الفصل الخامس

الاستثارة والتثبيط

الشبكة المتوازنة والتذبذبات

داخل كل خلية عصبية تقريبًا، تحتدم المعركة. هذا العِراك — أي الصراع حول المخرجات النهائية للخلية العصبية — يحرض إحدى القُوَّتَين الأساسيتَين في الدماغ ضد الأخرى. هذه معركة التحفيز مقابل التثبيط. المدخلات المحفِّزة تشجِّع الخلية العصبية على إطلاق إشارات. في المقابل، تفعل المدخلات المثبِّطة عكس ذلك؛ فهي تدفع الخلية العصبية بعيدًا عن حد عتبة تحفيز جهد الفعل.

التوازن بين هاتَين القوتَين هو ما يحدد نشاط الدماغ. فهو يحدد أيُّ الخلايا العصبية يُطلق إشاراتٍ ومتى. وهو يحدد شكل إيقاعاتهما، وهي الإيقاعات التي تدخل في كل شيء بدءًا من النوم ووصولًا إلى الذاكرة. ولعل الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن التوازن بين الاستثارة والتثبيط يمكنه، أيضًا، تفسير إحدى سمات الدماغ التي شغلت العلماء لعقود؛ وهي عدم انتظام الخلايا العصبية المعروفة أو ثبات أدائها.

جرِّب أن تراقب خلية عصبية من المفترض أنها تفعل الشيء نفسه مرارًا وتكرارًا — على سبيل المثال، خلية عصبية في الجهاز الحركي يؤدي الحركة نفسها على نحو متكرر — وستجد أن نشاطه غير منتظم على نحو مدهش. فبدلًا من أن تُطلِق نمطًا متماثلًا للقفزات في جهد الفعل كل مرة، فإنها ستُطلق إشاراتٍ أكثر في بعض المحاولات وإشاراتٍ أقل في محاولاتٍ أخرى.

عرَف العلماء هذه العادة الغريبة للخلايا العصبية مبكرًا في أيام التسجيلات العصبية. في عام ١٩٣٢ أجرى اختصاصيُّ علم وظائف الأعضاء جوزيف إرلانجر تحديثًا على المُعدات الموجودة في مختبر سانت لويس، وهو ما أتاح له تسجيل النشاط العصبي بدرجةٍ حساسةٍ تفوق الدرجة المتاحة سابقًا ﺑ ٢٠ مرة. تمكَّن بالتعاون مع زميله إي إيه بلير من عزل الخلايا العصبية الفردية الموجودة في ساق الضفدع، وتسجيل كيفية استجابتها لنبضات كهربية دقيقة، على وجه الدقة ٥٨ نبضةً متطابقةً في الدقيقة.

ما أثار دهشة العالِمَين إرلانجر وبلير هو أنهما وجدا أن هذه النبضات المتطابقة لا ينتج عنها استجابات متطابقة؛ فقد تستجيب الخلية العصبية لنبضة في حين لا تظهر استجابة للنبضة التالية. لا تزال ثمة علاقة بين قوة النبضة والاستجابة: عند استخدام تيارات ضعيفة، على سبيل المثال، فإن الخلية العصبية تستجيب لنقل ١٠ في المائة من المرات، وفي حالة التيارات المتوسطة، تستجيب الخلية العصبية نصف عدد المرات، وما إلى ذلك. لكن بتجاوز هذه الاحتمالات، بدَت كيفية استجابة الخلية العصبية لأي نبضةٍ محددةٍ محضَ صدفة خالصة. وقد أوضح الباحثان في ورقةٍ بحثيةٍ عام ١٩٣٣ في «ذي أميريكان أوف فيسيولوجي» ما يلي: «لقد صدمنا الشكل المتغير [للاستجابات] التي حصلنا عليها من الأعصاب الضخمة في ظل ظروفٍ ثابتةٍ تمامًا».

كان هذا العمل واحدًا من أوائل الدراسات التي بحثت بشكل منهجي المسألةَ المتعلقة بعدم انتظام الجهاز العصبي، لكنه لم يكن الأخير. ففي عام ١٩٦٤، مثلًا، مرر عالمان أمريكيان فُرشاةً بالطريقة نفسها على بشرة أحد القرود مرارًا وتكرارًا. وقد أفادا بأن نشاط الخلايا العصبية المستجيبة لهذه الحركة ظهر في صورة «سلسلة من النبضات المتكررة بشكل غير منتظم؛ ومن ثم لم تُسفِر المعاينات البصرية عن أي نمطٍ منتظم».

في عام ١٩٨٣، أشار مجموعة من الباحثين من كامبريدج ونيويورك إلى ما يلي: «من المعروف أن قابلية تغيُّر استجابات الخلايا العصبية القشرية كبيرة.» وقد أوضحَت دراستهم للجهاز البصري لدى القطط والقرود مرة أخرى، أن الاستجابة العصبية لتكرار الصورة نفسها تؤدِّي إلى نتائج مختلفة. كانت الاستجابات لا تزال مرتبطةً بعض الشيء بالمثير؛ فقد ظلَّت الخلايا العصبية تُغيِّر مقدار إطلاقها للإشارات في المتوسط بتغيُّر الصور. لكن أي خلية عصبية على وجه التحديد ستطلق إشارات، ومتى ستطلق لأي حالة معينة، بدا أمرًا غير متوقعٍ تمامًا كحالة الطقس الأسبوع التالي. وقد استنتج الباحثون في النهاية أن «عَرْض مثيرات متطابقة مرات متتالية لا يسفر بالضرورة عن استجابات متطابقة».

في عام ١٩٩٨، ذهب اثنان من علماء الأعصاب البارزين إلى ما هو أبعد من ذلك: بربط آلية عمل الدماغ بعشوائية الاضمحلال الإشعاعي، وكتبا أن «ثمة قواسم مشتركة بين الخلايا العصبية وطقطقة عداد جايجر، أكثر من القواسم المشتركة بينها وبين طقطقة الساعة».

وقد أسفرت عقود من الجهود البحثية وآلاف من الأوراق عن رسالةٍ مُنَمَّقةٍ حول مدى فوضوية الجهاز العصبي. يتضح أن الإشارات القادمة إلى الدماغ تؤثر على الخلايا العصبية التي تتذبذب بالفعل ما بين حالتَي النشاط وانعدام النشاط حسب أهوائها. يمكن لمدخلات هذه الخلايا العصبية التأثير في نشاط هذه الخلايا، لكنها لا تتحكم فيه بالضبط؛ فالأمر لن يخلو من عنصر المفاجأة. يُشار إلى هذه الثرثرة التي تكون على الأرجح عديمة الفائدة، وتصرف الانتباه عن الرسالة التي تحاول الخلية العصبية إرسالها باسم «التشويش».

وكما قال أينشتاين فيما يتعلق بعلم ميكانيكا الكم الحديث: «الرب لا يلعب النرد.» فلماذا يفعل الدماغ هذا إذن؟ هل هناك أي سبب وجيه يجعل التطور يُسفِر عن خلايا عصبية بها تشويش؟ ادَّعى بعض الفلاسفة أن التشويش في الدماغ يمكن أن يكون مصدرًا للإرادة الحرة؛ أي طريقة للتغلب على رؤية العقل باعتباره يخضع للقوانين الحتمية نفسها التي تخضع لها أي آلة. لكن البعض اعترض على هذا. في هذا الصدد، كتب الفيلسوف البريطاني جالين ستراوسون: «يبدو أن بعض التغيرات في طريقة المرء … تُعزى إلى تأثير عوامل غير محددة أو عشوائية. لكن من السخف الاعتقاد بأن العوامل غير المحددة أو العشوائية، التي لا يكون المرء مسئولًا عنها [بطبيعة الحال] بأي شكل من الأشكال، لها علاقة بمسئوليته الأخلاقية الفعلية.» بعبارة أخرى، اتخاذ القرارات بناءً على رمي العملة ليس أمرًا «حُرًّا» تمامًا.

افترض العلماء أغراضًا أخرى لهذه الحالة من انعدام قابلية التنبؤ. على سبيل المثال، يمكن للعشوائية المساعدة في تعلُّم أمور جديدة. إذا سلك شخص ما نفس الطريق المؤدي للعمل كل يوم، فإن أي انعطاف عشوائي نحو اليسار مثلًا من الممكن أن يُفضي به إلى حديقة غير معروفة، أو مقهًى جديد أو حتى طريق أسرع. وبالمثل، فإن بعض الاستكشاف قد يفيد الخلايا العصبية، والتشويش يتيح لها ذلك.

بالإضافة إلى السؤال عن سبب كون الخلايا العصبية تتسم بالتشويش، انشغل علماء الأعصاب بالسؤال عن كيف ينتهي بها الحال بهذه الطريقة. المصادر المحتملة للتشويش توجد خارج الدماغ. على سبيل المثال، تحتاج المستقبلات الضوئية أن تتعرض لعدد محدد من الفوتونات قبل أن تستجيب. لكن وجود مصدر ثابت من الضوء لا يضمن أن يصِل للعين تيارٌ ثابت من الفوتونات. بهذه الطريقة، قد لا تكون مدخلات الجهاز العصبي نفسها ثابتة.

علاوة على ذلك، فإن العديد من عناصر وظيفة الخلية العصبية تعتمد على عمليات عشوائية. على سبيل المثال، ستتغير الحالة الكهربية للخلية العصبية إذا تغير انتشار الأيونات في السائل المحيط بها. والخلايا العصبية، شأنها في ذلك شأن العديد من الخلايا الأخرى، مكوَّنةٌ من آليات جزيئية لا تؤدي وظيفتها بالضرورة وفقًا لخطة: قد لا تُنتَج البروتينات الضرورية بالسرعة الكافية، وقد تتعطل الأجزاء المتحركة، وما إلى ذلك. في حين أن هذه الإخفاقات المادية قد تساهم في صَخب العقل، فإنها لا تبدو مسئولة بالكامل عنه. في الحقيقة، عندما أُخِذت خلايا عصبية من القشرة الدماغية ووُضِعت في طبق بتري، تصرَّفَتْ على نحوٍ أكثر موثوقية على نحو ملحوظ؛ فتحفيز هذه الخلايا العصبية بالطريقة نفسها مرتَين سيؤدي إلى النتائج نفسها. ومن ثم، فإن بعض الهفوات في المكونات الخلوية، والتي يمكن أن تحدث في الطبق وفي الدماغ أيضًا، تبدو غير كافية لتفسير الضوضاء الملحوظة بشكلٍ معتاد.

