شيخ المجددين في الإسلام ابن تيمية الفيلسوف

سجين القلعة

في أواخر سنة ٧٢٨ﻫ كان في قلعة دمشق إمام من أئمة المسلمين، شيخ جاوز السابعة والستين من عمره، يعاني ألم الاعتقال والسجن، وحيدًا ليس معه إلا أخ له يقوم بخدمته، وكان الشيخ يقاسي فوق ألم السجن ألمًا آخر هو على نفسه أشد وقعًا: فقد منع من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ما عنده من الكتب، ولم يتركوا له دواةً ولا قلمًا ولا ورقًا. وكتب عقيب ذلك بفحم، يقول: إن إخراج الكتب من عنده من أعظم النقم، وبقي أشهرًا على ذلك مقبلًا على التلاوة والعبادة، وذكر أخوه أنه ختم هو والشيخ منذ دخلا القلعة ثمانين ختمة، وشرعا في الحادية والثمانين، وانتهيا إلى قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ. ثم مرض الشيخ بضعة وعشرين يومًا، ولم يعلم أكثر الناس بمرضه فلم يفجأهم إلا موته، ذكره مؤذن القلعة على منارة الجامع، وتكلم به الحرس على الأبرجة، فأسف الخلق عليه، وحضر جمع كثير إلى القلعة، فأذن لهم في الدخول، وجلس جماعة عنده قبل الغسل، وقرأوا القرآن وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثم انصرفوا وحضر جماعة من النساء ففعلن مثل ذلك ثم انصرفن.

توفي الشيخ سحر ليلة عشرين من ذي القعدة، ودفن وقت العصر أو قبله بيسير، وصُلي عليه بجامع دمشق، وصار يضرب بكثرة من حضر جنازته المثل، وأقل ما قيل في عددهم أنهم خمسون ألفًا، وفي كتاب فوات الوفيات:

وحضرها من الرجال والنساء أكثر من مائتي ألف، وشرب جماعة الماء الذي فضل من غسله، واقتسم جماعة بقية السدر الذي غُسل به، وقيل: إن الطاقية التي كانت على رأسه دفع فيها نحو خمسمائة درهم، وقيل: إن الخيط الذي كان فيه الزئبق الذي كان في عنقه لأجل القمل دفع فيه مائة وخمسون درهمًا. وحصل في الجنازة ضجيج وبكاء عظيم، وتضرع كثير.

ورثاه جماعة، منهم زين الدين عمر بن الوردي المتوفى سنة ٧٤٩ﻫ، الذي قال يخاطب تلك الجماعات المحتشدة حول نعش الإمام، تلقى عليه مناديلها وعمائمها للتبرك:

ألم يك فيكمو رجل رشيد
يرى سجن الإمام فيُستشاط
ثم يعتذر ابن الوردي عن نصيبه من التقصير في حق شيخ مظلوم، يذكر هو أنه اجتمع به بدمشق سنة ٧١٥ﻫ بمسجده بالقصاعين، ويقول:

وبحثت بين يديه في فقه وتفسير ونحو، فأعجبه كلامي وقبَّل وجهي، وإني لأرجو بركة ذلك.

يعتذر ابن الوردي بخوف الشر؛ ولعل الألوف المؤلفة التي تزاحمت حول سرير السجين بعد موته، كانت كلها تعتذر من تقصيرها في مدافعة الظلم بعذر ابن الوردي.

يقول الشاعر المؤرخ في رثائه لأستاذه:

وسجن الشيخ لا يرضاه مثلي
ففيه لقدر مثلكم انحطاط
أما والله لولا كتم سري
وخوف الشر لانحل الرباط
وكنت أقول ما عندي ولكن
بأهل العلم ما حسن اشتطاط
فما أحد إلى الإنصاف يدعو
وكل في هواه له انخراط
سيظهر قصدكم يا حابسيه
وننبئكم إذا نصب الصراط
فها هو مات عنكم واسترحتم
فعاطوا ما أردتم أن تعاطوا
وحلوا واعقدوا من غير رد
عليكم وانطوى ذاك البساط

