الفصل التاسع

من البنية إلى الوظيفة

نظرية المخططات البيانية وعلم الأعصاب الشبكي

قدَّم سانتياجو رامون إي كاخال لمعهد كاخال في مدريد مجموعةً من مقتنياته الشخصية عام ١٩٣١، أي قبل وفاته بثلاث سنوات. احتوت المجموعة على أدواتٍ علمية؛ الموازين والشرائح المجهرية، والكاميرات والخطابات، والكتب والمجاهر، والمحاليل والكواشف الكيميائية. إلا أن العناصر الأبرز بين هذه المقتنيات — تلك التي ستصبح مُقترنة باسم كاخال — كانت تتمثل في ١٩٠٧ رسمات علمية رسمها خلال مسيرته المهنية.

كانت معظم هذه الرسوم لأجزاء مختلفة من الجهاز العصبي، وقد كانت ناتجة عن عملية شاقة من صبغ الخلايا. بدأ الأمر بالتضحية بكائن حي وحِفظ أنسجته. بعد ذلك أُزيل جزء من الدماغ ونُقِع في محلول لمدة يومين، ثم جُفِّف ونُقِع في محلول آخر — كان هذا المحلول يحتوي على الفضة التي ستخترق التراكيب الخلوية — ليومَين آخرَين. في نهاية هذا، شُطِف نسيج الدماغ، وجُفِّف مرة أخرى، وقُطع إلى شرائح رقيقة بما يكفي لتناسب شريحة المجهر. نظر كاخال إلى هذه الشرائح عبر عدسة مِجهَره ورسم ما رآه. استخدم كاخال القلم الرصاص أولًا لتحديد الإطار الخارجي لكل بنية وكل تفصيلة، في الخلية العصبية على قطعةٍ من الورق المقوَّى، بما في ذلك أجسام الخلايا السَّميكة والزوائد الرقيقة التي تبرز منها. بعد ذلك، ظلَّل الخلايا باستخدام الحبر الهندي، مع استخدام الألوان المائية من حين لآخر لإضفاء نسيج وبُعد على الرسم. والنتيجة هي مجموعة من الصور الظِّلية التي لا يمكن نسيانها لأشكال سوداء صارخة تشبه العنكبوت، على خلفيات بيج وصفراء.١ صوَّر كاخال أكثر من ٥٠ نوعًا من الحيوانات، ونحو ٢٠ جزءًا مختلفًا من الجهاز العصبي على ألواح الورق المقوى، وقد اختلفت أشكال بِنَى الجهاز العصبي وتنظيمها في رسوم كاخال، باختلاف الحيوان والألياف العصبية الخاضعة للفحص.

تُعبِّر هذه المئات من الرسوم عن مدى افتتان كاخال ببِنية الجهاز العصبي. فقد سعى نحو فهمٍ أعمق للوحدة الأساسية للدماغ، ألا وهي الخلية العصبية. ركَّز على أشكال الخلايا العصبية وكيفية تنظيمها. كان التركيز على البنية والتكوين المادي للخلايا العصبية مدخلَ كاخال لفهم آلية عمل الدماغ. فقد كان يعتقد أن الوظيفة تكمُن في البنية.

وقد كان مُحقًّا. فقد تمكن من استنتاج حقائق مهمة حول عمليات الدماغ، بالنظر مطولًا وجديًّا في طبيعة بنية الدماغ. أحد الاستنتاجات المهمة التي توصَّل إليها كان حول كيفية تدفُّق الإشارات عبر الخلايا العصبية. من خلال ملاحظاته العديدة للخلايا العصبية المختلفة في الأعضاء الحسية المختلفة، لاحظ كاخال أن الخلايا كانت دائمًا مرتَّبة بطريقة محددة. تتجه الزوائد الشُّجيرية للخلية في الاتجاه الذي تأتي منه الإشارة. في المقابل، يتجه المحور العصبي الطويل نحو الدماغ. في النظام الشمِّي، على سبيل المثال، تقع الخلايا العصبية التي تحتوي على مستقبِلات كيميائية قادرة على التقاط جزيئات الرائحة، في الجلد المخاطي داخل الأنف. تمتد المحاور العصبية لهذه الخلايا العصبية لأعلى نحو الدماغ، وتتصل بالزوائد الشجيرية الخاصة بالخلايا الموجودة في البصلة الشمِّية. بعد ذلك، تمتدُّ المحاور العصبية لهذه الخلايا العصبية لأبعد من ذلك في مناطق أخرى من الدماغ.

هذا النمط، الذي لاحظ كاخال تكراره مرارًا وتكرارًا، أشار بقوةٍ إلى أن الإشارات تتدفَّق من الزوائد الشجيرية عبر المحور العصبي. وقد استنتج أن الزوائد الشجيرية تقوم بدور مستقبِل الإشارات للخلية؛ بينما تلعب المحاور العصبية دور مرسِل الإشارات للخلية التالية. كان كاخال واضحًا جدًّا في توضيح هذا، لدرجة أنه أضاف أسهُمًا صغيرةً لرسوماته للدوائر العصبية مثل النظام الشمي، موضِّحًا الاتجاه المفترض لتدفق المعلومات. كما نعلم الآن، كان كاخال مُحقًّا تمامًا.

كان كاخال واحدًا من المؤسسين الأوائل لعلم الأعصاب الحديث. ومن ثم، أصبح اعتقاد كاخال بوجود علاقة بين التركيب والوظيفة، جزءًا أصيلًا من علم الأعصاب الحديث. تناثرت انعكاسات هذه الفكرة عبر تاريخ علم الأعصاب. في مقال نُشر عام ١٩٨٩، كتب بيتر جيتين أن الباحثين في ستينيات القرن العشرين تمكَّنوا، رغم البيانات المحدودة المتوفرة لديهم، من ملاحظة أن «قدرات الشبكة نشأَت عن الاتصال البَيني للعناصر البسيطة لتكوين شبكات مُعقَّدة؛ ومن ثم نشأت الوظيفة عن شكل الاتصال.» وقد تابع موضِّحًا: «كانت الدراسات التي أُجريت في سبعينيات القرن العشرين تنطلق من العديد من التوقعات؛ أولًا: معرفة طريقة الاتصال من شأنها تفسير آلية عمل الشبكات العصبية.» وقد استمر هذا الموقف. اختُتِمت مراجعةٌ كتبها الأستاذ شاو جينج وان وهنري كينيدي بهذه العبارة: «إنشاء رابطٍ وثيقٍ بين البنية والوظيفة أمرٌ ضروريٌّ لفهم النشاط العصبي المعقَّد».

توجد مستويات عديدة للبنية في الدماغ. فمثلًا يمكن لعلماء الأعصاب دراسة شكل الخلية العصبية كما فعل كاخال. أو يمكنهم دراسة كيفية اتصال الخلايا العصبية: هل تتصل الخلية العصبية «أ» بالخلية العصبية «ب»؟ أو يمكنهم توسيع نطاق الدراسة والاستفسار عن كيفية تواصل تجمعات صغيرة من الخلايا العصبية. أو يمكنهم دراسة أنماط الاتصال على مستوى الدماغ، من خلال فحص حزمٍ سميكة من المحاور العصبية التي تصل بين مناطق متباعدة من الدماغ. قد يحمل أيٌّ من هذه التراكيب ذات المستوى الأعلى في طياته أسرارًا حول الوظيفة أيضًا.

لكن للكشف عن هذه الأسرار، يحتاج علماء الأعصاب طريقة لرؤية هذه البِنَى بوضوح ودراستها. الشيء الذي كان قد يبدو من أوجه القصور في طريقة الصباغة التي استخدمها كاخال — وهو أن هذه الطريقة كانت تصبغ عددًا قليلًا من الخلايا العصبية في المرة الواحدة — كان في الواقع ميزة جعلها طريقة ثورية. لو كانت هذه الطريقة تصبغ جميع الخلايا العصبية الموجودة في المنطقة الخاضعة للملاحظة في آنٍ واحد، لكان كل شيء سيظهر باللون الأسود نتيجة لذلك، وسيكون من الصعب تمييز أي بِنًى؛ سيكون الأمر أشبه بالتركيز على الصورة الكاملة وإغفال التفاصيل الصغيرة. نظرًا لأن علماء الأعصاب توجهوا من دراسة البنية على نطاق الخلايا العصبية المنفردة إلى نطاق الاتصالات والشبكات والدوائر العصبية الأكثر تعقيدًا، فقد يكونون أكثر عُرضة لخطر الغرق في البيانات والتشتُّت بسبب التفاصيل الخاطئة.

ومع ذلك، عُثر على طريقة مطلوبة بشدة في حقل فرعي محدد من حقول الرياضيات، وهي نظرية المخططات البيانية. تُمكِّنُنا لغة نظرية المخططات البيانية من الحديث عن الشبكات العصبية بطريقة مبسطة ومختصرة. وفي الوقت نفسه، تكتشف أدواتها خواص البنى العصبية التي يستحيل اكتشافها تقريبًا، دون الاستعانة بهذه الأدوات. ويعتقد بعض العلماء الآن أن سمات البنية هذه يمكنها أن تُلهمنا أفكارًا جديدة حول وظيفة الجهاز العصبي. ونظرًا لافتتان علماء الأحياء بالقدرات الواعدة لنظرية المخططات البيانية، أصبحوا يطبقونها على كل شيء بدءًا من تطور الدماغ حتى الأمراض. وعلى الرغم من أن هذا المنهج الجديد لدراسة الدماغ لم تتَّضح معالمه أو يصبح مؤكدًا بعد، فإن تناوله الجديد للقضايا القديمة أثار حماس الكثيرين.