ومن ثم فإن الموازين مُختلَّة؛ فالضوضاء الواردة لا تكافئ الضوضاء الناتجة. قد نشكُّ في أن هذا مجرد خطأ دخيلٍ في الحساب، فربما هناك القليل من التُّروس غير الموثوق بها في التراكيب العصبية، أو ربما تكون المدخلات من العالم أقلَّ استقرارًا مما نعتقد. ربما تصنع مثل هذه التقديرات الخاطئة الفارق لو لم تكُن هناك حقيقةٌ واحدة صغيرة، وهي أن طبيعة آلية عمل الخلايا العصبية تجعلها مُخفضاتٍ للصخب.

لفَهْم هذا، تخيل أنك وبعض أصدقائك تلعبون لعبةً يكون الهدف فيها هو معرفة إلى أي مدًى يمكنكم، بشكلٍ جماعي، ركل كرة قدم في ملعبٍ طويلٍ قبل أن ينتهي الوقت المحدد في المؤقِّت. لا يوجد بينكم أحدٌ مُدرَّب جيدًا ومن حين لآخر ترتكبون الأخطاء — أحدهم يخطئ في تمريرة، وآخر يشعر بالتعب وآخر يتعثَّر. في بعض الأحيان قد تُخطئ في تقدير المسافات، فتركض بسرعةٍ أكبر أو تمرِّر الكرة أبعد. إذا كان الوقت المخصص صغيرًا، لنَقُل ٣٠ ثانية، فسيكون لهذه الهفوات اللحظية أو نقاط القوة في الأداء تأثيرٌ كبير على المسافة التي تقطعونها. فربما تقطعون ١٥٠ مترًا في محاولة و٢٠ في الأخرى. أما إذا كان الوقت كبيرًا، لنَقُل خمس دقائق، فإن هذه التقلبات في الأداء قد يوازن بعضُها بعضًا: يمكن تعويض البداية البطيئة من خلال العَدْو السريع في النهاية، أو يمكن أن يضيع التقدم المحرز من تمريرةٍ طويلةٍ بسبب سقوط أحدهم. نتيجةً لذلك، كلما زاد الزمن المخصص أصبحَت المسافات المقطوعة في كل محاولةٍ أكثر تشابُهًا. بعبارةٍ أخرى، يتوازن «التشويش» الخاص بمهاراتك الرياضية بمرور الوقت.

تجد الخلايا العصبية نفسها في موقف مماثل. إذا حصلت الخلية العصبية على مدخلات كافية خلال فترة زمنية محددة، فستطلق جهدَ فِعل. المدخلات التي تحصل عليها تتسم بالتشويش؛ لأنها تأتي من إطلاق الإشارات العصبية من الخلايا العصبية الأخرى. لذا، قد تتلقَّى الخلية العصبية، لِنَقُل خمسة مدخلات في لحظة معينة و١٣ مدخلًا في أخرى، وقد لا تتلقى أي مدخلات بعد ذلك. وكما هي الحال في مثال لعبة الكرة، إذا استغرقَت فترة طويلة في تلقِّي هذه المدخلات التي تتسم بالتشويش، قبل أن تقرر ما إذا كان لديها مدخلاتٌ كافية لتطلق جهدَ فِعل أم لا، فسينخفض تأثير التشويش. أما إذا سارعت في استخدام قِيَم منفردةٍ للمدخلات التي تحصل عليها في الحال، فسيشيع التشويش.

إذن كم من الوقت تحتاج الخلية العصبية لدَمج وتجميع مدخلاتها؟ نحو ٢٠ ملِّي ثانية. قد لا تبدو هذه فترة طويلة، لكنها بالنسبة إلى الخلية العصبية فترة كافية. فإطلاق جهد الفعل يستغرق حوالَي ملِّي ثانية واحدة، ومن الممكن أن تستقبل الخلية العديد من المدخلات المختلفة في المرة الواحدة. ومن ثم، لا بد أن تكون الخلايا العصبية قادرةً على حساب متوسط العديد من القيم المنفردة للمدخلات، خلال فترة زمنية محددة، قبل أن تقرِّر إطلاق جهد الفعل.

استخدم عالما الأعصاب ويليام سوفتكي وكريستوف كوخ نموذجًا رياضيًّا بسيطًا للخلية العصبية، وهو: نموذج «التسريب – التجميع – الإطلاق»، المقدم في الفصل الثاني، لاختبار ذلك فقط. في دراسة لهما، نُشرت عام ١٩٩٣، أجريا محاكاةً لخلية عصبية تتلقَّى مدخلات في أوقاتٍ غير منتظمة. إلا أن هذه الخلية العصبية نفسها ظلَّت تُنتج إشاراتِ خَرْجٍ أكثر انتظامًا من المدخلات التي حصلت عليها؛ لأنها جمَّعت الإشارات بمرور الوقت. هذا يعني أن الخلايا العصبية تتمتَّع بالقدرة على تدمير التشويش، من خلال تلقِّي مدخلاتٍ تتسم بالتشويش، وتكوين مخرجات أقل تشويشًا.

إذا لم تكُن الخلايا العصبية قادرة على التغلب على التشويش، لَما كان عدم انتظام أداء الخلايا العصبية في الدماغ على هذا القدر من الغموض. كما ذكرنا من قبل، يمكننا افتراض أن مقاديرَ صغيرة من العشوائية تدخل إلى الدماغ — إما من العالم الخارجي أو من داخل الخلية — وتنتشر في النظام عبر الروابط بين الخلايا العصبية. إذا نتج عن المدخلات المشوِّشة مخرجاتٌ بدرجة التشويش نفسها، أو ربما بدرجةٍ أكثر تشويشًا، فستكون هذه قصة مُتَّسقة ذاتيًّا إلى حد كبير: خلايا عصبية بها تشويش تُفضي إلى خلايا عصبية بها تشويش. لكن، وفقًا لنموذج سوفتكي وكوخ، ليس هذا ما يحدث. عند مرور التشويش عبر الخلية العصبية فلا بد أنه يصبح أضعف. وعند مروره بشكلٍ مُتتالٍ خلال شبكة كاملة من الخلايا العصبية، فلا بد أن نتوقع أن يختفي تمامًا. ومع ذلك، كلما نظر علماء الأعصاب في أي مكان، وجدوه.

fig12
شكل ٥-١

إذن، ليس الدماغ غير قابل للتوقع فحسب؛ بل يبدو وكأنه يشجع على هذه الحالة من عدم القدرة على التوقع، على نحوٍ يخالف النزعة الطبيعية للخلايا العصبية لسحق هذه الحالة. ما الذي يحافظ على بقاء العشوائية؟ هل يحتوي الدماغ على مُولِّد أعداد عشوائية؟ هل يتضمن نوعًا من النَّرد البيولوجي المَخفِيِّ؟ أم، كما افترض العلماء في تسعينيات القرن العشرين، هل تُنتج هذه الفوضى بالفعل عن نظام أكثر جوهرية، أي من التوازن بين التحفيز والتثبيط.

•••

قام إرنِست فلوري بالعديد من الرحلات إلى أحد جزاري الأحصنة في لوس أنجلوس؛ للكشف عن مصدر التثبيط في الدماغ.

كان ذلك في منتصف خمسينيات القرن العشرين، عندما كان فلوري، عالم الأعصاب الألماني النشأة الذي هاجر إلى أمريكا الشمالية، يبحث في سؤال مع زوجته إليزابيث. في ذلك الوقت، كانت حقيقةُ أن الخلايا العصبية تتواصل من خلال إرسال مواد كيميائية — تُسَمى النواقل العصبية — فيما بينها قد رُسِّخت بشكلٍ كبير. إلا أن النواقل العصبية المعروفة آنذاك كانت مُحفِّزة — بمعنى أنها كانت مواد كيميائية تجعل الخلايا العصبية أكثر عرضةً لإطلاق إشارات. ومع هذا كان من المعروف، منذ منتصف القرن التاسع عشر، أن بعض الخلايا العصبية يمكنها بالفعل تقليل النشاط الكهربي للخلايا العصبية المستهدفة. على سبيل المثال، في عام ١٨٤٥ أظهر الأَخَوان فيبر، إرنست وإدوارد، أن تحفيز خليةٍ عصبيةٍ في الحبل الشوكي كهربيًّا يمكنه أن يُبطئ نشاط الخلايا التي تتحكَّم في دقات القلب؛ بل إنه قادرٌ على إيقافه. كان هذا يعني أن المادة الكيميائية التي تفرزها هذه الخلايا العصبية مثبِّطة، أي تجعل الخلايا أقل إطلاقًا للإشارات.

احتاج فلوري إلى عيناتٍ من أجل دراسة «عامل التثبيط»، وهو الاسم الذي أطلقه على المادة المسئولة عن التثبيط. لذا كان يصطحب سيارته الشيفروليه طراز عام ١٩٣٤ بانتظامٍ إلى جَزَّار أحصِنة ويحصل على بعض الأجزاء التي لا يُفضلها الزبون العادي كثيرًا؛ كالمخ الطازج والحبال الشوكية. بعد استخلاص مواد مختلفة من النسيج العصبي في هذه الأجزاء، فحص ما يحدث عند إضافة كلٍّ من هذه المواد إلى خلايا عصبيةٍ حيةٍ مأخوذة من أحد أفراد جراد النهر. في النهاية، حدَّد بعض المواد الكيميائية المرشحة التي هدأت من نشاط الخلايا العصبية لجرادة النهر. نجاح هذا الدمج بين نوعَين مختلفَين من الكائنات يدُل على كون لوري محظوظًا بعض الشيء. لا يمكن الافتراض دائمًا أن النواقل العصبية تعمل بالطريقة نفسها لدى مختلف الحيوانات. لكن في هذه الحالة المواد التي كانت مُثَبطة للحصان كانت مُثبطةً أيضًا لجراد النهر.

بمساعدة كيميائيين محترفين، استخدم فلوري، بعد ذلك، نسيجًا من حيوانٍ آخر — على وجه الدقة ٤٥ كيلوجرامًا (١٠٠ رطل) من دماغ بقرة — لتصفية «عامل التثبيط» من الشوائب والوصول إلى بنيته الكيميائية الأساسية. في النهاية، لم يتبقَّ له سوى ١٨ ملِّيجرامًا من حمض الجاما-أمينُوبوتيريك. كان حمض الجاما-أمينُوبوتيريك (أو الجابا GABA كما هو معروف أكثر) أول ناقل عصبي مثبِّط أمكن التعرف عليه.

