياضية الفيزيائية» لتفسير الجانب الحيوي، وعلى الرغم من أنه أرسى قواعد الطريقة الفيزيائية، فإنه لم يحلَّ الجزء الرياضي. مع تنامي شعور العلماء بأن العلم السليم ينطوي على التحديد أو القياس الكمِّي، كانت وظيفة وصف الخواص الفيزيائية لمبدأ عمل الجهاز العصبي لا تزال بعيدة المنال. بالفعل، كان تحديد جوهر عمل الجهاز العصبي والتعبير عنه في صورة معادلات يستغرق ١٠٠ عام أخرى.

•••

على النقيض من تجربة يوهانس مولر، عندما نشر جورج أُوم كتابًا يتناول فيه النتائج العلمية التي توصَّل إليها فقدَ وظيفته.

وُلد أُوم عام ١٧٨٩ لصانع أقفال. درس لفترة محدودة في الجامعة الموجودة في مسقط رأسه أرلنجن في ألمانيا، ثم قضى سنوات يُدرِّس الرياضيات والفيزياء في العديد من المدن. في آخر الأمر، بدأ يُجري تجاربه المحدودة، لا سيما حول موضوع الكهرباء، وذلك بهدف أن يصبح أستاذًا جامعيًّا. في أحد الاختبارات، قطَّع أسلاكًا بأطوال مختلفة من معادن مختلفة. ثم وصل طرفَي السلك بمصدر به فرق جهد كهربي وقاس شدة التيار المتدفق بينهما. من خلال ذلك تمكن من استنتاج علاقة رياضية بين طول السلك وشدة التيار المار فيه: كلما كان السلك أطول، انخفضت شدة التيار.

وبحلول عام ١٨٢٧، جمَّع أُوم هذه العلاقة بالإضافة إلى معادلات الكهرباء الأخرى في كتابه «دراسة الدائرة الكهربية الجلفانية رياضيًّا». بخلاف الصورة الحديثة لدراسة الكهرباء، لم تكن دراسة الكهرباء في زمن أوم نظامًا رياضيًّا بدرجة كبيرة؛ لذا لم يُحبذ أقرانه محاولته أن يجعلها كذلك. وقد وصل الأمر إلى الحد الذي عبَّر فيه أحد النُّقاد قائلًا: «من يُلقي نظرة على العالم بعين التوقير من الطبيعي أن يَحيد عن هذا الكتاب الناتج عن وهمٍ عُضال، همه الوحيد هو الانتقاص من كرامة الطبيعة.» بعد أن استقطع أوم وقتًا من عمله من أجل كتابة هذا الكتاب على أمل أن يحصل من خلاله على ترقية، انتهى به الحال بتقديم استقالته بدلًا من ذلك بعد فشل كتابه.

ومع هذا، كان أوم على صواب. فالعلاقة الأساسية التي لاحظها، والتي تنص على أن التيار الكهربي الذي يسري في سلك يساوي الجهد الكهربي عبر السلك مقسومًا على مقاومة السلك؛ تُعدُّ حجر الأساس للهندسة الكهربية التي تُدرَّس لطلاب الصف الأول في تخصص الفيزياء حول العالم. ويُعرَف هذا بقانون أوم، كما أن الوحدة القياسية للمقاومة هي «الأوم». لم يعرف أوم التأثير الكامل للعمل الذي أنجزه خلال حياته، لكنه حين بلغ الثالثة والستين من عمره عُين أخيرًا أستاذًا للفيزياء التجريبية في جامعة ميُونِخ، أي قبل وفاته بسنتَين.

المقاومة، كما يُوحي الاسم، هي مقياس للمُعاوقة. فهي تُعد وصفًا للمقدار الذي تعوق به المادة تدفقَ التيار الكهربي. معظم المواد لها قدر من المقاومة، لكن حسبما لاحظ أوم، تحدد الخواص الفيزيائية للمادة مدى مقاومتها. للأسلاك الأطول مقاومةٌ أعلى، وللأسلاك الأكثر سُمكًا مقاومةٌ أقل. وكما يؤدي تضييق الساعة الرملية بإبطاء تدفق الرمل، فإن الأسلاك التي لها مقاومة أعلى تعوق تدفق الجسيمات المشحونة.

علِم لويس لابيك بقانون أوم. تمكَّن لابيك، الذي ولد في فرنسا عام ١٨٦٦، من إكمال الدكتوراه في مدرسة باريس الطبية بعد أول تسجيل لجهد الفعل بفترة قصيرة. فقد كتب أطروحته عن وظيفة الكبد وأَيْض الحديد. وعلى الرغم من أن دراساته كانت علمية، تراوحت اهتماماته على نطاق أوسع بين التاريخ والسياسة والإبحار؛ حتى إنه في بعض الأحيان كان يستقل قاربه إلى المؤتمرات التي كانت تُعقد على جانبَي قناة المانش.

لم يبدأ لابيك في دراسة السيال العصبي إلا في نهاية القرن التاسع عشر. كانت هذه نقطة الانطلاق لمشروع يمتد لعقود مع تلميذته مارسيل لابيك، التي ستصبح فيما بعد زوجته وزميلته، حول مفهوم الزمن في مجال الأعصاب. واحد من الأسئلة المكررة التي طرحاها هي: كم من الزمن يستغرق تنشيط أحد الأعصاب؟٣ وقد ترسخ في ذلك الحين أن توصيل طرفَي عصبٍ بمصدر جهد يتسبب في استجابة تُقاس: إما في صورة جهد فعلٍ يُلاحظ مباشرة في العصب، أو في صورة تشنُّج عضلي ينتج عن هذا التوصيل. اتضح أيضًا أن مقدار الجهد الموصَّل يشكِّل فرقًا؛ فإذا كان الجهد الموصل أعلى يستجيب العصب أسرع، وإذا كان الجهد الموصل أقلَّ يستجيب العصب أبطأ. ولكن، ما هي بالضبط العلاقة الرياضية بين الاستثارة التي يتعرض لها العصب والزمن المُستغرَق في الاستجابة؟

قد يبدو هذا سؤالًا بحثيًّا بسيطًا، مجرد فضول لن يُفضي إلى الكثير من النتائج، لكن ما يُهِم هو تناول لابيك له. ونظرًا لأن عالم وظائف الأعضاء الحق يتعيَّن عليه أن يكون مهندسًا، فيصمم ويصنع جميع أنواع الأجهزة الكهربية، من أجل التحفيز وتسجيل النتائج من الألياف العصبية، فقد كان لابيك على دراية بقوانين الكهرباء. فقد كانت لديه معرفةٌ بالمُكثِّفات، والمقاومة، والجهد الكهربي، وقانون أوم. هذه المعرفة هي التي مكَّنته من وضع مفهوم رياضي للأعصاب سيجيب عن سؤاله، بالإضافة إلى المزيد الذي سيقدِّمه فيما بعد.

