الفصل الرابع

تكوين الذكريات والاحتفاظ بها

شبكة هوبفيلد وعناصر الجذب

تكون كتلة الحديد عند درجة حرارة ٧٧٠ درجة سليزية (١٤١٨ درجة فهرنهايت) عبارة عن شبكة رمادية قوية. كل ذرةٍ من ذراتها البالغ عددها تريليونات تُعتبر لبنةً منفردةً في الجدران والأسقف اللانهائية التي يتكوَّن منها هيكلها البلوري. وهي تُعد نموذجًا في النظام والترتيب. على عكس الترتيب الهيكلي المنظم لهذه الذرات، يكون ترتيبها المغناطيسي فوضويًّا.

كل ذرة حديد تكوِّن مغناطيسًا ثنائي القطب، وهو مغناطيس مصغَّر له طرف موجب وطرف سالب. تعمل الحرارة على زعزعة استقرار هذه الذرات، إذ تقلب اتجاه قطبيها عشوائيًّا. على المستوى المصغَّر، هذا يعني وجود عدة مغانط صغيرة يؤثر كلٌّ منها بقوةٍ في اتجاهه الخاص. لكن نظرًا لأن هذه القوى تؤثر في اتجاهات متعاكسة، فإن تأثيرها الكلي يصبح مُهملًا. عند النظر إلى كتلة الحديد ككل، نجد أن كتلة هذه المغانط الصغيرة لا تحتوي على مغناطيسية على الإطلاق.

لكن مع انخفاض درجة الحرارة لأقل من ٧٧٠ درجة سليزية، يتغير شيء ما. يقل احتمال تغيُّر اتجاه الذرة الواحدة. ومع استقرار المغناطيس ثنائي القطب لهذه الذرة، تبدأ في ممارسة ضغط مستمر على الذرات المجاورة لها. هذا يوضح لهذه الذرات الاتجاه الذي يتعين عليها التوجه إليه أيضًا. تتنافس الذرات ذات الاتجاهات المختلفة على جعل الذرات المجاورة لها تأخذ اتجاهها المفضل، إلى أن تصطفَّ جميع الذرات بطريقة أو بأخرى. مع اصطفاف هذه المغانط الصغيرة، تصبح القوة المحصلة كبيرة. وبهذا تصبح كتلة الحديد التي كانت عديمة المغناطيسية مغناطيسًا قويًّا.

كتب عالمُ الفيزياء الأمريكي فيليب واران أندرسون، الحائز على جائزة نوبل نظير عمله على هذه الظاهرة، مقالةً اشتُهِرت مؤخرًا تحمل عنوان «مزيدٌ من التعقيد يعني مزيدًا من الاختلاف»، وقد أشار أندرسون في هذه المقالة إلى أنه «يتضح أنه يجب ألَّا يُفهم سلوك المجموعات الكبيرة والمعقَّدة من الجُسَيمات الأولية، من خلال التفسير البسيط لخواص مجموعةٍ صغيرةٍ من الجسيمات». بمعنى أن العمل الجماعي للعديد من الجُسيمات الصغيرة — الذي يُنظَّم من خلال التفاعلات بين هذه الجُسيمات المتجاورة فقط — يمكن أن ينتج عنه وظيفة لا يمكن أن تنتج مباشرة عن نشاط أي من هذه الجسيمات منفردة. صاغ علماء الفيزياء هذه التفاعلات في صورة معادلات، واستخدموا هذه المعادلات بنجاحٍ لتفسير سلوك المعادن والغازات والثلج.

في أواخر سبعينيات القرن العشرين، رأى أحد زملاء أندرسون، وهو جون جيه هوبفيلد، في هذه النماذج الرياضية للمغناطيسية هيكلًا ذا صلة بتركيب الدماغ. استعان هوبفيلد بهذه الرؤية لإيجاد حلٍّ لأحد الألغاز الطويلة الأمد باستخدام الرياضيات، هذا اللغز هو كيفية تكوين الذكريات والاحتفاظ بها عن طريق الخلايا العصبية.

•••

كان ريتشارد سيمون مخطئًا.

كتب عالم الأحياء الألماني ريتشارد سيمون، الذي كان يُجري أبحاثًا في نهاية القرن العشرين، كتابَين مطوَّلَين عن علم الذاكرة. زخر الكتابان بشروح تفصيلية للنتائج التجريبية والنظريات، والمفردات الخاصة بوصف أثر الذاكرة على «الأنسجة العُضوية». اتَّسم العمل الذي قدمه سيمون بالأمانة والوضوح وكان ينُم عن البصيرة، إلا أنه انطوى على عيب أساسي. فيما سبق اعتقد عالم الطبيعة جان باتيست لامارك (على عكس فهمنا الحالي للتطور) أن السمات التي يكتسبها الحيوان خلال فترة حياته يمكن أن تنتقل إلى نسله. وبالمثل، اقترح سيمون أن «الذكريات» التي يكتسبها الحيوان يمكن أن تنتقل إلى النسل. أي إنه اعتقد أن استجابات الكائن الحي لبيئته التي تعلَّمها ستظهر عند النسل دون تعليمها لهم. نتيجة لهذا الحدس الخاطئ، نُحيت أعمال سيمون، التي كانت قيِّمةً بعيدًا عن هذا الخطأ، شيئًا فشيئًا وطواها النسيان.

لم تكن الأفكار الخاطئة بشأن الذاكرة بالأمر الجديد. على سبيل المثال، اعتقد الفيلسوف رينيه ديكارت أن الذكريات تُنشَّط عن طريق غدة صغيرة توجِّه تدفق «الأرواح الحيوانية». ما جعل سيمون متفردًا، على الرغم من الخلل الذي كان في عمله، والذي حكم عليه أن يُصبح في طيِّ النسيان على مدار التاريخ، هو أن أحد إسهاماته ظل مؤثرًا لفترة كانت كافية لإنتاج مجموعة كاملة من الأبحاث. يتمثل الأثر الضئيل الذي تبقَّى من جهوده في «الإنجرام (Engram)»؛ وهي كلمة ابتكرها سيمون في كتابه «الاحتفاظ بالذكريات» عام ١٩٠٤ ثم تعلمها ملايين طلاب علم النفس وعلم الأعصاب.

في هذا الوقت الذي كان سيمون يؤلف فيه، كانت الذاكرة قد خضعت لتوِّها للتدقيق العلمي، كما كانت معظم النتائج تتعلق بمهارات الحفظ، وليس العمليات والآليات البيولوجية للذاكرة. على سبيل المثال، كان الأشخاص يُدرَّبون على حفظ أزواج من الكلمات العديمة المعنى مثل («شقك» «نيقك») ثم تُختبَر قدرتهم على استرجاع الكلمة الثانية عندما تظهر لهم الأولى. سيصبح هذا النوع من الذاكرة، المعروف باسم «الذاكرة الارتباطية»، هدفًا للبحث لعقودٍ قادمة. لكن سيمون كان مهتمًّا بما هو أكثر من السلوك؛ فقد أراد معرفة أيُّ التغييرات في النُّظم الفسيولوجية للحيوان يمكنها دعم هذه الذكريات الارتباطية.

قسَّم سيمون، الذي استرشد ببياناتٍ تجريبيةٍ شحيحة، عملية تكوين ذكريات واستعادتها إلى العديد من العناصر. ونظرًا لأنه وجد الكلمات الشائعة غامضةً ومثقلةً بالمعاني ابتكر مصطلحاتٍ جديدةً لتقسيمات العمل هذه. عُرفت الكلمة التي ستصبح ذات تأثير كبير، أي الإنجرام، بأنها «التعديل المستمر الخفي على الأغلب في المادة القابلة للاستثارة الناتجة عن مثير». أو، بعبارةٍ أكثر وضوحًا: التغييرات الفيزيائية التي تحدث في الدماغ عند تكوين ذكرى. رُبِط مصطلح آخر، وهو إكفوري (ecphory) أو الاسترجاع التلقائي للذكريات، «بالتأثيرات التي توقظ أثر الذاكرة أو الإنجرام من حالة الكُمون التي يكون عليها إلى حالةٍ من النشاط الواضح». هذا الفرق بين الإنجرام والإكفوري (أو بين عمليات تكوين ذكرى وعمليات استرجاعها) كان أحد مظاهر التقدم المفاهيمي التي جاء بها سيمون. على الرغم من أن اسم سيمون ومعظم مصطلحاته قد اختفت من المؤلفات، فإن العديد من مفاهيمه كانت صحيحة، وشكَّلت الأساس الذي اعتمد عليه تصميم نماذج الذاكرة في الوقت الحالي.
في عام ١٩٥٠، نشر عالم النفس الأمريكي كارل لاشلي ورقة بحثية بعنوان «البحث عن الإنجرام» رسخت إرث الكلمة. كما ألقت بظلال قاتمة على المجال. سُميت الورقة بهذا الاسم لأن البحث هو كل ما شعر لاشلي بأنه حقَّقه خلال ٣٠ عامًا من التجارب. تضمَّنت تجارب لاشلي تدريب الحيوانات على الربط بين أمرَين (على سبيل المثال بين الاستجابة بطريقةٍ محددةٍ عند إظهار دائرةٍ عليها علامة X) أو تعلم مهمة مثل كيفية الركض داخل متاهة محددة. بعد ذلك، كان يستأصل مناطق محددة أو مسارات عصبية من الدماغ جراحيًّا، ويلاحظ كيف يتأثر السلوك بعد الجراحة. لم يتمكن لاشلي من إيجاد أي منطقة أو نمط من الضرر يعرقل الذاكرة على نحو موثوق به. ومن ثم خلص إلى أن الذكريات تكون حتمًا موزَّعة بالتساوي في جميع أنحاء الدماغ، وليس في منطقةٍ واحدةٍ بعينها. لكن بناءً على بعض الحسابات المتعلقة بعدد الخلايا العصبية التي يمكن استخدامها لتكوين ذكرى وعدد المسارات بينها، لم يكن متأكدًا مما إذا كان هذا ممكنًا. لذا كان يُنظر إلى مقالته المميزة باعتبارها شكلًا من أشكال الاستسلام والتنازل عن أي محاولةٍ لاستخلاص استنتاجاتٍ حول موقع الذاكرة، أمام مجموعةٍ ضخمةٍ من البيانات غير المتسقة. ظلَّت الطبيعة الفيزيائية للذاكرة بالنسبة إلى لاشلي مزعجةً كما كانت دومًا.