تحديد ما إذا كان الناقل العصبي مُحفِّزًا أم مُثبِّطًا يعتمد على الجهة المتلقِّية، أو بشكلٍ أكثر تقنية يحدده مستقبِل الخلية العصبية المستهدَفة. عند إطلاق ناقل عصبي من إحدى الخلايا العصبية، تقطع المادة الكيميائية المسافة القصيرة عبر التشابك العصبي، بين هذه الخلية العصبية والخلية العصبية التي تستهدفها. ثم ترتبط بالمستقبِلات التي تصطَفُّ على غشاء الخلية العصبية المستهدَفة. هذه المستقبِلات أشبه بأقفالٍ من البروتين. فهي تتطلَّب المفتاح الصحيح — أي الناقل العصبي الصحيح — كي تُفتح. وبمجرَّد أن تُفتح تكون انتقائيةً بشأن المواد التي تسمح لها بالدخول. على سبيل المثال، لا يَسمح أحد أنواع المستقبلات التي يرتبط بها الجابا إلا بدخول أيونات الكلوريد إلى الخلية. لأيونات الكلوريد شحنة سالبة، والسماح بدخول المزيد منها للخلية يُصعِّب على الخلية العصبية الوصول لحد العتبة الكهربية الذي تحتاجه لإطلاق إشارات عصبية كهربية. على الجانب الآخر، تسمح المستقبِلات التي ترتبط بها النواقل العصبية المحفِّزة بدخول الأيونات الموجبة الشحنة مثل الصوديوم، وهو ما يجعل الخلية العصبية أقرب لحدِّ العتبة.

تميل الخلايا العصبية إلى إطلاق الناقل العصبي نفسه لكل الخلايا التي تستهدفها، وهو مبدأ معروف باسم قانون ديل (سُمي على اسم هِنْري هاليت ديل الذي افترض الأمر نفسه بجرأة عام ١٩٣٤، وهو الوقت الذي لم يُتعرَّف فيه إلا على ناقلَين عصبيَّين فقط). يُطلق على الخلايا العصبية التي تُطلق جابا اسم «جابية الفِعل»، على الرغم من أنها تُوصف في كثيرٍ من الأحيان بأنها «مثبِّطة»؛ نظرًا لأن جابا هو أكثر النواقل العصبية المثبِّطة انتشارًا في أدمغة الثدييات البالغة. النواقل المحفِّزة أكثر تنوعًا قليلًا، لكن الخلايا العصبية التي تُطلقها لا تزال مصنَّفة على نطاق واسع على أنها «استثارية». في منطقة القشرة الدماغية، الخلايا العصبية المثبِّطة والمحفِّزة تختلط بحُرية، مرسلةً إشارات إلى بعضها، ومستقبلة إشارات من بعضها.

في عام ١٩٩١، بعد ترسيخ العديد من هذه الحقائق حول التثبيط، استعرض فلوري دورَه السابق في اكتشاف أول — وربما أهم — ناقل عصبي مثبِّط. وأنهى استعراضه بما يأتي: «أيًّا كان ما يفعله الدماغ للعقل، يمكننا التأكد من أن جابا يلعب دورًا أساسيًّا فيه.» على الأرجح لم يكُن فلوري على علمٍ بأنه، في ذلك الوقت نفسه، كان يجري تطوير نظريةٍ جعلت التثبيط مكوِّنًا أساسيًّا من مكونات سِمة عدم قابلية التوقع التي تميز الدماغ.

•••

بالعودة إلى التشبيه بلعبة كرة القدم المحددة بوقت، تخيَّل الآن إضافة فريق آخر. هدف هذا الفريق هو منافستكم بتحريك الكرة إلى الطرف الآخر من الملعب. وعندما تتوقف الساعة، يكون الفريق الأقرب إلى الطرف المحدد له هو الفريق الفائز. إذا كان الفريق الآخر مُشَكَّلًا أيضًا من أصدقائكم شبه الرياضيين، فسيكون للفريقَين الأداء نفسه تقريبًا. سيظلُّ التشويش في أداء فريقك مؤثرًا على النتيجة، قد يَهزم فريقك الفريق الآخر بفارق بضعة أمتارٍ في إحدى المحاولات، وقد يُهزم فريقك بالفارق نفسِه في محاولةٍ أخرى. لكن بشكل عام، تصبح اللعبة متوازنةً ومُملة.

الآن تخيل أن الفريق الآخر كان مُشكلًا من لاعبين محترفين؛ مجموعة من أقوى اللاعبين وأسرعهم. في هذه الحالة، لن يكون لديك أنت وأصدقائك فرصة، وستُهزمون كل مرة. لهذا السبب لن يزعج أحدٌ نفسه بمشاهدة منافسةٍ بين فريقٍ من لاعبي كرة قدم محترفين وفريق من المدرسة الثانوية، أو بين لاعب الجولف تايجر وُودْز ووالدِك، أو بين جودزيلا ومجرد فراشة. فنتائج مثل هذه المباريات متوقَّعة بدرجةٍ تجعلها غير مثيرة. بعبارةٍ أخرى، المعارك غير المتكافئة تخلق حالةً من الاتِّساق أو التماثل؛ بينما تكون المعارك المتكافئة أكثر إمتاعًا.

في القشرة المخية، تتصل الخلايا العصبية بآلاف الخلايا الاستثارية والمثبِّطة. نظرًا لذلك، تكون كل قوة فردية قوية، وستكون لها الغَلَبة باستمرار إذا كانت القوة الأخرى أضعف. على سبيل المثال، في غياب التثبيط، نجد أن مئات المدخلات الاستثارية التي تغزو خليةً في أي لحظةٍ من شأنها أن تجعل الخلية تُطلق إشاراتٍ باستمرارٍ دون توقُّف؛ في المقابل، التثبيط وحده سيجعل الخلية في حالة ركودٍ تام. مع وجود قوةٍ هائلة على الجانبَين، يكون النشاط الحقيقي للخلية العصبية نِتاجًا للشد والجذب بين الطرفَين العملاقَين. ما يحدث في الخلية العصبية هو في الواقع صراعٌ متوازن، وهذا النوع هو الذي ستراه في الألعاب الأوليمبية وليس في فناء المدرسة.

أخبِر عالمَ كمبيوتر بهذه الحقيقة وسيبدأ في الشعور بالقلق. والسبب في ذلك أن علماء الكمبيوتر يعلمون أن إيجاد الفرق بين أعداد كبيرة جدًّا وصاخبة قد يؤدي إلى مشكلات كبيرة. في أجهزة الكمبيوتر، لا يمكن تمثيل الأعداد إلا بمستوًى معينٍ من الدقة. وهذا يعني أنه لا بد من تقريب بعض الأعداد، وهو ما يؤدي إلى حدوث خطأ — أو صخب — في عملية الحساب. على سبيل المثال، الكمبيوتر الذي تبلغ دقته ثلاثة (أي عدد به ثلاثة أرقام) فقط قد يمثِّل العدد ١٨٢٣١ على صورة ١٫٨٢ × ١٠٣؛ يضيع الباقي البالغ ٣١ في خطأ التقريب. عند طرح عددَين متساويَين تقريبًا، فإن تأثيرات خطأ التقريب هذا يمكن أن يهيمن على الإجابة. على سبيل المثال، ١٨٢٣١ ناقص ١٨١١٥ يساوي ١١٦، إلا أن الكمبيوتر سيحسب عملية الطرح هذه على صورة ١٫٨٢ × ١٠٣ ناقص ١٫٨١ × ١٠٣ وهو يساوي فقط ١٠! هذا يجعل إجابة الكمبيوتر بعيدةً بمقدار ١٠٦. وكلما كانت الأعداد أكبر أصبح الخطأ أكبر. على سبيل المثال، الكمبيوتر الذي دقته تساوي ثلاثة أرقام ويحسب ١٨٢٣١٠ ناقص ١٨١١٥٠ سينتج إجابة أقل من الإجابة الصحيحة بمقدار ١٠٦٠.

من الطبيعي ألا تشعر بالراحة إذا كان البنك الذي تتعامل معه، أو عيادة الطبيب تُجري الحسابات بهذه الطريقة. لهذا السبب، يجري تعليم المبرمجين كتابة الأكواد بطريقةٍ تجعلهم يتجنبون طرح عددَين كبيرَين جدًّا. لكن الخلايا العصبية تطرح عددَين كبيرَين جدًّا؛ وهما الاستثارة ناقص التثبيط، في كل لحظة. هل يمكن أن يكون هذا «الخطأ» حقًّا جزءًا من نظام التشغيل الخاص بالدماغ؟

كان العلماء يقلِّبون هذه الفكرة في رءوسهم بالفعل لفترة من الوقت، عندما قرر مايكل شادلين وويليام نيوسوم، عالما الأعصاب في جامعة ستانفورد، اختبار هذه الفكرة عام ١٩٩٤. على غرار الجهد البحثي الذي أسهم به سوفتكي وكوخ، صمم شالدين ونيوسوم نموذجًا رياضيًّا للخلية العصبية وغذَّياها بالمُدخَلات. إلا أنه في هذه المرة، حصلت الخلية العصبية على كلٍّ من مدخلات استثارية ومدخلات مثبِّطة متقلبة وغير متوقعة. عند وضع إحدى هاتَين القوتَين في مواجهة الأخرى، تكون الغلبة في بعض الأحيان للاستثارة وفي أحيانٍ أخرى للتثبيط. هل ستجري المعركة مثلما حدث مع العمليات الحسابية الصاخبة، وستُسفر عن خلية عصبية تُطلق إشارات عصبية بشكلٍ غير منتظم ولا متوقع؟ أم ستتمكَّن الخلية العصبية من سحق التشويش في هذه المدخلات، كما فعلت مع المدخلات الاستثارية في الجهود البحثية التي أسهم بها سوفتكي وكوخ؟ وجد شادلين ونيوسوم أنه في ظل وجود هذَين النوعَين من المدخلات — كلٌّ يأتي بالمعدل المرتفع نفسه — تكون مخرجات الخلية العصبية مشوِّشة.

