الشاعر الحكيم أبو الطيب المتنبي

فلسفة المتنبي في الميزان

للمتنبي منذ هتفت باسمه الأيام أنصار وخصوم:

وأنصار المتنبي يصفونه بالفلسفة مدحًا له وتنويهًا برفعة شأنه. أما خصوم المتنبي فيقولون: هو فيلسوف في مقام الذم له والغض من مكانته.

المتنبي فيلسوف عند خصومه؛ لأن له شعرًا يدل على ضعف العقيدة وفساد المذهب في الديانة مثل:

يترشفن من فمي رشفات
هن فيه أحلى من التوحيد

وقوله:

ونصفي الذي يكنى أبا الحسن الهوى
ونرضى الذي يسمي الإله ولا يكني
ويقول صاحب الوساطة بين المتنبي وخصومه:١ «والعجب ممن ينتقص أبا الطيب ويغض من شعره لأبيات وجدها تدل على ضعف العقيدة، وفساد المذهب في الديانة كقوله:
يترشفن من فمي رشفات
هن فيه أحلى من التوحيد

وهو يحتمل لأبي نواس قوله:

قلت والكأس على
كفي تهوي لالتثامي
أنا لا أعرف ذا
ك اليوم في ذاك الزحام

وقوله:

يا عاذلي في الدهر ذا هجر
لا قدر صح ولا جبر
ما صح عندي من جميع الذي
يذكر إلا لموت والقبر
فاشرب على الدهر وأيامه
فإنما يهلكنا الدهر»

والمتنبي فيلسوف عند خصومه لما يستعمل في شعره من ألفاظ المناطقة والفلاسفة والمتصوفة والمتكلمين، مثل قوله في وصف فرس: «سبوح لها منها عليها شواهد»، وقوله:

إذا ما الكأس أرعشت اليدين
صحوت فلم تحل بيني وبيني

هذا من استعمال كلمات الصوفية المعقدة ومعانيهم المغلقة، ومثل قوله في استعمال ألفاظ المناطقة:

ولقد رمت بالسعادة بعضًا
من نفوس العدى فأدركت كلا

وقوله:

شفاك الذي يشفي بجودك خلقه
فإنك بحر كل بحر له بعض

وقد استعمل المتنبي كلمات الفلاسفة في أبيات منها:

يفنى الكلام ولا يحيط بفضلكم
أيحيط ما يفنى بما لا ينفد

ومنها:

فلم ندع منها سوى المحال
في لا مكان عند لا منال

وأورد المتنبي في شعره أسماء أرسطاليس وبطليموس وجالينوس وبقراط، وأشار إلى مذهب المانوية، وإلى مذهب السوفسطائية، ومذهب التناسخ، وإلى مذاهب الشيعة وغلاتهم مثل قوله:

وغيث ظننا تحته أن عامرًا
علا لم يمت أو في السحاب له قبر

وذكر ابن نباتة في شرح رسالة ابن زيدون أن له أشعارًا لم تدخل في ديوانه مثل قوله:

وتركت مدحي للوصي تعمدًا
إذ كان نورًا مستطيلًا شاملا
وإذا استطال الشيء قام بنفسه
وصفات نور الشمس تذهب باطلا

قال: «وهو شبيه بنفسه.»

ومن آيات فلسفة المتنبي عند خصومه أنه يعمد إلى العويص من المعاني خروجًا عن طريق الشعراء إلى مذاهب الفلاسفة في مثل قوله:

ولجدت حتى كدت تبخل حائلًا
للمنتهى ومن السرور بكاء

وقوله:

خلقت صفاتك في العيون كلامه
كالخط يملأ مسمعي من أبصرا

ومما يحسن أن نشير إليه في هذا المقام أن من خصوم المتنبي من حاول أن يرد المعاني الجيدة في شعره إلى من سبقه من الشعراء، وأن يرد حكمه وأمثاله إلى كلمات لأرسططاليس؛ ليخرج أبا الطيب من زمرة الشعراء ومن زمرة الفلاسفة معًا.