•••

في مدينة كونيجسبيرج عاصمة بروسيا الشرقية في القرن الثامن عشر، كان هناك نهر يتفرَّع إلى فرعَين أثناء تدفُّقه عبر المدينة، وهو ما أدى إلى تكوين جزيرة صغيرة في المنتصف. كانت هناك سبعة جسور تربط بين هذه الجزيرة وأجزاء من المدينة تقع في الشمال والجنوب والشرق. في مرحلة ما، أثير تساؤل بين مواطني كونيجسبيرج: هل هناك طريقة لعبور كل جسر من هذه الجسور مرة واحدة فقط لا غير أثناء التجوال في المدينة؟ عندما وجد هذا السؤال الذي طُرح بهدف التسلية طريقَه إلى عالِم الرياضيات الشهير ليونارد أويلر، وُلِد الفرع الخاص بنظرية المخططات البيانية.

كتب أويلر، المتعدد الثقافات الذي وُلِد في سويسرا لكنه عاش في روسيا، ورقةً بحثية بعنوان: «حل مسألة تتعلق بهندسة الموضع» عام ١٧٣٦. في الورقة البحثية، أجاب عن السؤال بشكلٍ حاسم: لا يستطيع مواطن كونيجسبيرج التجوُّل في بلدته وعبور كل جسر مرة واحدة فقط. لإثبات هذا، تعيَّن عليه تقديم مخطط مبسط لخريطة المدينة يحتوي على الإطار الخارجي للمدينة بالكامل، والعمل عليه بشكلٍ منطقي. وقد أوضح، دون أن يستخدم الكلمة، كيفية تحويل البيانات إلى مخططٍ وكيفية إجراء عمليات حسابية عليه.

في سياق نظرية المخططات البيانية، لا يشير مصطلح «مخططات بيانية» إلى المخططات البيانية المعروفة كما يشير في اللغة العادية. بل يشير إلى كائن رياضي يتكون من عُقد وحوافَّ (في اللغة الحديثة). العُقَد هي الوحدات الأساسية للمخطط؛ بينما تمثِّل الحواف الاتصال بينها. في مثال كونيجسبيرج، تُمثِّل الجسور الحواف التي تربط بين الكتل الأرضية الأربع المختلفة، أي العُقد. درجة العقدة عبارة عن عدد الحواف التي تحتوي عليها العقدة، أي إن درجة كتلة اليابسة عبارةٌ عن عدد الجسور التي تصل إليها.

تناول أويلر مسألة عبور الجسور، من خلال ملاحظة أنه يمكن كتابة المسار المار عبر المدينة على أنه قائمة من العُقد. يمكن الإشارة إلى كل كتلة يابسة بحرفٍ، لنقل القائمة «أ ب ج د»، لتمثيل مسار يمتد من الجزيرة الواقعة في المنتصف إلى كتلة اليابسة الموجودة بالأسفل (من خلال أي جسر يصل بينهما)، ثم مسار يمتد من هذه الكتلة إلى كتلة اليابسة في الطرف الأيمن، ثم إلى كتلة اليابسة الموجودة في الأعلى. عند الانتقال من عقدةٍ لأخرى على المخطط، فستستخدم حافة واحدة للانتقال ما بين عقدتَين. ومن ثم، فإن عدد الجسور التي عبرتَها يساوي عدد الأحرف في القائمة ناقص واحد. على سبيل المثال، إذا عبرت جسرَين فسيكون لديك في القائمة ثلاث كُتَل يابسة في قائمتك.

لاحظَ أويلر بعد ذلك شيئًا مهمًّا حول عدد الجسور التي تحتوي عليها كل كتلةِ أرض. يرتبط هذا العدد بعدد المرات التي تظهر فيها كتلة اليابسة في قائمة المسارات. على سبيل المثال، كتلة اليابسة «ب» بها ثلاثة جسور، وهو ما يعني أن الحرف «ب» لا بد أن يظهر مرتَين في أي مسارٍ يعبُر كل جسرٍ مرة واحدة، أي إنه لا توجد طريقةٌ لعبور الجسور الثلاثة دون زيارة «ب» مرتَين. الأمر نفسه ينطبق على كتل اليابسة «ﺟ» و«د»؛ لأنهما يحتويان على جسرَين أيضًا. أما كتلة اليابسة «أ»، باحتوائها على خمسة جسور، فسيَتَعيَّن عليها الظهور ثلاث مراتٍ في قائمة المسارات.

fig20
شكل ٩-١

بالجمع بين ما سبق، فإن أي مسارٍ يحقق هذه الشروط سيتكون من تسعة أحرف (٢ + ٢ + ٢ + ٣). لكن القائمة المكونة من تسعة أحرف تُمثِّل مسارًا يعبر ثمانية جسور. ومن ثم، فإنه يستحيل تكوين مسار يعبُر كلًّا من الجسور السبعة مرة واحدة فقط.

باستخدام العلاقة بين درجة العقدة وعدد المرات التي يلزم فيها ظهور العقدة في المسار، استنتج أويلر مجموعة من القواعد العامة حول تحديد المسارات الممكنة. أصبح بإمكانه الآن تحديد ما إذا كان هناك مسارٌ يقطع كل جسرٍ مرة واحدة أم لا، لأي مجموعةٍ من الجسور تصل بين أي قِطع من الأراضي.

علاوة على ذلك، لا تقتصر هذه الطريقة على الحديث عن كتل اليابسة والجسور التي تصل بينها فحسب. بل يمكننا استخدام هذه الطريقة نفسها لإيجاد مسارات يتعين على جرَّافة الثلوج اتباعها للمرور على كل شارع في المدينة لتنظيفه مرة واحدة فقط، أو معرفة إذا كان من الممكن التنقُّل عبر صفحات ويكيبيديا، بالنقر على كل ارتباطٍ تشعُّبي يربط بين موقعَين مرة واحدة. مثل هذه المرونة تُعَد عاملًا من العوامل التي تكسب نظرية المخططات البيانية فاعليتها. فبتجريد أي موقف من تفاصيله المحددة، تصل النظرية إلى البنية المشتركة بين هذه المواقف جميعًا. هذه الطريقة المجردة غير التقليدية للنظر إلى مسألة من شأنها أن تقود المسألة نحو حلول إبداعية، تمامًا كما أدى تمثيل التجوال عبر المدينة بقائمة من الأحرف لمساعدة أويلر.

هذه الميزة جعلت نظرية المخططات البيانية تُستخدم في العديد من المجالات. في القرن التاسع عشر، كافح علماء الكيمياء للوصول إلى كيفية تمثيل بنية الذرات. وبحلول ستينيات القرن التاسع عشر، استُحدث نظام لا يزال يُستخدم حتى يومنا هذا: رُسمت الذرات في صورة أحرف والروابط بينها على صورة خطوط. في عام ١٨٧٧، رأى عالم الرياضيات جيمس جوزيف سيلفستر في هذا التمثيل البياني للجزيئات؛ أمرًا مماثلًا للعمل الذي يُجريه أحفاد أويلر في الرياضيات. نشر ورقةً بحثيةً عرض فيها بالتفصيل أوجه الشبه بينهما، واستخدم، لأول مرة، مصطلح «مُخطَّط بياني» للإشارة إلى هذا النمط. ومنذ ذلك الحين، ساعدت نظرية المخططات البيانية في حل العديد من المسائل في الكيمياء. أحد أهم التطبيقات الشائعة للنظرية هي المتشاكلات — مجموعات من الجُزيئات التي يتكون كلٌّ منها من نفس نوع الجزيئات وعددها، إلا أنها تختلف في كيفية ترتيب هذه الذرَّات. ونظرًا لأن نظرية المخططات البيانية تقدم لغةً شكلية لوصف بنية الذرات في الجزيء، فإنها تكون مناسبة تمامًا لإحصاء جميع الطرق التي يمكن بها ترتيب مجموعة محددة من الذرات لتكوين جُزَيء. ويمكن للخوارزميات التي تفعل ذلك أن تساعد في تصميم الأدوية والمركبات المطلوبة.

كما هي الحال في أي مُركَّب كيميائي، يمكن تمثيل الدماغ تمثيلًا جيدًا في صورة مخطط بياني. في أبسط صورة للتمثيل، تكون الخلايا العصبية هي العُقد، وتكون الوصلات التي تربط بينها هي الحواف. بدلًا من ذلك، يمكن أن تُمثَّل مناطق الدماغ بالعُقد، وتُمثَّل الممرات العصبية التي تصل بين هذه المناطق بالحواف. وسواء أكُنَّا ندرس الدماغ على نطاق الخلايا العصبية البالغ الصغر، أو على نطاق مناطق الدماغ الأكبر، فإن تمثيل الدماغ باستخدام نظرية المخططات البيانية يعرِّضها لجميع أدوات التحليل التي استحدثها هذا المجال. وتُعَد هذه النظرية وسيلةً لإضفاء طابعٍ محدد ومنظم على الأسئلة الغامضة وغير المحددة، التي لطالما وَجَّهت علم الأعصاب. شرح الكيفية التي تنتج بها الوظيفة عن البنية يتطلب القدرة على وصف البنية بوضوح. وبدورها، تقدِّم نظرية المخططات البيانية اللغة اللازمة لذلك.