في مباراة ملاكمةٍ بين اثنَين من الهواة، قد يسمح تشتُّت انتباه أحدهما للحظاتٍ للآخر بتسديد ضربةٍ صغيرةٍ له. أما في مباراةٍ بين محترفَين، قد يؤدِّي التشتُّت نفسه إلى فوز الآخر بالضربة القاضية. وبشكلٍ عام، كلما كانت القوتان المتنافستان أكبرَ كانَت نتائج هذه المنافسات أكثرَ تأرجحًا. هذه هي الطريقة التي يمكن بها للصراع الداخلي بين الاستثارة والتثبيط في الخلية العصبية القضاءُ على قدرات الخلية العصبية العادية لسَحْق التشويش. وبالنظر إلى أن المصدرَين متكافئان تقريبًا، فإن صافي مدخلات الخلية العصبية (أي إجمالي الاستثارة ناقص إجمالي التثبيط) ليس كبيرًا جدًّا في المتوسط. لكن نظرًا لأن كلا المصدرَين قويَّان، فإن التأرجح حول هذا المتوسط يكون كبيرًا. في لحظةٍ ما، قد يتجاوز مستوى إزالة الاستقطاب في الخلية العصبية حد عتبة الإطلاق المطلوب، وبذلك تُطلق جهدَ فِعل. في اللحظة التي تليها، قد تُجبر على الركود عن طريق موجةٍ من التثبيط. هذه التأثيرات يمكنها أن تجعل الخلية العصبية تُطلق إشاراتٍ في الوقت الذي لم تكن لتطلق فيه لولا ذلك، أو تبقى ساكنةً في الوقت الذي كانَت ستطلق فيه إشارات لولا ذلك. بهذه الطريقة، يؤدِّي التوازن بين الاستثارة والتثبيط إلى فوضى في الخلية العصبية، ويساعد على تفسير التقلبات في الدماغ.

المحاكاة التي أجراها شادلين ونيوسوم قطعت شوطًا كبيرًا في المساعدة على فَهْم كيف يمكن للخلايا العصبية أن تظل على قدرٍ من التشويش. لكنها لم تتوغل بعيدًا بما يكفي. تحصل الخلايا العصبية الحقيقية على مدخلات من خلايا عصبية حقيقية أخرى. كي تكون النظريةُ القائلةُ بأن هذا التشويش ينتج عن التوازن بين الاستثارة والتنشيط؛ صحيحة، لا بد أن تكون مناسبة لشبكة كاملة من الخلايا العصبية الاستثارية والمثبِّطة. هذا يعني شبكةً تأتي فيها مدخلات كل خليةٍ من الخلايا العصبية الأخرى، كما تعود مخرجاتها إلى الخلايا العصبية الأخرى أيضًا. لكن محاكاة شادلين ونيوسوم كانَت لخليةٍ عصبيةٍ واحدةٍ تتلقَّى المدخلات التي يتحكَّم فيها صانعو النموذج. لا يمكنك أن تنظر إلى الدخل والنفقات لأسرةٍ واحدة، وتقرر بناءً على ذلك أن الاقتصاد القومي قوي. وبالمثل، محاكاة خليةٍ عصبيةٍ منفردةٍ لا يمكن أن تضمن عمل شبكةٍ من الخلايا العصبية حسب المطلوب. كما رأينا في الفصل الأخير، في نظامٍ يتكوَّن من العديد من الأجزاء المتحرِّكة لا بد أن تتحرَّك كل الأجزاء بطريقةٍ صحيحةٍ للحصول على النتيجة المطلوبة.

كي نضمن أن ينتج عن شبكة خلايا عصبيةٍ بالكامل مستويات مُنسقة من التشويش، يتطلَّب الأمر تنسيقًا: لا بد أن تحصل كل خليةٍ عصبيةٍ على مدخلاتٍ استثاريةٍ ومثبِّطةٍ من الخلايا العصبية المجاورة لها بنسبٍ متساويةٍ تقريبًا. ولا بد أن تكون الشبكة مُتَّسقةً مع نفسها؛ أي إنه يتعيَّن على كل خليةٍ عصبيةٍ إنتاج نفس القدر من التشويش الذي تحصل عليه، لا أكثر ولا أقل. هل يمكن لشبكةٍ من الخلايا الاستثارية والمثبِّطة بالفعل الاحتفاظ بنوع إطلاق الإشارات الذي يتسم بالتشويش الذي نراه في الدماغ، أم هل يتلاشى التشويش أو ينفجر في النهاية؟

•••

فيما يتعلق بالاتساق الذاتي في الشبكات، يعرف علماء الفيزياء ما يتعين عليهم فعله. كما رأينا في الفصل السابق، تحفل الفيزياء بالعديد من المواقف التي يكون فيها الاتساق الذاتي مُهمًّا: على سبيل المثال، تتكون الغازات من أعداد كبيرة من الجُسيمات البسيطة، حيث يتأثر كل جسيم بجميع الجسيمات المحيطة به ويؤثر فيها جميعًا في المقابل. لذا، ابتُكرت آليات لجعل الرياضيات التي تعبر عن هذه التفاعلات أسهل في التعامل معها.١

في ثمانينيات القرن العشرين، كان عالم الفيزياء الإسرائيلي حاييم سومبولينسكي يستخدم هذه الآليات؛ لفهم الطرق التي تتصرف بها المواد في ظل درجات الحرارة المختلفة. لكنه في النهاية وجَّه اهتمامه صوب الخلايا العصبية. في عام ١٩٩٦ طبَّق سومبولينسكي وزميله كارل فان فريسفيك، عالم الفيزياء الذي تحوَّل إلى عالم أعصاب، النهجَ الفيزيائي في مسألة التوازن في الدماغ. بمحاكاة الرياضيات المستخدمة لفهم الجسيمات المتفاعلة، دوَّنا بعض المعادلات البسيطة التي تمثِّل مجموعةً كبيرةً جدًّا من الخلايا الاستثارية والمثبِّطة المتفاعلة معًا. تلقَّت هذه المجموعة أيضًا مدخلات خارجية الهدف، منها تمثيل الوصلات القادمة من مناطق أخرى في الدماغ.

من خلال معادلاتهما البسيطة، استطاع فان فريسفيك وسومبولينسكي تحديد نوعية السلوك الذي أرادا رؤيته من النموذج. على سبيل المثال، كان لا بد أن تكون الخلايا قادرة على الاحتفاظ بنشاطها، وفي الوقت نفسه لا تكون نشطة للغاية (أي ينبغي ألا تُطلِق إشارات دون توقف مثلًا). بالإضافة إلى ذلك، لا بد أن تستجيب للزيادات في المدخلات الخارجية، من خلال زيادة معدل إطلاق الإشارات. وبالطبع، كان لا بد أن تتسم الاستجابات بالتشويش.

بتضمين هذه المتطلبات، مضى فان فريسفيك وسومبولينسكي قُدمًا في المعادلات. وتوصلا إلى أنه: لتكوين شبكةٍ كاملةٍ ستستمرُّ في إطلاق الإشارات بشكلٍ غير منتظم بمعدلٍ معقول، لا بد من استيفاء بعض الشروط. على سبيل المثال، لا بد أن يكون تأثير الخلايا المثبِّطة على الخلايا المحفِّزة أقوى من تأثير الخلايا المحفِّزة على بعضها. التأكد من أن الخلايا المحفِّزة تتلقى تثبيطًا أكثر بقليل من التحفيز، يجعل نشاط الشبكة تحت السيطرة. من المهم أيضًا أن تكون الروابط بين الخلايا العصبية عشوائيةً ونادرة؛ لا بد أن تحصل كل خليةٍ على مدخلات، لنَقُل، من ٥ أو ١٠ في المائة فقط من الخلايا الأخرى. هذا يضمن عدم وقوع خليتَين عصبيتَين في نمط السلوك نفسه.

لم يكن من غير المنطقي بالنسبة للدماغ أن يستوفيَ أيًّا من المتطلبات التي حددها فان فريسفيك وسومبولينسكي. فعندما أجرى العالمان محاكاة لشبكة تستوفي جميع هذه المتطلبات ظهر التوازن الضروري بين الاستثارة والتثبيط، وبدا أن الخلايا العصبية المحاكِية بها التشويش نفسه الموجود في الخلايا العصبية الحقيقية. ويُشار إلى أن حَدْس شادلين ونيوسوم بشأن كيف يمكن للخلية العصبية الواحدة الاستمرار في إطلاق إشارات يتَّسم بالتشويش؛ ينطبق على شبكة من الخلايا العصبية المتفاعلة.

لم يكتفِ فان فريسفيك وسومبولينسكي بتوضيح أنه من الممكن موازنة الاستثارة والتثبيط في الشبكة؛ بل توصَّلا أيضًا إلى فائدة من ذلك، وهي أن الخلايا العصبية في الشبكة المتوازنة بإحكام تستجيب بسرعة للمدخلات. عندما تكون الشبكة موزونة، فإنها تكون أشبه بسائق يضغط بإحدى قدمَيه على البنزين، والأخرى على الفرامل بالتساوي. لكن هذا التوازن يختلُّ عندما يتغير مقدار المدخلات الخارجية. ونظرًا لأن المدخلات الخارجية محفِّزة، وتستهدف الخلايا الاستثارية في الشبكة أكثر من الخلايا المثبِّطة — تكون الزيادة في إطلاق الإشارات أشبه بثِقَل أضيف لدواسة البنزين. ومن ثم، تنطلق السيارة تقريبًا بالسرعة نفسها التي تأتي بها المدخلات. لكن بعد هذه الدفعة الأولية من الاستجابة تستعيد الشبكة توازنها مرة أخرى. انفجار الاستثارة في الخلية يجعل الخلايا العصبية المثبِّطة تُطلق إشارات أكثر — على غرار إضافة ثقل إلى الفرامل — تستقر مرة أخرى في حالة توازن، استعدادًا للاستجابة مرة أخرى. هذه القدرة على التصرف بسرعة استجابةً للمُدخلات المتغيرة قد تساعد الدماغ على مواكبة العالم المتغير بدقة.

معرفة أن الرياضيات تصل إلى حلولٍ أمرٌ يدعو للاطمئنان، إلا أن الاختبار الحقيقي للنظرية مصدره الخلايا العصبية الحقيقية. قدَّم الجهد البحثي الذي أسهم به فان فريسفيك وسومبولينسكي الكثير من التوقعات لعلماء الأعصاب كي يختبروها، وهذا بالضبط ما فعله مايكل وير وأنتوني زادور في مختبر كولد سبرينج هاربور عام ٢٠٠٣. استمدَّ الباحثان تسجيلاتهما من الخلايا العصبية الموجودة في القشرة السمعية للفئران، وهي المسئولة عن معالجة الصوت، أثناء تشغيل أصوات مختلفة للفئران. عادةً عندما يضع علماء الأعصاب قطبًا كهربيًّا في الدماغ، فإنهم يحاولون معرفة مخرجات الخلية العصبية، أي جهود الفعل. لكنْ هذان الباحثان استخدما طريقةً أخرى لمراقبة المدخلات التي كانت الخلية العصبية تحصل عليها، وذلك لغرضٍ مُحدَّد، وهو معرفة ما إذا كانت المدخلات الاستثارية والمثبِّطة يوازن بعضُها بعضًا أم لا.