في الوقت نفسه، كان أحد طلاب لاشلي القدامى يطوِّر نظرياتِه الخاصَّة عن التعلُّم والذاكرة.

عزم عالم النفس الكندي دونالد هيب، الذي أدى عمله المبكر معلمًا بالتدريس المدرسي إلى زيادة اهتمامه بالعقل، على جعل علم النفس علمًا بيولوجيًّا. وفي كتابه «تنظيم السلوك» الذي نُشر عام ١٩٤٩، اعتبر أن مهمة عالم النفس هي «إخضاع التفكير البشري بتقلُّباته لعملية السبب والنتيجة الآلية». وفي هذا الكتاب، أرسى العملية الآلية التي يعتقد أنها وراء تكوين الذكريات.١ بالتغلب على محدودية البيانات الفسيولوجية المتاحة وقتذاك وتضليلها أحيانًا، توصل هيب إلى مبدأ يتعلق بالأسس المادية للتعلم من خلال الحدس بدرجةٍ كبيرة. وُصِف هذا المبدأ، المعروف باسم التعلُّم الهيبي أو الارتباطي، بإيجازٍ من خلال العبارة «الخلايا العصبية التي تُطلق إشارات عصبية معًا ترتبط معًا».

يصف التعلُّم الهيبي ما يحدث عند موضع الاتصال بين خليتَين عصبيتَين، الذي يمكن عنده لإحدى الخليتَين إرسال إشارةٍ للأخرى، ويُطلق على هذا الفراغ الصغير اسم التشابك العصبي. لنفترض أن لدينا خليتَين عصبيتَين هما «أ» و«ب». يُكوِّن المحور العصبي للخلية «أ» اتصالًا تشابكيًّا مع الزوائد الشُّجَيرية أو جسم الخلية «ب» (وهو ما يجعل الخلية «أ» الخلية العصبية قبل التشابكية، والخلية «ب» الخلية العصبية بعد التشابكية). في التعلُّم الهيبي، إذا أطلقت الخلية العصبية «أ» إشارات عصبية مرارًا وتكرارًا قبل الخلية العصبية «ب»، فسيقوى الاتصال من الخلية «أ» إلى «ب». تقوية الاتصال يعني أنه في المرة القادمة التي تُطلق فيها الخلية «أ» إشارات عصبية كهربية، سيكون إطلاق الخلية «ب» للإشارات العصبية نتيجة لذلك أكثر فاعلية. بهذه الطريقة، يحدد النشاط قوة الاتصال وتُحدد قوة الاتصال النشاط.

اعتبر منهج هيب، بتركيزه على التشابك العصبي، أن تأثيرات الإنجرام قد تكون محدودة أو عامة؛ محدودة لأن الذاكرة تترك بصمة في الفجوة الصغيرة التي تلتقي عندها خلية عصبية بأخرى، وعامة لأن هذه التغييرات قد تحدث في كل التشابكات العصبية في الدماغ. كما جعل الذاكرةَ النتيجةَ الطبيعية للتجربة؛ مع لدونة التشابكات، يكون لدى أي عمليةِ تنشيطٍ للدماغ القدرةُ على ترك أثر.

وافق لاشلي، كونه عالمًا مخلصًا عازمًا على اتباع الحقائق، على أن الإنجرام يتوزع حتمًا بناءً على تجاربه الخاصة. لكنه لم يُرضِه حلُّ المسألة الذي قدمه هيب؛ إذ كان هذا الحل — على الرغم من كونه نظريةً جذابةً ومتسقة — يعتمد على التكهنات أكثر من اعتماده على الدليل المادي. وقد رفض عَرْض هيب بأن يكون مؤلفًا مشاركًا في العمل.

fig7
شكل ٤-١

على الرغم من أن أفكار هيب لم تجد دعمًا من لاشلي، منذ أن نُشر كتابه، حظِيت أفكاره بتأييدٍ من عدد لا حصر له من التجارب. أصبحت بُزَاقات البحر — وهي لا فقاريات بُنِّية لزجة بطول القدم تحتوي على ٢٠ ألف خلية عصبية فقط — من الكائنات التي حظيت بالكثير من الدراسة في هذا المجال؛ نظرًا لقدرتها على تعلُّم الربط الأساسي. لهذه البُزَاقات العديمة الصَّدَفة خيشوم على ظهرها يمكن سحبه للداخل بسرعة؛ لإبقاء هذه الرخويات آمنة إذا ما تعرضت للتهديد. في المختبر، تتسبب الصدمة الكهربية القصيرة في سحب الخيشوم للداخل. إذا سبقت هذه الصدمة الكهربية لمسة خفيفة غير مؤذية لمرات متكررة، فسيبدأ البُزَاق في سحب الخيشوم إلى الداخل استجابة للمسة فقط، وهو ما يُظهر وجود ارتباط بين اللمسة وما هو متوقع حدوثه بعد ذلك. تُعد هذه التجربة مكافئة لتعلم ربط كلمة «شقك» بكلمة «نيقك». اتساقًا مع نظرية هيب للتعلم، ثبت أن هذا الارتباط يتحقق من خلال تقوية الوصلات بين الخلايا العصبية التي تستجيب لِلَّمس، وتلك التي تؤدِّي إلى استجابة الخيشوم. يحدث التغيير في السلوك نتيجة لتغيير الوصلات.

ومن ثَم، لم يُلحَظ التعلُّم الهيبي فحسب؛ بل أمكن التحكم فيه أيضًا. في عام ١٩٩٩ أظهر باحثون من جامعة برينستون أن البروتينات المعدلة وراثيًّا الموجودة في الغشاء الخلوي، والتي تسهم في التغيُّرات التشابكية، يمكنها التحكم في قدرة الفأر على التعلم. زيادة فعالية أداء هذه المستقبلات تعزز قدرة الفئران على تذكر الأشياء التي عُرضت عليها من قبل. وعرقلة هذه البروتينات يفسد ذلك.

لقد ثبت علميًّا الآن أن التجربة تؤدي إلى تنشيط الخلايا العصبية، وأن تنشيط الخلايا العصبية يمكنه تغيير الروابط بينها. كانت هذه القصة مقبولةً باعتبارها على الأقل إجابةً جزئيةً للسؤال حول مسألة الإنجرام. إلا أن الإنجرام نفسه، حسب وصف سيمون، مجرد جزءٍ من حكاية الذاكرة. تتطلَّب الذاكرة أيضًا التذكُّر. كيف يمكن لطريقة إيداع الذكريات هذه إتاحةُ التخزين على المدى الطويل والتذكُّر؟

•••

لم تكن مفاجأة بحقٍّ أن يصير جون جي هوبفيلد عالم فيزياء. فقد ترعرع هوبفيلد، الذي وُلد عام ١٩٣٣ لجون هوبفيلد الأب — الرجل الذي صنع لنفسه اسمًا في التحليل الطيفي فوق البنفسجي — وهيلين هوبفيلد — التي درست الإشعاع الكهرومغناطيسي الجوي — في أسرةٍ كانت الفيزياء لديها تُعد فلسفةً بقدر ما كانت تُعد علمًا. في هذا الصدد، كتب هوبفيلد في سيرته الذاتية: «كانت الفيزياء عبارة عن وجهة نظر، مفادُها أنه بالجهد والبراعة والموارد الكافية، يمكن فهم العالم من حولنا بطريقةٍ تَنبُّئِيَّة وكَمية معقولة. كون المرء عالمَ فيزياء يعني التفاني في الوصول إلى هذا النوع من الفهم.» وكان سيصبح عالم فيزياء.٢

حصل هوبفيلد، الذي كان طويلًا ونحيلَ الجسد وله ابتسامة آسرة، على درجة الدكتوراه عام ١٩٥٨ من جامعة كورنيل. كما أنه حذا حذو والده بالحصول على زمالة جوجنهايم، واستخدمها للدراسة في مختبر كافيندش في كامبريدج. لكن حتى قبل هذه المرحلة، كان حماس هوبفيلد بشأن موضوع الدكتوراه الخاص به — أي فيزياء المواد المكثفة — يتلاشى. وقد كتب لاحقًا: «في عام ١٩٦٨ استنفدتُ ما لديَّ من مسائل … أفادَتْني مهاراتي في حلها على ما يبدو.»

من المعلوم أن الهيموجلوبين جُزَيءٌ له وظيفةٌ بيولوجيةٌ حاسمة؛ وهي حَمْل الأكسجين في الدم، وفي الوقت نفسه يمكن دراستُه باستخدامِ العديد من تقنيات الفيزياء التجريبية، ويُعد بمثابة البوابة التي عبر منها هوبفيلد من الفيزياء إلى علم الأحياء. بحث هوبفيلد في تركيب الهيموجلوبين لعدة سنوات في مختبرات بيل، لكنه وجد شغفه الحقيقي بعلم الأحياء، بعدما تلقَّى دعوة لسلسلة من مؤتمرات حول علم الأعصاب في بوسطن في أواخر سبعينيات القرن العشرين. وهناك التقى بمجموعة متنوعة من الأطباء الإكلينيكيين وعلماء الأعصاب، الذين اجتمعوا لمناقشة مسألة كيفية انبثاق العقل من الدماغ. افتُتِن هوبفيلد بذلك.

لكنْ نظرًا إلى أن هوبفيلد كان من ذوي التفكير الرياضي، أثار قلقه المنهج النوعي المتبع في أبحاث الدماغ. فقد كان قلِقًا من أنه على الرغم من مواهب هؤلاء الباحثين الواضحة في علم الأحياء، فإنهم «لن يتمكنوا أبدًا من حل المسألة؛ لأن الحل يمكن التعبير عنه فقط بلُغةٍ وبِنيةٍ رياضيةٍ ملائمة».٣ كانت هذه هي اللغة التي يستخدمها علماء الفيزياء. ومن ثم، انصب اهتمام هوبفيلد على استخدام مجموعة مهارات عالم الفيزياء، حتى عندما شرع في دراسة الذاكرة. كان يرى أن بعض علماء الفيزياء الذين قفزوا إلى علم الأحياء في ذلك الوقت قد هاجروا إليه كليًّا، حيث اضطلعوا بالمسائل المتعلقة بهذه الأرض الجديدة ومصطلحاتها وثقافتها. لكنه أراد الاحتفاظ بقوةٍ بهُويَّته كفيزيائي.