•••

أما أنصار المتنبي فيقول قائلهم:
ووجدنا أبا الطيب أحمد بن الحسين قد أتى في شعره بأغراض فلسفية ومعان منطقية، فإن كان ذلك منه عن فحص ونظر وبحث فقد أغرق في درس العلوم؛ وإن يك ذلك منه على سبيل الاتفاق فقد زاد على الفلاسفة بالإيجاز والبلاغة والألفاظ الغريبة، وهو في الحالتين على غاية الفضل وسبيل نهاية من النبل، وقد أوردت من ذلك ما يستدل به على فضله في نفسه وفضل علمه وأدبه وإغراقه في طلب الحكمة مما أتى في شعره موافقًا لقول أرسططاليس في حكمته.٢

هذا كلام الحاتمي خصم المتنبي عندما أراد أن يرجع في خصومته إلى العدل، وقد جمع في رسالته مائة موضع وافق فيها أبو الطيب أقاويل المعلم الأول.

وفي بعض هذه المواضع تكلف ظاهر في الوصل بين قول الشاعر وقول الفيلسوف نورد منه أمثالًا:

قال أرسطو: من صحة السياسة أن يكون الإنسان مع الأيام كلما أظهرت سنة عمل فيها بحسب السياسة.

وقال المتنبي:

كلما أنبت الزمان قناة
ركب المرء في القناة سنانًا

وقال أرسطو: من جعل الفكرة في موضع البديهة فقد أضر بخاطره، وكذلك من جعل البديهة في موضع الفكرة.

وقال أبو الطيب:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلى
مضر كوضع السيف في موضع الندى
ومن المحدثين محمد كمال حلمي بك الذي يقول: «إذا كانت الفلسفة كما يقول المشتغلون بها نظرية وعملية، فإن أبا الطيب لم يحرز قصب السبق في الأولى، ولكنه كان في الثانية أصدق نظرًا وأبقى أثرًا: دقيق النظر، كثير الاستنتاج، ماهر في التوليد، غزير المادة في ضرب الأمثال وقياس الأشباه بالأشباه، وهو فوق ذلك من أكبر الوصافين. فلا غرو أن أجاد في تصوير الحالات النفسية ومظاهر الأخلاق وتقريب المعاني البعيدة إلى متناول الناس أجمعين.»٣
ويقول في موطن آخر:
وقد آن لي أن أستخلص من آراء أبي الطيب وأفكاره حكمًا إجماليًّا في تقدير فلسفته، وينبغي بادئ ذي بدء أن أقول: إن صاحبنا لم يكن فيلسوفًا نظريًّا كابن سينا مثلًا، ولا خلقيًّا كابن حزم، ولا مؤدبًا صوفيًّا كالغزالي. فمن هذه الناحية لا يصح أن يقارن بهم، فمقام فلسفتهم ليس في متناول الشعراء ولا ينبغي لهم ولا يستطيعون، وغاية ما يقال عن شاعرنا: أنه مفكر له آراء لا نقطع بأنها ثمرة نظره ونتيجة تحقيقه، كما لا ندعي أنه استعارها من غيره، فإن صح إطلاق الفلسفة على مجموعة من الأفكار، فأبو الطيب جدير بأن يتسمى فيلسوفًا؛ لأن مجموعة أفكاره حافلة مستفيضة، ويمكن للناقد أن يجد لها انسجامًا وارتباطًا بين أجزائها، وقد تناول فيها البحث بإشارات موجزة عن مسائل شتى تتعلق بالحياة، وخطة السير فيها وتقدير خلق الناس، ومعاملتهم على مقتضى خلقهم.٤
أما الأستاذ عباس محمود العقاد فيقول:

والمتنبي على وجه خاص أولى من عامة شعرائنا (ما عدا المعري) بالنصيب الأوفى في عالم المذاهب والآراء؛ لأن الحقائق المطبوعة لا تكاد تقر في نفسه حتى يرسلها إلى ذهنه ويكسوها ثيابًا من نسجه. ويغلب أن يوردها بعد ذلك مقرونة بأسبابها، معززة بحججها، على نمط لا يفرق بينه وبين أسلوب الفلاسفة في التدليل إلا طابع السليقة وحرارة العاطفة. فتأمل في قوله:

إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير
كطعم الموت في أمر عظيم

أو قوله:

إذا أتت الإساءة من لئيم
ولم ألُم المسيء فمن ألوم

أو قوله:

ألف هذا الهواء أوقع في الأنفـ
ـس أن الحمام مر المذاق
والأسى قبل فرقة الروح عجز
والأسى لا يكون بعد الفراق٥
ويقول أيضًا:
فزوى وجهه عن مباحث ما وراء الطبيعة وأبعدها إلى مؤخرة فكره … كلا ليس للمتنبي صبر على هذه الفلسفات … إنما هو فيلسوف الحياة سننها وصروفها، وليس فيلسوف الحياة مصادرها ومصائرها.٦
ويقول الأستاذ في إجمال ما فصله من مذهب المتنبي في غاية الحياة وأصل الأخلاق والفضائل:
فالسيادة هي غاية الحياة، والقوة هي أصل الأخلاق والفضائل والمحور الذي تدور عليه المحامد والمناقب. وهو يحيط بأمور كثيرة في شعره، ولكنه يطبعها جميعًا بهذا الطابع ويردها بلا استثناء إلى مقياسه هذا الذي لا يتغير في قصيدة عن قصيدة ولا في بيت عن بيت، ولا يسع أحدًا بعد الأبيات المطردة والأمثلة المتواترة التي سقنا بعضها هنا، والتي لم تأتِ عفوًا ولا فلتة ولا انتحالًا، إلا أن يذكر نظائرها من فلسفة فريدريك نيتشه نبي دين القوة في العصر الحديث.٧
ويرى الأستاذ شفيق جبري «أن المتنبي إذا خلد، فإن الذي يخلده إنما هي تلك الحكم الرائعة التي استفاضت في شعره، فاستشهد الناس بها بحسب ما يقتضيه مقام الاستشهاد: فكأن أبا الطيب لسان حال البشر بأجمعه، فقد يقذف المتنبي في بيت أو فى بيتين مذهبًا فلسفيًّا أو علميًّا يشتغل به المفكرون كل حياتهم … قد تكثر هذه النظرات الفلسفية في شعر المتنبي؛ ولكني أمر بها كما مر بها أبو الطيب نفسه؛ لأنها لا تؤلف الفلسفة التي أريد الكلام عليها، أي: لا تؤلف فلسفة المتنبي وإنما هي خطرات قد يجوز أن يكون اقتبسها من الكتب المترجمة، أو دله عليها عقله الكبير فلم يتوسع فيها؛ وإنما الذي توسع فيه النظر في الحياة وأخلاق أصحاب هذه الحياة … فكأن الحياة قد عرضت عليه صورها المختلفة وأشكالها المتباينة، فاستنبط من خيرها وشرها ومن حلاوتها ومرارتها، ومن كرمها ولؤمها أمثالًا قذفها في أبيات وأنصاف أبيات، فالرجل قد جرب كثيرًا حتى أحكمته التجاريب، وتغلغل في بواطن القلوب فأعطته مقاليد أسرارها، فلا يكاد يحدث حادث في هذه الحياة إلا ونجد في شعر أبي الطيب ما يمثل هذا الحادث، فما أقرب الحكمة من طرف لسانه، وما أجراها على شق قلمه، والحكمة إذا كانت بنت التجاريب، كانت أعلق بالأذهان وأسير في الأيام؛ والمتنبي ابن التجاريب.»٨
وللأستاذ محمود محمد شاكر رأي في فلسفة المتنبي فهو يقول:

ونحن لا ننفي عن أبي الطيب التأثر بالفلسفة وغيرها مما يداخلها أو تداخله على مذهب الأوائل، وكيف يكون ذلك والدنيا يومئذ موج متلاطم بالجدل والخصام، والعلماء يومئذ كثيرون، وأصحاب المذاهب الغريبة متوافرون، وأصحاب الجدل مغرمون بإقامة الشبهة وردها بالحجة والبرهان العقلي، والكتب المخلفة كثيرة لم تذهب بعد، وهي كتب نشأ منها بعد علم الكلام الذي اختلطت به الفلسفة وصارت أصلًا من أصوله؛ والمساجد لذلك العهد كانت عامرة بالصخب الذي لا يجدي ولا ينفع في أصول الدين وعقائده، فلسنا نشك بعد أن هذا الفتى المتوقد، الذي قال عنه كثير ممن رأوه إنه كان واسع العلم والمعرفة قد اختلط وسمع وبحث ونظر وجادل، وأخذ بأطراف مما سمع وقرأ وحفظ، حتى بان ذلك في شعره الأول بيانًا لا خفاء فيه، وقل بعد أن استحكمت قوته، وغلب عليه الأصل الشعري الذي استولى على أكثر موهبته وقدرته.

إلى أن قال:

وقد كان في هذا القسم من شعره يلجأ إلى الأساليب الفلسفية في استخراج المعاني وتوليدها، وكان يكثر من التقسيم الفلسفي والتوجيه المنطقي وغيره من ألوان كلام المتفلسفة والمتكلمة والمتزندقة أيضًا، حتى فسدت معاني شعره؛ فلذلك كان أكثر ما تجد من ساقطه ومرذوله مما عابه عليه النقاد، وخاصمه به المتعصبون عليه هو من هذا القسم الذي قاله في صباه إلى أطراف سنة ٣٢٨ على وجه التقريب لا التحقيق.

هذه خلاصة آراء المتقدمين والمحدثين في فلسفة المتنبي، ولا يتسع المقام للبحث فيها والموازنة بينها.

وإذا كان أنصار المتنبي وخصومه يكادون يتفقون على أنه فيلسوف؛ فهل كان المتنبي يرى نفسه فيلسوفًا كما كان يرى نفسه الشاعر الفرد؟ جاء في كتاب الصبح المنبي:
وسئل أبو الطيب عنه [البحتري] وعن أبي تمام وعن نفسه، فقال: أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري.٩

وعجيب أن يعترف المتنبي بالسبق لشاعر، وهو الذي ملأ الدنيا بشعره فخارًا فهو يقول:

وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمرًا
وغنى به من لا يغني مغردا
أجزني إذا أنشدت شعرًا فإنما
بشعري أتاك المادحون مرددا
ودع كل صوت بعد صوتي فإنني
أنا الصائح المحكي والآخر الصدا

ويقول:

وعندي لك الشرد السائرا
ت لا يختصصن من الأرض دارا
قواف إذا سرن من مقولي
وثبن الجبال وخضن البحارا
ولي فيك ما لم يقل قائل
وما لم يسر قمر حيث سارا

ولم نجد شعرًا للمتنبي وصف فيه نفسه بالفلسفة أو الحكمة على كثرة ما تغنى بمديح نفسه؛ بل إننا لم نجد الوصف بالحكمة والفلسفة في مدائح المتنبي إلا قوله:

عربي لسانه، فلسفي
رأيه، فارسية أعياده

وقوله:

تفكره علم ومنطقه حكم
وباطنه دين وظاهره ظرف

وقوله:

من مبلغ الأعراب أني بعدها
جالست رسطاليس والإسكندرا
وسمعت بطليموس دارس كتبه
متملكًا متبديًا متحضرا

ولا يدل ذلك على أن المتنبي لم يكن يعرف للفلسفة قدرها؛ فقد يكون تجنبه ذكرها في بلاد الحمدانيين؛ لأن الفلسفة كانت لا تزال معتبرة في ذلك الوسط العربي علمًا من علوم الأوائل الأعاجم، غير إسلامي ولا عربي.