ما لاحظاه هو أنه بعد تشغيل الصوت مباشرة اجتاحت الخلية موجة قوية من الاستثارة. تبِع ذلك، بشكلٍ شبه فوري، دفقٌ مساوٍ من التثبيط، يمكننا اعتبار ذلك الفراملَ التي تلت دواسة البنزين. حتى عند استخدام الأصوات الأعلى، وهو ما نتج عنه مزيد من الاستثارة، كان مقدار التثبيط الذي تبعه مكافئًا لمقدار الاستثارة دائمًا. بدا أن التوازن يظهر في الدماغ كما ظهر في النموذج.

لاستكشاف تنبؤ آخر للنموذج، تعين على العلماء أن يكونوا أكثر إبداعًا. أوضح فان فريسفيك وسومبولينسكي أنه: لتكوين شبكة متوازنة بشكلٍ جيد، لا بد أن تعتمد قوة الوصلات بين الخلايا العصبية على إجمالي عدد الوصلات، مع زيادة عدد الوصلات، يمكن أن تكون كل وصلة أضعف. رغب كلٌّ من جيريمي بارال وأليكس راياس من جامعة نيويورك في إيجاد طريقة لتغيير عدد الوصلات في الشبكة؛ لاختبار صحة هذه الفرضية.

داخل الدماغ، يصعب التحكم في آلية نمو الخلايا العصبية. لذا، في عام ٢٠١٦ قررا جعل الخلايا تنمو في طبق بتري بدلًا من ذلك. هذا الإعداد التجريبي، في بساطته وإمكانية التحكم فيه ومرونته، يشبه تقريبًا إصدارًا حيًّا لمحاكاة كمبيوتر. للتحكم في عدد الوصلات، وضَعا ببساطةٍ كمياتٍ مختلفةً من الخلايا العصبية في الطبق؛ الأطباق التي احتوت على مزيد من الخلايا العصبية صنعت مزيدًا من الوصلات. بعد ذلك، راقبا نشاط الخلايا العصبية وتحقَّقا من قُوى الوصلات بينها؟ جميع المجموعات (التي احتوت على كلٍّ من خلايا مثبِّطة وخلايا استثارية) أطلقت إشارات بطريقة مُشوشة، تمامًا على النحو الذي ينبغي لشبكة متوازنة. لكن قُوى الوصلات اختلفت اختلافًا جذريًّا. ففي الطبق الذي كان فيه لكل خلية عصبية نحو ٥٠ وصلة فقط، كانت الوصلات أقوى بثلاث مرات من الوصلات في الطبق الذي فيه لكل خلية عصبية ٥٠٠ وصلة. في الحقيقة، بإلقاء نظرة على جميع المجموعات، متوسط قوة الوصلة تقريبًا يساوي واحدًا مقسومًا على الجذر التربيعي لعدد الوصلات؛ وهو بالضبط ما تنبَّأت به نظرية فان فريسفيك وسومبولينسكي.

وفي خِضَم السعي للحصول على مزيد من الأدلة، عُثِر على المزيد الذي يدعم الاعتقاد بأن الدماغ في حالة توازن. لكن لم تَسِر جميع التجارب على النحو الذي تنبأت به النظرية؛ فالتوازن المحكم بين الاستثارة والتثبيط لم يُلحَظ دائمًا. ثمة سبب وجيه للاعتقاد بأن بعض مناطق الدماغ التي تشترك في مهام محددة، قد تكون أكثر عُرضة لإظهار السلوك المتوازن. على سبيل المثال، يتعيَّن على القشرة السمعية في الدماغ الاستجابة للتغيُّرات السريعة في تردد الأصوات لمعالجة المعلومات الواردة. وهو ما يجعل الاستجابة السريعة للخلايا العصبية المتوازنة بشكلٍ جيد خيارًا مناسبًا. قد تجد مناطق أخرى لا تتطلب مثل هذه السرعة حلًّا مختلفًا.

تكمن روعة التوازن في أنه يُسخِّر عنصرًا مُهيمِنًا في الدماغ — وهو التثبيط — لحل لغز شائع بنفس القدر، وهو التشويش. وكل هذا يحدث دون الاعتماد على السحر؛ أي إنه لا يوجد مصدر مخفِيٌّ للعشوائية. يأتي التشويش حتى في أثناء استجابة الخلايا العصبية تمامًا كما ينبغي لها.

هذه الحقيقة المنافية للحَدْس البديهي، التي تفيد بأن السلوك المتوازن يمكن أن ينتج عنه فوضى، تُعد ضرورية. وقد لوحظت هذه الحقيقة في موضع آخر من قَبل. فقد أشار فان فريسفيك وسومبولينسكي إلى هذا التاريخ، من خلال أول كلمةٍ في عنوان ورقتهما البحثية: «الفوضى في الشبكات العصبية التي لها نشاط استثاري ومثبِّط متوازن».

•••

لم يكن مفهوم الفوضى موجودًا في ثلاثينيات القرن العشرين؛ حين كان العلماء يدركون لأول مرة مدى تشويش الخلايا العصبية، لم تكن النظرية الرياضية التي تهدف إلى فَهْم سلوك هذه الخلايا قد اكتُشِفت بعد. وعندما حدث ذلك حدث بالصدفة على الأرجح.

تأسس قسم الأرصاد الجوية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عام ١٩٤١، في الوقت المناسب تمامًا لإدوارد لورنز. أبدى لورنز، المولود في عام ١٩١٧ في حيٍّ لطيفٍ بكونتيكت في جيرة مهندس ومدرس، اهتمامًا مبكرًا بالأعداد والخرائط والكواكب. قرَّر مواصلة دراسته للرياضيات بعد الحصول على شهادة جامعية فيها، لكن كما حدث مع الكثير من العلماء في زمانه، اعترضت الحربُ طريقَه. وفي عام ١٩٤٢ أُسنِدت إلى لورنز مهمة التنبؤ بالطقس لدى سلاح الجو بالجيش الأمريكي. لتعلُّم كيفية فعل ذلك، حصل على دورة مكثَّفة حول الأرصاد الجوية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. عندما فرغ من مهمة الجيش ظل يعمل في الأرصاد الجوية، وظل في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في البداية بوصفه طالب دكتوراه، ثم باعتباره عالم أبحاثٍ، وأخيرًا باعتباره أستاذًا.

لو سبق لك أن حاولت التخطيط لنزهة، فأنت تعلم أن التنبؤ بالطقس بعيد كل البعد عن الكمال. حتى إن خبراء الأرصاد الجوية الأكاديميين، الذين يركزون على فيزياء الكوكب على نطاق واسع، نادرًا ما يعتبرون التنبؤ اليومي هدفًا. لكن لورنز ظل فضوليًّا حِيال ذلك، وكذلك حيال إمكانية مساعدة التكنولوجيا الحديثة، الكمبيوتر، في هذا.

المعادلات التي تصف الطقس عديدة ومعقَّدة. المُضي في حل هذه المعادلات — لمعرفة كيف سيقودنا الطقس الحالي إلى الطقس في وقت لاحق — يُعد مهمةً هائلة وشبه مستحيلة (بمجرد الانتهاء من هذه المهمة سيكون وقت حلول الطقس الذي تتنبأ به قد مر بالفعل) لكن ربما يمكن للكمبيوتر فعل هذا أسرع بكثير.

بدءًا من عام ١٩٥٨ وضع لورنز هذا قيد الاختبار. فقد بسَّط ديناميَّات الطقس في ١٢ معادلة، واختار بعض القيم ليبدأ بها — لِنقُل رياح غربية بسرعة ١٠٠كم/ساعة — واستعان بالرياضيات في هذه العملية. طبع مخرجات النموذج على لفافات من الورق لأنها تمتد بالطول. بدت المخرجات أشبه بالطقس بما يكفي، مع وجود حركات المدِّ والجزر المألوفة، وتدفُّقات التيارات، ودرجات الحرارة. وفي أحد الأيام أراد تكرار محاكاة معينة لمعرفة كيف ستتطوَّر على مدار فترة زمنية أطول. بدلًا من بدء المحاكاة من البداية مرة أخرى، اعتقد أنه يمكنه البدء من نقطةٍ في المنتصف من خلال وَضْع القِيم في النسخة المطبوعة باعتبارها الحالاتِ الأوَّلية. التعجُّل أحيانًا يكون مدعاةً للاكتشاف.

ومع ذلك لم تكن الأعداد التي طبعها الكمبيوتر كاملة. كي تستوعب الصفحة مزيدًا من الأعداد، اقتطعت الطابعة عدد الأرقام الواقعة بعد العلامة العشرية من ستة أرقام إلى ثلاثة. لذا، فإن الأعداد التي وضعها لورنز في المحاولة الثانية من المحاكاة لم تعُد هي نفسها الأعداد التي أسفر عنها النموذج. لكن ما الذي يمكن أن يعنيه عددٌ قليلٌ من الأرقام العشرية في نموذج لطقس العالم بأسره؟ يتضح أن هذه التغييرات البسيطة قد يكون لها تأثيرٌ ملحوظ. بعد إجراء المحاكاة لفترةٍ زمنيةٍ محددة — نحو شهرَين من التغيُّرات المناخية في نطاقٍ زمني — كانت هذه الجولة الثانية للمحاكاة مختلفةً تمامًا عن الأولى. فما كان حارًّا في محاكاة كان باردًا في أخرى، وما كان سريعًا في إحداهما كان بطيئًا في الأخرى. وما كان من المفترض أن يكون تكرارًا أصبح اكتشافًا غير مسبوق.

حتى هذه اللحظة، افترض العلماء أن التغيُّرات البسيطة تنتج عنها تغيُّرات بسيطة. ينبغي ألَّا تكون لهبَّة ريح عند نقطة معينة القدرةُ على تحريك جبال فيما بعد. وفقًا لهذا الاعتقاد الراسخ، لا بد أن تكون ملاحظة لورنز نابعة من خطأ فني اقترفته أجهزة الكمبيوتر الضخمة العالية الكفاءة في ذلك الوقت.

لكن لورنز كان على استعداد لرؤية ما كان يحدث حقًّا. في هذا الصدد، أوضح عام ١٩٩١ قائلًا: «لا بد أن يبقى العالم دائمًا على اطِّلاع بتفسيرات أخرى غير تلك التي يشيع انتشارها.» ما لاحظه لورنز هو أن السلوك الصحيح للرياضيات كان مختلفًا عن الحدس الأوَّلي للمرء. في مواقف معينة، يمكن أن تتعاظم التقلُّبات الصغيرة، وهو ما يجعل السلوك لا يمكن التنبؤ به. هذا ليس خطأً ولا سهوًا؛ بل هذه الآلية التي تعمل بها الأنظمة المعقدة. الفوضى — الاسم الذي أطلقه علماء الرياضيات٢ على هذه الظاهرة — كانت حقيقية، وسيستفيد العلماء من محاولة فَهْمها.