في عام ١٩٨٢ نشر هوبفيلد ورقة بعنوان «الشبكات العصبية والأنظمة الفيزيائية ذات القدرات الحاسوبية الجماعية الناشئة»، ورد فيها الوصفُ والنتائج المتعلقة بما يُعرف الآن باسم شبكة هوبفيلد. كانت هذه أول ورقة بحثية لهوبفيلد حول الموضوع؛ أي إنه بمجرد أن غامر بدخول مجال علم الأعصاب أحدث ضجة كبيرة جدًّا.

شبكة هوبفيلد عبارة عن نموذج رياضي من خلايا عصبية يمكنها تنفيذ ما وصفه هوبفيلد بأنه «ذاكرة مُعَنوَنة بمضمونها». يشير هذا المصطلح، الذي يعود إلى علوم الكمبيوتر، إلى فكرة أنه يمكن استرجاع ذكرى كاملة من مجرد عنصر صغير من عناصرها. الشبكة التي صمَّمها هوبفيلد لهذه المهمة بسيطة التركيب. فهي مكونة من خلايا عصبية ثنائية فقط (مثل الخلايا العصبية في نموذج ماكولك-بيتس الذي تناولناه في الفصل السابق)، يمكن أن تكون في وَضْع إما «تشغيل» أو «إيقاف». ومن ثم فإن التفاعلاتِ بين هذه الخلايا العصبية هي التي تنبثق منها السلوكيات المثيرة للاهتمام لهذه الشبكة.

شبكة هوبفيلد متكررة، بمعنى أن نشاط كل خلية عصبية يُحدَّد بواسطة نشاط أيٍّ من الخلايا العصبية الأخرى في الشبكة. لذا، فإن نشاط كل خلية عصبية يلعب دور المدخل والمخرج بالنسبة إلى الخلايا العصبية المجاورة لها. على وجه التحديد، كل مدخل تستقبله الخلية العصبية من خلية عصبية أخرى يُضرب في عدد محدد، وهو الوزن الترجيحي للتشابك، أي قوة التشابك. بعد ذلك، تُجمع هذه المدخلات المرجحة وتُقارن بحد العتَبة: إذا كان المجموع أكبر من (أو يساوي) حد العتبة يكون نشاط الخلية العصبية بالقيمة ١ («تشغيل»)، وبخلاف ذلك يكون بالقيمة صفر («إيقاف»). بعد ذلك، يدخل هذا المخرج في العمليات الحسابية التي تحدث في طبقة المدخلات للخلايا العصبية الأخرى، التي تدخل مرةً أخرى في مزيدٍ من العمليات الحسابية في طبقة المدخلات، وهكذا دوالَيك.٤

وكحال جمهورٍ محتشدٍ في ساحات الرقص الجامح، تتدافع عناصرُ النظام المتكرر، ويسحب بعضَها البعضُ؛ بحيث تُحدد حالة أي عنصر في أي لحظة محددة من خلال العناصر المحيطة بها. ومن ثم فإن الخلايا العصبية في شبكة هوبفيلد أشبه بذرات الحديد التي تؤثر باستمرار على بعضها، من خلال التفاعلات المغناطيسية. يمكن أن تكون تأثيرات هذا التفاعل المستمر لا تُحصى، ومعقدةً أيضًا. ويُعد توقُّع الأنماط التي تنتجها هذه الأجزاء المتداخلة مستحيلًا من الأساس، من دون دقَّة النموذج الرياضي. كان هوبفيلد على درايةٍ وثيقةٍ بهذه النماذج وقدرتها على توضيح كيف أن التفاعلاتِ المحدودةَ تُؤدِّي إلى ظهور السلوك الكُلِّي.

وجد هوبفيلد أنه إذا كانت الأوزان الترجيحية بين الخلايا العصبية في الشبكة صحيحة، فإن الشبكة ككل يمكنها تكوين ذاكرة ارتباطية. لفهم ذلك، علينا أولًا تحديد ما يُعتبر ذكرى في هذا النموذج التجريدي. تخيَّل أن كل خليةٍ عصبية في شبكة هوبفيلد تمثِّل شيئًا مختلفًا؛ الخلية «أ» تمثِّل كرسيًّا هزازًا، والخلية «ب» تمثِّل دراجة، والخلية «ﺟ» تمثِّل فِيلًا، وما إلى ذلك. لتمثيل ذكرى محددة، لنقل غرفة طفولتك، لا بد أن تكون جميع الخلايا العصبية التي تمثِّل جميع الأشياء الموجودة في غرفتك — أي السرير، وألعابك، والصور على الحائط — في وضع «تشغيل»، في حين أن الخلايا العصبية التي تمثِّل الأشياء غير الموجودة في غرفتك — أي القمر، وحافلة المدينة، وسكاكين المطبخ — لا بد أن تكون في وضع «إيقاف». ومن ثم تكون الشبكة ككلٍّ في حالة التنشيط المقابلة ﻟ «غرفة طفولتك». كل حالة تنشيط مختلفة — لها مجموعة مختلفة من الخلايا العصبية بوضع «تشغيل» أو «إيقاف» — تمثِّل ذكرى مختلفة.

fig8
شكل ٤-٢

في حالة الذاكرة الارتباطية، يؤدي مدخل صغير للشبكة إلى إعادة تنشيط حالة ذاكرة كاملة. على سبيل المثال، رؤية صورة لنفسك وأنت في غرفة طفولتك قد يُنشِّط بعض الخلايا العصبية التي تُمثِّل غرفتك؛ أي الخلايا العصبية التي تمثِّل الفراش والخلايا العصبية التي تمثِّل الوسادة، وما إلى ذلك. في شبكة هوبفيلد، الوصلات بين هذه الخلايا العصبية وتلك التي تمثِّل الأجزاء الأخرى من الغرفة — الستائر، والألعاب، والمكتب — يجعل هذه الخلايا العصبية الأخرى تصبح نشطةً، وهو ما يؤدي إلى إعادة تهيئة تجربة الوجود في غرفة النوم بالكامل. الوصلات ذات الأوزان السالبة (المثبِّطة) بين الخلايا العصبية التي تمثِّل الغرفة، وتلك التي تمثِّل حديقة محلية مثلًا، تضمن عدم تسلل أي عناصر أخرى إلى ذكرى الغرفة. بهذه الطريقة لن ينتهي بك الحال بتذكُّر أرجوحة بجانب خزانة ملابسك.

بينما تعمل بعض الخلايا العصبية على التحفيز وتعمل أخرى على التثبيط، فإن مثل هذه التفاعلية هي التي تبرز الذكرى بالكامل بصورة واضحة جلية. تقع مهمة التذكُّر على عاتق التشابكات العصبية. فقوة هذه الوصلات العصبية هي التي تنفِّذ مهمة استرجاع الذكريات الهائلة والدقيقة.

في لغة الفيزياء، الذكرى المسترجَعة بالكامل تُعد مثالًا على عناصر الجذب. عنصر الجذب باختصار هو نمط شائع للنشاط. فهو نمط تتحول إليه أنماط النشاط الأخرى، تمامًا كما يُسحب الماء إلى البالوعة. الذكرى عبارة عن عنصر جذب؛ لأن تنشيطَ عددٍ قليل من الخلايا العصبية التي تكوِّن الذكرى سيدفع الشبكة إلى استكمال الباقي. وبمجرد أن تصبح الشبكة في حالة عنصر الجذب، فإنها تبقى كذلك مع بقاء خلاياها العصبية في وضع «التشغيل» أو «الإيقاف». ونظرًا لكون علماء الفيزياء مولَعين بوصف الأشياء بدلالة الطاقة، فإنهم يعتبرون الجواذب حالاتٍ «منخفضة الطاقة». تمثِّل عناصر الجذب وضعًا مُريحًا لنظام ما، وهو ما يجعلها جذابة ومستقرة.

تخيل ترامبولين يقف عليها شخص. ستتدحرج كرة ثُبِّتت في مكان ما على الترامبولين نحو الشخص وتبقى هناك. ومن ثم، فإن وجود الكرة في التجويف أو الحفرة الناتجة عن وقوف الشخص يُمثِّل حالة عنصر الجذب أو الاستقرار لهذا النظام. إذا وقف شخصان لهما الحجم نفسه، أحدهما مقابل الآخر، على الترامبولين، فسيحتوي النظام على عنصرَي جذب. ستتدحرج الكرة نحو الشخص الذي كانت أقرب إليه منذ البداية، لكن كل الطرق ستظل مؤدية إلى جاذب. لن تكون أنظمة الذاكرة ذات فائدة كبيرة إذا كان بمقدورها تخزين ذكرى واحدة فقط؛ لذا من المهم أن تتمكن شبكة هوبفيلد من الاحتفاظ بالعديد من الجواذب. وكما تضطر الكرة إلى الاتجاه صوب أقرب نقطة منخفضة على الترامبولين، تنتقل حالات النشاط العصبي الأولية نحو الذكرى الأقرب والأكثر تماثُلًا. يقال إن الحالات الأولية التي تُفضي إلى ذكرى جاذبة محددة — على سبيل المثال: صورة فراش طفولتك التي تحفِّز استدعاء ذكرى الغرفة بالكامل، أو رحلة للشاطئ التي تسترجع ذكرى عطلة في الطفولة — تكون موجودة في «حوض الجذب» المفضي للذكرى الجاذبة.

قصيدة «مُتع الذاكرة» هي قصيدة كتبها صمويل روجرز عام ١٧٩٢. كتب روجرز متأملًا في الرحلة الشاملة التي يمكن للذاكرة اصطحاب العقل إليها:

أفكارنا ساكنة داخل الدماغ في غُرَف لا حصر لها،
كأنها حلقاتٌ مترابطة معًا بسلسلة خفية.
إذا أيقظت واحدة فقط من سباتها، تبعتها الآلاف باستفاقة تلقائية!
كل فكرة تطبع صورة لها! بينما تتلاشى الأخرى!

