الفصل العاشر

قصفتُ هذه الفكرة المروِّعة بأسس المنطق لديَّ. كلُّ شخصٍ وكل شيءٍ؛ الجدران من حولي، والأرضية من تحتي، كلُّ نجمٍ بعيد إلى أبعد آفاق المالانهاية … كلُّ شيءٍ ما هو سوى اختراعاتٍ بارعة. بيئة تناظرية، مخلوقات محاكاة إلكترونيًّا. عالَم من الوهم المعنوي. تفاعُل متوازن من الشحنات الإلكترونية المنطلقة عبر أشرطة وحاويات التخزين، واثبةً من كاثود إلى أنود، ناقلةً لمحفِّزات شبكات جهد الانحياز والاستقطاب.

وقفتُ وجِلًا أمام عالَم صار مروِّعًا ومعاديًا فجأةً، أشاهِدُ بلا شعورٍ مساعِدي ويتني وهم يحملون بعيدًا جسده الفاقد للوعي الذي استولى عليه أشتون. وقفتُ جانبًا كما لو كنت مشلولًا، بينما يُتمُّون بنجاح عملية إعادة الانتقال.

رجعتُ أدراجي إلى المكتب بشِقِّ الأنفُس، عبر سَديم من الأفكار الدافعة إلى الجنون. صنعتُ أنا وفولر عالَمًا تناظريًّا مثاليًّا، لدرجةٍ لا يمكن معها لوحدات رد الفعل الذاتية الخاصة بنا أن تعرف أنَّ عالَمها لم يكن عالَمًا حقيقيًّا. وطَوال ذلك الوقت لم يكن عالَمُنا بأكمله سوى نِتاج محاكاة إلكترونية لعالَم أعلى!

كان هذا هو الاكتشاف الأساسي الذي توصَّلَ إليه فولر. بمحض المصادفة. ونتيجةً لذلك قُضي عليه. لكنه ترك خلفه رسمَ أخيل والسلحفاة، ونقلَ المعلومة إلى لينش بطريقةٍ ما.

وكلُّ ما حدث منذ ذلك الحين كان نتيجة إعادة البرمجة التي أجراها المتحكِّم الأعلى لإخفاء اكتشافِ فولر والتكتُّم على الأمر!

تمكَّنتُ الآن من فهم سلوك جينكس. لقد علمَت الطبيعةَ الحقيقية لواقعنا من ملاحظات والدها، التي دمَّرَتها وتخلَّصَت منها فيما بعد. لكنها أدركتْ أنَّ أملها الوحيد في السلامة يَكمُن في إخفاء معرفتها. وعلى أي حال، فقد انتُزعَت من جينكس أي ذكرى عن مورتون لينش، وكذلك من جميع وحدات الهوية الأخرى.

ثم في وقتٍ ما أمس، اكتشفوا معرفتها بالأمر. وانتزعوها من النظام مؤقتًا. عطَّلوا دائرتَها الكهربائية خلال الليل ليدبِّروا إعادة توجيه خاصة!

يفسِّر ذلك سلوكَها العفوي الهادئ الذي بدَت عليه في اتصالها بي، عَبْر الهاتف المرئي صباحَ اليوم! لم تعُدْ تخشى أن يُبطِلوا برمجتها بلا رجعة.

لكني سألتُ نفسي يائسًا، لماذا تَناسَوني في عملية إعادة التوجيه العامة التي تلَت اختفاءَ لينش؟

أَزحتُ شعري الذي تدلَّى على جبهتي، وحدَّقتُ إلى الخارج في عالَمي المزيَّف. بدا وكأنه يصرخ في وجهي بأنَّ ما طالعَتْه عيناي لم يكن سوى وَهْم ذاتي من صُنع المحاكاة الإلكترونية. بحثتُ عن شيءٍ يمكنه تخفيف أثر ذلك الإدراك الصاعِق عليَّ.