بالطبع، ثمة اختلافات بين كلٍّ من الدماغ والمدينة البُروسية أو المركب الكيميائي. الاتصال في الدماغ ليس ثُنائيَّ الاتجاه دائمًا كما في حالة الجسر أو الرابطة. يمكن لخلية عصبيةٍ الاتصالُ بخلية عصبية أخرى دون أن تتلقَّى إشارات من هذه الخلية العصبية. هذه الطبيعة أحادية الاتجاه للاتصال العصبي تلعب دورًا مُهمًّا في تحديد كيفية تدفق المعلومات داخل الدوائر العصبية. لم تعكس المخططات البيانية الأبسط هذه الطبيعة أُحادية الاتجاه للاتصال العصبي، لكن بحلول نهاية القرن التاسع عشر، أضيف مفهوم المخططات الموجهة إلى مجموعة الأدوات الرياضية. المخطط الموجه الحواف عبارة عن أسهُمٍ موجهة في اتجاه واحد فقط. درجة العقدة في المخطط الموجه تنقسم إلى فئتَين: الدرجة الداخلية (على سبيل المثال عدد الوصلات التي تستقبلها الخلية العصبية)، والدرجة الخارجية (على سبيل المثال عدد الوصلات التي ترسلها الخلية العصبية لخلايا عصبية أخرى). وَجدت دراسة أجريت على الخلايا العصبية في القشرة الدماغية لبعض القِردة؛ نوعَي الدرجة هذَين، ما يعني أن الخلايا العصبية تحصل على إشاراتٍ عصبية بالقدر الذي تتلقى به إشارات عصبية.

في عام ٢٠١٨، صَمَّمت عالمتا الرياضيات كاثرين موريسون وكارينا كورتو نموذجًا لدائرةٍ عصبية، تحتوي على حواف موجَّهة للإجابة عن سؤال لا يختلف كثيرًا عن مسألة جسور كونيجسبيرج. لكن بدلًا من تحديد الطرق التي يمكن من خلالها التجول في أنحاء المدينة باستخدام مجموعة من الجسور، استكشفوا تسلسل إطلاق الإشارات العصبية الذي يمكن لدائرة عصبية أن تُنتجه. بالاستعانة بأدواتٍ من نظرية المخططات البيانية، توصلت موريسون وكورتو لكيفية النظر إلى بنية مكونة مما يصل إلى خمس خلايا عصبية نموذجية، والتنبؤ بالترتيب الذي ستطلق به هذه الخلايا العصبية الإشارات. تُعد الأنماط المرتبة من إطلاق الإشارات العصبية مهمة للعديد من وظائف الدماغ، بما في ذلك الذاكرة والتنقُّل. قد يكون هذا النموذج المكوَّن من خمس خلايا عصبية مجرد نموذج مبسَّط، إلا أنه يجسِّد المزايا المحتملة لتطبيق نظرية المخططات البيانية على دراسة الدماغ. ومع ذلك، لا بد من تبنِّي منظور أشمل عند دراسة شبكات الدماغ الحقيقية.

•••

على مدار أشهُر قليلة في أواخر ستينيات القرن العشرين، أُعطِي سمسار أوراق مالية يعيش في منطقة شارون بولاية ماساتشوستس ١٦ مجلدًا بُنيًّا من مالك متجر ملابس محلي. وعلى الرغم من غرابة ذلك، لم يندهش السمسار من المجلدات. كانت هذه المجلدات ببساطة جزءًا من تجربة اجتماعية غير تقليدية، أجراها عالم النفس الاجتماعي ستانلي ملجرام. عن طريق هذه التجربة، أراد ملجرام اختبار مدى كِبَر أو صِغَر العالم حقًّا.

تُردَّد عبارة «العالم صغير» عادةً عندما يلتقي غريبان، ويكتشفان بالصدفة أن لهما صديقًا أو قريبًا مشتركًا. أراد ملجرام معرفة عدد المرات التي قد يحدث فيها ذلك: ما احتمالات وجود صديقٍ مشترك بين شخصَين وقع عليهما الاختيار بشكلٍ عشوائي. أو أن يكون أحد الشخصَين صديقًا لصديق الآخر. بعبارة أخرى، إذا تمكنَّا من تصوير شبكة كاملة من العلاقات البشرية — باستخدام مخطط بياني؛ حيث تُمثِّل كل عقدة شخصًا، وكل حافة تمثِّل علاقة — فكم سيكون متوسط المسافة بين الناس؟ ما عدد الحواف التي سنحتاج إلى اجتيازها لإيجاد مسار يربط بين أي عُقدتَين؟

في محاولة جريئة للإجابة عن هذا السؤال، وقع اختيار ملجرام على شخص مستهدَف (في هذه الحالة سمسار ماساتشوستس) والعديد من الأشخاص الذين سيُمثلون نقطة الانطلاق في التجربة؛ أشخاص ليس لهم صلة بالشخص المستهدف يعيشون في جانب آخرَ من البلد (في هذه الحالة، تعيش الغالبية العظمى منهم في مدينة أوماها التي تقع في ولاية نبراسكا). أُعطي الأشخاص الذين سيمثلون نقطة الانطلاق في البحث طردًا يحتوي على مجلد ومعلومات عن الشخص المستهدف. كانت التعليمات بسيطة: إذا كنت تعرف الشخص المستهدف فقدِّم إليه المجلد، وبخلاف ذلك أرسِلْه إلى صديقٍ لك تعتقد أنه يتمتَّع بفرصة أفضل للتعرف عليه. طُلب من الشخص التالي اتباع التعليمات نفسها، على أمل أن ينتهي المجلد عند الشخص المستهدف. طُلب من المرسِلين كتابة أسمائهم في سجلٍّ أُرسِل مع الطرد، حتى يتمكن ملجرام من تتبع المسار الذي اتخذه المجلد.

بالنظر إلى إجمالي ٤٤ مجلدًا أُعيدَت إلى السمسار، وجد ملجرام أن أقصر مسارٍ تكوَّن من وسيطَين فقط وأطول مسار تضمَّن ١٠. كان متوسط عدد الأشخاص بين نقطة الانطلاق والمستهدف يساوي ٥. انتقالُ المجلد ما بين خمسة أشخاص، ليصل من نقطة الانطلاق إلى الشخص المستهدف، تضمَّن ستَّ عمليات تسليم؛ ومن ثم رُسِّخ مفهوم «ست درجاتٍ من التباعد» — الذي طرحه بالفعل بعض العلماءِ وعلماءِ الاجتماع دَقيقِي الملاحظة.٢

انتشر هذا المفهوم تدريجيًّا من خلال التصوُّر الجَمْعي. في يوم من الأيام، في أواخر تسعينيات القرن العشرين، سُئل طالب الدراسات العليا دنكان واتس من قِبَل والده، عما إذا كان يُدرك أن ثمة ستَّ مصافحات فقط تفصله عن مصافحات الرئيس. طرح واتس — الذي كان يعمل لدى عالم الرياضيات ستيفين ستروجتس آنذاك — الفكرة، بينما كانا يتناقشان في كيفية تواصل مجموعة من الصراصير. بعد هذه المحادثة غير المرتَّبة، تحوَّل مفهوم «العالم الصغير» من مجرد تعبير غريب إلى خاصية محددة رياضيًّا من خواص الشبكة.

في عام ١٩٩٨، نَشر واتس وستروجتس ورقة بحثية أوضحا فيها ما يحتاجه المخطَّط؛ لكي يصبح تجسيدًا لعالم صغير. كان مفهوم طول المسار القصير في المتوسط — أي فكرة أن أي عُقدتَين لا تفصلهما سوى خطوات قليلة — من العناصر الأساسية للشبكة. أحد طرق الحصول على مسارات قصيرة هي جعل المخطط يحتوي على الكثير من الوصلات، بمعنى أن تتصل كل عُقدة مباشرةً بالكثير من العقد. إلا أن هذه الحيلة تتعارض بوضوح مع ما نعرفه عن الشبكات الاجتماعية: لدى المواطن الأمريكي العادي، في بلد يبلغ تعداده ٢٠٠ مليون حينذاك، ٥٠٠ من المعارف فقط وفقًا لملجرام.

ومن ثم، حصر واتس وستروجتس عمليات محاكاة الشبكات التي قاما بها في الشبكات التي تحتوي على وصلات متفرقة، لكنهما غيَّرا أشكال هذه الوصلات. وقد لاحظا أنه من الممكن الحصول على مسارات قصيرة داخل شبكة تحتوي على عناقيدَ كثيفة. يشير العنقود إلى مجموعة فرعية من العُقد المترابطة بشدة، كأفراد العائلة. في هذه الشبكات، معظم العُقد تُشكِّل حوافَّ مع العُقد الأخرى في عنقودها، لكن في بعض الأحيان قد تتصل هذه العُقد بعُقدٍ أخرى في عنقود بعيد. بالطريقة نفسها التي يسهِّل بها القطارُ الذي يصل بين مدينتَين التفاعُلاتِ بين مواطنيهما، فإن هذه الصلات بين العناقيد المختلفة في الشبكة تجعل قيمة متوسط طول المسار منخفضة.

وبمجرد أنْ حدَّد واتس وستروجتس هذه الخواص في نماذجهما، همَّا بالبحث عنها في بيانات فعلية، وتمكنا من إيجادها. فمثلًا وجدا أن نظام توزيع الكهرباء في الولايات المتحدة — الذي تم تحويله إلى مخطط بياني، من خلال اعتبار أي مُولِّد أو محطة فرعية عقدةً وأي خطوط نقل حوافَّ — يتضمَّن المسارات القصيرة والترابط الشديد المميزين لشبكة العالم الصغير. والأمر نفسه ينطبق على مخطط بياني لمجموعة من الممثِّلين، مع وجود حواف تصل بين أي اثنَين شاركا في بطولة فيلم معًا. المكان الأخير الذي بحثا فيه عن شبكة عالم صغير، وعثرا عليها، هو الدماغ.