يمكن العثور على السلسلة الخفية في قصيدة روجرز في نمط الأوزان (قوة الوصلات) التي تستحضر ذكرى في شبكة هوبفيلد. يتسق نموذج الجواذب مع معظم حدسنا عن الذاكرة. فهو يتناول ضمنًا الزمن المستغرق لاستعادة الذكريات؛ إذ تحتاج الشبكة إلى زمنٍ لتنشيط الخلايا العصبية الصحيحة. يمكن أن تُزاح عناصر الجذب قليلًا في الشبكة، ما يؤدي إلى تكوين ذكريات دقيقة تقريبًا مع تغيير تفصيلة أو اثنتين. كما أنه من الممكن دمج الذكريات المتطابقة تمامًا معًا في ذكرى واحدة. في حين أن عمليةَ تفكيكِ الذاكرة واختزالِها إلى سلسلة من الأصفار والآحاد قد تبدو انتقاصًا من ثراء معرفتنا بالذاكرة، فإن تبسيط هذه العملية التي تبدو من دون هذا التبسيط غير قابلة للوصف هو الذي يجعل فهمها أمرًا سهل المنال.

fig9
شكل ٤-٣

في شبكة هوبفيلد، يحدد مدى قوة اتصال الخلايا العصبية ببعضها أنماطُ النشاط العصبي التي تشكِّل إحدى الذكريات. ومن ثَم، فإن الإنجرام يعتمد على الأوزان، لكن كيف يحدث ذلك؟ كيف يمكن لتجربةٍ تكوينُ الأوزان الصحيحة تمامًا اللازمة لتكوين ذكرى؟ يخبرنا هيب أن الذكريات تنتج حتمًا عن تقوية الروابط بين الخلايا العصبية التي لها نشاطٌ مماثل، وفي شبكة هوبفيلد هذا ما يتم بالفعل.

تعمل شبكة هوبفيلد على تشفير مجموعة من الذكريات من خلال إجراء بسيط. لكل حالة تتضمن خليتَين عصبيتَين، كلتاهما نشطتان أو غير نشطتين، يقوى الاتصال بين هاتَين الخليتَين. بهذه الطريقة، فإن الخلايا العصبية التي تُطلق إشارات عصبية كهربية معًا تصبح متصلة معًا. في المقابل، لكل نمط يتضمن خليتَين عصبيتَين إحداهما نشطة والأخرى غير نشطة، يضعف الاتصال بينهما.٥ بعد إجراء التعلم هذا، سيكون للخلايا العصبية التي تنشط معًا في حالة تكوين الذكريات اتصالٌ موجب قوي، في حين سيكون للخلايا العصبية التي لها أنماط نشاط معاكسة اتصال سالب قوي، وستقع الخلايا الأخرى في مكان ما بينهما. مثل هذا التباين في قُوى الاتصال يلزمُ لتكوين عناصر جذب.

عناصر الجذب ليست بالظواهر التافهة أو البسيطة. فإذا اعتبرنا أن جميع الخلايا العصبية ترسل وتستقبل مدخلات باستمرار، لِمَ نفترض أن نشاطها سيستقر عند نمط معين من النشاط العصبي يمثل حالة ذكرى معينة، فضلًا عن حالة الذكرى الصحيحة؟ للتأكُّد من أن عناصر الجذب الصحيحة ستتكوَّن في هذه الشبكات، تعيَّن على هوبفيلد أن يفترض افتراضًا غريبًا؛ وهو أن الأوزان في شبكة هوبفيلد متماثلة. وهذا يعني أن قوة الاتصال من الخلية «أ» إلى الخلية «ب» تُماثل قوة الاتصال من الخلية «ب» إلى الخلية «أ» دائمًا. قدم تطبيق هذه القاعدة ضمانةً رياضية على تكوين عناصر الجذب الصحيحة. إلا أنه ثمة مشكلة تتمثل في أن احتمالات إيجاد مجموعة كهذه من الخلايا العصبية في الدماغ أقلُّ ما تُوصف به أنها محبِطة. سيتطلَّب ذلك أن تمدَّ كل خليةٍ محورها العصبي، وتكوِّن تشابكًا عصبيًّا مع خلية أخرى، وفي المقابل تمد هذه الخلية الأخرى محورها العصبي أيضًا؛ كي يتصل بالخلية الأولى بالقوة نفسها. وعلم الأحياء ليس بهذه البساطة والسهولة.

هذا من شأنه أن يسلط الضوء على التوتر الدائم الناتج عن اتباع المنهج الرياضي في دراسة العمليات البيولوجية. إن منظور الفيزيائي، الذي يعتمد على درجة غير منطقية تقريبًا من التبسيط، يكون في خلاف دائم مع علوم الأحياء التي تعُجُّ بالتفاصيل غير المنظمة والشاقة. في هذه الحالة، تطلَّبت تفاصيل الرياضيات أوزانًا متطابقة، من أجل تكوين أي عبارةٍ حاسمةٍ عن الجواذب؛ ومن ثم إحراز تقدُّم في تمثيل عملية التذكر بنماذج. إلا أنه من المرجح أن يكون عالم الأحياء قد رفض هذا الافتراض برُمته.٦

ونظرًا لأن هوبفيلد قد وقف على مسافة واحدة من الخلاف بين علماء الرياضيات والأحياء، فقد عرف كيف يقدر وجهات نظر علماء الأعصاب. للتخفيف من مخاوفهم، أوضح في ورقته البحثية الأصلية أن الشبكات التي سمحت بأوزان غير متماثلة لا تزال قادرةً على التعلُّم، والحفاظ على عناصر الجَذْب بشكلٍ جيد نسبيًّا، على الرغم من أن هذا لا يمكن ضمانه رياضيًّا.

وبهذا، فإن شبكة هوبفيلد تقدم إثباتًا للمفهوم الذي مفادُه أن أفكار هيب عن التعلم يمكن أن تُطبق على أرض الواقع. علاوةً على ذلك، قدمت فرصة لدراسة الذاكرة دراسة رياضية لتحديد سَعة تخزين الشبكات العصبية. على سبيل المثال، إيجاد إجابة عن السؤال التالي: كم عدد الذكريات التي يمكن أن تستوعبها الشبكة؟ هذا سؤال لا يمكن طرحه إلا من خلال الاستعانة بنموذج محدد للذاكرة. في أبسط نسخة لشبكة هوبفيلد، يعتمد عدد الذكريات على عدد الخلايا العصبية في الشبكة. على سبيل المثال، الشبكة التي تحتوي على ١٠٠٠ خلية عصبية يمكنها تخزين ١٤٠ ذكرى، والتي تحتوي على ٢٠٠٠ خلية عصبية يمكنها تخزين ٢٨٠ ذكرى، والتي تحتوي على ١٠ آلاف يمكنها تخزين ١٤٠٠ وما إلى ذلك. إذا ظل عدد الذكريات أقل من ١٤ في المائة من عدد الخلايا العصبية، فستُستعاد كل ذكرى بحد أدنى من الخطأ. لكن إضافة مزيد من الذكريات سيكون أشبه بإضافة بطاقات إضافية إلى بيت مصنوع من البطاقات، وهو ما يؤدي لانهياره. عندما يتجاوز عدد الذكريات قدرة شبكة هوبفيلد على الاستيعاب، فإن الشبكة تنهار؛ أي إن المدخلات تتجه نحو عناصر جذبٍ بلا معنًى ولا يُستعاد أي ذكريات. هذه ظاهرةٌ يُطلَق عليها الاسم الدرامي المناسب «كارثة التعتيم».٧

لا يمكن تفادي الدقة؛ بمجرد الوصول إلى هذه القيمة المقدرة لسعة الذاكرة، من المنطقي البدء في السؤال عمَّا إذا كانت هذه القيمة تتناسب مع عدد الذكريات التي نعلم أنها مخزنة في الدماغ أم لا. أظهرت دراسة بارزة أجريت عام ١٩٧٣ أن الأشخاص الذين عُرض عليهم أكثر من ١٠ آلاف صورة (عُرضت كل صورة مرة واحدة ولفترة قصيرة من الوقت) كانوا قادرين تمامًا على تذكر الصور فيما بعد. تستطيع ١٠ ملايين خلية عصبية في القشرة المحيطية — منطقة في الدماغ تشترك في عملية تكوين ذاكرة بصرية — تخزين هذا العدد من الصور، لكن هذا لن يترك مساحةً كبيرةً لأي شيءٍ آخر. ومن ثم، يتضح أن هناك مشكلةً مع التعلم الهيبي.

إلا أن هذه المشكلة أصبحت أبسط، عندما أدركنا أن عملية التعرُّف مختلفةٌ عن الاستدعاء. بمعنى أنه قد يُراودنا شعور بالأُلفة لدى رؤية صورةٍ ما، دون أن نتمكَّن من إعادة تكوين هذه الصورة من البداية. تتميز شبكة هوبفيلد بقدرتها على القيام بالمهمة الأخيرة الأصعب، فهي تكمل ذكرى بالكامل من جزء منها. لكن هذا لا ينفي أن المهمة الأولى ذات أهمية هي الأخرى. بفضل العلماء الذين يعملون في جامعة بريستول، أصبح معروفًا الآن أن الشبكة التي تستخدم التعلم الهيبي يمكنها تنفيذ عملية التعرُّف. عند تقييم هذه الشبكات من حيث قدرتها على تحديد ما إذا كان المدخل جديدًا أو مألوفًا، يتضح أن لها سعة أعلى: الآن تستطيع ١٠٠٠ خلية عصبية التعرف على ما يصل إلى ٢٣ ألف صورة. كما حدد سيمون مسبقًا، يُعد هذا مثالًا على مشكلة تنشأ عن الاعتماد على لغة عامة أو شائعة لتقسيم وظائف الدماغ. ما يبدو لنا ببساطة أنه مجرد «ذاكرة» يتضح أنه يتشظَّى إلى العديد من المهارات المنفصلة، عندما يخضع للبحث والتدقيق العلمي والرياضي.

•••

في عام ١٩٥٣، أزال الطبيب الأمريكي وليام سكوفيل منطقة الحصين من كل جانبٍ من دماغ هنري مولايسون، البالغ من العمر ٢٧ عامًا؛ إذ كان يعتقد أنه يساعد على منع نوبات الصرع لدى مولايسون. ما لم يعرفه سكوفيل هو الأثر المذهل لهذا الإجراء على علم الذاكرة. ارتاح مولايسون (الذي عُرف أكثر باسم «إتش إم» في الأوراق البحثية لإخفاء هويته، وذلك حتى وفاته عام ٢٠٠٨) بعضَ الشيء من نوبات الصرع بعد هذا الإجراء، لكنه لم تتشكل لديه أي ذاكرة واعية مرة أخرى. كان فقدان مولايسون للذاكرة الدائم اللاحق محركًا لبدء مجموعة من الأبحاث ركزَت على منطقة الحصين — وهي عبارةٌ عن بِنيةٍ منحنيةٍ بطول الإصبع تتخذ موضعًا عميقًا في الدماغ — باعتبارها محورًا في نظام تكوين الذكريات. بعيدًا عن بحث لاشلي المضطرب، يلعب هذا الموقع دورًا مميزًا في تخزين الذكريات.