ازداد فَهْم الأغشية التي تُحيط بالخلايا في القرون التي سبقَت العمل الذي أنجزه لابيك. وقد أصبح من الواضح أن مجموعات الجزيئات البيولوجية هذه تعمل قليلًا وكأنها حائط من الطوب؛ إذ لا تسمح بمرور الكثير من الجسيمات عبرها. بعض الجسيمات التي تمكَّنت هذه الجزيئات من عزلها تضمَّنت الأيونات، وهي عبارة عن ذراتٍ لمختلف العناصر، مثل الكلوريد والصوديوم والبوتاسيوم، تحمل شحنات موجبة أو سالبة. إذن، تمامًا كما كانت الجسيمات المشحونة تتراكم على جانبَي الزجاج في قارورة لايدن، فإن هذه الجسيمات يمكن أن تتراكم داخل الخلية وخارجها. في هذا الصدد ذكر لابيك في ورقة نُشِرت عام ١٩٠٧: «أفضت هذه الأفكار، عند تناولها بأبسط طريقة ممكنة، إلى معادلات استقطاب الأقطاب الكهربية للمعادن المستخدمة بالفعل.»

ومن ثَم، أصبح يصف العصب من خلال محاكاته بالدائرة الكهربية. أي إنه اعتبر أن أجزاء العصب المختلفة تتصرف مثل المكونات المختلفة للدائرة الكهربية. أول تشبيه وُضِع كان بين غشاء الخلية والمكثِّف؛ نظرًا لأن الغشاء يمكنه حفظ الشحنة بالطريقة نفسها. لكن كان واضحًا أن الأغشية ليسَت مكثفات مثالية؛ إذ إنها لا يمكنها فصل الشحنات بالكامل. بدلًا من ذلك، تبيَّن أن جزءًا من التيار يَسري من داخل الخلية لخارجها والعكس، وهو ما يسمح بتفريغ الشحنة على جانبَي الغشاء ببطء. ويمكن أن يلعب هذا الدور سلك له بعض المقاومة. لذا أضاف لابيك مقاوِمة إلى نموذج الدائرة الكهربي المحاكي للعصب على التوازي مع المكثف. بهذه الطريقة، عند ضخ تيار في الدائرة الكهربية، تنتقل بعض هذه الشحنة إلى المكثِّف ويمر البعض الآخر عبر المقاوِمة. وعليه، تصبح محاولة إحداث فرق في الشحنة بين داخل الخلية وخارجها أشبه بسَكب ماء في دلو به عيب؛ معظم الماء سيبقى في الدلو، لكنَّ بعضه سيتسرب للخارج.

هذا التشبيه بين الخلية والدائرة الكهربية مكَّن لابيك من كتابة معادلة. وصفت المعادلة كيفية تغيُّر الجهد الكهربي عبر غشاء الخلية بمرور الوقت، بناءً على مقدار الجهد الكهربي الذي تتعرَّض له الخلية، والمدة الزمنية التي تتعرض خلالها لهذا الجهد. باستخدام هذه المعادلة، تمكَّن من حساب المدة الزمنية المطلوبة لكي تستجيب الخلية العصبية لكل مقدارٍ من الجهد.

fig2
شكل ٢-٢

للحصول على بيانات يختبر من خلالها معادلته، لجأ لابيك إلى تجربة رِجل الضفدع القياسية؛ فعرَّض عصب الضفدع لمقادير مختلفة من الجهد الكهربي، وسجَّل الزمن الذي تستغرقه كي تستجيب. افترض لابيك أنه عندما تستجيب الخلية العصبية للضفدع، فإن هذا يعني أن جهد الغشاء قد وصل إلى عَتَبة استثارة معينة. ومن ثم، حسَب المدة الزمنية التي يحتاج أن يستغرقها نموذجه كي يصل إلى هذه العتبة لكل قدرٍ من الجهد الكهربي تتعرض له الخلية. بالمقارنة بين التنبؤات التي توصل إليها من نموذجه والنتائج التي حصل عليها من تجاربه، استطاع لابيك التوصُّل إلى نقاط التقاء جيدة. وبذلك يكون قد تمكن من التنبؤ بالمدة الزمنية التي يحتاجها مقدار مُعيَّن من الجهد الكهربي الذي تتعرض له الخلية العصبية كي تستجيب.

لم يكُن لابيك أول من دوَّن معادلة كهذه. فقد قدَّم العالم جورج فايس، وهو أحد العلماء السابقين له، تخمينًا لكيفية وصف هذه العلاقة بين الجهد الكهربي والزمن. كان هذا التخمين جيدًا نسبيًّا أيضًا، ولم يكن يختلف عن تنبؤات لابيك إلا اختلافًا طفيفًا، فيما يتعلَّق بمقادير الجهد التي تتعرَّض لها الخلية لفترةٍ طويلةٍ على سبيل المثال. لكن مثلما قد يؤدِّي أصغر الأدلة في مسرح الجريمة إلى قَلْب موازين الأحداث، فإن مثل هذا الاختلاف الطفيف بين التنبُّؤات التي انطوت عليها معادلة لابيك وما جاء قبله؛ يُشير إلى اختلافٍ عميقٍ في التفكير.

بخلاف معادلة لابيك، لم تكن معادلة فايس مستوحاةً من آلية عمل الخلية، ولم يكن الهدف منها هو تفسير المعادلة باعتبار الخلية مكافئةً للدائرة الكهربية. فقد كانت وصفًا للبيانات أكثر من كونها نموذجًا لها. ففي حين أن المعادلة الوصفية أشبه صورة متحركة لحدثٍ ما — إذ تعكس المظهر الخارجي للحدث دون أي عمق — يُعد النموذج إعادة بناء للحدث. وهكذا، لا بد أن يتضمن النموذج الرياضي للسيال العصبي متغيراتٍ تمثل الأجزاء الموجودة في العصب نفسه. ولا بد أن يكون من الممكن ربط كل متغير بكيان مادي حقيقي، وأن تعكس التفاعلات بين هذه المتغيرات ما يحدث في العالم الحقيقي أيضًا. وهذا تمامًا ما قدمه نموذج الدائرة الكهربي المحاكي للعصب للابيك: معادلة حدودها قابلة للتفسير.

رأى العلماء الذين سبقوا لابيك بالفعل وجه التشابُه بين الأدوات الكهربية المستخدمة لدراسة العصب والعصب نفسه. وقد اعتمد لابيك اعتمادًا كبيرًا على العمل الذي أنجزه فالتر نيرنست، الذي لاحظ أن قُدرة الغشاء على فصل الأيونات يمكن أن يكون الأساس الذي يعتمد عليه جهد الفعل. وأيضًا تحدث طالب آخر من طلاب دوبوا ريموند يُدعى لوديمار هيرمان عن العصب في إطار المُكَثِّفات والمقاوِمات. حتى جلفاني نفسه كانت تراوده فكرة أن العصب يعمل بطريقة مشابهة لقارورة لايدن. إلا أنه، اعتمادًا على نموذج الدائرة الكهربية الصريح المحاكي للعصب وملاءمته مع البيانات، خطا لابيك خطوة أبعد فيما يتعلق بإرساء حُجة تؤيد اعتبار العصب جهازًا كهربيًّا دقيقًا. في هذا الصدد أوضح: «التفسير الفيزيائي الذي توصَّلتُ إليه اليوم أضفى معنًى دقيقًا على العديد من الحقائق المهمة المعروفة سابقًا حول قابلية الاستثارة … ويبدو لي أن هذا سببٌ في اعتباره خطوة نحو الواقعية.»