حتى إنْ كان عالَمًا ماديًّا حقيقيًّا، أفلا يظل مجرد عدم؟ على بُعد مليارات السنين الضوئية من أبعد نجمٍ في أبعد مجرَّة، يمتدُّ بحر شاسع يكاد يكون فارغًا تمامًا، تتخلَّله هنا وهناك بقعٌ متناثرة متناهية الصغر من شيءٍ يُسمَّى «المادة». لكن حتى المادة نفسها كانت شيئًا غير ملموس، مثلها مثل الفراغ اللانهائي بين النجوم والكواكب البعيدة المترامية، والأكوان المعزولة. وفي النهاية، فإنها تتكوَّن من جُسيماتٍ «دون ذرية» لم تكن في الواقع سوى «شحناتٍ» غير مادية. هل كان هذا المفهوم غريبًا بقدر يتعذَّر معه تبريره عن ذلك المفهوم الذي اكتشفه الدكتور فولر؛ أي: مفهوم أنَّ المادة والحركة لم يكونا سوى انعكاساتٍ لشحناتٍ إلكترونية في نظام مُحاكًى؟

التفتُّ عندما فُتح بابُ قسم العاملين.

وقفَ كولينجسورث محدِّقًا في وجهي. ثم قال: «شاهدتُك في وقتٍ مبكر من عصر اليوم وأنت تنقذ تشاك من مُحاكي سميولكرون-٣.»

في وقتٍ مبكر من عصر اليوم؟ نظرتُ إلى الخارج. كان الظلام قد بدأ يخيِّمُ على الأرجاء. لقد قضيتُ ساعاتٍ أصارعُ طوفانَ أفكاري الذي اجتاحني اجتياحًا.

تقدَّم نحوي في الجانب الآخر من الغرفة ووقف أمامي باهتمام. وقال: «دوج، أنت تُواجِه المزيد من المشكلات، أليس كذلك؟»

أومأتُ برأسي بلا وعي موافِقًا. ربما كنت أتوقُ إلى طمأنةٍ واهنة — أيًّا كان كُنهُها — قد يقدِّمها إليَّ كما فعلَ من قبل. ولكني تنبَّهتُ فجأةً. يا إلهي، لم يكن في مقدوري إخباره! لو كنت فعلت، لأصبحَ المستهدَف التالي بعملية إخفاءٍ أو حادث.

كِدتُ أصرخ: «لا! كلُّ شيءٍ على ما يُرام! اتركني وشأني.»

سحبَ كرسيًّا ثم قال: «حسنًا، سنُجري الأمر بطريقتي.» ثم أردفَ: «عندما تحدَّثنا في غرفة مكتبي في تلك الليلة، انتهيتُ إلى الافتراض بأنكَ تعاني عقدة ذنبٍ، تأنيب ضمير، بشأن التلاعُب بوحدات رد الفعل التي تخيَّلتَ أنها أشخاصٌ حقيقيون. منذ ذلك الحين، وأنا أفكِّر في الأعراض التي قد تظهر بها هذه العُقدة عليك.»

انعكسَ الضوءُ على شعره الأشيب الكثيف، ما أعطاه مظهرًا لطيفًا. وأكمل قائلًا: «استنتجتُ نوعَ الهَوَس الذي قد يتولَّد عن تلك الظروف، أو لعلَّه قد تولَّد بالفعل.»

سألتُه بالكاد مهتمًّا بسماع الإجابة: «أجل، وماذا هو؟»

«التطوُّر التالي للحالة سيجعلك تبدأ في الاعتقاد، أثناء تلاعُبك بوحدات الهوية الخاصة بك، بأنَّ ثمة خبيرًا أعلى منك في مجال المحاكاة الإلكترونية يتلاعب بك، بنا جميعًا.»

انتفضتُ ناهِضًا. وسألتُه: «أنت تعلم! كيف عرفت؟»

لكنه اكتفى بابتسامة هادئة. وقال: «بيتُ القصيد يا دوج هو كيف عرفتَ أنت؟»

على الرغم من إدراكي أنَّ المعرفة ستُعرِّض أفيري أيضًا للخطر، أخبرتُه بما قاله أشتون بالضبط عندما اقتحمَ عليَّ مكتبي فجأةً، وكان في هيئة تشاك ويتني. كان يجب أن أخبر أحدًا بالأمر.