تنص النظريات الحالية حول وظيفة الحصين على الآتي: تصل المعلومات حول العالم أولًا إلى منطقة الحصين عند التلفيف المسنَّن، وهي منطقة تمتد بطول الحافة السفلية من الحصين. هُنا، التمثيل مهيأ ومُعدٌّ ليكون في صورة أكثر قابلية لتخزين الذكريات. بعد ذلك، يرسل التلفيف المسنن إشارات بهذه المعلومات إلى المنطقة التي يُفترض أن تتكوَّن الجواذب فيها، وهي منطقة تُسمى سي إيه ٣، تحتوي على وصلات مكررة واسعة النطاق، تجعلها الركيزة الأساسية للتأثيرات المشابهة لتأثيرات شبكة هوبفيلد. بعد ذلك، تُرسل هذه المنطقة المخرجات إلى منطقة أخرى تُسمَّى سي إيه ١، وهي تلعب دور محطة ترحيل؛ إذ تُرسل المعلومات التي يجري تذكرها إلى باقي أجزاء الدماغ.

الأمر المثير للاهتمام في هذه الخطوة الأخيرة، وما قد يكون أفسد نتائج لاشلي الأصلية، هو أن هذه الزوائد التي تمتد إلى مناطق مختلفة من الدماغ يُعتقد أنها تُسهِّل نسخ الذكريات. بهذه الطريقة، تُعتبر منطقة سي إيه ٣ مَخزنًا مؤقتًا أو مُستودعًا يحتفظ بالذكريات، إلى أن يتسنى نقلُها إلى مناطق الدماغ الأخرى. تؤدي هذا من خلال إعادة تنشيط الذكرى في هذه المناطق. ومن ثم، فإن منطقة الحصين تُساعد بقية أجزاء الدماغ على حفظ الأشياء، باستخدام الاستراتيجية نفسها التي تستخدمها للاستعداد للامتحان: التكرار. بإعادة تنشيط المجموعة نفسها من الخلايا العصبية بشكلٍ متكررٍ في مناطق مختلفةٍ من الدماغ، يمنح الحصين هذه الخلايا العصبية الفرصة للخضوع للتعلم الهيبي بنفسها. في النهاية، تكون الأوزان الترجيحية للوصلات بين هذه الخلايا قد تغيرت بما يكفي لتخزين الذكرى هناك بأمان.٨ بإزالة منطقة الحصين من دماغ مولايسون لم يعُد لديه مستودع لتخزين تجاربه، كما لم يعُد لديه طريقة لاستدعاء الذكريات في دماغه.
fig10
شكل ٤-٤

بمعرفة موقع مستودع الذكريات هذا في الدماغ، يمكن للباحثين النظر في آلية عمله. على وجه التحديد، يمكنهم البحث عن الجواذب فيه.

في عام ٢٠٠٥ سجَّل علماء في جامعة كوليدج لندن نشاط خلايا الحصين لدى مجموعة من الفئران. اعتادت الفئران أن تُوضع في حاويات لها شكلان مختلفان: حاويات دائرية، وحاويات مربعة. أظهرت الخلايا العصبية في منطقة الحصين لهذه الفئران نمطًا مُعَينًا من النشاط عند وضعها في الحاوية الدائرية، في حين أظهرت نمطًا مختلفًا عندما وُضعت في الحاوية المربعة. يأتي اختبار تحديد الجواذب عند وَضْع الفئران في بيئةٍ جديدة ليست مربعة أو دائرية الشكل، بل شكل يقع ما بين الدائرة والمربع. وجد الباحثون أنه إذا كان شكل البيئة أقرب إلى المربع منه إلى الدائرة، فسيميل النشاط العصبي إلى النمط المرتبط بالبيئة المربعة، أما إذا كان شكل البيئة أقرب إلى الدائرة منه إلى المربع، فسيميل النشاط إلى النمط المرتبط بالبيئة الدائرية. بشكلٍ قاطع، لا توجد تمثيلاتٌ ذهنيةٌ مباشرة لأشكال وسَطٍ بين الدائرة والمربع، استجابة لهذه البيئات التي يقع شكلها ما بين الدائرة والمربع، فإما أن تكون جميع التمثيلات مرتبطةً بالشكل الدائري أو الشكل المربع. هذا يجعل الذكريات المتعلقة بالبيئة الدائرية أو المربعة هي الجواذب. المدخل الأول الذي لا يكون بهذا الشكل أو ذاك بالضبط غير مستقر؛ إذ يدفع لا محالة نحو أقرب ذاكرةٍ مستقرة.

سلطت شبكة هوبفيلد الضوء على نظريات هيب، وأظهرت كيف يمكن للجواذب — التي تُدرس عادة في علم الفيزياء — تفسير ألغاز الذاكرة. ومع هذا، كان هوبفيلد يعلم حدود إدخال المفاهيم الرياضية وتطبيقها على أدمغة حقيقية في المختبرات. وقد وصف نموذجه بأنه «مجرد محاكاة ساخرة لتعقيدات علم الأحياء العَصَبي». في الواقع، بالنظر إلى أن من وضع النموذج عالمُ فيزياء، فإنه يفتقر إلى ثراء علم الأحياء. إلا أنه بالإضافة إلى كون المحاكاة قادرةً على عملياتٍ حسابيةٍ قوية، فقد قدمت العديد من التصوُّرات، تصوُّرات لا تنتهي بالتخزين البسيط والاستدعاء.

•••

تخيَّل أنك تتناول طعام العشاء في مطبخك، عندما وصل شريكك بالسكن إلى المنزل. عندما رأيته، تذكرت أنك أنهيت كتابًا كنت قد استعرتَه منه وتريد إعادته إليه، قبل أن يذهب في رحلة اليوم التالي. لذا، توقفت عن تناول الطعام، وخرجت من المطبخ، وتوجهت إلى الردهة. صعِدت السلم وانعطفت نحو غرفتك ودخلت وفكرت: «مهلًا مهلًا، ما الذي أفعله هُنا؟»

هذا الشعور شائع جدًّا. حتى إنه أصبح له اسم محدد، وهو نسيان الغاية، أو بعبارة أخرى نسيان السبب الذي يدفعنا إلى التوجه لوجهة محددة. ويرجع هذا النسيان إلى عجزٍ في ما يُعرف باسم «الذاكرة العاملة»، أي القدرة على الاحتفاظ بفكرةٍ في العقل، عن الاحتفاظ بفكرةٍ ولو لمدة ١٠ ثوانٍ فقط يستغرقها الانتقال من غرفةٍ لأخرى. وتُعد الذاكرة العاملة عنصرًا لا غنًى عنه في جميع جوانب الإدراك؛ إذ من الصعب اتخاذ قرارٍ أو العمل على خطةٍ إذا ظللت تنسى كل ما تفكر به.

وقد استمر علماء النفس في دراسة الذاكرة العاملة لعقود. ابتُكر هذا المصطلح لأول مرة في كتاب «الخطط وبِنية السلوك» لجورج إيه ميلر وزملائه العلماء العاملين في مركز الدراسات المتقدمة في العلوم السلوكية بولاية كاليفورنيا، المنشور عام ١٩٦٠. لكن هذا المفهوم قد استُكشف قبل ذلك بكثير. فقد كتب ميلر نفسه بالفعل إحدى أوراقه البحثية الأكثر تأثيرًا حول هذا الموضوع، قبل نشر الكتاب بأربع سنوات، أي عام ١٩٥٦. وكأنَّه كان يتنبَّأ بشهرة هذه الورقة البحثية؛ فقد اختار لها عُنوانًا غير نمطي وهو «رقم سبعة السحري، بجمعِ أو طرح اثنين». ما يُشير إليه هذا العدد السحري هو عدد العناصر التي يمكن للبشر الاحتفاظ بها في ذاكرتهم العاملة في المرة الواحدة.

للتحقق من هذ الأمر عمليًّا يمكنك القيام بالآتي: (١) اعرض على أحد الرفاق العديد من المربعات الملونة على الشاشة، (٢) اطلب منه الانتظار لبعض الوقت من بضع ثوانٍ لدقائق، (٣) اعرض عليه مجموعة ثانية من المربعات الملونة. ومهمته هي توضيح ما إذا كانت ألوان المجموعة الثانية هي نفسها ألوان المجموعة الأولى أم لا. يمكن للأشخاص أداء هذه المهمة بشكلٍ جيد إذا ظل عدد المربعات المعروض صغيرًا، كما يمكنهم أداؤها بدقَّةٍ تبلغ ١٠٠ في المائة إذا عُرض مربع واحد فقط. وكلَّما أُضيفَ مزيد من المربعات انخفض الأداء أكثر فأكثر، إلى أن يتجاوز العدد سبعة، وعندئذٍ يصبح الأمر أقرب إلى التخمين العشوائي. أُثير النقاش حول ما إذا كان العدد سبعة يمثِّل حقًّا قيمة مميزة حين يتعلق الأمر بسعة الذاكرة العاملة أم لا؛ إذ توصلت بعض الدراسات إلى حدود أقل من العدد سبعة، في حين توصلت أخرى إلى حدود أعلى. ومع ذلك، لا ريب في أن ورقة ميلر البحثية قد أحدثت تأثيرًا، وقد سعى علماء النفس لتمييز كل جانب من جوانب الذاكرة العاملة؛ بَدءًا من الأشياء التي يمكنها الاحتفاظ بها، ووصولًا إلى المدة الزمنية التي يمكنها الاحتفاظ فيها بالأشياء.

لكن يظل السؤال مطروحًا حول كيفية أداء الدماغ لهذا فعليًّا: أين تُخزَّن الذكريات بشكل مؤقت؟ وكيف تُخزَّن؟ التجارب الموثوقة التي تعتمد على إزالة جزء من الدماغ، أو إحداث خللٍ فيه ومعرفة تأثير ذلك على السلوك، أشارت إلى قشرة الفص الجَبهي، وهو جزء كبير من الدماغ يقع خلف الجبهة مباشرة. وسواءٌ أكان من تُجرى عليهم التجربة أشخاصًا يعانون من إصابات مؤسفة، أو حيوانات أزيلت منها هذه المنطقة في المختبر؛ اتَّضح أن حدوث تلفٍ في قشرة الفص الجبهي تقلِّل من قدرة الذاكرة العاملة بدرجةٍ كبيرة. فبدونها، تستطيع الحيوانات بالكاد الاحتفاظ بفكرة لأكثر من ثانية أو ثانيتَين … فالأفكار والتجارب تنفُذ من عقولهم كما يتسرَّب الماء عند صبِّه فوق يدَين مضمومتَين.