نظرًا لمحدودية المعدات والأجهزة، كان معظم علماء الأعصاب في زمن لابيك يُسجِّلون من الأعصاب ككل. الأعصاب هي حزم مكونة من العديد من المحاور العصبية، والمحاور العصبية هي ألياف ترسل الخلايا العصبيةُ المنفردة عبرها الإشارات للخلايا الأخرى. التسجيل من العديد من المحاور العصبية في آنٍ واحد يُسهِّل التقاط التغيُّرات الناتجة عن مرور التيار في المحاور، لكنه يجعل من الأصعب رؤية شكلٍ تفصيلي لهذه التغيرات. لكن تثبيت قطبٍ كهربيٍّ بداخل خليةٍ عصبيةٍ منفردةٍ يجعل تسجيل الجهد عبر الغشاء مباشرةً أمرًا ممكنًا. وبمجرد أن أصبحت تقنية ملاحظة الخلايا العصبية الفردية متاحةً في بدايات القرن العشرين، أصبح جهد الفعل أكثر وضوحًا.

يُعرف أحد المبادئ المميزة لجهد الفعل التي لاحظها إدجار أدريان، اختصاصي علم وظائف الأعضاء الإنجليزي، في عشرينيات القرن العشرين بمبدأ «الكل أو لا شيء».٤ ينُصُّ مبدأ «الكل أو لا شيء» على أن الخلية العصبية إما أن تُطلِق جهدَ فعلٍ أو لا تُطلق جهد فعل، ولا شيء بينهما. بعبارة أخرى، في أي وقت تحصل الخلية العصبية على مدخل كافٍ، فإن الجهد عبر غشاء الخلية يتغير كما تتغير الخلية العصبية بالطريقة نفسها تمامًا. إذن، كما أن الهدف في الهُوكي يُحتسب هدفًا بصرف النظر عن مدى صعوبة إدخال الكرة في الشبكة، فإن استثارة الخلية العصبية بقوة لا تجعل جهدَ فعلِ الخلية أكبر أو أفضل. كلُّ ما تفعله الاستثارة الأقوى هو أنها تجعل الخلية العصبية تطلق مزيدًا من جهود الفعل نفسه. ومن ثم، فإن الجهاز العصبي يهتم بالكمِّ أكثر من الكيف.

مبدأ «الكل أو لا شيء» الذي يميز طبيعة عمل الخلية العصبية يتوافق مع حدس لابيك، حول وجود عَتَبة تحفيز لجهد الفعل تستجيب عندها الخلية. فقد علِم أن رؤية استجابة من العصب تتطلب وصول الجهد عبر الغشاء إلى قيمة محددة. لكن بعد أن يصل لهذه القيمة، تبقى الاستجابة واحدة.

وبحلول ستينيات القرن العشرين، دُمِج مبدأ «الكل أو لا شيء» مع معادلة لابيك في نموذج رياضي يُعرف باسم نموذج «التسريب – التجميع – الإطلاق» في الخلية العصبية. سُمي «التسريب»؛ لأن وجود مقاوِمة يعني أن بعض التيار سيتسرب، وسُمي «التجميع»؛ لأن المكثِّف يُجمِّع بقية التيار ويختزنه في صورة شحنات، وسُمي «الإطلاق»؛ لأنه عندما يصل الجهد الذي يمر عبر مكثِّف إلى عتبة الاستثارة، فإن الخلية العصبية «تُطلِق» فرقَ جهد. وبعد كل عملية «إطلاق للإشارات العصبية الكهربية» يعود جهد الغشاء إلى قيمته الأساسية، منتظرًا الوصول إلى العتبة مرة أخرى إذا تعرضت الخلية العصبية لمزيد من المُدخَلات.

وعلى الرغم من بساطة النموذج، يمكنه تقديم نسخةٍ مماثلةٍ للكيفية التي تُطلِق بها الخلايا العصبية إشاراتٍ عصبيةً كهربية، على سبيل المثال، إذا كان المُدخَل الذي يتعرَّض له النموذج المحاكي للخلية العصبية قويًّا ومستمرًّا، فستُطلق الخلية العصبية النموذجية جهود فعلٍ متكررةً مع وجود مُهلةٍ طفيفةٍ تفصل بين الواحد والآخر، أما إذا كانت قيمة المدخل منخفضة بما يكفي، فقد تبقى الخلية دون إطلاق جهد فعل واحد لأجَل غير مُسمًّى.

يمكن توصيل هذه الخلايا العصبية النموذجية معًا؛ بحيث يكون إطلاق جهد الفعل في إحدى الخلايا مُحفِّزًا لإطلاق جهد الفعل في خلية أخرى. هذا يزوِّد مُصمِّمي هذه النماذج بقدرة أوسع على استكشاف سلوك شبكاتٍ كاملة من الخلايا العصبية لا خلية منفردة، إضافةً إلى فهمه وعمل نُسَخ تحاكيه.

ومنذ ظهور هذه النماذج، استُخدِمت لفهم عددٍ لا يُحصى من الجوانب المتعلقة بالدماغ، بما في ذلك الأمراض. فعلى سبيل المثال، مَرضُ باركنسون هو اضطراب يؤثر على إطلاق الخلايا العصبية للإشارات العصبية الكهربية في العُقد القاعدية. تتكون العُقد القاعدية، التي تقع عميقًا في الدماغ، من مجموعة متنوعة من المناطق التي لها أسماء لاتينية توضيحية. عند تشويش المُدخَل الذي يحفِّز إحدى المناطق — أي منطقة الجسم المخطَّط — بفعل مرض باركنسون، فإن هذا يؤثر على توازن العُقد القاعدية بالكامل. ونتيجة للتغيُّرات التي تحدث في الجسم المخطط تبدأ النواة أسفل المهاد (وهي منطقة أخرى من مناطق العُقد القاعدية) في إطلاق إشارات عصبية كهربية أكثر من اللازم، وهو ما يؤدي إلى تحفيز الإطلاق في الخلايا العصبية في الكُرَة الشاحبة الخارجية أو الظهرانية (وهي منطقة أخرى من مناطق العُقد القاعدية). لكن الخلايا العصبية في هذه المنطقة تبعث بدورها إشارةً إلى منطقة النواة أسفل المهاد؛ كي تتوقَّف عن إطلاق المزيد من الإشارات العصبية الكهربية، وهو ما يؤدي بدوره إلى تثبيط الكُرة الشاحبة الخارجية نفسها. ينتج عن هذه الشبكة المعقدة من التداخلات تَذَبذُباتٌ؛ إذ تُطلِق الخلايا العصبية إشاراتٍ عصبية كهربية أكثر من اللازم، ثم تُطلق إشاراتٍ عصبية كهربية أقل، فأكثر مرةً أخرى. يتضح أن هذه الإيقاعات تتصل بمشكلات الحركة لدى مرضى باركنسون؛ كالرعشة والحركات البطيئة والتيَبُّس.