مصادر فلسفته

قلنا: إن أنصار المتنبي وخصومه متفقون على أنه فيلسوف، وقد حاول بعض الباحثين في القديم والحديث أن يردوا فلسفة المتنبي إلى أصولها، وأن يتعرفوا العوامل التي أثرت في المتنبي تأثيرًا فلسفيًّا. وذكر البغدادي أن المتنبي «كان في صغره وقع إلى واحد يكنى أبا الفضل بالكوفة من المتفلسفة، فهوَّسه وأضلَّه كما ضل.»١٠
وقد عرض لهذه الرواية الأستاذ محمود محمد شاكر، فقال:

والظن عندنا أنه لقي أبا الفضل هذا، وكان يدعي الفلسفة ويتبجح بذكرها، ويظن بنفسه العلم به ويعرض نفسه لقراءة درس فيها، وكان في ذلك أضحوكة يعجب منها ويتفكه بها، وكانت صورته في ذلك كله تستقصي الضحك وتستخرجه، فقال له أبو الطيب هذه القصيدة تندرًا به وعبثًا وسخرية … والعجب للأصفهاني صاحب إيضاح المشكل الذي مر في أول كلامنا ذكره أن يزعم أن معتوهًا كأبي الفضل هذا النكرة قد هوس أبا الطيب وأضله كما ضل، فمن كان في بديهة المتنبي وذكائه وتوقده لا يلعب به رجل مغمور غير مذكور كهذا الذي ذكروه، وظاهر أمر الأصفهاني أو من قال له ذلك، أنه وقع إليه خبر أبي الطيب وتندره بأبي الفضل هذا الدعي على الفلسفة، فقلب الخبر من معنى الهزل إلى معنى الجد، ونسب إلى المتنبي الأخذ عنه والاقتداء بسخفه وهذيانه، فلولا جاءوا بشيخ مذكور من شيوخ الفلسفة وادعوا ذلك فيما ادعوا على الرجل.

وقد أشرنا من قبل إلى أن الحاتمي جمع في رسالته مائة موضع وافق أبو الطيب فيها أرسطو؛ وذلك يدل على أن أبا الطيب متأثر بفلسفة أرسطو. ولا شك أن أثر الفلسفة الأرسطاطاليسية قد وصل إلى المتنبي كما وصل إلى جمهرة المفكرين المثقفين في عصر المتنبي ومن قبله ومن بعده.

على أن كل المترجمين للمتنبي والباحثين في فلسفته قد أغفلوا رجلًا لعله صاحب الأثر الأكبر في فلسفة المتنبي: ذلك الرجل هو أبو نصر الفارابي.

اتصل الفارابي بسيف الدولة حين ملك سيف الدولة حلب سنة ٣٣٣، وبسط حمايته على العلم والأدب، وقد عاش الفارابي منذ ذلك الحين في كنف سيف الدولة، منقطعًا إلى التعليم والتأليف، غير منقطع عن الأسفار التي كان بها مغرمًا، وقد عظم شأن الفارابي في كنف سيف الدولة وظهر فضله، واشتهرت تصانيفه، وكثرت تلاميذه، وتوفي الفارابي سنة ٣٣٩ وصلى عليه سيف الدولة في أربعة أو خمسة عشر من خواصه.

وقد دخل أبو الطيب المتنبي في خدمة سيف الدولة سنة ٣٣٧، وبقي في ظل سيف الدولة إلى سنة ٣٤٦، فالمتنبي عاشر الفارابي في حمى سيف الدولة مدة سنتين، ولا بد أن يكون حضر مجالسه وطالع كتبه، ولا بد أن يكون صدى فلسفة الفارابي قرع سمع المتنبي قبل ذلك ولاحظنا أن فيما يرويه المؤرخون من روايات وأساطير في شأن الفارابي والمتنبي تشابهًا يؤدي إلى الخلط أحيانًا. ذكر المؤرخون وفاة أبي نصر على أنه مات بدمشق موتًا طبيعيًّا؛ لكن البيهقي روى عن موت الفارابي رواية هذا نصها:
وقد سمعت أستاذي — رحمه الله — يقول: إن أبا نصر كان يرتحل من دمشق إلى عسقلان، فاستقبله جماعة من اللصوص الذين يقال لهم: الفتيان، فقال لهم أبو نصر: خذوا ما معي من الدواب والأسلحة والثياب وأخلوا سبيلي، فأبوا ذلك وهموا بقتله، فلما صار أبو نصر مضطرًّا، ترجل وحارب حتى قتل ومن معه، ووقعت هذه المصيبة في أفئدة أمراء الشام موقعًا، فطلبوا اللصوص ودفنوا أبا نصر، وصلبوهم على جذوع عند قبره.١١