على وجه التحديد، التركيب الذي حلَّله واتس وستروجتس كان للجهاز العصبي لدودةٍ صغيرة: الربداء الرشيقة «سي إيليجانس». اعتبر واتس وستروجتس أي وصلة عصبية حافةً، متجاهلَين اتجاهية الوصلات العصبية، كما اعتبرا كل خليةٍ عصبية من الخلايا البالغ عددُها ٢٨٢ في مخطط الأسلاك لهذه الدودة؛ العُقدةَ. وجدا أنه يمكن توصيل أي خليتَين عصبيتَين عن طريق مسار؛ بحيث يكون عدد الخلايا العصبية التي تفصل بينهما في هذا المسار في المتوسط هو ٢٫٦٥ فقط، كما وجدا أن الشبكة تحتوي على عناقيد أكثر بكثير مما هو متوقع، إذا كانت هذه الخلايا العصبية البالغ عددها ٢٨٢ وُصِّلت معًا بشكلٍ عشوائي.

لماذا يجب أن يتخذ الجهاز العصبي للدودة نفس شكل الشبكة الاجتماعية للبشر؟ قد يتمثَّل السبب الرئيسي في تكاليف الطاقة. الخلايا العصبية جائعة. فهي تتطلب الكثير من الطاقة كي تعمل بكفاءة، كما أن إضافة محاور عصبية أكثر أو أطول وزوائد شُجيرية لا تؤدي بدورها إلا لزيادةِ الفاتورة. ومن ثم، الدماغ الذي تتصل خلاياه ببعضها بالكامل دماغٌ باهظ التكلفة. إلا أنه إذا أصبحت الوصلات متفرقة للغاية، فإن وظيفة الدماغ الرئيسية — أي معالجة المعلومات وتوجيهها في مسارات محددة — تنهار. ومن ثم، لا بد من إيجاد توازن بين تكلفة الوصلات العصبية والفائدة المترتبة على مشاركة المعلومات. وهو ما يفعله العالَم الصغير. في العالم الصغير، الوصلات التي تتكرر بشكلٍ أكبر هي الوصلات المنخفضة التكلفة نسبيًّا، الموجودة بين الخلايا المتجاورة في عنقودٍ واحد. أما الوصلات المكلِّفة بين الخلايا العصبية المتباعدة فنادرة، إلا أنه يوجد ما يكفي منها للحفاظ على تدفق المعلومات. يتضح لنا أن التطور قد وجد في مفهوم العالم الصغير الحل الذكي.

يُعد استنتاج واتس وستروجتس بشأن الدودة المستديرة أوَّل وصف للجهاز العصبي بلُغةِ نظرية المخططات البيانية. فقد أدى وصفه بدلالة هذه المصطلحات إلى إلقاء الضوء على بعض القيود، التي يشترك فيها الدماغ مع الشبكات الأخرى الموجودة بشكلٍ طبيعي. يمكن أن يكون الاحتفاظ بالروابط أمرًا مكلفًا، سواء أكانوا معارف أو محاور عصبية، وما دامت أوجه التشابه هذه موجودةً في الجهاز العصبي داخل الدودة المستديرة والشبكات الاجتماعية، فمِن المنطقي أن يتوقَّع المرء أن تُملِي الشبكات الاجتماعية بِنية الأجهزة العصبية أيضًا.

لكن الحديث عن بنية الجهاز العصبي يتطلَّب أن يكون لدينا بعض المعلومات حول بنية الجهاز العصبي. يتضح أن جمع هذه المعلومات يُعد مصدر إزعاج في أحسن الأحوال، وتحديًا فنيًّا غير مسبوقٍ في أسوأ الأحوال.

•••

«الخريطة العصبية للدماغ (الكونيكتوم)» هو مخطط بياني يصف الوصلات في الدماغ. لم يدرُس واتس وستروجتس إلا نسخةً غير مكتملةٍ من الخريطة العصبية للدماغ، ومع هذا فإن الخريطة الكاملة للدودة المستديرة تُعرَّف من خلال ٣٠٢ خلية عصبية و٧٢٨٦ وصلة عصبية بين هذه الخلايا. كانت الدودة المستديرة أول حيوان يجري توثيق الكونيكتوم الخاص به، كما يُعَد الحيوان الوحيد في الوقت الحالي.

يرجع هذا الافتقار إلى البيانات المتعلقة بالكونيكتوم بشكلٍ كبير، إلى العملية الشاقة التي تُجمع بها. يتطلب رسم مخطط كامل للوصلات العصبية في الدماغ على مستوى الخلايا العصبية؛ تثبيت الدماغ في مادة حافظة، وتقطيعه إلى شرائح أرقَّ من خصلة شعر، وتصويرها بالمجهر وتغذية الكمبيوتر بهذه الصور، الذي يعيد تكديس هذه الصور فوق بعضها لتكوينِ نموذجٍ ثُلاثي الأبعاد. بعد ذلك، يقضي العلماء عشرات الآلاف من الساعات يُحدِّقون في هذه الصور، مُتَتبعين الخلايا العصبية الفردية في الصورة تلو الأخرى، وملاحظين نقاط اتصال هذه الخلايا معًا.٣ عملية الكشف عن البنية الدقيقة للوصلات العصبية بهذه الطريقة؛ لا تقلُّ صعوبة عن علم الحفريات. فثمن هذا التشريح وتجميع الشرائح وتتبُّع الخلايا العصبية يجعل من غير المحتمل الحصول على الكونيكتوم إلا لأصغر الأنواع. يقوم فريق من العلماء في الوقت الحالي بتجميع الخريطة العصبية لدماغ ذبابة الفاكهة، الذي يبلغ حجمه واحدًا على مليون من حجم دماغ الإنسان، وإنتاج ملايين من الجيجابايت من البيانات في العملية. وعلى الرغم من أن أي دودتَين مستديرتَين متماثلتان بشكلٍ أو بآخر، فإن الأنواع الأكثر تعقيدًا يكون لها عادة فروق فردية أكبر، الأمر الذي يجعل كونيكتوم ذبابةٍ واحدة أو أحد الثدييات مجرد اختيار عشوائي من بين مجموعةٍ من الاختيارات المحتملة.

لحسن الحظ، هناك العديد من الطُّرق غير المباشرة التي توفِّر نسخة أوليَّة، أو غير مكتملةٍ من الخرائط العصبية للعديد من الأفراد والأنواع. يتضمَّن أحد المناهج التسجيل من الخلية العصبية، في أثناء تحفيز الخلايا العصبية الأخرى التي تحيط بها. إذا أدى تحفيز إحدى هذه الخلايا المجاورة بشكل موثوق، إلى إطلاق جهدِ الفِعل في الخلية العصبية التي يجري التسجيل منها، فمن المحتمل وجود اتصال بينهما. أحد الخيارات الأخرى هي الكواشف؛ وهي مواد كيميائية تؤدي دور الأصباغ؛ إذ تعمل على تلوين الخلية العصبية. لمعرفة من أين تأتي المدخلات أو إلى أين تذهب المخرجات، يحتاج المرء فقط إلى النظر إلى المواضع التي تظهر فيها الصبغة. لا يمكن لأيٍّ من هذه الطُّرق تكوين خريطةٍ عصبيةٍ كاملة للدماغ، إلا أن هذه الطُّرق تعمل على إعطاء لمحة سريعة عن الاتصال في منطقة محددة.

لم يُبتكَر مصطلح «الخريطة العصبية للدماغ» (الكونيكتوم) حتى عام ٢٠٠٥، على الرغم من أن الاتصال العصبي قد خضع للدراسة قبل ذلك بكثير. في ورقة بحثية حالمة، دعا عالم النفس أولاف سبورنز وزملاؤه العلماء زملاءهم إلى المساعدة في بناء كونيكتوم للدماغ البشري، ووعدوا بأن هذا «سيرفع وَعْينا بشكلٍ ملحوظٍ بشأن كيفية انبثاق حالات الدماغ الوظيفية من الركيزة المادية الأساسية.» يُعد الحصول على البيانات من البشر تحديًا مُذهلًا؛ لأن معظم الطرق المستخدمة للتوغُّل داخل جسم الحيوانات غير مسموح بها لأسباب واضحة. ومع ذلك، أوجد جانب غير متوقع من جوانب بيولوجيا الدماغ بديلًا ذكيًّا.

عندما يبني الدماغ وصلات عصبية، يُعَد الحفاظُ على البيانات التي تُنقَل أمرًا رئيسيًّا. وكالماء الذي يتسرب من خُرطوم مَسامِّي، تتعرض الإشارة الكهربية التي يحملها المحور العصبي إلى خطر التلاشي. لا يمثل هذا الأمر مشكلة كبيرة في حالة المحاور العصبية القصيرة التي تصل الخلايا المتجاورة، لكن المحاور العصبية التي تحمل الإشارات من إحدى مناطق الدماغ إلى أخرى؛ تحتاج إلى الحماية. ومن ثم، تُغلف المحاور العصبية التي تمتد لمسافات طويلة بطبقات عديدة من غطاء شمعي. تحتوي هذه المادة الشمعية، التي تُسمَّى المايلين، على الكثير من جُزيئات الماء. يمكن للتصوير بالرنين المغناطيسي (نفس التقنية المستخدمة لالتقاط صور الأورام وحالات تمدد الأوعية الدموية وإصابات الرأس) تحديدُ حركة جزيئات الماء هذه، وهي المعلومات التي تُستخدَم لإعادة بناء مسارات المحاور في الدماغ. من خلال هذا، من الممكن معرفة أماكن الدماغ المتصلة ببعضها. منذ نشر الدعوة التي وجهها سبورنز، أُطلِق مشروع «الكونيكتوم البشري» لعمل خريطة للدماغ باستخدام هذه التقنية.