هذه الصورة التي ترينا شيخ الإسلام تقي الدين أبا العباس أحمد بن تيمية سجينًا في قلعة دمشق نحو عامين لاتهامه في دينه من غير أن يرتفع صوته بالتوجع لشيخوخته المعذبة، أو بالإنكار على الظالمين، ثم ترينا فزع الناس حين فجأهم نعيه وتزاحمهم حول نعشه يصيحون بالبكاء ويلتمسون البركات، هذه الصورة هي أصدق مثال لاضطراب الأخلاق والعواطف في ذلك العصر المضطرب، عصر الحروب الصليبية في عواقبها، والغارات التترية في عنفوانها، عصر دولة المماليك البحرية في مصر والشام التي ابتدأ عهدها في منتصف القرن السابع الهجري.

نشأ أبو العباس أحمد بن تيمية في هذا العصر القلق ولقيته المحن منذ طفولته.

سيرته وفتاواه

ولد في حرَّان غير بعيد من دمشق عاشر ربيع الأول سنة ٦٦١ﻫ / ٢٢ يناير سنة ١٢٦٣ في بيت علم ودين. فأبوه شهاب الدين أبو أحمد عبد الحليم بن تيمية يقول فيه الذهبي: «وكان إمامًا محققًا كثير الفنون وتوفي سنة ٦٨٢»، وجده شيخ الإسلام مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن تيمية أحد الحفاظ الأعلام، قال الذهبي: «كان معدوم النظير في زمانه رأسًا في الفقه وأصوله، وصنف التصانيف، واشتهر اسمه وبعد صيته»، وقال ابن رجب في طبقاته: «كان المجد يفتي أحيانًا أن الطلاق الثلاث المجموعات إنما يقع منها واحدة فقط.»

توفي مجد الدين سنة ٦٥٢، وتوفيت ابنة عمه زوجته بدره المكناة بأم البدر قبله بيوم واحد، وكانت من رواة الحديث. وفي بني تيمية غير أم البدر نساء محدثات.

وفي سنة ٦٦٧ هاجر والد تقي الدين بن تيمية بجميع أهله إلى دمشق فرارًا من جوار التتر، وقد خرجوا بليل وكانت كل ثروة هذه الأسرة المهاجرة محمولة معها على عجلة لعدم الدواب، وهي كتب كثيرة يشترك في الحرص عليها النساء والرجال.

وثقل الحمل على العجلة فغرزت في الرمل، وخاف القوم على زخرهم في الحياة أن يتبدد، فما زالوا يجاهدون حتى وصلوا إلى دمشق بكتبهم سالمين.

وفي دمشق تلقى ابن تيمية فنون العلم عن أبيه وغيره، ومن أساتذته زينب بنت مكي.

وكان يتوقد ذكاء وسمع من الحديث أكثره، وشيوخه أكثر من مائتي شيخ.

وأمده الله بكثرة الكتب وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم، وبطء النسيان.

وكانت لا تكاد نفسه تتشبع من العلم، ولا تروى من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال، ولا تكل من البحث.

وجرى منذ شبابه على طريقة واحدة من الزهد في المأكل والملبس ولم يتزوج ولم يتسر.

ولما توفي والده سنة ٦٨١، وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم، قام مقامه مرة في تدريس الفقه على مذهب الإمام أحمد وفي تفسير القرآن وحج في سنة ٦٩١.

وفي سنة ٦٩٨ أملى جواب سؤال ورد من حماه في آيات الصفات كقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ، وفي أحاديث الصفات أيضًا كقوله : «إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن».

وفي هذا الجواب — وهو الرسالة المطبوعة من الجزء الأول من مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية بعنوان «العقيدة المجموعية الكبرى» — يرد ابن تيمية على المتكلمين مذاهبهم في الصفات بعد بسطها ردًّا لا يخلو من عنف ثم يقول:

والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، ويختص به. فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير ونحو ذلك، ولا يجوز أن نثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقدرهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرض، ولا نثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق ولوازمها، واعلم أنه ليس في العقل الصريح ولا في النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلًا.

وقد قام جماعة من الفقهاء على ابن تيمية بسبب هذه الفتوى وبحثوا معه، ومنع من الكلام، ثم حضر مع القاضي إمام الدين القزويني فانتصر له، وقال هو وأخوه جلال الدين: «من قال عن الشيخ.»