أليست هذه الرواية — وهي من الأساطير — شبيهة بما رواه المؤرخون عن مقتل المتنبي؟

وقد حكى ابن خلكان حكاية ورود أبي نصر على سيف الدولة، وفيها أنه لما قال له سيف الدولة: «اجلس حيث أنت»، تخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى مسند سيف الدولة، وزاحمه فيه حتى أخرجه عنه … إلى آخر القصة، وفي ذلك بعض الشبه بما يروون من الشروط التي اشترطها أبو الطيب لمصاحبة سيف الدولة.

وإذا جئنا إلى ما يدور في شعر أبي الطيب من المعاني الفلسفية وجدنا لذلك أصولًا فيما وصل إلينا من كتب الفارابي، وتقصي كل ذلك أو أكثره ليس مما تحتمله هذه الفرصة؛ على أني أضرب لذلك الأمثال:

يكثر المتنبي من القول في الطبع وأنه يعسر تغييره أو يتعذر فيقول: «وتأبى الطباع على الناقل»؛ ويقول:

أبلغ ما يطلب النجاح به الطبـ
ـع وعند التعمق الزلل

وقد أثار الفارابي في كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين مسألة الخلاف بين أرسطو وأفلاطون في أن الأخلاق كلها عادات تتغير، وأنه لا شيء منها بالطبع، وأن الإنسان يمكنه أن ينتقل من كل واحد منها إلى غيره بالاعتياد والدربة، كما جاء في كلام أرسطو، أو أن الطبع يغلب العادة كما ذكر أفلاطون في كتاب السياسة.

ويقول المتنبي:

قضاء من الله العلي أراده
ألا ربما كانت إرادته شرا
ويقول الفارابي:
وكل كائن فبقضائه وقدره والشرور أيضًا بقدره وقضائه.١٢

ورويت للفارابي أشعار يجري فيها من المعاني مثل ما يجري في شعر المتنبي.

وأحسب أن ما أورده الحاتمي في رسالته من الأقاويل المنسوبة إلى أرسطو التي وافقها المتنبي قد يكون معظمها من كلام الفارابي، فإن الحاتمي لم يبين لنا مواقعها من كتب أرسطو، وإذا لم تكن من كلام الفارابي فقد تكون وصلت إلى المتنبي من كتب الفارابي؛ فقد ذكر المؤرخون أن له كتابًا اسمه «فصول مجموعة من كلام القدماء»، وهو لم يصل إلينا بعد.

ويقول كارا دو فو في كتابه «مفكرو الإسلام»:
لم يسترعِ انتباهي عندما ذكرت الفارابي في كتابي في ابن سينا بضع صفحات توجد في رسالة أهل المدينة الفاضلة، على أن تلك الصفحات جديرة بأن تسترعي النظر، وليست هي تلك التي يصف فيها الفارابي المدينة الكاملة؛ بل هي في فصل يحاول فيه الفارابي أن يصف المدن الناقصة، في ذلك الفصل آراء في عمل القهر والقوة في الجماعة وفي التدافع من أجل الحياة وفي الحقد مبسوطة في كثير من القوة حتى نتدانى على وجه عجيب بعض أفكار الفيلسوف نيتشه الحديثة جدًّا.١٣
والآراء التي يشير إليها كارا دو فو هي ما جاءت في كتاب الفارابي «آراء أهل المدينة الفاضلة»، ونصه:

والمدن الجاهلة والضالة إنما تحدث متى كانت الملة مبنية على بعض الآراء القديمة الفاسدة. منها أن قومًا قالوا: إنا نرى الموجودات التي نشاهدها متضادة، وكل واحد منها يلتمس إبطال الآخر، ونرى كل واحد منها إذا حصل موجودًا، أعطى مع وجوده شيئًا يحفظ به وجوده من البطلان، وشيئًا يدفع به عن ذاته فعل ضده، ويجوز به ذاته عن ضده، وشيئًا يبطل به ضده ويفعل به جسمًا شبيهًا به في النوع، وشيئًا يقتدر به على أن يستخدم سائر الأشياء فيما هو نافع في أفضل وجوده وفي دوام وجوده.