وكمن يحفر وينقب عن كنز، بدأ علماء الأعصاب يستكشفون المناطق المسئولة عن تخزين الذكريات. بإدخال قطب كهربي داخل قشرة الفص الجبهي للقرود، تمكَّن باحثون في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس من مراقبة الخلايا العصبية الموجودة هناك. هذا ما فعله العالمان جواكين فوستر وجاريت ألكسندر، بينما كانت القرود تؤدي مهمة مشابهة لاختبار تذكُّر الألوان. تُعرف هذه الاختبارات بمهام «الاستجابة المؤجلة (أي التي تظهر بعد فترة من اختفاء مثيرها)» وذلك لأنها تتضمَّن فترة تأخيرٍ تختفي فيها المعلومات المهمة من على الشاشة؛ ومن ثم يجب الاحتفاظ بها في الذاكرة. السؤال هو: ما الذي تفعله الخلايا العصبية في قشرة الفص الجبهي أثناء هذا التأخير؟

معظم مناطق الدماغ المسئولة عن الرؤية تستجيب استجابةً نمطية لهذا النوع من المهام: بمعنى أن الخلايا العصبية تستجيب بقوة، عندما تظهر الأنماط على الشاشة في البداية، وعند ظهورها مجددًا بعد المهلة الزمنية، لكن في أثناء فترة التأخير — أي عندما لا يكون هناك أي مدخلاتٍ بصرية تدخل إلى الدماغ — تكون هذه المناطق في الغالب هادئة. عدم وجود هذه الأنماط أمام العين يعني أنها لم تعُد موجودةً بالنسبة إلى الخلايا العصبية في هذه المناطق. إلا أن ما توصَّل إليه فوستر وألكسندر هو أن الخلايا في قشرة الفص الجبهي مختلفة. فهذه الخلايا التي استجابَت للأنماط البصرية استمرَّت في إطلاق إشاراتٍ عصبية كهربية، حتى بعد أن اختفت الأنماط، أي إنها احتفظت بنشاطها أثناء فترة التأخير. وهذا يُعد دليلًا ماديًّا على الذاكرة العاملة!

ومنذ ذلك الحين، أسفرت تجاربُ لا حصر لها عن هذه النتائج نفسها، مشيرة إلى استمرار نشاط الخلايا العصبية أثناء فترات التأخير في ظل العديد من الظروف المختلفة، في كلٍّ من قشرة الفص الجبهي وما بعدها. أشارت التجارب إلى أنه عندما تتعطل أنماط الإطلاق هذه، تحيد الذاكرة العاملة عن مسارها. في بعض التجارب على سبيل المثال، قد يؤدي تحفيز كهربي قصير خلال فترة التأخير إلى تعطيل النشاط الجاري، وهو ما يؤدي إلى تراجعٍ في الأداء في مهام الاستجابة المؤجلة.

ما الذي يميز الخلايا العصبية ويجعلها قادرةً على ذلك؟ ما الذي يجعلها تحتفظ بالمعلومات، وتستمر في إطلاق الإشارات لمدَّةٍ تتراوح من بضع ثوانٍ إلى بضع دقائق، في الوقت الذي تُخفِق فيه الخلايا العصبية الأخرى في الاحتفاظ بالمعلومات؟ لكي تكون هناك مخرجاتٌ مستمرةٌ للخلايا العصبية فإنها تحتاج إلى مدخلاتٍ مستمرة. لكن إذا حدث نشاطٌ أثناء فترة التأخير دون أن يكون هناك أي مدخل خارجي من صورة، فلا بد أن تكون الخلايا العصبية المجاورة هي مصدر المدخلات المستمرة. ومن ثم فإن النشاط الذي يحدث أثناء فترة التأخير لا يتولَّد إلا عن شبكةٍ من الخلايا العصبية التي تعمل معًا؛ فالروابط بين هذه الخلايا تتحد معًا للإبقاء على النشاط. ومن هنا عادَت فكرة الجواذب إلى الظهور مجددًا.

حتى الآن ألقينا نظرة على الجواذب في شبكات هوبفيلد، والتي أوضحت كيف يمكن لبعض المدخلات التي لها بعض الدلالات استحضارُ ذكرى. قد لا يكون واضحًا دور هذا في الذاكرة العاملة. فالذاكرة العاملة في النهاية تركز على ما يحدث بعد تحديد الهدف المراد تذكُّرُه، أو «الشرارة» المرتبطة بحدوث تغيُّر في نشاط الخلايا العصبية؛ فمثلًا بعد أن تنهض لإحضار الكتاب لرفيقك في السكن، كيف تحتفظ بهذا الهدف؟ كما يتضح، ما نحتاج إليه في هذا الموقف هو الجاذب؛ لأن الجاذب يبقى ساكنًا في مكانه.

تُحدَّد الجواذب عن طريق المشتقات. إذا علمنا المدخلاتِ التي تحصل عليها الخلية العصبية والأوزان الترجيحية التي تُضرب فيها هذه المدخلات، يمكننا كتابة معادلة — مشتَقَّة — تصف كيف يتغيَّر نشاط هذه الخلية العصبية بمرور الزمن نتيجةً لهذه المدخلات. إذا كانت قيمة المشتقَّة تساوي صفرًا، فإن هذا يعني عدم وجود تغيُّرٍ في نشاط الخلية العصبية بمرور الزمن؛ أي إنها تستمرُّ في إطلاق الإشارات العصبية بالمعدَّل الثابت نفسه. تذكَّر أنه، نظرًا لأن هذه الخلية العصبية جزءٌ من شبكةٍ متكررة، فإنها لا تحصل على مدخلات فحسب، بل تُعد مصدرًا للمدخلات بالنسبة إلى الخلايا العصبية الأخرى. ومن ثم، فإن نشاطها يدخل في حساب مشتقَّةِ الخلية العصبية المجاورة. إذا لم يتغيَّر أيٌّ من مدخلات هذه الخلية العصبية المجاورة — أي إن مشتقات هذه المدخلات جميعًا مساويةٌ لصفر أيضًا — فستكون مشتقة هذه الخلية أيضًا تساوي صفرًا، وستستمر في إطلاق الإشارات العصبية بالمعدَّل نفسه. عندما تكون الشبكة في حالة عنصر الجذب، فإن مشتقة كل خليةٍ عصبيةٍ تساوي صفرًا.

وبهذه الطريقة، يمكن أن تبقى الذكريات التي بدأت عند نقطةٍ زمنيةٍ محددةٍ لمدةٍ أطول، إذا كانت الروابط بين الخلايا العصبية مناسبة. تحتفظ جميع الخلايا بمعدلاتٍ ثابتةٍ لإطلاق الإشارات؛ لأن جميع الخلايا حولها تفعل الشيء نفسه. تستمر الذكرى إذا ظل النشاط العصبي ثابتًا دونما أي تغيُّر.

تكمن المشكلة في أن الأشياء تتغير. فعندما تغادر المطبخ وتتجه نحو غرفتك، ستجد في طريقك جميع أنواع الأشياء — حذاءك في الردهة، والحمام الذي تريد تنظيفه، ومشهد الأمطار في النافذة — التي يمكنها إحداث تغييراتٍ في مدخلات الخلايا العصبية التي تحاول الاحتفاظ بالذكرى. ويمكن لهذه التغييرات أن تدفع الخلايا العصبية بعيدًا عن حالة عنصر الجذب الذي يمثِّله الكتاب إلى مكانٍ آخر بالكامل. كي تؤدِّي الذاكرة العاملة وظيفتها لا بد أن تكون الشبكة قادرةً على مقاومة تأثير هذه المُشَتِّتات بجدارة. الجاذب العادي يمكنه مقاومة المدخلات المشتتة إلى حدٍّ ما. تذكَّر مثال الترامبولين. إذا وقف شخصٌ على الترامبولين، بدفع الكرة دفعةً صغيرةً ستتدحرج إلى خارج البؤرة التي ترتكز فيها، ثم تعود إليها مجددًا. بحدوث اضطراب بسيط تبقى الذكرى كما هي، لكن إذا ركل الشخص الكرة ركلة قوية، فمن يعلم إلى أين ستذهب؟ الذاكرة الجيدة لا بد أن تكون قوية بما يكفي لمجابهة هذه المشتِّتات، إذن ما الذي يمكن أن يجعل الشبكة بارعةً في الاحتفاظ بالذكريات؟

تؤدي البيانات والنظرية رقصة معقَّدة، لا يتضح فيها مَن الطرف الذي يقود الرقصة ومن الطرف التابع. أحيانًا تُطوَّر النماذج الرياضية فقط كي تتناسب مع مجموعة بيانات محددة. وفي أحيان أخرى تكون تفاصيل البيانات غير متوفرة، أو يجري تجاهلُها، ويفعل المنظِّرون ما يوحي به الاسم الذي يُطلق عليهم؛ أي يضعون نظريات حول آلية عمل نظام محدد، قبل معرفة الكيفية التي يعمل بها هذا النظام بالفعل. فيما يتعلق ببناء شبكة قوية لذكريات تُخزن بشكل مؤقت، سار العلماء في تسعينيات القرن العشرين في الاتجاه الأخير. وقد توصلوا إلى ما يُعرف باسم «الشبكة الحلقية»، وهي عبارة عن نموذج مصمَّم يدويًّا لدائرةٍ عصبيةٍ من المتوقَّع أن تكون مثاليةً في الاحتفاظ بالذكريات المؤقتة بقوة.