في عام ٢٠١١ صمم باحثون في جامعة فرايبُورج نموذجًا حاسوبيًّا لهذه المناطق من الدماغ، مكونًا من ٣٠٠٠ نموذج من نماذج «التسريب – التجميع – الإطلاق» التي تحاكي عمل الخلايا العصبية. في النموذج، تَسبَّب إحداث خلل في الخلايا التي تمثِّل منطقة الجسم المخطَّط في حدوث التذبذبات نفسها التي لوحِظَت في منطقة النواة أسفل المهاد لدى مرضى باركنسون. ونظرًا لأن النموذج يعرض أعراضَ المرض، فإنه يمكن الاستعانة به أيضًا لاستكشاف طرقٍ لعلاجه. على سبيل المثال، ضخ نبضات من المدخل إلى النموذج المحاكي للنواة أسفل المهاد أدى إلى كسر هذه الحلقة من التذبذبات، واستعادة النشاط الطبيعي. لكن لا بد أن تكون هذه النبضات بالمعدَّلات المناسبة، فإن كانت أبطأ من ذلك فستزداد التذبذبات سوءًا بدلًا من أن تتحسَّن. ومن المعروف عن الاستثارة العميقة للدماغ — وهي إجراء تُزرَع فيه أقطاب كهربية في منطقة النواة أسفل المهاد لدى مرضى باركنسون لتوليد نبضات كهربية — أنها تقلل من الرعشة. يعلم الأطباء الذين يستخدمون هذا العلاج أن معدل النبضات لا بد أن يكون مرتفعًا، أي نحو ١٠٠ نبضة في الثانية. وهذا يعطينا تلميحًا حول السبب في أن معدلات الاستثارة العالية تؤدي إلى نتائج أفضل من المعدلات المنخفضة. وبهذه الطريقة، فإن تمثيل الدماغ، باعتباره دوائر كهربيةً متصلة معًا، يوضح كيف يمكن لاستخدام الكهرباء إصلاحُ عملية إطلاق الخلايا العصبية للإشارات العصبية الكهربية.

كان اهتمام لابيك مُنصبًّا على توقيت إطلاق الخلايا العصبية للإشارات العصبية الكهربية. وبتركيب المكونات الصحيحة للدائرة الكهربية معًا، تمكن من تحديد توقيت جهود الفعل تحديدًا صحيحًا، لكن تكوين هذه الدائرة الكهربية التي تُمثِّل الخلية العصبية فعلت ما هو أكثر من ذلك. فقد شكلت أساسًا متينًا تُبنى عليه شبكاتٌ هائلة مكوَّنة من آلاف من الخلايا المتصلة ببعضها. وتضطلع أجهزة الكمبيوتر حول العالم الآن بالمعالجة السريعة لمعادلات الخلايا العصبية الاصطناعية هذه، محاكيةً بذلك كيفية التجميع وإطلاق جهود الفعل في الخلايا العصبية الحقيقية في حالتَي الصحة والمرض.

•••

في صيف عام ١٩٣٩ أعدَّ آلان هودجكين قاربَ صيد صغيرًا، وانطلق بعيدًا عن الساحل الجنوبي لإنجلترا. كان يهدف لصيد الحُبَّار، لكنه لم يجنِ على الأغلب سوى دوار البحر.

في ذلك الوقت، كان هودجكين — وهو باحث مبتدئ في جامعة كامبريدج — قد وصل لتَوِّه إلى جمعية الأحياء البحرية في بليموث، وهو على استعدادٍ لإطلاق مشروع جديد يدرس الخواص الكهربية للمحور العصبي العملاق للحبَّار. على وجه الخصوص، كان يوَدُّ معرفة كيف يتغير جهد الغشاء أثناء حدوث جهد الفعل، مُتَّخذًا شكل منحنياتٍ صاعدةٍ وهابطةٍ يُشار إليها عادة ﺑ «القفزات في فرق الجهد» ويقصد بها التغيرات السريعة والمفاجئة.٥ بعد أسابيع قليلة انضم إليه مساعدٌ، قليل الخبرة مثله، وهو طالب يُدعى أندرو هكسلي. لحسن الحظ، اكتشف الرجلان في النهاية متى وأين يمكنهم إيجاد الموضوع الذي يدرسانِه في البحر.

على الرغم من أن هكسلي كان طالبًا لدى هودجكين، لم يكن الفارق بينهما يزيد عن ٤ سنوات. بدا هودجكين مثالًا للرجل الإنجليزي النبيل بحقٍّ؛ إذ كان له وجه طويل ونظرات ثاقبة، وكان شعره مفروقًا بعنايةٍ ومائلًا على أحد الجانبَين. أما هكسلي، فبدا صبيانيًّا مستديرَ الخدَّين وكثَّ الحاجبَين. كان الرجلان يتمتعان بمهارةٍ في علم الأحياء والفيزياء، على الرغم من أنهما انضمَّا إلى هذا التعاون البحثي المشترك بعد أن كانت لهما خلفياتٌ معرفية مختلفة.

درس هودجكين علم الأحياء بشكل أساسي، لكن في الفصل الدراسي الأخير، شجعه أحد أساتذة علم الحيوان على تعلُّم الرياضيات والفيزياء بقدر استطاعته. استجاب هودجكين للتشجيع، فقضى ساعاتٍ في قراءة كتبٍ أكاديمية حول المعادلات التفاضُلية. أما هكسلي، فكان مهتمًّا لفترةٍ طويلةٍ بالميكانيكا والهندسة، لكنه تحول إلى مسارٍ أكثر صلة بعلم الأحياء، بعدما أخبره أحد أصدقائه بأن محاضرات علم وظائف الأعضاء ستتناول موضوعاتٍ أكثر حيويةً وإثارةً للجدل. وقد يكون هكسلي قد انجذب لهذه المواد تأثرًا بجَدِّه. وصف عالم الأحياء توماس هنري هكسلي — الذي أُطلق عليه الحارس الوَفي (بولدوج) لداروين نظرًا لدفاعه المستميت عن نظرية التطور — علم وظائف الأعضاء بأنه «الهندسة الميكانيكية للآلات الحية».

تنبأ نموذج لابيك بتوقيت إطلاق الخلية العصبية لجهد الفعل، لكنه لم يفسِّر ماهيةَ جهد الفعل. في الوقت الذي قام فيه هودجكين برحلة على متن قارب، كانت النظرية الرائجة حينها، والتي تتناول ما يحدث عندما تُطلق الخلية العصبية جهدَ فعل، هي تلك التي وضعها الشخص الأصلي الذي لاحظ جهد الفعل، وهو يوليوس بيرنشتاين. وكانت تنُصُّ على أنه خلال هذا الحدث الكهربي يتحلل غشاء الخلية مؤقتًا. ومن ثم، فإنه يسمح للأيونات المختلفة بالتدفق من داخل الجدار لخارجه والعكس، وهو ما يمحو فرق الشحنة الذي يوجد في الوضع الطبيعي على جانبَي الغشاء، ويولِّد التيار الضعيف الذي لاحظه بيرنشتاين بالجلفانومتر الخاص به.

ومع ذلك، أوضحت بعض تجارب هودجكين السابقة على سرطان البحر أن هذا قد لا يكون صحيحًا تمامًا. أراد أن يتحقق أكثر من هذه التجارب باستخدام الحبَّار؛ وذلك لأن كبر حجم المحور العصبي الذي يمتد داخل غلافٍ يُيسِّر الحصول على قياساتٍ دقيقة.٦ بتثبيت قطب كهربي في محوره العصبي، تمكن هودجكين وهكسلي من تسجيل تغيرات الجهد الكهربي التي حدثت أثناء جهد الفعل. ما لاحظاه هو وصول جهد الفعل للذروة (مرحلة الإزالة التامة للاستقطاب). بمعنى أن فرق الجهد لم يصل إلى صفر فحسْب، كما كان سيحدث مع مكثِّف مُفرَّغ؛ بل أصبح فرق الجهد معكوسًا بين داخل الخلية وخارجها من السالب للموجب. في الوضع الطبيعي تكون الشحنات الموجبة خارج الخلية العصبية أكثر من الشحنات الموجبة داخلها، لكن في أثناء ذروة جهد الفعل ينعكس هذا النمط، ويصبح داخلُ الخلية مشحونًا بشحناتٍ موجبة أكثر من خارجها. السماح ببساطة لمزيدٍ من الأيونات بالانتشار عبر الغشاء الخلوي لن يؤدي إلى فصل الشحنات بهذه الطريقة. ثمة شيء أكثر انتقائية يمارِس تأثيرَه.