العمليات الفوضوية ينتج عنها مخرجات تبدو فوضوية، لكنها في الواقع تتبع قواعد محددة جدًّا. السبب في مثل هذا الوصف يكمُن في الحقيقة المزعجة أن قدرتنا على التنبؤ بالنتائج المعتمِدة على معرفة القواعد، محدودة أكثر بكثير مما كان يُعتقد قبلًا، لا سيما إذا كانت هذه القواعد معقَّدة. أوضح جيمس كليك في كتابه «الفوضى: صُنع عِلمٍ جديد»، وهو تاريخ شامل لكيفية ظهور هذا المجال، ما يأتي: «بشكلٍ تقليدي، سيعتقد اختصاصي علم الديناميكا أن كتابة معادلات لنظام ما تعني فهم هذا النظام … لكن نظرًا لوجود القليل من اللاخطِّية في هذه المعادلات، سيجد اختصاصي علم الديناميكا نفسه غير قادر على الإجابة عن أسهل الأسئلة العملية المتعلقة بمستقبل النظام.» هذا يُضفي حتى على أبسط الأنظمة، المكونة على سبيل المثال من كرات بلياردو متفاعلة أو بندولات متأرجحة، احتماليةَ أن ينتج عنها نتيجة غير متوقعة. وتابع قائلًا: «اكتشف هؤلاء الذين يدرسون الأنظمة الديناميكية الفوضوية، أن السلوك المضطرب للأنظمة البسيطة يعمل بوصفه عمليةً إبداعية. ويتولَّد عنه التعقيد: أنماطٌ غنية التنظيم تكون مستقرَّة في بعض الأحيان وغير مستقرةٍ في أحيانٍ أخرى، ومحدودةً في بعض الأحيان ولا نهائيةً في أحيانٍ أخرى».

كانت الفوضى تحدث في الغلاف الجوي، وإذا كان فان فريسفيك وسومبولينسكي على حق، فإنها كانت تحدث في الدماغ أيضًا. لهذا السبب، فإن تفسير السبب في أن الدماغ يستجيب للمُدخلات المكررة استجابات متنوعة ومتغيرة؛ لا يحتاج إلى أن يشمل الآليات والعمليات غير المنتظمة للخلايا الفردية في الدماغ. هذا لا يعني عدم وجود أي مصادر للتشويش في الدماغ (كقنوات الأيونات غير الموثوقة أو المستقبِلات المعطَّلة)؛ بل يعني أن عنصرًا مُعقَّدًا كالدماغ، بما يحتويه من مجموعات من الخلايا مسئولة عن الاستثارة والتثبيط، لا يستلزم إظهار استجاباتٍ غنية وغير منتظمة. في الواقع، في محاكاة فان فريسفيك وسومبولينسكي لشبكة ما، كلُّ ما تعيَّن عليهما هو تغيير الحالة الابتدائية لخلية عصبية واحدة — من إطلاق إشاراتٍ إلى عدم إطلاق إشارات أو العكس — لتكوين نمط نشاط مختلف تمامًا في مجموعة الخلايا بالكامل.٣ فإذا كان أي تغيير بسيط يمكن أن يُسفِر عن مثل هذا الاضطراب، فإن قدرة الدماغ على الاحتفاظ بالتشويش تبدو أقل غُموضًا.

•••

في المراكز الطبية حول العالم يظل مَرضى الصَّرع عدة أيام — تصل إلى أسبوع — عالقِين في غُرف صغيرة. الغرف «المراقَبَة» هذه مزودة بتليفزيون — للمرضى — وكاميرات ترصد حركة المريض؛ كي يتابعه الأطباء. طوال الليل والنهار، يكون المرضى على اتصالٍ بجهاز تخطيط كهربي للدماغ (EEG) يلتقط سلوك أدمغتهم. يأمل المرضى أن تساعد المعلومات التي يجري تجميعها على علاج نوبات الصرع لديهم.

ترصد أقطاب جهاز التخطيط الكهربي للدماغ، المثبتة في فروة الرأس عن طريق لاصقات طبية وأشرطة لاصقة، النشاطَ الكهربي الذي يصدر عن الدماغ أسفل هذه الأقطاب. كل قطبٍ كهربي يُعطي قياسًا، وهو عبارة عن مزيج معقَّد من نشاط العديد من الخلايا العصبية في آنٍ واحد. وهو عبارة عن إشارة تتغير بمرور الزمن مثل مقياس الزلازل أو السيزموجراف. عندما يكون المرضى مستيقظين، تكون الإشارة عبارة عن خط متعرج: يتحرك قليلًا نحو الأعلى ويتحرك قليلًا نحو الأسفل بشكلٍ عشوائي، لكن دون إيقاعٍ قوي. أما عندما يكون المرضى نيامًا (لا سيما في حالة نوم عميق بلا أحلام) فيُظهِر جهاز التخطيط الكهربي للدماغ أمواجًا؛ حركات ضخمة نحو الأعلى تليها حركات نحو الأسفل تمتدُّ لثانية أو أكثر. عند وقوع حدثٍ مثيرٍ للاهتمام — أي نوبة صرع — تصبح الحركات أكثر وضوحًا. تَتَتبَّع الإشارة التذَبذُبات الكبيرة والسريعة لأعلى ولأسفل التي تشبه شخبطةً محمومةً لطفلٍ بقلم تلوين، من ثلاث لأربع مرات في الثانية.

ما الذي تفعله الخلايا العصبية لتكوين هذه الإشارات القوية أثناء نوبة الصرع؟ تعمل معًا. كما هي الحال في التشكيلات العسكرية المدرَّبة جيدًا، تعمل هذه الخلايا بإيقاع مُوحَّد كما يسير الجنود؛ تُطلق إشارات عصبية في آنٍ واحد، ثم تهدأ قبل أن تُطلق إشارات مرة أخرى. النتيجة هي انفجار من النشاط متكرر ومتزامن، يجعل جهاز التخطيط الكهربي للدماغ يصدر إشارةً لأعلى ولأسفل مرارًا وتكرارًا. بهذه الطريقة تكون نوبة الصرع عكس مفهوم العشوائية؛ فهي عبارة عن نظامٍ مثالي يمكن التنبؤ به.

الخلايا العصبية التي تعمل على تكوين نوبة الصرع هي نفسها الخلايا التي تُصدِر أيضًا الموجات البطيئة في حالة النوم، والنشاط العادي الصاخب الذي تتطلَّبه عمليات الإدراك اليومية. كيف يمكن للدوائر العصبية نفسها إظهار هذه السلوكيات المختلفة؟ وكيف تتنقَّل ما بين هذه السلوكيات؟

في أواخر تسعينيات القرن العشرين، أقدم عالمُ الأعصاب الحاسوبي الفرنسي نيكولاس برونيل على فهم الطرق المختلفة التي يمكن أن تتصرف بها الدوائر العصبية.٤ على وجه التحديد، استنادًا إلى المجهود البحثي الذي قدمه فان فريسفيك وسومبولينسكي، أراد اختصاصيُّ علم الأعصاب الحاسوبي نيكولاس برونيل دراسة الكيفية التي تتصرف بها النماذج المكوَّنة من خلايا عصبية استثارية، وخلايا عصبية مثبِّطة. وعليه، استكشف برونيل فضاء البارامترات لهذه النماذج.

البارامترات هي مقابض يمكن إدارتها في نموذج. وهي عبارةٌ عن قيمٍ تحدد خواصَّ معينة، مثل عدد الخلايا العصبية في الشبكة، أو عدد المدخلات التي تحصل عليها كل خلية. كما هي الحال في الفضاء المنتظم، يمكن استكشاف فضاء البارامترات في العديد من الاتجاهات المختلفة، لكن كل اتجاهٍ يقابل بارامترًا مختلفًا. البارامتران اللذان اختار برونيل استكشافهما هما؛ أولًا: مقدار المدخلات الخارجية التي تحصل عليها الشبكة (أي المدخلات الواردة من مناطق الدماغ الأخرى)، ثانيًا: مقدار قوة الوصلات العصبية المثبِّطة مقارنة بالوصلات الاستثارية. بتغيير كلٍّ من هذه البارامترات قليلًا والمُضي في حل المعادلات، أمكن لبرونيل فحص مدى اعتماد سلوك الشبكة على هذه القِيَم.

ينتج عن فعل هذا، باستخدام مجموعة من قِيم بارامترات مختلفة، خريطةٌ لسلوك النموذج. تقابل خطوط الطول ودوائر العرض على هذه الخريطة البارامترَين اللذَين حدَّدهما برونيل على الترتيب. بالنسبة إلى الشبكة الموجودة في منتصف الخريطة، يكون التثبيط مساويًا للاستثارة تمامًا، ويكون مدخل الشبكة متوسط القوة. بالتحرُّك إلى يسار الخريطة تصبح الاستثارة أقوى من التثبيط، وبالتحرُّك إلى اليمين يحدث العكس. بالتحرك لأعلى، تصبح مدخلات الشبكة أقوى، وبالتحرك إلى أسفل تصبح أضعف. وبهذه الطريقة، فإن الشبكة التي درسها فان فريسفيك وسومبولينسكي — والتي كانت الوصلات بين خلاياها العصبية المثبِّطة أقوى بقليلٍ من الوصلات بين الخلايا العصبية الاستثارية — تكون على يمين منتصف الخريطة.