استراح الشيخ بعد ذلك من الفتن حوالي سبع سنين، يظهر أنه شغل فيها عن حرب العلم واللسان بحرب الرمح والسنان.

ففي سنة ٦٩٩ قدم غازان ملك التتر إلى دمشق فخرج الناصر محمد بن قلاوون إلى قتاله، فانهزم عسكر الناصر وقتل جماعة من الأمراء، وملك غازان دمشق ما خلا قلعتها، وخطب بها وحصل لأهلها من التتر المشقة العظيمة؛ ثم أخذ الناصر في التجهيز لقتالهم؛ لأن ابن تيمية جاء على البريد وحثه على ذلك، فخرج إليهم وهزمهم.

وكان ابن تيمية في الجيش مع المحاربين، وتلك فيما يظهر كانت أول زورات ابن تيمية لمصر. وفي سنة ٧٠٥ اشترك ابن تيمية في قتال النصيرية، قال ابن الوردي في تاريخه:

وأمنت الطرق بعدهم، وكانوا يتخطفون المسلمين ويبيعونهم من الكفار، وكان الذي أفتى بذلك ابن تيمية، وتوجه مع العسكر.

ولم يكد يفرغ الشيخ من قتال النصيرية في جبالهم المنيعة حتى استدعي في نفس تلك السنة إلى مصر، وعقد له مجلس بحضوره القضاة وأكابر الدولة، ثم حبس في الجب بقلعة الجبل ومعه أخواه سنة ونصفًا بسبب ما نسب إليه من التجسيم. وخرج بعد ذلك. ثم عقد له مجلس في شوال سنة ٧٠٧ لكلامه في المتصوفة الاتحادية، وأمر بتسفيره إلى الشام على البريد، ثم أمر برده من مرحلة، وسجن بحبس القضاة سنة ونصفًا، ثم أخرج إلى الإسكندرية وحبس في برج ثمانية أشهر، إلى أن عاد السلطان الناصر إلى السلطنة فشفع فيه عنده فأطلقه.

ويقول صاحب فوات الوفيات: إنه اجتمع بالسلطان في مجلس حافل بالقضاة وأعيان الأمراء، فأكرمه السلطان إكرامًا عظيمًا، وشاوره في قتل بعض أعدائه، فأبى الشيخ ذلك وجعل كل من آذاه في حل. وسكن الشيخ القاهرة وتردد الناس عليه، ثم توجه صحبة الناصر إلى الشام في سنة ٧١٢، وكانت مدة غيبته عن دمشق أكثر من سبع سنين، وتلقاه جمع عظيم فرحًا بمقدمه؛ وكانت والدته إذ ذاك في قيد الحياة، وفي سنة ٨١٢ ورد مرسوم السلطان بمنع الشيخ من الفتوى في مسألة الحلف بالطلاق، وعقد لذلك مجلس، ونودي به في البلد. ويقول ابن الوردي: «وبعد هذا المنع والنداء أحضر إلى رجل فتوى من مضمونها أنه إذا طلق الرجل امرأته ثلاثًا جملة بكلمة أو بكلمات في طهر أو أطهار، قبل أن يرتجعها أو تقضي العدة، فهذا فيه قولان للعلماء، أظهرها أنه لا يلزمه إلا طلقة واحدة، ولو طلقها الطلقة بعد أن يرتجعها أو يتزوجها بعقد جديد وكان الطلاق مباحًا فإنه يلزمه؛ وكذلك الطلقة الثالثة إذا كانت بعد رجعة أو عقد جديد وهي مباحة فإنها تلزمه، ولا تحل له بعد ذلك إلا بنكاح شرعي لا بنكاح تحليل والله أعلم. وقد كتب الشيخ بخطه تحت ذلك ما صورته: هذا منقول من كلامي كتبه أحمد بن تيمية.»