لسوء الحظ، لم يكد هودجكين وهكسلي يتوصَّلان إلى هذا الاكتشاف حتى انقطع عملهما. فقد غزا هِتلر بُولندا. واضطر الرجلان إلى ترك المختبر والانضمام للمجهود الحربي. ومن ثم، تعيَّن تأجيل حل لُغز جهد الفعل.

عندما عاد هودجكين وهكسلي إلى بيلموث بعد مرور ثماني سنوات، كان المختبر في حاجةٍ إلى إعادة تجميع؛ فقد تعرَّض المبنى للقصف بالقنابل في الغارات الجوية، كما انتقلت المعدات إلى علماء آخرين. لكن الرَّجلَين — اللذَين اكتسبا مهاراتٍ متعلقةً بالبحث الكمي نتيجةً للمهام التي كُلِّفا بها أثناء الحرب؛ فمثلًا أجرى هكسلي تحليلًا للبيانات لصالح فرقة المدفعية في البحرية الملكية البريطانية، كما طوَّر هودجكين أنظمة رادار للقوات الجوية — كانا توَّاقَين لاستئناف العمل على آليات السيال العصبي.

fig3
شكل ٢-٣

على مدار سنواتٍ عديدة تالية أخذ هودجكين وهكسلي (بمساعدة الاختصاصي الزميل في علم وظائف الأعضاء بيرنارد كاتس) يعبثان بالأيونات. بإزالة نوع محدد من الأيونات من بيئة الخلية العصبية، استطاعا تحديد أنواع الجسيمات المشحونة التي يعتمد عليها كل جزءٍ من أجزاء جهد الفعل. فمثلًا، الخلية العصبية التي تُركت في وعاء يحتوي على صوديوم أقل تجاوز فيها فرق الجهد الصفر، ووصل للذروة (مرحلة الإزالة التامة للاستقطاب) مراتٍ أقل، وبإضافة مزيدٍ من البوتاسيوم في الوعاء، سيختفي فرط الاستقطاب، وهو التأثير الذي يحدث عند الطرف الآخر من جهد الفعل، عندما يصبح داخلُ الخلية سالبًا أكثر من الطبيعي. أجرى الباحثان تجاربهما باستخدام تقنيةٍ ساعدتهما مباشرة على التحكم في فرق الجهد الكهربي على جانبَي غشاء الخلية. أدى التغيير في توازن الشحنات إلى تغيراتٍ كبيرةٍ في تدفق الأيونات إلى داخل الخلية وخارجها. عند إزالة فرق الشحنة على جانبَي الغشاء تسبح أيونات الصوديوم المخزنة في المنطقة الموجودة خارج الخلية إلى داخل الخلية، وبتَرْك الخلية على هذه الحالة لمدةٍ أطول تتدفَّق أيونات البوتاسيوم الموجودة داخل الخلية إلى خارج الخلية.

أسفرت هذه التعديلات في الأيونات عن نموذج. على وجه التحديد، كثَّف هودجكين وهكسلي معرفتهما التي اكتسباها بعَناء عن الفروق الدقيقة للأغشية العصبية في صورة دائرة كهربية مكافئة، وباستخدام هذه الدائرة توصَّلا إلى مجموعة من المعادلات تُمثِّل آلية عملها. هذه الدائرة المكافئة كانت أكثر تعقيدًا من دائرة لابيك؛ إذ كانت تحتوي على مزيد من الأجزاء المتحركة؛ لأنه لا يهدف إلى شرح متى يحدث جهد الفعل فحسب، بل يتطرق إلى تفسير شكل الحدث بالكامل. لكن الفرق الأساسي بينهما يُعزى إلى المقاوَمة.

فبالإضافة إلى المقاوِمة التي وضعها لابيك بالتوازي مع المكثِّف الممثل للغشاء، وضع هودجكين وهكسلي مقاوِمتَين إضافيَّتَين: واحدة مخصصة للتحكُّم في تدفق أيونات الصوديوم، والأخرى للتحكُّم في تدفق أيونات البوتاسيوم. عملية الفصل هذه التي تقوم بها المقاومات افترضَت وجود قنواتٍ مختلفةٍ في الغشاء الخلوي تسمح للأيونات المختلفة بالمرور بطريقةٍ انتقائية. إضافةً إلى ذلك، فإن قوة هذه المقاوِمات — أي الحد الذي تمنع به المقاوِمات تدفُّق الأيونات الخاصة بها — ليست من العوامل الثابتة في النموذج. بل تعتمد على حالة فرق الجهد على جانبَي المكثِّف. تتمكن الخلية من إنجاز هذا من خلال فتح قنوات الأيونات الخاصة بها وإغلاقها، مع تغيُّر فرق الجهد على جانبَي الغشاء. بهذه الطريقة، يمكن اعتبار غشاء الخلية مثل حارس النادي؛ إذ يقيِّم جموع الجسيمات على جانبَيه، ويستعين بذلك لتحديد الأيوناتِ التي تدخل للخلية، والأيوناتِ التي تخرج منها.

بعد أن حدَّد هودجكين وهكسلي معادلات هذه الدائرة الكهربية، أرادا التعامل بالأرقام لمعرفة ما إذا كان فرق الجهد عبر المكثِّف في النموذج سيُحاكي القفزات في فرق الجهد التي تحدث خلال جهد الفعل. إلا أنه كانت هناك مشكلة. كانت كامبريدج موطنًا لأحد أقدم أجهزة الكمبيوتر الرقمية، وكان من شأن هذا الجهاز أن يدفع العمليات الحسابية التي يُجريها هودجكين وهكسلي قُدُمًا لو لم يكُن خارج الخدمة. لذا، اتجه هكسلي إلى برونسفيجا، وهي آلة حاسبة ضخمة من المعدن تعمل بذراع تدوير يدوي. بينما قضى أيامًا يُدخِل قيمة فرق الجهد عند نقطة زمنية محددة فقط، ليحسب ما سيكون عليه بعد مرور واحد على ١٠ آلاف جزء من الثانية، كان هكسلي يرى العمل مشوقًا بالفعل. في هذا الصدد، قال في محاضرة فوزه بجائزة نوبل: «كان هذا مثيرًا جدًّا في كثيرٍ من الأحيان … هل سيصل فرق جهد الغشاء لحد عتبة الاستثارة ويُطلق جهد الفعل، أم ستحدث تذبذبات طفيفة في فرق الجهد لا تصل إلى حد عتبة الاستثارة؟ كثيرًا ما ثبت لاحقًا أن توقعاتي كانت خاطئة، والدرس المهم الذي تعلَّمته من هذه العمليات الحسابية اليدوية هو أن حَدْس المرء ليس كافيًا تمامًا عند التعامل مع نظامٍ على هذا القدر من التعقيد.»

مع اكتمال العمليات الحسابية، أصبح لدى هودجكين وهكسلي مجموعة من جهود الفعل الاصطناعية، شكَّل سلوكها صورة مطابقة شبه مثالية لجهد الفعل في الخلية العصبية.