وفي كثير منها جعل له ما يقهر به كل ما يمتنع عليه، وجعل كل ضد من كل ضد ومن كل ما سواه بهذه الحال؛ حتى تخيل لنا أن كل واحد منها هو الذي قصدوا أن يجاز له وحده أفضل الوجود دون غيره؛ فلذلك جعل له كل ما يبطل به كل ما كان ضارًّا له وغير نافع له، وجعل له ما يستخدم به ما ينفعه في وجوده الأفضل. فإنا نرى كثيرًا من الحيوان يثب على كثير من باقيها فيلتمس إفسادها وإبطالها، من غير أن ينتفع بشيء من ذلك نفعًا: يظهر كأنه قد طبع على أن لا يكون موجود في العالم غيره، أو أن وجود كل ما سواه ضار له، على أن يجعل وجود غيره ضارًّا له، وإن لم يكن منه شيء آخر على أنه موجود فقط، ثم إن كل واحد منهما إن لم يرم ذلك التمس أن يستعبد غيره فيما ينفعه، وجعل كل نوع من كل نوع بهذه الحال، وفي كثير منها جعل كل شخص من كل شخص في نوعه بهذه الحال. ثم جعلت هذه الموجودات أن تتغالب وتتهارب، فالأقهر منها لما سواه يكون أتم وجودًا. والغالب أبدًا إما أن يبطل بعضًا؛ لأن في طباعه أن وجود ذلك الشيء نقص ومضرة في وجوده هو؛ وإما أن يستخدم بعضًا ويستعبده؛ لأنه يرى في ذلك الشيء أن وجوده لأجله هو …

فقال قوم بعد ذلك: إن هذه الحال طبيعة الموجودات، وهذه فطرتها والتي تفعلها الأجسام الطبيعية بطبائعها هي التي ينبغي أن تفعلها الحيوانات المختارة باختياراتها، والمروية برويتها … وإن الإنسان الأقهر لكل ما يناويه هو الأسعد …١٤

وإذا لاحظنا ما تنبه له كارا دو فو من صلة التشابه بين بعض ما أورده الفارابي في كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة وبين مذاهب نيتشه في العصور الحديثة، ثم لاحظنا ما تنبه له الأستاذ عباس العقاد من صلة التشابه بين آراء المتنبي وآراء نيتشه، تبين من ذلك ما يؤيد ما نذهب إليه من أثر الفارابي وفلسفته في المتنبي وشعره.

وما أريد إلا أن أوجه الأنظار إلى البحث في الصلة بين فلسفة الفارابي وفلسفة المتنبي، ويبدو لي بادئ الرأي أن المتنبي في مذاهبه الفلسفية متأثر بنزعات القرامطة في اعتبار الغلبة والسيادة مطمح الحياة، وفي طبيعة المتنبي استعداد لقبول هذه المبادئ، وقد استطاعت فلسفة الفارابي أن تؤثر في تفكير المتنبي وفي مذاهبه الخلقية؛ ولكنها لم تستطع أن تنزع من نفسه حب الغلبة وحب المال الذي يراهما الفارابي من دأب أهل الجاهلية، حيث يقول في كتاب السياسات المدنية بصدد الغلبة: «وههنا شيء آخر محبوب جدًّا عند كثير من أهل الجاهلية وهو الغلبة، فإن الفائز بها عند كثير منهم مغبوط…»؛١٥ ويقول في نفس الكتاب بصدد المال: «ومدينة النذالة واجتماع أهل النذالة هو الذي يتعاون على نيل الثروة واليسار … وأفضل هؤلاء عندهم أيسرهم، وأجودهم احتيالًا في بلوغ اليسار …»١٦

وجملة القول أن المتنبي سليل الفارابي في فسلفته.