وفي سنة ٧٢٠ عقد لابن تيمية بدمشق مجلس وعاتبوه بمسألة الطلاق وحبسوه بالقلعة، ثم أخرج في سنة ٧٢١ بعد أن قضى في السجن خمسة أشهر وثمانية عشر يومًا، وفي آخر الأمر ظفروا له بمسألة السفر لزيارة قبور النبيين، وأن السفر وشد الرحال منهي عنه لقوله : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد»، مع اعترافه بأن الزيارة بلا شد رحل قربة فشنعوا عليه بها. وكتب فيها جماعة بأنه يلزم من منعه شائبة تنقيص للنبوة، فيكفر بذلك وأفتى عدة بأنه مخطئ بذلك خطأ المجتهدين المغفور لهم؛ ووافقه جماعة. وكبرت القضية فاعتُقل الشيخ بقلعة دمشق في شعبان سنة ٧٢٦، وحُبس جماعة من أصحابه وعُزر جماعة، ثم أُطلقوا، سوى شمس الدين محمد بن أبي بكر إمام الجوزية، فإنه حبس بالقلعة أيضًا. وبقي الشيخ سجينًا بضعة وعشرين شهرًا حتى وافاه حمامه.

وجملة الأمر فيما أصاب ابن تيمية من الفتن والمحن أن رجال الدين في ذلك العصر هاجوا عليه، وأهاجوا ذوي السلطان والعامة بسبب فتواه في مسألة الصفات، وتلك الفتوى أثارت سخط المتكلمين الذين نسبوه إلى التجسيم، ثم رد ابن تيمية على القائلين: بوحدة الوجود من الصوفية، واشتد في نقدهم وتسفيه آرائهم، فسخط عليه المتصوفة. وأفتى بعد ذلك ابن تيمية بفتاواه في أمر الطلاق فأغضب الفقهاء من أهل المذاهب الأربعة، وفيهم القضاة ولهم يومئذ في المملكة سلطان.

وبذلك اجتمع على ابن تيمية المتكلمون والصوفية والفقهاء يكيدون له ويحسدونه ويتبرمون بتنقيصه لأقدار العلماء، وتجريحه لآرائهم.

بل يقول المؤرخون: إن أبا حيان النحوي حضر عند ابن تيمية لما قدم إلى القاهرة سنة سبعمائة، فقال: ما رأت عيناي مثل هذا الرجل ومدحه بأبيات. ثم دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه؛ فقال ابن تيمية: «إيش سيبويه». ويقال: إن ابن تيمية قال له: «ما كان سيبويه نبي النحو ولا كان معصومًا؛ بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعًا ما تفهمها أنت». فنافره أبو حيان وقطعه، وذكره في تفسيره البحر بكل سوء، وكذلك في مختصره النهر.

فابن تيمية قد أثار على نفسه الحفيظة من كل علماء عصره حتى علماء النحو.

وما زال القوم يدبرون له الكيد في السر والعلن حتى نبشوا له فتوى كان مضى عليها عهد طويل، وهي فتواه في شد الرحال إلى زيارة القبور. وهو يرى أن نذر السفر إلى قبر الخليل — عليه السلام — أو قبر النبي نذر لا يجب الوفاء به باتفاق الأئمة الأربعة؛ فإن السفر إلى هذه المواضع منهي عنه. ويقول ابن تيمية: وقد رخص بعض المتأخرين في السفر إلى المشاهد، ولم ينقلوا ذلك عن أحد من الأئمة، ولا احتجوا بحجة شرعية.

وكان لنشر هذه الفتوى بين الناس مع إحاطتها بالكيد والتشنيع وقع في النفوس لم يطفئ نار فتنته إلا اعتقال الشيخ.

وإذا كان خصوم ابن تيمية لم يتقوا الله فيه حين طعنوا في دينه، وهو الرجل التقي الذي نشأ معمًّا في الدين ومخولًا، فإن ابن تيمية قد أعان على نفسه.

نقل ابن حجر العسقلاني في كتاب الدرر الكامنة عن الذهبي ما نصه:

فإنه كان، مع سعة علمه، وفرط شجاعته، وسيلان ذهنه، وتعظيمه لحرمات الدين بشرًا من البشر، تعتريه حدة في البحث وغضب منه، وصدمة للخصم تزرع له عداوة في النفوس.