عند ضخ تيار كهربي في النموذج، فإنه يعرض نَظمًا معقدًا لتغيُّر فرق الجهد والمقاوَمات. في البداية، يعمل التيار المدخَل على مقاومة الحالة الطبيعية التي تكون عليها الخلية؛ وذلك بإضافة بعض الشحنات الموجبة إلى داخل الخلية السالبة الشحنة. إذا كان هذا الاضطراب الأوَّلي الذي يحدث في جهد الغشاء كبيرًا بما يكفي، أي إنه بلغ عتبة الاستثارة، فسيبدأ فتح مضخات الصوديوم وتدفق سيلٍ من أيونات الصوديوم الموجبة الشحنة إلى داخل الخلية. ينشأ عن هذا حلقة من التغذية الراجعة الإيجابية، فتدفق أيونات الصوديوم للداخل يجعل داخل الخلية موجبًا أكثر، ويؤدي التغيُّر الناتج في فرق الجهد إلى تخفيض مقاومة الصوديوم أكثر. وسرعان ما يختفي الفرق في الشحنة على جانبَي الغشاء. ويصبح داخلُ الخلية خلال فترة قصيرة موجبًا كخارجها، ثم يصبح موجبًا أكثر، وهو ما يُعرف بمرحلة الإزالة التامة للاستقطاب. وبمجرد حدوث ذلك، تُفتح قنوات البوتاسيوم للسماح لأيونات البوتاسيوم الموجبة الشحنة بالتدفُّق إلى خارج الخلية. تعمل قنوات الصوديوم والبوتاسيوم مثل الأبواب المزدوجة؛ أحدها يسمح للأيونات بالدخول والآخر يسمح لها بالخروج، إلا أن أيونات البوتاسيوم تتحرك أسرع. خروج أيونات البوتاسيوم يعكس نمط فرق الجهد. فبعد أن يؤدِّيَ خروج البوتاسيوم إلى زيادة الشحنة السالبة داخل الخلية عن خارجها، تُغلق قنوات الصوديوم. ويُعاد فصل الشحنة على جانبَي الغشاء من جديد. وعندما يقترب فرق الجهد من قيمته الأصلية، تستمرُّ الشحنة الموجبة في التدفق إلى الخارج عبر قنوات البوتاسيوم التي لا تزال مفتوحة، ويُعرف هذا بالانخفاض عن حد العتبة (فرط الاستقطاب). في النهاية تُغلق هذه القنوات أيضًا، ويعود فرق الجهد إلى قيمته الطبيعية، وتصبح الخلية مستعدةً لإطلاق جهد الفعل من جديد.

ووَفقًا لهودجكين، أنشأ الباحثان هذا النموذج الرياضي لأنه «قد يُعتقد في البداية أن استجابة العصب للمثيرات الكهربية أشدُّ تعقيدًا وأكثر تنوُّعًا من أن تُفسر باستخدام هذه الاستنتاجات البسيطة.» لكن هذه الاستنتاجات البسيطة فَسَّرتها بالفعل. كلاعب خفة، تدمِج الخلية العصبية أجزاءً بسيطة بطرق بسيطة لتكوين مشهدٍ معقدٍ على نحوٍ مذهل. يوضح نموذج هودجكين وهكسلي أن جهد الفعل عبارةٌ عن انفجارٍ مُحكمٍ بدقة يحدث مليارات المرات في الثانية في دماغك.

نشر الباحثان العمل الذي أنجزاه — على المستويَين التجريبي والحسابي — في صورة عددٍ كبيرٍ من الأوراق البحثية في دورية «جورنال أوف فسيولوجي» عام ١٩٥٢. وبعد مرور ١١ عامًا اقتسما جائزة نوبل مع عالمٍ آخر نظير «اكتشافاتهما المتعلقة بآليات انتقال الأيونات المتضمَّنة في عمليتَي الاستثارة والتثبيط، في الجزأَين الطرفي والمركزي لغشاء الخلية العصبية.» وبهذا وضع العمل الذي أنجزه هودجكين وهكسلي حدًّا للشكوك التي كانت لا تزال تساور علماء الأحياء بشأن إمكانية تفسير السيال العصبي، فيما يتعلَّق بالأيونات والكهرباء.

•••

«يختص جسم الخلية العصبية و«الزوائد الشجيرية» باستقبال المعلومات ومعالجتها، وتُوصَّل هذه المعلومات في صورة سيالات عصبية أطلقتها خلايا عصبية أخرى على طول محاورها العصبية». بهذه الجملة المتواضعة، افتتح جون إيكلس — عالم فسيولوجيا الأعصاب الأسترالي، وهو الفائز الثالث بجائزة نوبل مشاركةً مع هودجكين وهكسلي — المحاضرةَ التي ألقاها عند فوزه بالجائزة. ثم أخذ يصف التعقيدات الخاصة بتدفُّقات الأيونات، والتي تحدث عندما ترسل إحدى الخلايا معلوماتٍ لأخرى.

ما لم تتطرق إليه المحاضرة هو الزوائد الشُّجَيرية. الزوائد الشجيرية هي محاليق دقيقة تمتد إلى خارج جسم الخلية العصبية. تتشعب هذه الأفرع وتتمدد وتتشعب مرة أخرى كجذور الأشجار؛ بحيث تغطي مساحة واسعة حول الخلية. تمدُّ الخلية العصبية زوائدها الشجيرية، بحيث تلتقي الزوائد الشجيرية والنهايات العصبية للخلايا المجاورة لتجميع مُدخلات منها.

كانت علاقة إيكلس بالزوائد الشجيرية معقدة. كان نوع الخلايا العصبية الذي درسه يحتوي على تفرُّعات شجيرية واضحة، وهو موجود في النخاع الشوكي للقطط. كانت التفرعات الشجيرية تمتد في كل الاتجاهات بمقدارٍ يفوق حجم جسم الخلية بعشرين مرة. إلا أن إيكلس لم يعتقد أن هذا النظام الخَلَوي المتشعب ذو صلة قوية بالموضوع. فقد كان على قناعةٍ بأن أجزاء الزوائد الشجيرية الأقرب إلى جسم الخلية قد يكون لها استخدامٌ ما؛ فالمحاور العصبية من الخلايا العصبية الأخرى تحطُّ على هذه الزوائد وتتصل بها، وبذلك تنتقل المدخلات في الحال إلى جسم الخلية؛ حيث يمكنها أن تساهم في استثارة إطلاق جهدِ فعلٍ. أما الزوائد الشجيرية الأبعد عن جسم الخلية، فقد زعم أنها أبعد من أن يكون لها دورٌ كبير؛ فإشارتها لن تصمد خلال رحلتها إلى جسم الخلية. بدلًا من ذلك، افترض أن الخلية تستخدم هذه الأذرع لامتصاص الجسيمات المشحونة، وتلفظها كي تحتفظ بتوازنها الكيميائي العام. ومن ثَم فإن إيكلس كان يرى أن الزوائد الشُّجَيرية، على أقصى تقدير، هي الفتيل الذي يحمل اللهب مسافةً قصيرةً إلى جسم الخلية، وعلى أقل تقدير، ماصَّةٌ تلتهم بعض الأيونات.

رأيُ إيكلس حول الزوائد الشُّجَيرية وضعه في خلافٍ مع زميله ويلفريد رال. حصل رال على درجة علمية في الفيزياء من جامعة ييل عام ١٩٤٣، لكن بعد أن قضى وقتًا في العمل على مشروع مانهاتن أصبح مهتمًّا بعلم الأحياء. لذا انتقل إلى نيوزيلندا للعمل مع إيكلس على تأثيرات الاستثارة العصبية عام ١٩٤٩.