تحديد المحاور العصبية التي تمتد لمسافات طويلة بهذه الطريقة، لا ينتج عنه نفس نوع الكونيكتوم الذي ينتج عن طُرق تتبع الوصلات العصبية، في الخلايا العصبية المنفردة. فهي تتطلَّب أن يقوم العلماء بتقسيم الدماغ إلى مناطق عشوائية وغير محددة؛ ومن ثم فإن هذا يُعد وصفًا غير دقيق تمامًا للاتصال. بالإضافة إلى ذلك، قياس جُزيئات الماء ليس طريقة مثالية لتتبع المحاور بين هذه المناطق، وهو ما يؤدي إلى الأخطاء والالتباس. حتى إن ديفيد، أحد العلماء الرئيسيين في مشروع الكونيكتوم، حذَّر مجتمع العلوم العصبية عام ٢٠١٦ من أن هناك أوجهَ قصور تقنية رئيسية لهذا المنهج يجب ألَّا نستهين بها. على الجانب الآخر، هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكننا بها النظر عن كثَب إلى داخل دماغ الإنسان؛ ومن ثم فإن الرغبة في الاستمرار في استخدامها يبدو منطقيًّا. وهو ما عَبَّر عنه فان إيسن على النحو الآتي: «كن متفائلًا، لكن انتبه لتقييم الجوانب الإيجابية والسلبية».

على الرغم من أوجه القصور هذه، تأثر علماء الأعصاب في بداية القرن الحادي والعشرين، بالمجهود البحثي الذي قام به واتس وستروجتس، للنظر إلى مجالهما بعدسة نظرية البيان، ووضعوا نصب أعينهم أي بيانات متاحة حول الكونيكتوم. ما رأوه عندما حللوه كان عوالمَ صغيرة في جميع الاتجاهات. على سبيل المثال، التكوين الشبكي هو جزء قديم من الدماغ مسئول عن العديد من جوانب التحكم الجسدي. عندما جُمِّعت أجزاء خريطة للوصلات بين الخلايا المنفردة في القطط، وحُلِّلت عام ٢٠٠٦، كانت أول دائرة عصبية لحيوان فقاري تُعالج باستخدام نظرية البيان. ووُجِد أنها عالم صغير. في الدراسات المتعلقة بالوصلات بين مناطق الدماغ في كلٍّ من الفئران والقرود، كان يُعثَر دائمًا على مسارات قصيرة، والكثيرِ من العناقيد أيضًا. وأخيرًا طُبقت دراسة الوصلات العصبية في الدماغ، باستخدام شبكات العالم الصغير على البشر عام ٢٠٠٧، عندما استخدم الباحثون في سويسرا فحوصات التصوير بالرَّنين المغناطيسي، لتقسيم الدماغ إلى أَلْف منطقةٍ مختلفة، كل منطقةٍ في ارتفاع حبة البندق وعرضها، وقاسُوا الوصلات بينها.

يندُر الوصول إلى استنتاجات عامة في علم الأعصاب؛ فالمبادئ التي تحكم عمل مجموعة من الخلايا العصبية لا يُفترَض بالضرورة أن تظهر في مجموعة أخرى. ومع ذلك، نظرًا لأنه يمكن ملاحظة «شبكات العالم الصغير» عند دراسة مختلف الأنواع ومستويات التنظيم، فإنها تُعد من الخواص البارزة. وكتكرار نغمة من أغنية آسرة، تتطلب شبكات العالم الصغير مزيدًا من الاستكشاف. ملاحظة وجود عوالم صغيرة في العديد من الأماكن أثارَت الكثير من التساؤلات، حول منشأ هذه العوالم والأدوار التي تلعبها. لا تزال الإجابات عن هذه التساؤلات محلَّ استكشاف، ومع ذلك، لولا وجود لغة نظرية المخططات البيانية، لما أثيرت هذه التساؤلات من الأساس.

•••

في ١٠ فبراير عام ٢٠١٠، أُلغيَ ٢٣ بالمائة تقريبًا من رحلات الطيران المتجهة من الولايات المتحدة. جاء هذا الاضطراب غير المسبوق؛ نتيجة لعاصفةٍ ثلجيةٍ في منطقة شمال شرقٍ أغلقت مجموعة من المطارات، بما في ذلك مطار رونالد ريجان الوطني في العاصمة واشنطن، ومطار جون إف كينيدي الدولي في نيويورك. لم يكن من الطبيعي أن ينشأ هذا التأثير الملحوظ على حركة السَّفر عن إغلاق عدد قليل من المطارات، لكن هذه لم تكن مطارات عادية، بل كانت محاور رئيسية في شبكة الطيران.

fig21
شكل ٩-٢

المحاور عبارة عن عُقد في مخطط بياني لها درجة عالية، أي إنها متصلة بدرجة كبيرة. تقع هذه المحاور عند ذيول مخطَّط توزيع الدرجات، وهو مخطط يعرِض لكل قيمة درجة عدد العقد في الشبكة التي لها هذه الدرجة. في المخططات البيانية، كالمخطط البياني لشبكة الطيران، أو هيكل الخوادم التي تتكون منها شبكة الإنترنت، يبدأ المخطط البياني عاليًا، وهو ما يعني وجود عُقد عديدة لها عدد صغير من الوصلات، ويتلاشى مع زيادة عدد الوصلات، ما يؤدي إلى ذيل طويل يمثِّل عددًا صغيرًا من العقد التي لها درجة عالية جدًّا، مثل مطار جون إف كينيدي الدولي. تكون المحاور على درجة عالية من الاتصال، وهو ما يجعل لها دورًا مؤثرًا في الشبكة، وفي الوقت نفسه، تجعلها هذه الدرجة العالية من الاتصال مصدر تهديد للشبكة، إذا ما توقَّفت أو فشلت. وكما هي الحال عند إزالة حجَر العقد من قنطرة، فإن أي اضطراب متعمَّد يحدث في أحد محاور الشبكة يؤدي إلى انهيار الشبكة.

للدماغ محاور. لدى البشر، عُثر على هذه المحاور متناثرة في فصوص الدماغ كافة. على سبيل المثال، التلفيف الحزامي الذي ينحني حول مركز الدماغ يُمثِّل محورًا، وهو ما ينطبق أيضًا على الطلل الذي يقع فوق الجزء الخلفي من التلفيف الحزامي.٤ في الدراسات المتعلقة بالنوم والتخدير وحالات الغيبوبة، يرتبط النشاط في هذه المناطق بالوعي. يتضح أن حجم محور آخر، وهو القشرة الجبهية العليا، يرتبط بالاندفاع والاهتمام. يتسبب اقتطاع المحور الرابع، الذي يقع في القشرة الجدارية على جانب الدماغ، في جَعْل المرضى يفقدون الإحساس بالموضع والاتجاه. في المجمل، يتضح أن مجموعة المحاور تتباين في كلٍّ من الموقع والوظيفة. الخيط الذي يربط بينها، إن وُجد أي خيط، هو مدى تعقيد كلٍّ من هذه المحاور. مناطق الدماغ، مثل القشرة البصرية والقشرة السمعية والبصلة الشَّمية، أي المناطق التي لها أدوار واضحة ومحددة من أسمائها، ليست على قائمة المحاور. المناطق التي تمثِّل محاور تكون معقدة؛ إذ تتمكن من جمع المعلومات من العديد من المصادر، وتنشرها على نطاقٍ واسع. يتضح أن دورها كأداة تجميعٍ ينتج بوضوحٍ عن موضعها في بنية الشبكة.

بالإضافة إلى تجميعها للمعلومات بطرق مختلفة، قد تكون المحاور مسئولة عن ضبط ساعة الدماغ. في منطقة سي إيه ٣ (مستودع الذكريات في الحصين كما ذُكِر في الفصل الرابع)، تجتاح موجات من النشاط الكهربي، خلال مجموعةٍ من الخلايا العصبية في مراحل النمو الأولى بعد الولادة. تضمن هذه الموجات أن ينشأ نشاط هذه الخلايا العصبية وشدة الاتصال بينها بطريقة صحيحة. تُعد الخلايا العصبية في منطقة المحاور الخلايا المنسِّقةَ المحتملة لهذا النشاط المتزامن؛ إذ تبدأ عادة في إطلاق الإشارات العصبية قبل هذه الموجات؛ لذا فإن تحفيزها يمكنه تحريك مَوجةٍ. افترضت دراسات أخرى دورًا لمناطق المحاور في مزامنة النشاط في جميع أنحاء الدماغ. ونظرًا لأن المحاور لها درجة عالية، فإن الرسالة المرسَلة من أحد المحاور يُدَوِّي صداها لمسافات بعيدة، وتؤثر على نطاق واسع في الشبكة. علاوة على ذلك، تكون المحاور في الدماغ عادة متصلة معًا بقوة، وهي إحدى خواص شبكة يُشار إليها باسم «شبكة غنية بالصِّلات القوية بين المحاور». من شأن هذه الصلات بين المحاور ضمانُ أن تكون جميع المحاور نفسها متوافقة معًا، حين تُطلق إشاراتها المتزامنة.