وغالى قوم فنسبوا ابن تيمية إلى الكبر والعجب، فقد جاء في تعليق على كتاب «القول الجلي في ترجمة ابن تيمية الحنبلي» نقلًا عن كتاب «قمع المعارض لابن الفارض» للسيوطي ما نصه:

فوالله ما رمقت عيني أوسع علمًا ولا أقوى ذكاءً من رجل يقال له: ابن تيمية، مع الزهد في المأكل والملبس والنساء، ومع القيام في الحق والجهاد بكل ممكن، وقد نقبت في رزيته وفتنته حتى مللت سنين متطاولة، فما وجدت قد أخره في أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذبوه وكفروه إلا بالكبر والعجب وفرط الغرام في رياسة المشيخة والازدراء بالكبار.

دعوته

يذكر جولد زيهر في كتاب عقيدة الإسلام وشريعته: «أن ابن تيمية لم يصب حظًّا من النجاح، وبعد أن تقاذفته المحاكم الدينية مات في السجن سنة ١٣٢٨م. وكان هم الكاتبين بعد وفاته أن يبحثوا هل كان ملحدًا أم كان من الأتقياء المدافعين عن السنة.»

ويقول الأستاذ كرد علي بك في كتاب خطط الشام: «وقد أشبه ابن تيمية في دعوته في الإسلام لوثيروس صاحب المذهب الإنجيلي في النصرانية؛ بيد أن مصلح النصرانية نجح في دعوته، ومصلح الإسلام أخفق ويا للأسف.»

وابن تيمية لم يخفق في دعوته الإصلاحية وإن أبطأ نجاحه قرونًا؛ ولهذا الإبطاء عندي سبب هو أن عصر الرجل لم يدرك كنه مذهبه، فعني العلماء يومئذ بما في فتاوى ابن تيمية من المسائل الجزئية، وعنوا بعنف أسلوبه في نقد العلماء وكبار المؤلفين.

وأخذ هو يجري في تيارهم فيعني بالجزئيات والدفاع عن آرائه فيها حتى أصبحت أصول مذهب ابن تيمية يعسر استخلاصها من بين المؤلفات الضخمة والرسائل الكثيرة والمؤلفات الجدلية في أمور فرعية ومسائل جزئية، ولم يخطئ من قال: «ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف لكان غاية في الدلالة على عظمة منزلته.»

وابن قيم الجوزية هو الذي فهم من دون علماء عصره مذهب أستاذه ومهده للأجيال من بعده.

كان ابن تيمية كما أسلفنا في عصر اضطراب وقلق يشمل بلاد الإسلام، وكان المسلمون عرضة لغارات المهاجمين لهم من الخارج، وكانوا عرضة للفرقة والشقاق بين أهل المذاهب والفرق منهم.

وابن تيمية لم يكن يعتقد أن المسلمين يهلكون بعدو يسلط عليهم من غيرهم، وهو يقرر ذلك في رسالته المسماة «قاعدة أهل السنة والجماعة في رحمة أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة»، فيقول: «وقد ثبت في الصحيح أن النبي سأل ربه ألا يهلك أمته بسنة١ عامة فأعطاه ذلك، وسأله ألا يسلط عليهم عدوًّا من غيرهم فأعطاه ذلك، وسأله ألا يجعل بأسهم بينهم فلم يعط ذلك.»
من أجل هذا وجه ابن تيمية همه إلى ما يجمع شمل المسلمين ويدفع عنهم الفرقة التي تجعل بأسهم بينهم، وعنده أن ذلك لا يكون إلا باتباع ما أنزل إليهم من ربهم، ورد ما يتنازعون فيه إلى الكتاب والسنة، وهو يقول في تفسير سورة الإخلاص:

بهذه النصوص وغيرها تبين أن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب لبيان الحق من الباطل، وبيان ما اختلف فيه الناس، وأن الواجب على الناس اتباع ما أنزل إليهم من ربهم، ورد ما يتنازعون فيه إلى الكتاب والسنة.