أجرى برونيل مَسحًا لهذا التمثيل المرئي للنموذج، بحثًا عن أي تغييراتٍ في التضاريس: هل هناك مجموعاتٌ معينةٌ من البارامترات تجعل الشبكة تتصرَّف بشكلٍ مختلفٍ تمامًا؟ للعثور على معالم مذهلة، لن تضطر إلى الانتقال بعيدًا عن شبكة فان فريسفيك وسومبولينسكي الأصلية. بالعبور من المنطقة التي يكون فيها التثبيط أقوى إلى المنطقة التي تكون فيها الاستثارة أقوى، يحدث تحوُّل حاد. في الرياضيات، تُعرف هذه التحولات باسم «التشعُّبات». وكجُرف منحدر يفصل أحد السهول الخضراء عن البحر، تشير التشعبات إلى تغيُّر سريع بين منطقتَين منفصلتَين في فضاء البارامترات. في خريطة برونيل، الخط الذي تتساوى عنده الاستثارة والتثبيط يفصل الشبكات الموجودة على اليمين، التي تتضمن إطلاقًا عشوائيًّا وغيرَ منتظم للإشارات، عن الشبكات الموجودة على اليسار التي تتضمَّن إطلاقًا دقيقًا ومُتوقَّعًا للإشارات. على وجه التحديد، عندما يصبح التثبيط ضعيفًا جدًّا، تتوقف الخلايا العصبية في هذه الشبكات عن أنماط إطلاق الإشارات غير المنتظم وتبدأ في إطلاق إشاراتٍ بانسجام. يبدو النشاط المتزامن والمحكم — الذي يشمل مجموعات من الخلايا العصبية تُطلق الإشارات معًا وتتوقف معًا — أشبهَ بنوبة صرع.

fig13
شكل ٥-٢

عرف علماء وظائف الأعضاء لقرون أن موادَّ محددة تعمل بوصفها مسببات للتشنُّج؛ أي إنها تُحفِّز نوبات الصرع. مع زيادة فَهْم النواقل العصبية في منتصف القرن العشرين، أصبح من الواضح أن العديد من هذه العقاقير تتداخل مع التثبيط. على سبيل المثال، عُثر على البيكوكولين في النباتات في أمريكا الشمالية، واتَّضح أنه يمنع الجابا من الارتباط بالمستقبِل الخاص به. يمنع الثوجونُ، الموجود في الجرعات المنخفضة من الأفسنتين، مستقبلاتِ الجابا من السماح لأيونات الكلوريد بالدخول. أيًّا كانت الآلية، في النهاية تعمل هذه العقاقير على إخلال التوازن في الدماغ، مُقلِّلة من كفاءة النواقل العصبية المثبِّطة. باستخدام رؤيته الشاملة لسلوك الدماغ، تمكَّن برونيل من ملاحظة كيف أن تغيير بارامترات الدماغ — من خلال العقاقير أو غيرها — ينقُله إلى حالاتٍ مختلفة.

الانتقال إلى الطرف الآخر من خريطة برونيل يكشف عن نمط آخر من النشاط. في هذا الحيز، يفوق التثبيط الاستثارة. إذا ظلت المدخلات الخارجية بقوة متوسطة، تظل الخلايا العصبية تتسم بالتشويش في هذه المنطقة. لكن بالتحرك لأعلى أو لأسفل، يظهر سلوكان متشابهان في جانب ومختلفان في آخر. في حالة وجود مدخلات خارجية مرتفعة أو منخفضة تُظهر الخلايا العصبية بعض الانسجام. إذا حسبتَ عدد الخلايا العصبية النشطة في أي وقتٍ محدَّد فسترصد موجاتٍ من النشاط؛ أي فترات قصيرة تتضمن معدلَ إطلاق إشاراتٍ، يفوق متوسط معدل الإطلاق متبوعًا بمعدل إطلاق أقل. لكن على عكس الدقة العسكرية التي يتَّسم بها سلوك الخلايا العصبية في حالة نوبات الصرع، فإن الشبكات هنا أشبه بمجموعة من عازفي الآلات الإيقاعية مكوَّنة من أطفال بعمر السادسة؛ قد يكون هناك بعض التنظيم، لكن لا يعزف الجميع معًا في آنٍ واحد. في الواقع، الخلية العصبية الواحدة في كلٍّ من هذه الشبكات لا تُطلِق إشاراتٍ إلا مرةً كل ثلاث أو أربع موجات، وحتى عندئذٍ لا يكون توقيت الإطلاق مثاليًّا دائمًا. بهذه الطريقة، تكون هذه الحالات على قدرٍ من التذبذُب والتشويش معًا.

السِّمةُ التي تميِّز السلوك في الجانب العُلوي الأيمن من الخريطة عن السلوك في الجانب السفلي الأيمن؛ هي تردُّد التذبذب. عند إمداد الشبكة بمدخلات خارجية قوية يصعد معدل النشاط لأعلى ويهبط لأسفل، بسرعة ١٨٠ مرة في الثانية. تعمل المدخلات القوية على تنشيط الخلايا الاستثارية، التي بدورها تُنشِّط الخلايا المثبِّطة التي يؤدي تنشيطها إلى تعطيل الخلايا الاستثارية، بعد ذلك يُعطَّل نشاطُ الخلايا المثبِّطة نفسها ويتكرر الأمر برُمته من جديد. بتخفيض مدخلات الشبكة تصبح التذبذبات أبطأ، أي نحو ٢٠ مرة في الثانية. تحدث هذه التذبذبات البطيئة؛ نظرًا لأن المدخلات الخارجية للشبكة تكون ضعيفة جدًّا، والتثبيط يكون قويًّا جدًّا لدرجة أن الكثير من الخلايا العصبية لا تحصل على المدخلات الكافية لإطلاق إشارات. لكن الخلايا العصبية التي تُطلق إشاراتٍ تستخدم وَصلاتها لزيادة مستويات نشاط الخلايا العصبية في الشبكة مرة أخرى. ومع ذلك، إذا جرى تنشيط الكثير من الخلايا المثبِّطة هدأت الشبكة مرة أخرى.

على الرغم من التشابه السطحي بين هذه التذبذبات ونمط النشاط في حالة الصرع، فإن هذه التذبذبات الفوضوية لا تؤثر على أداء الدماغ. في الواقع، لاحظ العلماء ذبذبات في أجزاء مختلفة من الدماغ في ظل جميع الظروف المختلفة. على سبيل المثال، يمكن لمجموعة من الخلايا العصبية أن تتذبذب في القشرة البصرية بسرعة ٦٠ مرة في الثانية. قد تتذبذب منطقة الحصين (أداة معالجة الذكريات التي تناولناها في الفصل السابق) تذبذُبًا سريعًا في بعض الأحيان، وقد تتذبذب تذبذبًا بطيئًا في أحيان أخرى. تنتج البصلة الشمية، التي تُعالج فيها الروائح، موجاتٍ تتراوح ما بين مرة واحدة في الثانية — بمحاذاة الاستنشاق — إلى مئات المرات. يمكن إيجاد التذبذبات في كل مكانٍ إذا كنت مُهتمًّا باستكشاف الأمر.

يسعد علماء الرياضيات برؤية التذبذبات. وذلك نظرًا لأنه بالنسبة إلى عالم الرياضيات، يمكن التعامل مع التذبذبات. يمثِّل التعبير عن الأنظمة الفوضوية والعشوائية باستخدام المعادلات تحدِّيًا؛ أما الأنظمة الدورية المثالية فسهلة وأنيقة. على مدار آلاف السنوات، طوَّر علماء الرياضيات أدواتٍ، لا من أجل وصف التذبذبات فحسب، بل بهدف التنبؤ بكيفية تفاعلها، ولتحديدها في الإشارات التي قد لا تبدو — للعين غير المدرَّبة — ذبذباتٍ على الإطلاق.

نانسي كوبيل هي عالمة رياضيات، أو على الأقل اعتادت أن تكون كذلك. كوالدتها وأختها، تخصصت كوبيل في الرياضيات وهي طالبة جامعية. ثم حصلت على الدكتوراه٥ في الرياضيات من جامعة كاليفورنيا، بيركلي عام ١٩٦٧، وأصبحت أستاذة في الرياضيات في جامعة نورث إيسترن في بوسطن. لكن بعد سنوات من عبور الحدود الفاصلة بين علمَي الرياضيات والأحياء ذهابًا وإيابًا — متناولةً مسائلَ من علم الأحياء لتوليد أفكارٍ للرياضيات — بدأت تشعر بأنها أكثر استقرارًا في مجال الأحياء. وقد عبرت كوبيل عن ذلك في سيرتها الذاتية على النحو الآتي: «بدأ منظوري يتغير، ووجدت نفسي على الأقل مُهتمَّة بالظواهر الفسيولوجية، بالقدر نفسه الذي اهتممت فيه بالمسائل الرياضية التي ولَّدتها هذه الظواهر. لم أتوقف عن التفكير بطريقة رياضية، لكن اهتمامي بالمسائل كان يتضاءل إذا لم أجد لها صلة بشبكات بيولوجية محددة.» كان الكثيرُ من الشبكات البيولوجية التي أثارت اهتمامها شبكاتٍ عصبية، وخلال مسارها المهني درَسَت كل أنواع التذبذبات في الدماغ.

يشير علماء الأعصاب إلى التذبذبات العالية التردُّد باسم «موجات جاما». والسبب في هذا هو أن هانز بيرجر، مخترع جهاز التخطيط الكهربي للدماغ الأصلي، أطلق على الموجات الكبيرة البطيئة التي تَمكَّن من رؤيتها على جهازه الرديء اسم موجات «ألفا»، وأي شيء آخر «بيتا»، وقد حذا حذوه العلماء الذين جاءوا من بعده، وأعطوا الترددات التي وجدوها أحرُفًا يونانية جديدة. تكُون أشعَّةُ جاما، على الرغم من سرعتها، صغيرةً عادة، أو «منخفضة السَّعة» بلغةٍ أكثر تخصصًا. وجودُها، الذي يتم تحديدُه عن طريق جهاز تخطيط كهربي حديث للدماغ أو قطب كهربائي في الدماغ، مرتبطٌ بعقل متيقظ ومُنتبه.

عام ٢٠٠٥ توصَّلت كوبيل وزملاؤها إلى تفسيرٍ للطريقة التي تساعد بها ذبذباتُ جاما الدماغَ على التركيز. تنبثق نظريتهم من الفكرة القائلة بأن الخلايا العصبية التي تمثِّل المعلومات التي تنتبه إليها، لا بد أن يكون لها السبق في إطلاق الإشارات العصبية في النشاط المتذبذب. لنفترض أنك تحاول الاستماع إلى مكالمةٍ هاتفيةٍ في وسط غرفة صاخبة. في هذه الحالة، الصوت على الطرف الآخر من الخط — أي الإشارة التي تحاول الانتباه لها — يُنافس جميع الأصوات المشتِّتة للانتباه في الغرفة. في نموذج كوبيل، يُمثَّل الصوت على الطرف الآخر من الخط بمجموعة من الخلايا الاستثارية، وتمثَّل الثرثرة الموجودة في الخلفية بمجموعة أخرى. هاتان المجموعتان كلتاهما تكوِّنان وصلات مع مجموعة مشتركة من الخلايا العصبية المثبِّطة، وفي المقابل تكوِّن مجموعة الخلايا العصبية المثبِّطة وصلات عصبية مع هاتَين المجموعتَين.