ولئن كان أبو نصر غير متبرم بالحياة ولا سيئ الظن بالبشر، فقد كانت تجد له في ساعات الوحدة والعزلة والغربة نزوات من الضجر يفيض بها لسانه فيقول:

لما رأيت الزمان نكسا
وليس في الصحبة انتفاع
كل رئيس به ملال
وكل رأس به صداع
لزمت بيتي وصنت عرضا
له من العزة امتناع

أما المتنبي فقد كان متبرمًا بالناس وبالأيام، ولم يكن من أهل القناعة، بل كان من أهل الطموح والغلبة؛ فهو يقذف في زفراته بالشرر في وجوه البشر:

ومن عرف الأيام معرفتي بها
وبالناس روى رمحه غير نادم

ولم يكن المتنبي من أهل التردد بحكم طموحه واندفاعه؛ لكن تتابع الهزائم والفشل كان يميل به في بعض أوقاته إلى الشك أو ما يشبه الشك فيقول:

وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى
ولا الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا
وإذا كان حقًّا على الباحثين في فلسفة المتنبي أن يذكروا صلتها بفلسفة الفارابي، فمن الحق عليهم أيضًا أن يكشفوا عن أثرها في فلسفة أبي العلاء المعري. فإن أبا العلاء المعري مدين في كثير من اتجاهاته الفلسفية لشعر أبي الطيب المتنبي؛ فقد كان أبو العلاء يجل أبا الطيب كل الإجلال، وفي كتاب الصحيح المنبي ما نصه: «قيل: كان أبو العلاء المعري إذا ذكر الشعراء يقول: قال أبو نواس كذا، قال البحتري كذا، قال أبو تمام كذا، فإذا أراد المتنبي قال: قال الشاعر كذا، تعظيمًا له.»١٧

وقد جمع أبو العلاء في فلسفته بين قناعة الفارابي وتبرم المتنبي، وأربى في الشك على كل شاك، فالمعري إذن سليل الفلسفتين.

والأدب العربي فيما نعلم لم ينتج غير المتنبي وغير المعري شاعرًا فيلسوفًا، ومن فضل المتنبي على الفلسفة أنه بثها في الشعر يوم كانت تلتمس لها منفذًا إلى العقول والقلوب في تقية وفي وجل، ولعل شعر المتنبي كان من أسباب عناية الكُتاب والشعراء بالدراسات الفلسفية استكمالًا لفنهم وطمعًا في اللحاق بذلك الشاعر الفيلسوف الذي شغلت به الألسن وسهرت في شعره العيون.

هوامش

(١) ص٦١.
(٢) الرسالة الحاتمية فيما وافق المتنبي في شعره كلام أرسطو في الحكمة للحاتمي طبعة بيروت ص٢٣.
(٣) أبو الطيب المتنبي: حياته وخلقه وشعره وأسلوبه ص٢٣٢.
(٤) المرجع السابق ص٢٥٢.
(٥) عباس محمود العقاد: ساعات بين الكتب ص١٤٥، ١٤٦.
(٦) المرجع السابق ص١٤٧.
(٧) المرجع السابق ص١٥٥.
(٨) شفيق جبري: المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس ص١٦٨، ١٧٤.
(٩) الصبح المنبي ص١٠٢.
(١٠) خزانة الأدب الكبرى ج١ ص٣٨٢، ٣٨٩.
(١١) «تاريخ حكماء الإسلام» نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية.
(١٢) عيون المسائل للفارابي ص١٨.
(١٣) مفكرو الإسلام لكارا دو فو جزء ٤ ص١٢.
(١٤) آراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي ص١٠٦–١٠٨.
(١٥) السياسات المدنية للفارابي ص٦٠.
(١٦) نفس المرجع ص٥٩.
(١٧) الصبح المنبي ص٣٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