وكان ابن تيمية مؤمنًا بأن الإسلام سيغلب هجمات خصومه وتفرق أبنائه، ويقول في الرسالة القبرصية التي هي خطاب لسرجواس ملك قبرص يدعوه به إلى الإسلام: «والإسلام في عز متزايد وخير مترافد؛ فإن النبي قد قال: إن الله يبعث لهذه الأمة في رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، وهذا الدين في إقبال وتجديد، وأنا ناصح للملك وأصحابه والله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة والإنجيل والفرقان.»

ويرى جولد زيهر أن ابن تيمية يمثل في قوةٍ نزعات الحنابلة في التشدد في أمر البدع؛ فهو يحارب كل البدع التي غيرت الإسلام في عقائده وأحكامه عن حقيقته الأولى، محاربًا أيضًا آثار الفلسفة في الإسلام؛ بل محاربًا المذاهب الكلامية للأشعري، ومحاربًا التصوف ومذاهبه في وحدة الوجود، وكان يبذل في ذلك من الجهد ما كان يبذله من المحاربة لزيارة قبر النبي وقبور الأولياء، وجعل شد الرحال إلى قبر النبي معصية، وإن كان ذلك معتبرًا منذ أزمان من متممات الحج إلى بيت الله الحرام.»

ويقول جولد زيهر بعد ذلك:

كانت الدولة الإسلامية في هم مما أصابها من أثر الخراب المغولي، فأصبحت الفرصة سانحة لتوجيه الشعب إلى إصلاح الإسلام بالعودة إلى السنة التي كان الخروج عنها مدعاة لغضب الله.

فلسفته

إذا صح أن ابن تيمية كان محاربًا للفلسفة ولما اتصل بالفلسفة من علوم الكلام، فكيف السبيل إلى التماس جانب فلسفي لمن يعادي الفلسفة ويحاربها؟

أما أن ابن تيمية كان سيئ الرأي في فلسفة يونان وفي فلسفة الإسلاميين الذين يعتبرهم تبعًا لفلاسفة يونان، فهذا ما لا نكران له؛ وكتب ابن تيمية مملوءة بالرد على مذاهبهم. لكن ابن تيمية لم يكن يعرض لنقد المذاهب الفلسفية من جهة مخالفتها للدين فحسب، بل من جهة مخالفتها لصريح العقل كذلك. وعند ابن تيمية أن صريح العقل لا يخالف صريح النقل بحال. وهو يقول في كتاب القياس في الشرع الإسلامي:

فصل — فهذه نبذة يسيرة تدلك على ما وراءها من أنه ليس في الشريعة شيء يخالف القياس، ولا في المنقول عن الصحابة الذين لا يعلم لهم فيه مخالف، وأن القياس الصحيح دائر مع أوامرها ونواهيها وجودًا وعدمًا، كما أن المعقول الصريح دائر مع أخبارها وجودًا وعدمًا، فلم يخبر الله ولا رسوله بما يناقض صريح العقل، ولم يشرع ما يناقض الميزان والعدل.

ويقول في كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان:

والأنبياء — صلوات الله وسلامه عليهم — يخبرون بمجازات العقول لا بمحالات العقول، ويمتنع أن يكون في أخبار الرسول ما يناقض صريح المعقول، ويمتنع أن يتعارض دليلان قطعيان، سواء كانا عقليين أو سمعيين أو كان أحدهما عقليًّا والآخر سمعيًّا.

نظر ابن تيمية في الكلام والتصوف والفلسفة نظرًا عميقًا: فكتبه تدل على سعة اطلاع على المذاهب الفلسفية وتاريخها، وحسن تصويره لما يعرض للرد عليه من مذاهب الفلسفة ينبئ عن علم وفهم، وطريقته في جودة الترتيب والتقسيم والتبيين لا تخلو من أثر الفلسفة، شأنه في ذلك شأن الغزالي الذي كان أكثر شيء طعنًا في الفلسفة وصدًّا عنها مع أن عقله كان في أغلب الأمر عقلًا فلسفيًّا وكان أسلوبه في الجدل أسلوب الحكماء.

واحترام ابن تيمية لنظر العقل هو الذي جعله يتسامى عن التقليد، بحيث كان إذا أفتى لم يلتزم بمذهب بعينه بل بما يقوم دليله عنده. وليس يرى للمعرفة طريقًا غير الوحي والعقل، أما الكشف الصوفي فهو ينكره ويرده بالدليل العقلي وبالدليل السمعي معًا.