من الأهمية بمكانٍ معرفة أن الخلايا العصبية التي تمثِّل «الصوت» — نظرًا لأنه محطُّ الاهتمام — تحصل على مدخلات أكثر بقليل من الخلايا العصبية التي تمثِّل الثرثرة في الخلفية. هذا معناه أن هذه الخلايا ستطلق إشاراتٍ أولًا وبقوة أكبر. إذا أطلقت هذه الخلايا العصبية الممثلة «للصوت» إشارات بشكلٍ منسجم، فسوف تتسبب في زيادة كبيرة وحادة في إطلاق الخلايا العصبية المثبِّطة للإشارات. ستعمل هذه الموجة من التثبيط على تعطيل الخلايا الممثلة للصوت على الطرف الآخر من الخط، والضوضاء في الخلفية. ولهذا السبب، لن تَسنَح للخلايا العصبية الممثلة للضوضاء الموجودة في الخلفية فرصةُ إطلاق إشارات؛ ومن ثم لن تتداخل مع صوت الطرف الآخر من الخط. يبدو الأمر وكأن الخلايا العصبية الممثِّلة للصوت تندفع عبر الباب، ثم تُغلقه في وجه الخلايا العصبية الممثِّلة للضوضاء في الخلفية. وما دامت الخلايا العصبية الممثلة للصوت تستمرُّ في الحصول على مدخلاتٍ أكثر بقليل، فستتكرَّر هذه العملية مرارًا وتكرارًا، متسببةً في حدوث تذبذب. وستضطر الخلايا العصبية الممثلة للضوضاء في الخلفية أن تظلَّ خاملةً كل مرة. ومن ثَم لا يتبقَّى إلا صوتٌ واضح للمتحدث على الطرف الآخر من الخط باعتباره الإشارة الوحيدة المتبقية.

وبعيدًا عن دور التذبذبات في الانتباه، توصَّل العلماء إلى عددٍ لا نهائي من الطرق الأخرى التي تستطيع من خلالها التذبذبات مساعدة الدماغ. هذا يتضمن الاستخدامات في التنقُّل والذاكرة والحركة. من المفترض أيضًا أن تعمل التذبذبات على تحسين التواصل بين مناطق الدماغ، وتساعد في تنظيم الخلايا العصبية في مجموعاتٍ تعمل على حِدة. علاوة على ذلك، تكثر النظريات المتعلقة بكيفية حدوث خطأ في التذبذبات في أمراضٍ مثل الفصام، والاضطراب ثُنائي القطب، والتوحُّد.

هيمنة التذبذبات قد تجعل الأمر يبدو وكأن أهميتها تُقبل دون شك أو جدال، لكن هذا بعيد عن الصحة. على الرغم من التوصُّل إلى أدوار مختلفة للتذبذبات، لا يزال بعض العلماء يساورهم الشك بشأنها.

ينشأ جزء من القلق عن الخطوة الأولى: كيفية قياس التذبذبات. بدلًا من التسجيل من العديد من الخلايا العصبية في آنٍ واحد، استخدم العديد من الباحثين المهتمِّين بالتذبذبات قياسًا غير مباشر للتذبذبات من السائل المحيط بالخلايا العصبية. على وجه التحديد، عندما تحصل الخلايا العصبية على العديد من المدخلات يتغير تكوين الأيونات في هذا السائل، ويمكن استخدام هذا باعتباره طريقةً بديلة لقياس مستوى النشاط العصبي في مجموعةٍ من الخلايا العصبية. إلا أن العلاقة بين تدفقات الأيونات في هذا السائل ونشاط الخلايا العصبية الفعلي؛ معقدةٌ وغير مفهومةٍ بالكامل. هذا يجعل من الصعب معرفةَ ما إذا كانت التذبذبات التي يجري رصدها تحدث بالفعل أم لا.

يمكن أن يتأثر العلماء أيضًا بالأدوات المتاحة لديهم. أُتيح جهاز التخطيط الكهربي للدماغ منذ قرن من الزمان، وجعل اكتشاف التذبذبات سهلًا، حتى عند البشر؛ إذ كان يمكن إجراء التجارب بعد الظهر على مشاركين في البحث متطوِّعين (عادة ما يكونون طلابًا يدرسون بالجامعة). وكما هو مذكور، تتسم الأدوات الرياضية الخاصة بتحليل التذبذبات، بالقدر نفسه من السهولة وشيوع الاستخدام. وهذا قد يجعل العلماء أكثر مَيلًا إلى بحث هذه الموجات الدماغية، حتى في الحالات التي قد لا تقدم فيها أفضل الإجابات. هذا يذكرنا بمقولةٍ قديمةٍ تُفيد بأنه عندما تكون المطرقة أسهل أداة يتعيَّن علينا استخدامُها، فإننا نتعامل مع كل شيءٍ كما لو كان مِسمارًا.

تتمثل مشكلة أخرى في التأثير، لا سيما حين يتعلق الأمر بالتذبذبات السريعة مثل جاما. إذا تضمَّنت إحدى حالات النشاط في الدماغ موجات جاما أقوى من غيرها، فإن هذا يعني أن مزيدًا من الخلايا العصبية تُطلق إشارات معًا، باعتبارها جزءًا من موجةٍ في هذه الحالة، بدلًا من إطلاق الإشارات بشكلٍ فردي وعشوائي. لكن عندما تأتي هذه الموجات بسرعة كبيرة، فإن كون الخلية العصبية جزءًا من إحدى الموجات يجعلها تُطلق إشاراتٍ قبل الوقت الذي كانت ستطلق فيه لولا ذلك، أو بعده ببضع ثوانٍ. هل هذا النوع من الدقة الزمنية يُهِم فعلًا، أم أن كل ما يُهم هو العدد الإجمالي لجهود الفعل الناتجة؟ لم يُختبَر، بشكلٍ مباشر، الكثير من الفرضيات الأنيقة حول الكيفية التي يمكن أن تساعد بها التذبذبات — ومن الممكن أن يكون من الصعب اختبارها — لذا فإن الإجابات غير معروفة.

أوضح عالم الأعصاب كريس مور في حوار له مع موقع «ساينس ديلي» عام ٢٠١٩: «لطالما كانت موجات جاما موضوعًا كبيرًا للنقاش … ينظر بعض علماء الأعصاب المرموقين إلى موجات جاما، باعتبارها الساعةَ السحرية الموحدة التي تعمل على التنسيق بين الإشارات بين مختلف أجزاء الدماغ. وثمة علماء أعصاب آخرون على القدر نفسه من المكانة العلمية، ينظرون إلى موجات جاما ظاهريًّا باعتبارها مثل أبخِرة عوادم المحرك؛ تظهر في أثناء تشغيل المحرك، لكنها بالطبع غير مُهمة.»

قد تنتج أبخرة العوادم عندما تتحرك السيارة، لكنها ليست العنصر الذي يحركها. وبالمثل، فإن شبكات الخلايا العصبية قد تنتج تذبذبات أثناء إجراء العمليات الحسابية، لكن يبقى أن نبحث فيما إذا كانت هذه التذبذبات هي التي تتولَّى عملية الحساب.

كما هو مُبَيَّن، يمكن أن ينشأ عن التفاعل بين الخلايا الاستثارية والخلايا المثبِّطة مجموعةٌ متنوعة من أنماط الإطلاق المختلفة. وَضْع إحدى هاتَين القوتَين في مواجهة الأخرى له مَيزات وعيوب. فهو يمنح الشبكة القدرة على الاستجابة بسرعة البرق وتوليد الإيقاعات السلسة اللازمة للنوم. وفي الوقت نفسه، فإنه، بشكلٍ خطير، يضع الدماغ على مقربة من نوبات الصرع ويكوِّن فوضى فعلية. فَهْم مثل هذا النظام المتعددِ الأوجه يمكن أن يمثِّل تحدِّيًا. ولحُسن الحظ، ساعد تعدد الطرق الرياضية — تلك التي طُوِّرت من أجل الفيزياء وعلم الأرصاد الجوية وفهم التذبذبات — على ترويض الطبيعة الجامحة لإطلاق الإشارات العصبية الكهربية.

١  تاريخيًّا، اندرجت مجموعة الآليات هذه تحت مُسمَّى «نظرية المجال المتسق ذاتيًّا» الأكثر وضوحًا، لكنها الآن معروفة باسم نظرية المجال الوَسطي. تكمن براعة منهج المجال الوسطي في أنه لن يتعين عليك تقديم معادلة لكل جسيم متفاعل في النظام لديك. بدلًا من ذلك، يمكنك دراسة لجسيمٍ «ممثل» لبقية الجسيمات يتلقى مُخرجاته باعتبارها مدخلات. هذا من شأنه أن يجعل دراسة الاتساق الذاتي أسهل بكثير.
٢  في الثقافة الشائعة، تُعرف هذه النظرية باسم «تأثير الفراشة»، أي الفكرة القائلة بأن أي حدث بسيط كرفَّة جناحَي فراشة يمكن أن يغير مسار التاريخ.
٣  مرة أخرى، ستستمر مجموعة الخلايا في إطلاق نفس مقدار جهود الفعل في المتوسط استجابةً للمدخلات المعطاة. ما يتغير هو كيفية توزيع جهود الفعل عبر الزمن والخلايا العصبية. لو لم تكن خلاياك العصبية حقًّا تتبع أي قواعد لكيفية الاستجابة للمدخلات، لما كنتَ ستتمكن من قراءة هذا الآن.
٤  ربما ليس من الغريب في هذه المرحلة أن برونيل عمل في البداية عالمَ فيزياء. سمع عن علم الأعصاب أثناء دراسته للدكتوراه في بداية تسعينيات القرن العشرين، عندما أطلعه أحدُ البرامج الدراسية على هذا الاتجاه الجديد الخاص بتطبيق الأدوات المستخدمة في الفيزياء على الدماغ.
٥  الأسباب التي دفعت كوبيل للالتحاق بالدراسات العليا كانت فريدة من نوعها بعض الشيء، وهو ما أوضحته: «حين دخلت الكلية لم أكن أفكر في الالتحاق بالدراسات العليا. لكن عندما وصلت لسنة التخرُّج لم أتزوج ولم يكن لديَّ شيءٌ محددٌ لأفعله؛ لذا بدت الدراسات العليا خيارًا جيدًا.» لكن التحيز الجنسي الذي واجهته ربما كان متوقعًا: «كان هناك اعتقادٌ غير معلن، وسائد مع ذلك، يشير إلى أن دراسة النساء للرياضيات أشبه برقص الدببة؛ ربما يمكنهن فعل ذلك لكن دون إجادة، والمحاولة نفسها أشبه بعرضٍ ممتع.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