على عكس شبكات هوبفيلد، توصف الشبكات الحلقية بدقةٍ، حسب اسمها، بأنها شبكات تتكون من العديد من الخلايا العصبية المرتَّبة في حَلْقة، بحيث تتصل كل خلية عصبية بالخلايا العصبية القريبة منها فقط. كما هي الحال في شبكات هوبفيلد، تتضمن هذه الشبكات حالات عناصر جذب، أي أنماط من النشاط يمكنها الاحتفاظ بنفسها وتمثيل ذكريات. إلا أن حالات الجذب في النموذج الحلقي تختلف عنها في شبكة هوبفيلد. فالجواذب في شبكة هوبفيلد منفصلة. هذا يعني أن كل حالة من حالات عناصر الجذب — كالحالة الخاصة بغرفة طفولتك، أو الحالة الخاصة بإجازة طفولتك، أو تلك الخاصة بغرفتك الحالية — منعزلةٌ تمامًا عن بقية الحالات. ليست هناك طريقة سلِسة للتنقل ما بين هذه الذكريات المختلفة، فبصرف النظر عن مدى تشابه هذه الذكريات، يتعيَّن عليك ترك حالة عنصر جذب بالكامل للانتقال إلى أخرى. في المقابل، تُعد عناصر الجذب في الشبكة الحلقية متصلة. مع اتصال عناصر الجذب هذه، يصبح التنقل بين الذكريات المتشابهة سهلًا. بدلًا من التفكير في النماذج التي لها عناصر جذب متصلة باعتبارها ترامبولين يقف عليها أشخاص عند نقاط مختلفة، يمكننا التفكير فيها باعتبارها مضمار بولينج، بمجرد أن توضع الكرة في المضمار، لا يمكنها الخروج منه بسهولة، بل يمكنها التحرُّك بسلاسةٍ داخله.

تُعدُّ الشبكات التي تكُون حالات عناصر الجذب فيها متصلة، كما هي الحال في الشبكة الحلقية، مفيدة لأسباب عديدة؛ أهمها نوعية الأخطاء التي ترتكبها هذه الشبكات. من السخيف أن يُمتدح نظام ذاكرة لأخطائه — أليس من الأفضل ألَّا تكون هناك أخطاء على الإطلاق؟ — إلا أننا إذا افترضنا أنه لا يمكن أن تمتلك أي شبكة ذاكرة مثالية، فستصبح جودة الأخطاء أمرًا مهمًّا. تسمح الشبكات الحلقية بأخطاء طفيفة ومعقولة.

تذكَّر المثال المتعلق باختبار الذاكرة العاملة الذي يتعين فيه على الخاضعين للاختبار الاحتفاظ بلون الأشكال الظاهرة على الشاشة. يمكن تطبيق مثال الألوان على الشبكات الحلقية بسهولة؛ لأنك ستتذكر من درس الرسم الألوان الموجودة على عجلة الألوان. لذا تخيَّل شبكةً من الخلايا العصبية مرتبةً في حلقة؛ بحيث تمثل كل خليةٍ عصبية لونًا مختلفًا قليلًا. في أحد جوانب الحلقة توجد الخلايا العصبية الممثلة للون الأحمر، وبجوارها توجد الخلايا العصبية الممثلة للون البرتقالي، يليها الأصفر والأخضر، هذا يوصلنا إلى الجانب المقابل للخلايا الممثلة للون الأحمر؛ حيث توجد الخلايا الممثلة للون الأزرق، تليه الخلايا الممثلة للون القِرمزي، ثم نعود مرة أخرى للخلايا الممثلة للأحمر.

في هذه المهمة، عند رؤية شكل ما، فإن هذا يكوِّن نشاطًا في الخلايا العصبية التي تمثِّل هذا اللون، في حين تظل الخلايا العصبية الأخرى ساكنة. يؤدي هذا إلى تكوين «بؤرة» من النشاط في الحلقة، ترتكز عند اللون المتذكَّر. إذا ظهرت أي مدخلات مشتِّتة أثناء محاولة الشخص الذي يخضع للاختبار الاحتفاظَ بذكرى هذا اللون — من مشاهد عشوائية أخرى في الغرفة على سبيل المثال — فقد تدفع النشاطَ أو تجذبه بعيدًا عن اللون المراد تذكره. إلا أنها ستتمكن فقط من دفعه إلى مكان قريب جدًّا على الحلقة، وهذه نقطة في غاية الأهمية. ومن ثم فإن اللون الأحمر قد يصبح برتقاليًّا مائلًا للحمرة، وقد يصبح الأخضر أزرق مائلًا للخضرة. لكن من المستبعد جدًّا أن تتحول ذكرى اللون الأحمر إلى اللون الأخضر. كما أنه من المستبعد في هذه الحالة أن تصبح الذكرى بلا لون على الإطلاق، بمعنى أنه ستكون هناك دائمًا بؤرة في الحلقة. تُعد هذه الخصائص جميعًا نتيجةً مباشرةً لطبيعة شبكة الجواذب المتصلة الشبيهة بالمضمار؛ فهي تتمتع بمقاومةٍ منخفضةٍ للانتقال ما بين الحالات القريبة، ولكن لديها مقاومة عالية للاضطرابات الأخرى.

من الميزات الأخرى للشبكة الحلقية أنه يمكن استخدامها لفعل أشياء أخرى. الآلية التي تعمل بها الذاكرة العاملة تتعارض مع الفكرة القائلة بأن دور الذاكرة ينحصر في الاحتفاظ السلبي بالمعلومات. فالاحتفاظ بالأفكار في الذاكرة العاملة يُتيح لنا دَمْج هذه الأفكار مع معلوماتٍ أخرى، والتوصُّل إلى استنتاجاتٍ جديدة. وخير مثالٍ على هذا نظامُ توجيه الرأس لدى الفئران، الذي كان بمثابة مصدر إلهامٍ لنماذج الشبكات الحلقية الأولى.

لدى الفئران (بالإضافة إلى العديد من الحيوانات الأخرى) بوصلةٌ داخلية؛ أي مجموعة من الخلايا العصبية التي تتعقب الاتجاه الذي يتوجه إليه الحيوان طوال الوقت. إذا توجَّه الحيوان إلى اتجاه جديد، يتغير نشاط هذه الخلايا لعكس هذا التغيُّر. حتى إذا ظل الفأر ثابتًا في غرفة ساكنة ومظلمة، فستستمر هذه الخلايا العصبية في إطلاق إشارات عصبية، محتفظة بالمعلومات حول اتجاهه. في عام ١٩٩٥ افترض فريقٌ من مختبر مكنوتون في جامعة أريزونا، وبشكلٍ مستقل، كيتشين يانج من جامعة كاليفورنيا، سان دييجو، أنه يمكن وصف هذه المجموعة من الخلايا جيدًا عن طريق شبكةٍ حلقية. وبالنظر إلى كون الاتجاه من المفاهيم التي يمكن شرحها جيدًا باستخدام الشبكة الحلقية، يمكن الاستعانة ببؤرة النشاط على الحلقة لتخزين الاتجاه الذي سيسلكه الحيوان.

لكن الشبكة الحلقية لا تفسِّر الكيفية التي يُحتفَظ من خلالها بمعرفة اتجاه الرأس بمرور الزمن فحسب؛ بل تُعد أيضًا نموذجًا يوضح كيف يمكن أن يتغير الاتجاه المُخزَّن عندما يغير الحيوان اتجاهه. تستقبل خلايا اتجاه الرأس مدخلات من الخلايا العصبية الأخرى، مثل الخلايا العصبية التي تنتمي إلى الجهازَين البصري والدهليزي (الذي يتتبع الحركة الجسدية). إذا وُصِّلت هذه المدخلات بالشبكة الحلقية بطريقة صحيحة، فستتمكن من دفع بؤرة النشاط قُدمًا إلى مكان جديد على الحلقة. إذا وضَّح الجهاز الدهليزي أن الجسم الآن يتحرك باتجاه اليسار على سبيل المثال، فستُدفع البؤرة نحو اليسار. بهذه الطريقة لا ينتج عن الحركة على طول الحلقة أخطاء في الذاكرة، بل تعمل على تحديث الذاكرة بِناءً على المعلومات الجديدة. ومن هنا استحقَّت «الذاكرة العاملة» اسمها.

fig11
شكل ٤-٥

تُعد الشبكات الحلقية حلًّا رائعًا للمشكلة المعقدة المتمثلة في كيفية تكوين أنظمة ذاكرة عاملة قوية وعملية. كما أنها تُعد عناصر رياضية جميلة. فهي تعكس خاصيتَي البساطة والتماثل المطلوبتَين في الرياضيات. كما أنها مضبوطةٌ ومنظمة بدقة ومُنمَّقة.

ومن ثم، فإنها غير واقعية على الإطلاق. وذلك لأن عبارات مثل «منظم بدقة»، بالنسبة إلى عالم الأحياء، غير مستحبة. أيُّ شيء يتطلب تخطيطًا دقيقًا وظروفًا ممتازةً للعمل بشكلٍ جيد؛ لن يصمد أمام الفوضى التي يتميَّز بها تطور الدماغ والنشاط. ظهور العديد من خصائص الشبكات الحلقية المرغوب فيها يتوقف على افتراضاتٍ حول الاتصال بين الخلايا العصبية، وهي افتراضات لا تبدو واقعيةً كثيرًا. لذا على الرغم من الخصائص النظرية المستحبَّة والقدرات المفيدة، فإن فرصة رؤية شبكةٍ حلقيةٍ في الدماغ بدَت ضئيلة.

ومن ثم، كان الاكتشاف الذي أمكن التوصُّل إليه في مركز أبحاث خارج العاصمة واشنطن عام ٢٠١٥؛ الأكثر إثارة.

حَرَمُ جانيليا للأبحاث عبارة عن منشأةٍ بحثيةٍ عالمية المستوى تقع في منطقةٍ بعيدةٍ عن الأنظار في أرضٍ زراعيةٍ رعويةٍ سابقةٍ في أشبورن في ولاية فيرجينيا. عمل فيفيك جايارامان في جانيليا منذ عام ٢٠٠٦. أجرى هو وفريقه المكون من نحو نصف دستة من الأشخاص أبحاثًا على فهم التنقُّل لدى ذبابة الفاكهة الشائعة، أو دروسوفيلا ميلانوجاستر، وهو نوعٌ من ذباب الفاكهة تشيع دراسته في علم الأعصاب. حجم هذه الحشرة الذي يضاهي حبة أرز يُعد نعمة ولعنة في آنٍ واحد. ففي حين أنه يصعب الحصول على الذباب الضئيل، فإنه لا يحتوي إلا على ١٣٥ ألف خلية عصبية، وهو ما يقارب ٠٫٢ في المائة من عدد الخلايا العصبية التي يحتوي عليها الحيوان الذي يشيع استخدامه في المختبرات؛ الفأر. علاوة على ذلك، يُعرف الكثير حول هذه الخلايا العصبية. يمكن تصنيف الكثير من هذه الخلايا بسهولة بناءً على الجينات التي تُعبِّر عنها، كما أن أعدادها ومواقعها متماثلة جدًّا بالانتقال ما بين أفراد الذباب.