كان ابن تيمية قويًّا في تفكيره وفي جدله بما راض عقله على العلوم التعليمية من الحساب والجبر والمقابلة والفرائض، والعلوم العقلية من الفلسفة والكلام وأصول الفقه، يقول الذهبي في حديثه عن ابن تيمية: «وحفظ الحديث ورجاله وصحته وسقمه فما يلحق فيه، وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلًا عن المذاهب الأربعة فليس له فيه نظير. وأما معرفته بالملل والنحل فلا أعلم له فيها نظيرًا، ويدري جملة صالحة من اللغة، وعربيته قوية جدًّا، ومعرفته بالتفسير والتاريخ فعجب عجيب.»

وإذا كان للعلوم الفلسفية أثرها في تفكير شيخ الإسلام ابن تيمية، فإن تفكيره أحيانًا لا يستوفي التمحيص الفلسفي. ومن أمثلة ذلك ما يذكره في كتاب «الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان»:

فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها، وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر وتقول: هنيئًا لك يا ولي الله فيقرأ آية الكرسي فيذهب ذلك. وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وغيرها وتقول: خذني حتى يأكلني الفقراء، ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بذلك. ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح وبالعكس، وكذلك أبواب المدينة، وتكون الجن قد أدخلته أو أخرجته بسرعة … وهذا باب واسع لو ذكرت ما أعرفه منه لاحتاج إلى مجلد كبير.

ولابن تيمية في بعض الأحايين تسامح في أمر الخلافات الدينية يتسع لحرية التفكير خير اتساع، ثم تدركه حدة الجدل فينقض من حرية التفكير ما بنى.

يقول في رسالته — قاعدة أهل السنة والجماعة: «ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هنا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.

حتى إذا عرض للرد على القائلين: بوحدة الوجود من متصوفة الإسلام في رسالته في حقيقة مذهب الاتحاديين، قال في ابن عربي: «مقالة ابن عربي في فصوص المحكم، وهي مع كونها كفرًا فهو أقربهم إلى الإسلام، لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد كثيرًا؛ ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره؛ بل هو كثير الاضطراب فيه، وإنما هو قائم مع خياله الواسع الذي يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى.»

ويقول في الصدر الرومي: «وأما صاحبه الصدر الفخر الرومي فإنه لا يقول: إن الوجود زائد على الماهية، فإنه كان أدخل في النظر والكلام من شيخه؛ لكنه كان أكفر وأقل علمًا وإيمانًا وأقل معرفة بالإسلام وكلام المشايخ. ولما كان مذهبهم كفرًا كان كل من حذق فيه كان أكفر.»

وهذا التفاوت في أساليب ابن تيمية وبعض مذاهبه مما جعل أثر مؤلفاته في الأجيال من بعده متفاوتًا. فمذهب الوهابيين يتصل بسبب إلى ابن تيمية، ونزعة الإصلاح الديني عند الشيخ محمد عبده تتصل بسبب إلى ابن تيمية أيضًا.

آثاره

هذا وكتب ابن تيمية متداولة بين خاصة العلماء الدينيين منذ أزمان لم تقو على الصد عنها هجمات الخصوم، وقد طبع منها عدد غير قليل في مصر وفي غير مصر، ولا يزال ما لم يطبع منها كثيرًا. ويقول تلميذه الذهبي: «إنه كان يكتب في اليوم والليلة من التفسير ومن الفقه أو من الأصلين أو من الرد على الفلاسفة الأوائل نحوًا من أربعة كراريس أو أزيد، وما يبعد أن تصانيفه تبلغ خمسمائة مجلد.»

وإذا كانت آراء ابن تيمية في التفسير والفقه قد أصبحت موضع الدرس والتقدير بين المشتغلين بالتفسير والتشريع في عصرنا، حتى اقتبس تشريعنا الإسلامي الحديث بعض ما سجن من أجله ابن تيمية وعذب في الأيام الخالية، فإنا نرجو أن تتوجه همم المشتغلين بالفلسفة وعلوم الكلام والتصوف إلى درس آراء ابن تيمية في الفلسفة والكلام والتصوف.