ونظرًا لخلفية رال الدراسية، انتقل سريعًا إلى التحليلات الرياضية والنماذج المحاكية لفهم أنظمةٍ معقدة؛ مثل الخلية الحيَّة. وقد ألهمه وحفَّزه الجهد البحثي لكلٍّ من هودجكين وهكسلي، ذلك الجهد الذي كان قد سمع به عندما زار هودجكين جامعة شيكاغو، التي كان رال يدرس فيها للحصول على درجة الماجيستير. من منطلق هذا النموذج الرياضي، راود رال شعورٌ بأن الزوائد الشُّجَيرية يمكنها أن تؤديَ دورًا أكبر من الدور الذي حدَّده إيكلس. بعد قضاء وقتٍ في نيوزيلندا، كرَّس رال جزءًا كبيرًا من حياته المهنية لإثبات مدى أهمية دور الزوائد الشجيرية؛ ومن ثم إثبات أهمية الدور الذي تلعبه النماذج الرياضيَّة في التنبُّؤ بالاكتشافات في علم الأحياء.

استنادًا إلى تمثيل الخلية بدائرة كهربية، مثَّل رال الحِبال الدقيقة للزوائد الشُّجَيرية بما يُشبهها تمامًا؛ أي بالكَبْلات. بدراسة الزوائد الشجيرية من منظور «نظرية الكبلات»، يُعامَل كل جزء من الزوائد الشجيرية باعتباره سلكًا ضيقًا جدًّا، يحدد سُمكه مقاومته، كما اكتشف أوم. بتركيب هذه الأجزاء وتوصيلها معًا، استكشف رال كيف يمكن للإشارة العصبية الكهربية عند الطرف الأبعد من الزائدة الشُّجَيرية، أن تشُقَّ طريقها نحو جسم الخلية، والعكس صحيح.

بَيْد أن إضافة مزيد من الأجزاء إلى هذا النموذج الرياضي كان يعني معالجة المزيد من الأرقام. ولم يكن لدى معاهد الصحة الوطنية الأمريكية (NIH) في بيثيسدا في ولاية ميريلاند — حيث كان يعمل رال — كمبيوتر رقمي مناسب لعمليات المحاكاة الأكبر التي أرادها رال. عندما أراد رال حل معادلات النموذج مع إضافة الزوائد الشجيرية، كانت مهمةُ مارجوري فايس — وهي مبرمجةٌ في معاهد الصحة الوطنية الأمريكية — توصيلَ صندوقٍ يحتوي على مجموعةٍ من البطاقات، بها تعليماتٌ لإجراء المعادلات على الكمبيوتر، إلى العاصمة واشنطن لحل المعادلات على الكمبيوتر الموجود هناك. لم يتمكَّن رال من رؤية نتائج نموذجه إلى أن عادت في اليوم التالي.
من خلال استكشافات رال الرياضية الواضحة، أظهر بوضوح أن جسم الخلية في ظل وجود الزوائد الشجيرية، يمكن أن يكون له خواصُّ كهربية مختلفة جدًّا عنه من دون زوائد شجيرية. نُشر وصفٌ مختصرٌ للعمليات الحسابية التي أجراها رال في عام ١٩٥٧، وكان ذلك الوصف بمثابة الشرارة التي أشعلت فتيل جدالٍ دام لسنواتٍ بين الرجلَين، في صورة وابلٍ من المؤلَّفات والعُروض التقديمية من الطرفَين.٧ كان كل طرف يشير إلى الأدلة التجريبية، وما يرتبط بها من عملياتٍ حسابية لتعضيد موقفه. لكن ببطء، مع مرور الوقت، غيَّر إيكلس من موقفه. فبحلول عام ١٩٦٦ كان قد قَبِل علنًا اعتبار الزوائد الشُّجَيرية تروسًا مناسبةً في آلية «الخلية العصبية». كان رال محقًّا.

لم تقتصر نظرية الكَبْلات على كَشْف خطأ إيكلس فحسب. بل وفَّرت لرال وسيلةً لاستكشاف العديد من الأشياء السحرية التي يمكن للزوائد الشجيرية فِعْلها باستخدام المعادلات، قبل أن تتاح الوسائل التجريبية لفعل ذلك. وكان تحديد الترتيب إحدى المهارات المهمة التي توصَّل إليها رال. فقد رأى في عمليات المحاكاة التي قام بها أن الترتيب الذي تحصُل به الزوائد الشجيرية على المدخلات له آثارٌ مهمة على استجابة الخلايا. إذا حصلت الزوائد الشجيرية الموجودة في أبعد طرف على المدخلات أولًا، ثم حصلت الأقرب فالأقرب إلى جسم الخلية على المدخلات، فقد تطلق الخلية جهدَ فِعل. لكن إذا عُكس هذا النمط فلن تُطلق الخلية جهد فعل. وذلك لأن المدخلات القادمة من طرف بعيد عن جسم الخلية تستغرق وقتًا أطول كي تصل إليه. ومن ثم قدوم المدخلات من أقصى طرف أولًا يعني أن جميع المدخلات ستصل إلى جسم الخلية في الوقت نفسه. هذا يؤدي إلى إحداث تغيير كبير في جهد الغشاء، وربما يؤدي لإطلاق جهد فعل. أما إذا حدث العكس فستصل المدخلات في أوقات مختلفة، وهذا بدوره سيُحدث اضطرابًا متوسطًا في فرق الجهد. في سباقات الركض التي يبدأ فيها العدَّاءون الركض في أزمنة ومواقع مختلفة، الطريقة الوحيدة لجعلهم يعبرون خط النهاية معًا هي جعل العدَّائين الأبعد يبدءون أولًا.

طرح رال هذا التنبؤ عام ١٩٦٤. وفي عام ٢٠١٠ ثبتت صحة هذا التنبؤ في الخلايا العصبية الحقيقية. وللتأكد من صحة فرضية رال، أخذ باحثون في جامعة كوليدج لندن عينةً من الخلايا العصبية الموجودة في أدمغة الفئران. بتثبيت هذه الخلايا العصبية في طبق، أمكن للباحثين التحكم في إطلاق النواقل العصبية في أجزاء معينة من الزائدة الشجيرية، وهي أجزاء صغيرة لا تتجاوز المسافة بين كل جزءٍ منها وآخر خمسة ميكرونات (أو بعبارة أخرى، يعدل سمكُها سُمك خلية الدم الحمراء) على حِدة وليس بالتزامن. عندما انتقل المدخل من طرف الزائدة الشجيرية إلى جذرها، أطلقت الخلية العصبية جهد فعل، وبلغ معدل الإطلاق ٨٠ في المائة من إجمالي عدد المرات. وعندما انتقل المدخل من الأماكن القريبة من جسم الخلية أولًا، استجابت الخلية نصف عدد المرات فقط.