تشير الطريقة التي تتطور بها الخلايا العصبية، التي تُمثِّل المحاور في الشبكات العصبية، إلى مكانها المميز في الدماغ. فالخلايا العصبية التي تُكوِّن الشبكة الغنية بالوصلات القوية بين المحاور في الدودة المستديرة، على سبيل المثال، تُعد ضمن أوائل الخلايا التي ظهرت مع نمو الجهاز العصبي. خلال ثماني ساعات فقط بعد تخصيب البويضة، تولد هذه الخلايا العصبية المحورية، في حين أن بقية الجهاز العصبي لن ينتهي قبل أكثر من يوم. وبالمثل، في حالة البشر، يكون معظم الهيكل الرئيسي لمحاور الشبكات العصبية موجودًا لدى الأطفال.

إذا كانت المحاور تلعب دورًا مركزيًّا بالنسبة لوظيفة الدماغ، فما الدور الذي يمكن أن تلعبه في الاختلال الوظيفي؟ بحثَت دانييل باسيت في هذا السؤال باعتباره جزءًا من مهنتها التي لها تأثيراتٌ واسعة النطاق، والتي تقع عند نقطة تقاطع الشبكات وعلم الأعصاب.

في أوائل القرن الحادي والعشرين، عندما انتشرت الطرق المتعلقة بنظرية المخططات البيانية في مجال علم الأعصاب، كانت باسيت حينها طالبة جامعية تدرس الفيزياء. في ذلك الوقت، ربما كانت ستندهش إذا علمت أن أحد علماء الأعصاب المعروفين سيطلق عليها فيما بعد «عميدة علوم الشبكات».٥ وعلى أي حال، فإن السعي لنيل درجة علمية في الفيزياء كان في حدِّ ذاته أمرًا يدعو إلى الدهشة، بالنظر إلى ظروف نشأتها؛ كانت باسيت واحدةً ضمن ١١ طفلًا تلقَّوا تعليمهم في المنزل، في كنف أسرة مُتديِّنة من المتوقع أن تلعب فيها النساء أدوارًا تقليدية أكثر. جاء تحوُّلها إلى علم الأعصاب أثناء تحضيرها للدكتوراه حين عملت مع إدوارد بولمور، عالم الأعصاب بجامعة كامبريدج الذي كان جزءًا من مجموعة علماء الأعصاب الأوائل، الذين حرصوا على تطبيق نظرية المخططات البيانية على الدماغ. أحد أوائل المشروعات التي عملت عليها باسيت هو معرفة كيفية تأثُّر تركيب الدماغ، باضطراب الفصام الشائع والمعوِّق.

الفصام هو مرض يتميز بالأوهام والاضطراب الفكري. بمقارنة أدمغة الأشخاص الذين يعانون من هذا المرض وأشخاص لا يعانون منه، وَجَدت باسيت العديد من الاختلافات في خواص الشبكات لهذه الأدمغة، بما في ذلك اختلافات في المحاور. فالمناطق الموجودة في القشرة الجبهية، على سبيل المثال، تُكوِّن محاور لدى الأصحاء، في حين أنها لا تفعل ذلك في حالة مرضى الفصام. يمكن ربط تَعطُّل القشرة الجبهية وقدرتها على السيطرة والتحكم في أجزاء أخرى من الدماغ؛ بالهلوسة والبارانويا التي تُثار لدى مرضى الفصام. وعلى الرغم من أن دماغ مريض الفصام لا يزال تمثيلًا لمفهوم العالَم الصغير، فإن كلًّا من متوسط طول المسار وشدة الترابط داخل كل عنقود في الشبكة أعلى منهما لدى الأشخاص الأصحاء، ما يجعل من الأصعب، بالنسبة إلى منطقتَين متفاوتتَين، التواصل والتوافق معًا.

كَونُ هذا العمل أول دراسة تتناول هذا المرض من منظور نظرية المخططات البيانية، ساعد في أخذ إحدى الفِكَر القديمة حول «أعراض متلازمة الانفصال» وإخضاعها للدراسة الكَمية. منذ أواخر القرن التاسع عشر، افترض علماء الأعصاب أن حدوث تعطُّل في الوصلات التشريحية قد يؤدي إلى اضطرابات في التفكير. اعتقد الطبيب الألماني كارل فيرنيك، على وجه الخصوص، أن الوظائف المعرفية العليا لا تقع في أي منطقة دماغية منفردة؛ بل تنشأ من التفاعلات بينها. وفي عام ١٨٨٥ أوضح ما يلي: «أي عمليات نفسية عُليا … تعتمد على التفاعل المتبادل لهذه العناصر النفسية الأساسية، التي تحدث بواسطة وصلاتها المتنوعة عبر الألياف الرابطة.» وافترض أن إتلاف «الألياف الرابطة» هذه، سيعوق وظائف مهمة مثل اللغة والوعي والتخطيط.

والآن، بعد أن التقت أدوات نظرية المخططات البيانية بدراسة «أعراض الانفصال»، يجري استكشاف مزيدٍ من الأمراض باستخدام المناهج الحديثة. أحد الأمثلة الشائعة هو مرض ألزهايمر. عند مقارنة الاتصال بين مناطق الدماغ المختلفة لدى كبار السن المصابين بمرض ألزهايمر، مع نظيراتها لدى كبار السن غير المصابين، وُجِد أن المصابين بمرض ألزهايمر تكون أطوال المسارات بين مناطق الدماغ لديهم أطول. قد ينتج التشويش والقصور الإدراكي لمرض ألزهايمر جزئيًّا عن انهيار الاتصال الفعال بين مناطق الدماغ المتباعدة. يمكن ملاحظة تغيُّرات مشابهة في بِنَى شبكات الدماغ بدرجةٍ أقل، فيما يتعلق بالشيخوخة الطبيعية.

منذ أن أسست باسيت مختبرها الخاص في جامعة بنسلفانيا عام ٢٠١٣، انتقلت من مجرد ملاحظة بِنية الدماغ في حالتَي الصحة والمرض إلى معرفة كيفية استغلال ذلك. قد يكون من الصعب التنبؤ بنشاط الشبكات. ربما تُخمد شائعة شاركتها مع صديق لك في الحال، أو تنتشر كالنار في الهشيم في شبكتك الاجتماعية، بِناءً على بنية هذه الشبكة وموقع صديقك فيها. وبالمثل، يصعب التنبؤ بتأثيرات تحفيز الخلايا العصبية أو تثبيطها. يجمع مختبر باسيت أدوات من مجال الهندسة بالمعرفة حول بنية شبكات الدماغ؛ للتحكُّم في النشاط العصبي بطريقةٍ أكثر سهولة. على وجه الخصوص، استُخدمت نماذج تعتمد على الخرائط العصبية للدماغ بالكامل، لأفرادٍ من أجل تحديد الموضع الذي يجب تطبيق التحفيز الدماغي عنده؛ للحصول على النتيجة المرغوبة. يتمثَّل الهدف من ذلك في استخدام هذا العلاج الفردي للسيطرة على اضطراباتٍ مثل مرض باركنسون والصرع.

الأمل في أن تصير مقاييس نظرية المخططات البيانية بمثابة مؤشرات للمرض — حتى إنه يُحتمل أن تكون مؤشرات مبكرة للمرض من شأنها أن تقود نحو رعاية وقائية — جعلها تحظى بشعبية معقولة في مجال الأبحاث الطبية. حتى هذه اللحظة، تضمنت اضطرابات الدماغ التي خضعت للدراسة عن كثَب باستخدام التحليل الشبكي؛ ألزهايمرَ والفصامَ وإصابة الدماغ الناتجة عن الصدمات، والتصلب المتعدد والصرع، والتوحد والاكتئاب ثنائي القطب. إلا أن النتائج كانت مختلطة. حسبما أُشير، لتقنية التصوير بالرنين المغناطيسي المستخدمة لجمع البيانات في المقام الأول مشكلاتُها، كما أن بعض الدراسات عثرت على مؤشرات مرضية لم تتوصل إليها دراسات أخرى. بشكل عام، مع وجود الكثير من العلماء المتحمسين للبحث عن الاختلافات بين الأدمغة المريضة والسليمة، يكون الحصول على بعض النتائج الإيجابية الكاذبة والبيانات الخاطئة أمرًا لا مفر منه. ولكن سواء عُززت النتائج أم لا، من الأسلم القول إن هذه القائمة الجديدة من الأدوات قد وصلت إلى الأوساط الإكلينيكية.

•••

تطوُّر الدماغ أشبه بانفجار بُركاني. تنبثق الخلايا العصبية من حاضنةٍ اصطناعية تُسمى منطقة البطين بوتيرةٍ فائقة السرعة، وتتدفق لتملأ جميع جنبات الدماغ المزدهر. وبمجرد أن تنتشر الخلايا العصبية تبدأ في تكوين روابط. تُكوِّن هذه الخلايا العصبية العشوائية تشابكًا تلو الآخر مع بعضها؛ لتربط الخلايا من كل حدبٍ وصوب معًا بشكلٍ محموم. في ذروة تكوين المشابك العصبية، خلال الثُّلث الثالث والأخير من فترة الحمل، تتكون ٤٠ ألف وصلة كل ثانية. إذن التطور عبارة عن زيادة مكثفة في تكوين المشابك العصبية.