وهذه الدراسة نافعة في توضيح آراء كلامية وصوفية وفلسفية، كشف ابن تيمية غموضها بفكره النفاذ، وردها إلى أصولها وأحسن بيانها بقوله الواضح المبسوط.

ولابن تيمية في ثنايا رده على الفلاسفة والمتكلمين والصوفية نظرات فلسفية طريفة قد تفتح لدراساتنا الفلسفية الناشئة آفاقًا جديدة.

هذا، وقد ذكر بعض من ترجموا لابن تيمية أن له كتابًا في الرد على المنطق، وفي كتاب كشف الظنون: «نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان لابن تيمية.»

وليس في المكاتب المعروفة نسخ من هذا الكتاب؛ غير أن الأستاذ الميمني الهندي خبرني أن لديهم في الهند نسخة هي الوحيدة فيما يظن، وأنهم يزمعون نشرها.

وقد وجدت في مكتبة الأزهر مجموعة رسائل لجلال الدين السيوطي، فيها ما يدل على أنها بخط المؤلف، ومن بينها رسالة اسمها «كتاب صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام» وأورد المصنف عقب هذا الكتاب متصلًا به كتابًا آخر له سماه «كتاب جهد القريحة في تجريد النصيحة» ويقول في مقدمته:

وبعد فما زال الناس قديما وحديثا يعيبون فن المنطق ويذمونه، ويؤلفون الكتب في ذمه، وإبطال قواعده ونقضها وبيان فسادها، وآخر من صنف في ذلك شيخ الإسلام أحد المجتهدين تقي الدين بن تيمية، فله في ذلك كتابان: أحدهما صغير ولم أقف عليه؛ والآخر مجلد من عشرين كراسا سماه: «نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان»، وقد أردت تلخيص فوائده في كراريس قليلة تقريبًا على الطلاب وتسهيلًا على أولي الألباب، فشرعت في ذلك وسميته «جهد القريحة في تجريد النصيحة» والله الهادي للصواب.

وقال السيوطي في آخر الكتاب:

هذا آخر ما لخصته من كتاب ابن تيمية، وقد أوردت عبارته بلفظه من غير تصرف في الغالب، وحذفت من كتابه الكثير، فإنه في عشرين كراسًا، ولم أحذف من المهم شيئًا، إنما حذفت ما لا تعلق له بالمقصود، مما ذكر استطرادًا أو ردًّا على مسائل من الإلهيات أو نحوها أو مكررًا أو نقضًا لعبارات بعض المناطقة، وليس راجعًا لقاعدة كلية في الفن أو نحو ذلك، وإذا طالع كل أحد كتابي هذا المختصر استفاد منه المقصود أكثر مما يدركه من الأصل؛ فإنه وعر صعب المأخذ ولله الحمد والمنة.

وتدور موضوعات الكتاب جملة حول أربعة مباحث؛ ذلك أن المناطقة يبنون فنهم على أن العالم إما تصور أو تصديق: فالطريق الذي ينال به التصور هو الحد؛ والطريق الذي ينال به التصديق هو القياس.

ويرد ذلك ابن تيمية إلى أربعة مقامات: مقامين سالبين؛ ومقامين موجبين، فالأولان قولهم: إن التصور المطلوب لا ينال إلا بالحد وإن التصديق المطلوب لا ينال إلا بالقياس؛ والآخران إن الحد يفيد العلم بالتصورات وإن القياس يفيد العلم بالتصديقات.

ويتناول الشيخ تقي الدين هذه الدعاوى الأربع بالنقد محاولًا إبطالها بالأدلة العقلية.

ولو أن الدراسات المنطقية سارت منذ عهد ابن تيمية على منهاجه في النقد، بدل الشرح والتفريع والتعمق، لبلغنا بهذه الدراسات من التجديد والرقي مبلغًا عظيمًا.

وعسى أن يتدارك شباب هذا الجيل ما فات أجيالًا ماضية، فإن ميادين العلم والفلسفة تنتظر جهود الشباب.

هوامش

(١) السنة هي الجدب والقحط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