أوضح هذا العمل أنه حتى أصغر الأجزاء الحية له غرضٌ. فحقيقة أن أجزاء الزائدة الشجيرية تعمل مثل مفاتيح البيانو — حيث يمكن عزف النوتات نفسها بطرق مختلفة للحصول على مؤثرات مختلفة — تُزوِّد الخلايا العصبية بحِيَلٍ جديدة. على وجه التحديد، هذه الحقيقة تجعل الخلايا العصبية تتشرب مهارة تحديد التتابعات. ثمة كثيرٌ من الحالات التي يجب فيها معاملة المدخلات التي تعبُر إلى الزائدة الشجيرية من أحد الاتجاهات، بطريقةٍ مختلفةٍ عن المدخلات التي تعبر إلى الزائدة الشجيرية من الاتجاه المعاكس. على سبيل المثال، تتميَّز الخلايا العصبية في الشبكية بهذا النوع من «انتقائية الاتجاه». هذا يمكنها من تحديد اتجاه حركة الأجسام في مجال الرؤية.

في الكثير من حصص العلوم، يُعطى التلاميذ الأدوات اللازمة لتكوين دائرة كهربية كي يلهوا بها. فيمكنهم استخدام أسلاك لها مقاومات مختلفة لتوصيل المكثفات والبطاريات؛ وذلك لجَعْل مصباحٍ كهربي يضيء، أو مروحةٍ تدور. وعلى غرار طريقة فك وتركيب الدائرة الكهربية، يصمِّم علماء الأعصاب في وقتنا هذا نماذج للخلايا العصبية. وقد ساعد رال على إضافة المزيد من الأجزاء إلى المجموعة.

•••

إذا كان النموذج القياسي للخلية العصبية عبارةً عن بيتٍ صغيرٍ مشيدٍ من لبنات الهندسة الكهربية، فإن النموذج الذي شيَّده مشروع الدماغ الأزرق عام ٢٠١٥ هو مدينةٌ كاملة. عمل ٨٢ عالمًا ينتمون إلى ١٢ مؤسسةً معًا باعتبارهم جزءًا من هذا الجهد البحثي المشترك غير المسبوق. كان هدفهم محاكاة جزءٍ من دماغ الفأر في حجم حبة رملٍ كبيرة. ومن أجل ذلك فحصوا الدراسات السابقة، وقضوا سنواتٍ في إجراء تجاربهم لجَمْع كل ما يمكنهم جمعُه من البيانات، حول الخلايا العصبية في هذه المنطقة من الدماغ. وقد تعرَّفوا على القنوات الأيونية التي تستخدمها هذه الخلايا، وطول محاورها العصبية، وأشكال زوائدها الشُّجَيرية، ومدى تراصِّ هذه الخلايا بالقرب من بعضها، ومدى تواتر اتصال هذه الخلايا ببعضها. ومن خلال هذا تمكَّنوا من التعرُّف على ٥٥ شكلًا قياسيًّا يمكن أن تتخذها الخلايا العصبية، و١١ شكلًا من أشكال الاستجابة الكهربية التي يمكن أن تصدر عنها، وعددٍ من الوسائل المختلفة التي يمكن أن تتفاعل بها.

استخدموا هذه البيانات لتصميم محاكاة، وهي محاكاةٌ كانت تتضمَّن أكثر من ٣٠ ألفًا من نماذج الخلايا العصبية التفصيلية، تُشكِّل مجتمعةً ٣٦ مليون وَصلة. تطلَّب النموذج بالكامل جهاز كمبيوتر فائقًا صُمِّم خصوصًا لحل مليارات المعادلات التي تحدِّد هذا النموذج. إلا أن كل هذا التعقيد لا يزال ينبع من الأفكار الأساسية نفسها التي جاء بها لابيك وهودجكين وهكسلي ورال. آيدان سيجيف، أحد كبار الباحثين العاملين في المشروع لخص المنهج على النحو الآتي: «نستخدم نموذج هودجكين وهكسلي بطريقةٍ موسعة، ونصمِّم محاكاة للطريقة التي تكون بها هذه الخلايا نشطةً للحصول على آلية انتقال جهدِ الفعل — أي النشاط الكهربي — لهذه الشبكة من الخلايا العصبية، التي لا بد أنها تُحاكي الشبكة البيولوجية الحقيقية التي نحاول فَهْمها.»

كما أوضح الفريق في مؤلَّف يوثِّق هذا العمل، كان النموذج قادرًا على محاكاة العديد من خواص الشبكة البيولوجية الحقيقية. أظهرت المحاكاة تسلسلاتٍ متماثلةً من أنماط إطلاق جَهْد الفعل بمرور الوقت؛ مجموعة متنوعة من الاستجابات عَبْر مختلف أنواع الخلايا والتذبذبات. لعب هذا النموذج الواقعي دورًا أكبر من مجرد تكرار النتائج المستقاة من تجارب سابقة، فقد جعل استكشاف تجارب جديدة بسرعةٍ وسهولةٍ أمرًا ممكنًا. المحاكاةُ بالكمبيوتر للأنظمة البيولوجية جعلَت الدراسات الافتراضية لهذه المنطقة من الدماغ بسيطة، مثل كتابة أسطرٍ قصيرةٍ لكود، وهو منهجٌ يُطلق عليه علم الأعصاب «القائم على المحاكاة بالكمبيوتر».

إجراءُ عمليات محاكاةٍ كهذه لا يعطي تنبؤاتٍ دقيقة، إلا إذا كان النموذج الذي تقوم عليه المحاكاة نسخةً منطقيةً وطبق الأصل من النظام أو العملية البيولوجية. بفضل لابيك، علمنا أن استخدام معادلات الدائرة الكهربية، باعتبارها تنوب عن الخلية العصبية، هو الأساس المتين الذي تُبنى عليه نماذج الدماغ. فقد كانت مقارنته هي المنطلَق الذي بدأت منه دراسة العصب باعتباره جهازًا كهربيًّا. توسيع نطاق مقارنته من جانب عدد لا يحصى من العلماء الآخرين — العديد منهم مدرَّب في الفيزياء وعلم وظائف الأعضاء — أدى إلى توسيع قوتها التفسيرية أكثر. إذن، على عكس حدس مولر، تدب الحياة في الجهاز العصبي بفضل سريان الكهرباء كما أن دراسته قد انتعشت بفضل دراستها.

١  في سياق إثبات أن تَلامُس المعادن المختلفة يولِّد كهرباء، اخترع فولتا البطارية في نهاية المطاف.
٢  سُمي بالتأكيد على اسم جلفاني.
٣  التوصيل بمصدر جهد كهربي كان يُعد طريقة أسهل للتحكم في تدفق الشحنات مقارنةً بضخ التيار مباشرة.
٤  سنتناول المزيد حول أدريان وما كان يعنيه اكتشافه حول كيفية تمثيل الخلايا العصبية للمعلومات في الفصل السابع.
٥  زيادة الجهد الكهربي، وزيادة النشاط، وجهد الفعل، كلها أسماء تُستخدم للإشارة إلى ما تُطلقه الخلية العصبية.
٦  «المحور العصبي الضخم للحبار» الذي كان هودجكين وهكسلي يدرسانه كان محورًا كبيرًا جدًّا (سُمكه مثل سُمك سن القلم تقريبًا) لحبارٍ متوسط الحجم نوعًا ما. لم يكن محورًا لحبار عملاق كما اعتقد الكثير من طلاب علم الأعصاب.
٧  وفقًا لرال، حال إيكلس دون نشر العمل الذي أنجزه. وجاء في مخطوطة له عام ١٩٥٨ ما يلي: «استطاع أحد المحكمين إقناع المحررين برفض هذه المخطوطة. وقد أثبتَ العديدُ من الملاحظات الهامشية المدوَّنة على المخطوطة التي أُعيدت تلك الحقيقة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