لكن بمجرد تَكَوُّن هذه الخلايا والوصلات يختفي العديد منها. للشخص الناضج خلايا عصبية أقل بكثير من الخلايا العصبية التي كانت لديه في الرحم؛ وذلك لأن قُرابة نصف الخلايا العصبية التي تكونت خلال مرحلة النمو تموت. عدد الوصلات التي تُكوِّنها الخلية العصبية تصل إلى ذروتها في نحو السنة الأولى من حياتك، وتقل بمقدار الثُّلث بعد ذلك. ومن ثم، فإن الدماغ يتكون من خلال انتشارٍ يليه انحسار، وتمدُّد يليه انكماش. خلال مرحلة النمو تجري عملية تشذيب الخلايا العصبية والمشابك بلا هوادة، فلا تُبقي إلا على المفيد منها فقط. على سبيل المثال، تتكون المشابك العصبية لنقل الإشارات بين الخلايا العصبية. فإذا لم توجد إشارات تتدفق، فلا بد للخلايا أن ترحل. من عملية التكوين والتقليم هذه تنبثق الدوائر العصبية. الأمر أشبه بالتشجيع على نمو الشجيرات بشكل زائد عن الحد، لتشذيبها وعمل منحوتات دقيقة منها.

هذه هي الطريقة التي وجدتها البيولوجيا لبناء الدماغ. لكن إذا سألت أحد اختصاصيِّي نظرية المخططات البيانية عن كيفية تكوين شبكة، فستكون إجابتهم مناقضةً لذلك. على سبيل المثال، لن يبدأ مصمم نظام النقل العام ببناء مجموعة من محطات القطار ومواقف الحافلات، ويوصلها معًا فقط لكي يرى أيها يُستعمل. لن ترضى أي حكومة بمثل هذا الإهدار للموارد. بدلًا من ذلك، معظم المخططات البيانية تُبنى من الأسفل للأعلى. على سبيل المثال، إحدى الاستراتيجيات التي يستخدمها اختصاصيُّو نظرية المخططات البيانية؛ هي بناء مخطَّط بياني يحتوي على مسار بين أي عُقدتَين، باستخدام أقل عددٍ ممكنٍ من الحواف. هذا معناه أن بعض المسارات قد تكون طويلة بعض الشيء، لكن بملاحظة المسارات التي تُستخدَم أكثر (سواء من خلال المسافرين في القطار، أو المعلومات التي تنتقل بين الخوادم على شبكة الإنترنت)، يستطيع مصمم الشبكة تحديد الموضع الذي يكون من المفيد وضع طريق مختصر عنده. وبهذا، تصبح الشبكة أكثر كفاءة بإضافة حوافَّ موضوعة في أماكن جيدة.

أما الدماغ، فليس له مصمم. فلا يوجد مخطِّط مركزي يمكنه النظر والقول: «يبدو أن الإشارات ستتدفق بشكلٍ أفضل إذا اتصلت الخلية العصبية هناك بالخلية العصبية هنا.»٦ ولهذا يحتاج الدماغ إلى إنتاج المزيد من الخلايا والمشابك العصبية ثم تقليم الزوائد. الطريقة الوحيدة التي يمكن بها للدماغ اتخاذ قرارات بشأن الوصلات التي لا بد أن توجد؛ هي حساب الإشارات التي تمر عبر هذه الوصلات. لدى الخلايا العصبية الفردية والتشابكات العصبية أدواتٌ جُزيئيةٌ متقَنة لقياس مقدار استخدامها، وهي تنمو أو تتقلَّص نتيجة لذلك. فإذا لم يوجد الاتصال منذ البداية، فسوف يتعذَّر قياس النشاط العصبي بين هذه الخلايا.

تبدأ عملية تشذيب الوصلات في الدماغ بقوة كبيرة؛ حيث تُقطع الوصلات على اليمين وعلى اليسار، لكن العملية تتباطأ بمرور الوقت. في عام ٢٠١٥ بحث العلماء في معهد سولك وجامعة كارنيجي مِيلُون لِمَ قد يكون هذا النمط من التشذيب مفيدًا للدماغ. لفعل هذا، قاموا بمحاكاة الشبكات التي بدأت عملاقة، وقُلِّمَت باستخدام مبدأ «إما أن تُستخدم أو تُفقَد». جدير بالذكر أنهم غيَّروا السرعة التي يحدث بها هذا التقليم. وجدوا أن الشبكات التي حاكت عملية التشذيب في الدماغ (حيث يكون معدل التشذيب مرتفعًا في البداية، ويقل مع مرور الوقت) انتهت بطول مسار قصير، وكانت قادرة على توجيه المعلومات، حتى إذا حُذِفت بعض العُقد أو الحواف. لم تكن الكفاءة والقوة بالقدر نفسه في الشبكات التي يكون فيها معدل التشذيب ثابتًا أو يزداد بمرور الزمن. يتضح أن تناقص معدل التشذيب يُفيد في إزالة الوصلات العديمة الفائدة بسرعة، وفي الوقت نفسِه يُتيح للشبكة وقتًا كافيًا لضبط الهيكل المتبقِّي، وبالمثل قد يتميز النَّحَّات الذي ينحت قطعةً من الرُّخام بالسرعة في قَطْع الشكل الرئيسي لرجلٍ، لكنَّ نحت التفاصيل الدقيقة للجسم يكون عملية بطيئة ودقيقة. في حين أن معظم الشبكات المادية، كشبكات الطرق وخطوط الهواتف، لن تُصمم استنادًا لمبدأ التشذيب، فإن الشبكات الرقمية التي لا يتضمن إنشاء حوافها أي تكاليف — كالشبكات التي تكونت عن طريق الاتصال اللاسلكي بين الهواتف المحمولة — يمكن أن تستفيد من الخوارزميات المستوحاة من الدماغ.

•••

يُعَد علم الأعصاب الشبكي من العلوم الناشئة، وقد أطلِق الاسم على الممارسة التي تختص باستخدام أدوات نظرية المخططات البيانية وعلم الشبكات، لمناقشة بِنى الدماغ. نشرت مجلة «نِتوُرك نيوروساينس» أول دورية أكاديمية مخصصة فقط لهذا المسعى، لأول مرة عام ٢٠١٧، تزامنَت الأدوات الجديدة الخاصة برسم الخرائط العصبية للدماغ على مستويات متعددة، مع القوة الحاسوبية لتحليل مجموعاتٍ أكبر وأكبر من البيانات. والنتيجة هي بيئة مُفعَمة بالطاقة، تشهد إجراء العديد من الدراسات المتنوعة للبنية كل يوم.

لكنَّ ثمة سببًا يدعو إلى توخي الحذر يمكن إيجاده في معدة سرطان البحر.

العُقدة الفَموية المعِدية هي دائرة عصبية مكونة من ٢٥–٣٠ خلية عصبية، تقع في أمعاء سرطانات البحر وغيرها من القشريات. تتحد هذه الخلايا العصبية معًا من خلال الوصلات العصبية لأداء وظيفة أساسية، لكنها ضرورية؛ ألا وهي إنتاج تقلصاتٍ عضلية متناغِمة توجِّه عملية الهضم. قضت إيف ماردر، الأستاذة بجامعة برانديز، نصف قرن تدرس هذه الحفنة الضئيلة من الخلايا العصبية.

وُلِدت ماردر وترعرعت في نيويورك، إلا أن عملها جعلها تنتقل إلى ماساتشوستس ثم إلى كاليفورنيا.٧ في حين أن أبحاثها المتعلقة بدرجة الدكتوراه في جامعة كاليفورنيا كانت تركز على علم الأعصاب، كانت تتسم بالكفاءة في مادة الرياضيات؛ ففي المدرسة الابتدائية درسَت بعنايةٍ كتبَ الرياضيات المخصصة للطلاب الذين يكبرونها بعامَين. كان لشخصيتها المتعددة الجوانب تأثيرٌ على عملها. خلال عملها، تعاونَت مع باحثين من العديد من الخلفيات، بما في ذلك لاري أبوت (ورد ذكره في الفصل الأول) الذي جاء تعاونها معه بالتزامن مع تحوله من عالم فيزياء جُسيمات إلى عالم أعصاب نظري. بدمج الدقة التجريبية مع العقلية الرياضية، بحثَت ماردر عن كثَب في وظيفة هذه الدائرة العصبية الصغيرة لسرطان البحر في الواقع العملي، ومن خلال عمليات محاكاة بالكمبيوتر.

عُرفت الخريطة العصبية للعقدة الفموية المعدية للسرطان، منذ ثمانينيات القرن العشرين. تُكوِّن هذه الخلايا العصبية البالغ عددها ٣٠ نحو ١٩٥ وصلة، وتُرسل مخرجات إلى العضلات المعِدية. خلال دراسة ماردر للدكتوراه، توصَّلت للمواد الكيميائية التي تستخدمها هذه الخلايا العصبية في التواصل. بالإضافة إلى النواقل العصبية القياسية — المواد الكيميائية التي تعبُر الشق التشابكي الصغير بين الخلية العصبية التي تُطلق هذه المواد والخلية العصبية التي تستقبلها — وجدت ماردر أيضًا مجموعة من المعدِّلات العصبية المؤثرة.

المعدِّلات العصبية عبارة عن مواد كيميائية تعبث بإعدادات الدائرة العصبية. يمكنها زيادة شدة الوصلات العصبية أو تخفيضها، وجَعْل الخلايا العصبية تُطلق إشارات أكثر أو أقل أو بأنماط مختلفة. تُحدِث المعدِّلات العصبية هذه التغييرات، من خلال الارتباط بالمستقبِلات المُدمجة في غشاء الخلية العصبية. جزء مما هو جدير بالملاحظة حول المعدِّلات العصبية هو مصدرها، وكيفية وصولها إلى الخلية العصبية. في الحالة الأكثر تطرفًا، يمكن أن يُطلَق المعدِّل العصبي من جزء مختلف من الدماغ أو الجسم، وينتقل عبر الدم إلى وجهته. في أحيانٍ أخرى، يُطلَق المعدِّل العصبي محليًّا من الخلايا العصبية المجاورة، لكن سواء أجاء من مصدرٍ قريبٍ أم بعيد، تكون المعدِّلات العصبية عادة منتشرةً في كل أنحاء الدائرة العصبية بشكلٍ عشوائي، فتلمس العديد من الخلايا العصبية والمشابك العصبية بشكل غير محدَّد. وفي حين أن عملية النقل العصبي أشبه بخطاب بين خليتَين عصبيتَين، فإن التعديل العصبي أشبه بمنشورٍ أُرسِل إلى المجتمع بالكامل.