كما هي الحال في القوارض، للذباب نظام لتتبُّع اتجاه الرأس. بالنسبة إلى الذبابة، هذه الخلايا العصبية المرتبطة باتجاه الرأس تقع في منطقة يُطلَق عليها الجسم البيضاوي الشكل. يقع الجسم البيضاوي في مركز دماغ الذبابة وله شكل متفرد؛ إذ إن به ثقبًا في المنتصف، والخلايا العصبية مرتَّبة حول هذا الثقب؛ ومن ثم يكون أشبه بكعكةٍ مصنوعةٍ من الخلايا العصبية، أو بعبارةٍ أخرى: حلقة.

ومع هذا، فإن الخلايا العصبية المرتَّبة في شكلٍ حلقيٍّ لا تكوِّن حلقةً بالضرورة. لذا، ما شرع مختبر جايارمان في فعله هو دراسة ما إذا كانت مجموعة الخلايا العصبية التي تبدو كشبكة حلقية تتصرف بالفعل كشبكة حلقية أم لا. للقيام بذلك، أضافوا نوعًا خاصًّا من الصبغة إلى الخلايا العصبية في منطقة الجسم البيضاوي، هذه الصبغة تُحوِّل لون الخلايا العصبية إلى اللون الأخضر في حالة نشاطها. ثم سمحوا للذبابة بالتجوُّل في أثناء تصوير الخلايا العصبية. إذا كنتَ نظرت إلى هذه الخلايا العصبية على الشاشة بينما تتجه الذبابة نحو الأمام، كنت سترى وميضًا من اللون الأخضر الخافت في موقع واحد على الشاشة التي تكون بخلاف ذلك سوداء. إذا اختارت الذبابة أن تغير اتجاهها، فإن هذه البقعة المضيئة ستتأرجح إلى مكان جديد. بمرور الوقت، بينما تتحرك الذبابة وتتحرك معها البقعة الخضراء على الشاشة، تكوِّن النقاط التي أضاءت شكلًا حلقيًّا واضحًا يطابق الشكل الأساسي للجسم البيضاوي. في حالة إطفاء الأنوار في الحجرة بحيث لا تتمكن الذبابة من رؤية الاتجاه الذي تتوجه إليه، يظل الوميضُ الأخضر في المكان نفسه على هذه الحلقة، دليلًا على أنه احتُفظ بذكرى اتجاه التوجه.

بالإضافة إلى ملاحظة النشاط على الحلقة، غيَّر المجرِّبون التجربةَ أيضًا لفحص أوجه التطرف في سلوكها. الشبكة الحلقية الحقَّة لا تدعم سوى «بؤرة» نشاط واحدة، بمعنى لا يمكن تنشيط سوى الخلايا العصبية الموجودة في مكان واحد على الحلقة في المرة الواحدة. لذا، حفَّز العلماء الخلايا العصبية الموجودة على الجانب المقابل للخلايا العصبية النشطة بالفعل في الحلقة بشكل اصطناعي. أدى التحفيز القوي للخلايا المقابلة إلى تعطيل بؤرة النشاط الأصلية، ثم احتُفظ بالبؤرة في المكان الجديد حتى بعد توقف التحفيز. من خلال هذه التجارب، أصبح واضحًا أن الجسم البيضاوي ليس مخادعًا؛ بل مثالًا حيويًّا على نظريةٍ تخرج للحياة.

هذا الاستنتاج — أن الخلايا العصبية التي تأخذ الشكل الحلقي تتصرف كشبكة حلقية — يبدو وكأن الطبيعة توجه لنا رسالة خفية. شكَّك ويليام سكاجز ومؤلفون آخرون لإحدى الأوراق البحثية الأصلية التي تتناول الشبكة الحلقية صراحةً؛ في إمكانية هذا الاستنتاج. «لأغراضٍ توضيحية، من المفيد التفكير في الشبكة باعتبارها مجموعةً من الطبقات الدائرية، إلا أن هذا لا يعكس التنظيم التشريحي للخلايا المقابلة في الدماغ.» افترض معظم المنظِّرين الذين يعملون على نماذج الشبكات الحلقية أن هذه الشبكات تُدمَج في شبكةٍ أكثر فوضويةً من الخلايا العصبية. ولا بد أن هذا ينطبق على معظم الأجهزة في أجسام معظم الأنواع. من المحتمل أن يكون هذا المثال الأصلي غير المعتاد قد نبع من برنامج وراثي محكوم بدقة. سيكون من الأصعب بكثير اكتشاف الشبكات الأخرى.

حتى وإن كنا لا نرى عادةً هذه السلوكيات مباشرة، يمكننا التنبؤ بالسلوكيات التي نتوقع رؤيتها إذا كان الدماغ يستخدم عناصر جذب متصلة. عام ١٩٩١ وجدت باتريشيا جولدمان راكيتش، الباحثة الرائدة في الذاكرة العاملة، أن إعاقة وظيفة أحد المعدِّلات العصبية، وهو الدوبامين، يجعل من الصعب على القرود تذكُّر موقع الأشياء. من المعروف عن الدوبامين أنه يُغيِّر تدفق الأيونات من الخلية وإليها. في عام ٢٠٠٠ أوضح باحثون من معهد سولك في ولاية كاليفورنيا أن محاكاة وجود الدوبامين، في نموذجٍ يحتوي على جواذب متصلة عزَّز من ذاكرة النموذج.٩ فقد عمل على استقرار الخلايا العصبية التي تحمل شفرة الذكرى، وهو ما يجعل هذه الذكرى أكثر قدرة على مقاومة المدخلات العرضية. ونظرًا لأن الدوبامين مرتبط بالمكافأة،١٠ يتنبأ هذا النموذج أيضًا بأنه في ظل الظروف التي يتوقع فيها الشخص مكافأة كبيرة تكون الذاكرة العاملة أفضل، وهذا تمامًا ما تم التوصل إليه. عندما يُوعَد الأشخاص بمزيد من المكافآت مقابل تذكُّر شيء ما، تكون ذاكرتهم العاملة أفضل. هنا، يعمل مفهوم عنصر الجذب باعتباره الخيط الذي يخيط التغيرات الكيميائية بالتغيرات المعرفية. فهو يربط الأيونات بالتجارب.

تُعد عناصر الجذب كليةَ الوجود في العالم الفيزيائي. وهي تنشأ عن التفاعلات الداخلية بين أجزاء نظام ما. سواء أكانت تلك الأجزاء عبارة عن ذرات في معدن، أو كواكب في نظام شمسي، أو حتى أشخاصًا في مجتمع ما، فسوف تنقاد إلى حالة جاذبة، وستبقى هناك، ما لم تحدث اضطرابات كبيرة. يمثل تطبيق هذه المفاهيم على الخلايا العصبية التي تكوِّن ذكرى معينة؛ همزة الوصل بين علم الأحياء وعلم النفس. من ناحية، تصل شبكات هوبفيلد تكوين الذكريات واسترجاعها بالطريقة التي تتغير بها الوصلات بين الخلايا العصبية. ومن ناحيةٍ أخرى، تكمُن بنًى مثل الشبكات الحلقية وراء كيفية الاحتفاظ بالأفكار في العقل. في إطارٍ واحدٍ بسيطٍ وضعنا أيدينا على كيفية تسجيل الذكريات والاحتفاظ بها وإعادة تنشيطها.

١  نشر عالم فسيولوجيا الأعصاب البولندي جيرزي كونورسكي كتابًا بأفكار مشابهة تمامًا قبل هيب بسنة. في الواقع، توقع كونورسكي العديد من النتائج المهمة في علم الأعصاب وعلم النفس. إلا أن الانقسام العالمي بين الشرق والغرب آنذاك حال دون انتشار إسهاماته.
٢  عندما استوفى هوبفيلد استمارة الالتحاق بالجامعة موضحًا أنه ينوي دراسة «الفيزياء أو الكيمياء»، شطب مرشده الأكاديمي — وزميل والده — الخيار الأخير قائلًا: «لا أعتقد أن علينا وضع الكيمياء في الاعتبار.»
٣  لم يكن موقف هوبفيلد فريدًا من نوعه. فقد حفلت فترة ثمانينيات القرن العشرين بالعديد من علماء الفيزياء الذين، استنادًا إلى شعورهم بالملل من مجالهم، نظروا إلى الدماغ وفكروا «يمكنني حل ذلك». وبعد نجاح هوبفيلد، زاد عددهم.
٤  على الرغم من أن حساب نشاط الخلية العصبية الفردية، من حيث المدخلات والأوزان الترجيحية، هو نفسه الموضح فيما يتعلق بشبكة بيرسيبترون في الفصل الأخير، فإن شبكة بيرسيبترون أماميةُ التغذية (وليست متكررة). التكرار يعني أن الوصلات يمكن أن تُكوِّن حلقات؛ على سبيل المثال: الخلية العصبية «أ» تتصل بالخلية العصبية «ب» التي تتصل مرة أخرى بالخلية العصبية «أ».
٥  الجزء الثاني — أي فكرة أن قوة الاتصال لا بد أن تقل إذا كانت الخلية العصبية قبل التشابكية عالية النشاط، في حين أن الخلية العصبية بعد التشابكية تظل ساكنة — لم يكن جزءًا من الرسم التوضيحي لهيب، لكن أمكن إثباته منذ ذلك الحين بالتجارب.
٦  في الواقع، عندما عرض هوبفيلد نسخة مبكرة من بحثه أمام مجموعة من علماء الأعصاب، علق أحد الحضور بالقول: «هذا كلام جميل، لكن لسوء الحظ لا يمتُّ لعلم الأعصاب بصِلة.»
٧  ربما قابلتَ بعض الأشخاص الذين أخبروك بحكايات عن «كارثة التعتيم» حدثت لهم بعد ليلة من احتساء المشروبات الكحولية. إلا أنه لا يُعتقد أن هذا النوع من تلاشي الذكريات، الذي لوحظ في شبكة هوبفيلد، يحدث للبشر.
٨  يُعتقد أن هذه العملية تحدث أثناء النوم.
٩  كان هذا النموذج مؤلفًا من أسلوب هودجكين وهكسلي المحاكي للخلايا العصبية المذكور في الفصل الثاني، والذي جعل دمج تأثيرات الدوبامين على تدفق الأيونات سهلًا.
١٠  مزيدٌ من التفاصيل في الفصل الحادي عشر!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