في تسعينيات القرن العشرين، فحصت ماردر — جنبًا إلى جنب مع أعضاءٍ من مختبرها ومختبر مايكل نوسباوم، الأستاذ بجامعة بنسلفانيا — المعدِّلاتِ العصبية في العقدة الفموية المعوية. بشكلٍ طبيعي، تُنتِج الدائرة إيقاعًا ثابتًا؛ إذ تُطلق خلايا عصبية معينة في مجموعة الخلايا إشاراتٍ عصبية مرة لكل ثانية تقريبًا. لكن، عندما أطلقت التجارب المعدِّلات العصبية على الدائرة العصبية، تغيَّر هذا السلوك. بعض المعدِّلات العصبية جعلت الإيقاع يزداد. أطلقت الخلايا نفسها إشارات عصبية لكن بمعدل أكبر. وجعلت أخرى الإيقاع يقل، في حين أن البعض كان له تأثير جسيم، فقد أدى إلى إحداث خلل في الإيقاع، كما أدى إلى تنشيط الخلايا العصبية التي كانت بطبيعتها مثبَّطة. هذه المعدِّلات العصبية المسبِّبة لهذه التغييرات كانت جميعها تُطلَق من خلايا عصبية؛ تمد هذه الشبكة العصبية بمُدخلات بطريقة طبيعية. هذا يعني أن هذه الأنماط المختلفة من المخرجات يجري إنتاجها بشكل طبيعي طوال حياة الحيوان. في حالة الإعدادات التي يغلب عليها الطابع الاصطناعي، يمكن أن تتسبب المعدِّلات العصبية التي يضيفها القائمون على التجارب في تغييرات أكبر وأكثر تنوعًا.

جدير بالذكر أن الشبكة الأساسية لا تتغير أبدًا خلال التجارب. فلم تُضَف أي خلية عصبية أو تُحذف. ولم تُقطع أو تتطور أي وصلات. تنشأ التغيرات الملحوظة في السلوك فقط من توزيع عدد صغير من المعدِّلات العصبية فوق هيكل ثابت.

المجهود الضخم الذي يُبذل من أجل الحصول على خريطة عصبية للدماغ، يفترض مُسبقًا أن يكون لهذا مردود محدد، لكن المردود يكون أقل من المجهود إذا كانت العلاقة بين البنية والوظيفة أضعف من المتوقع منذ البداية. إذا تمكنت المعدِّلات العصبية من تحرير نشاط الخلايا العصبية في الدائرة من القيود الصارمة التي تحكم بِنيتها، فليس من الضروري أن يحدد تركيبُها وظيفتَها. ربما لم يكن هذا ليصبح مصدرَ قلقٍ لو كان التعديل العصبي ظاهرة تختص بها العقدة الفموية المعدية. لكن هذا بعيد عن الحقيقة. تُحاط الأدمغة باستمرار بوابل من الجزيئات المعدِّلة. عبر الأنواع، تُعد المعدِّلات العصبية مسئولة عن كل شيء، من النوم إلى التعلُّم إلى التخلص من الجلد القديم إلى الأكل. التعديل العصبي يُعد القاعدة وليس الاستثناء.

من خلال عمليات المحاكاة الرياضية للدوائر العصبية التي درستها ماردر، لم تستكشف ماردر كيف تنشأ السلوكيات المختلفة من البنية نفسها فحسب، ولكن أيضًا كيف يمكن للبنى المختلفة أن تنتج السلوكيات نفسها. على وجه التحديد، بنية الدوائر العصبية لأمعاء كل سرطان بحر تختلف قليلًا عن مثيلاتها لدى سرطانات البحر الأخرى؛ قد تتكون وصلات عصبية أقوى أو أضعف في حيوان مقارنة بالآخر. بمحاكاة قرابة ٢٠ مليون دائرة ممكنة، وجد مختبر ماردر أن الغالبية العظمى غير قادرة على إنتاج الإيقاعات المطلوبة، ومع ذلك فإن بعض البنى يمكنها فعل ذلك. من خلال مزيج من الجينات والتطور، يستطيع كل سرطان بحر إيجاد سبيل إلى هذه البنى الفعالة. أشارت المجهودات البحثية إلى نقطةٍ مهمة عن الأدمغة المنفردة: التنوع لا يعني دائمًا الاختلاف. ما قد يبدو انحرافًا عن البنى المعيارية قد يكون في الحقيقة صالحًا تمامًا لتحقيق النتائج نفسها. حقيقة أن هذه البنى المتنوعة تنتج الإيقاعات نفسها أضاف تعقيدًا آخر على العلاقة بين الشكل والبنية.

بقدر ما أوضحت أبحاث ماردر أوجه القصور في الاعتماد على البنية وحدها لفهم الوظيفة، أشارت إلى الحاجة إليه. بُنيت حياة ماردر العملية — وجميع أفكارها التي قدمتها — على الخريطة العصبية للدماغ. فمن دون معلومات تفصيلية عن البنية، سيكون من غير الممكن استكشاف العلاقة بين البنية والوظيفة. وقد أوضحت ماردر ما يلي عام ٢٠١٢: «البيانات التشريحية التفصيلية لا تقدَّر بثمن. لا يمكن فهم دائرة عصبية بالكامل من دون مخطط للوصلات العصبية.» ومع هذا، مضت في الإشارة إلى أن «مخطط الوصلات العصبية ليس إلا بداية ضرورية، لكنه ليس إجابةً في حد ذاته.» بمعنًى آخر، عندما يتعلق الأمر بفهم الدماغ، تكون معرفة تركيب الجهاز العصبي ضرورية تمامًا، وفي الوقت نفسه غير كافية على الإطلاق.

وعليه، قد لا يكون من الممكن تحقيق فكرة كاخال، باستنتاج وظيفة الجهاز العصبي من مجرد التأمل في بنيته. لكن اكتشاف هذا التركيب وتحديده يظلَّان شرطَين مُهمَّين لأي فهمٍ إضافي للدماغ. تزدهر الطرق المبتكرة لجمع بيانات الخريطة العصبية وتطور الأدوات لنظرية المخططات البيانية، استعدادًا لاستقبال تلك البيانات واستيعابها.

١  كانت الصور جذابة بما يكفي لتصبح القطعة المركزية في معرض فني متنقل يُسمى «الدماغ الجميل»، لا بد أن هذا المصير أسعد كاخال. قبل أن يذعن لرغبات والده في أن يصبح طبيبًا، كان يحلم بأن يكون رسامًا.
٢  لاقت نظرية ملجرام نقدًا من الباحثين في وقت لاحق بسبب افتقارها إلى الدقة. فعلى سبيل المثال، لم يضع ملجرام في الحسبان المجلدات التي لم تصل إلى الشخص المستهدف من الأساس. نتيجة لذلك، ظل كون العدد ستة عددًا سحريًا عندما يتعلق الأمر بدرجات التباعد بين الناس؛ سؤالًا ليست له إجابة حاسمة. لحسن الحظ، توفِّر البيانات المستخلصة من مواقع التواصل الاجتماعي طرقًا جديدة للإجابة عنه.
٣  ثمة محاولات ناجحة في الوقت الحالي لأَتْمَتة هذه العملية الشاقَّة. وفي الوقت نفسه، حاول العلماء الذين فقدوا الأمل في الحلول التقليدية تحويلَ هذا العمل إلى لُعبة، وحث الأشخاصِ من جميع أنحاء العالم على لعِبها. يمكن إيجادها على موقع eyewire.org.
٤  انتبه جيدًا: السمات المحددة التي لا بد من أن تتميز بها منطقة الدماغ كي تُعتبر محورًا؛ تُعد محلًّا للنقاش. حتى إن تطبيق التعريف نفسه على مجموعات بيانات مختلفة يمكن أن يُفضي لنتائج مختلفة. ونظرًا لأن هذا النمط من التحليل لا يزال جديدًا، ستستغرق هذه العيوب الطفيفة وقتًا كي تُعالج.
٥  خلع عالم الأعصاب البريطاني كارل فريستون هذا اللقب على باسيت في حوار له مع دورية «ساينس» عام ٢٠١٩. سنعرف المزيد حول فريستون في الفصل الثاني عشر.
٦  ربما يكون هناك استثناء من هذا لدى الحيوانات البسيطة جدًّا، مثل دودة الربداء الرشيقة C. elegans؛ حيث يُعتقد أن الكثير من المعلومات حول الخلايا التي يتعين عليها الاتصال ببعضها تُحمَل شفرتها في الجينوم، وبهذا تكون «مصمَّمة» عبر دهور من الانتخاب الطبيعي.
٧  التحقت ماردر بقسم الدراسات العليا عام ١٩٦٩، في زمن شاع فيه التحاق النساء بمثل هذه البرامج، ومع ذلك كانت العقبات لا تزال موجودة. وقد سردت في سيرتها الذاتية ما يلي: «كنت أعلم أنه من غير المحتمل أن ألتحق بقسم علم الأحياء في جامعة ستانفورد؛ وذلك لأنه أشيع أنهم يضعون حدًّا لعدد النساء اللاتي يلتحقن (٢ من ١٢)».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