عندما انتهيتُ، نظرَ إليَّ شزْرًا. وقال: «شيء بارع للغاية. لم أكن لأتخيَّل وسيلةً أفضل من تلك لخداع الذات.»

«هل تعني أن أشتون لم يقُل إنَّ هذا العالَم مجرد وهم؟»

«هل لديك أي شهود يُثبِتون أنه قال ذلك؟» وتوقَّف قليلًا. ثم قال: «أليسَ من الغريب أنَّ القاسِم المشترك الوحيد في كلِّ ما تواجهه هو أنه يتعذَّر إيجاد دليل عليه يؤكِّده؟»

لماذا كان يحاول تدمير كل تصوُّر منطقي أُبلوِره في ذهني؟ هل كان هو الآخر قد توصَّل إلى «الاكتشاف الأساسي» لفولر؟ هل يزُجُّ بي مجدَّدًا إلى غياهب جهلي لأنعمَ بالأمان؟

الأهم من ذلك أنه إذا كان هو وجينكس قد توصَّلا بطريقةٍ ما إلى معلوماتٍ خطيرة، فلِمَ مُحيَت من ذاكرتها بينما سُمِح له بأن يظل دون إعادة برمجة؟

ثم أدركتُ ما بين السطور، كان كولينجسورث على دراية بشكوكي حول طبيعة عالَمنا الحقيقية. ولكنه لم يُصدِّقها. ومن هنا أصبحَ في مأمَن من أن يتخلَّصوا منه.

لكنني لم أرفض هذه المعرفة القاتلة. وعلى الرغم من ذلك، فها أنا جالسٌ هنا، لم يتخلَّصوا مني، لم يُعدْ توجيهي، لم تُعدْ برمجتي. لماذا؟

شبَّك كولينجسورث أصابعَ يديه. وقال: «تسويغُك للأمور بطيءٌ يا دوج. ها أنا أضعُ يديَّ الآن على ركيزةٍ أساسيةٍ أخرى في جنون الارتياب الكاذب الذي تُعانيه.»

نظرتُ إليه على الفور. وسألتُه: «ما هو؟»

«لقد أغفلتَ تفسيرَ فِقدانك المتكرِّر للوعي.»

فكَّرتُ في المرات العديدة التي قاومت فيها نوباتٍ مفاجئةً تُوشِك أن تصبح فقدانًا للوعي. وسألتُه: «ماذا عنها؟»

هزَّ كتفَيه استهجانًا. وقال: «لو كنتُ أحاول نَسْج مخيلتك والبناء على ما تتخيَّله في ذهنك، لَقلتُ إنَّ نوبات الإغماء كانت بمثابة الآثار الجانبية لمتحكِّم أعلى في عالَم مُحاكًى إلكترونيًّا يحاولُ الاقترانَ بك اقترانًا تقمُّصيًّا. اقترانًا ناقصًا. لقد رأيتُ ذلك يحدث في جهاز المحاكاة الخاص بك. تصبح وحداتُ الهوية واعيةً بحدوث شيءٍ ما.»

فتحتُ عينَيَّ محدِّقًا. وقلتُ: «هذا ما حدث يا أفيري! هذا بالضبط ما حدث! هذا هو التفسيرُ الوحيد وراء عدم التخلُّص مني إلى الآن!»

ابتسمَ ابتسامةً عريضةً تنمُّ عن تفوق مَن يقول: «ألَم أُخبِرك؟» ثم قال بطول أناة: «نعم يا دوج، ماذا كنت تقول؟ واصِل حديثَك.»

«هذا يجعل كلَّ شيءٍ سهلًا! آخِر مرة كِدتُ أتعرَّضُ فيها للإغماء كانت ليلة أمس. هل تعرف فيما كنت أفكِّر حينها؟ لقد كنت مقتنعًا تمامًا أنَّ كلَّ ما حدث لي كان هلوسة، مثلما أشرتَ تمامًا!»

أومأ كولينجسورث برأسه، ولكن إيماءته لم تخلُ من السخرية. وسألني: «هل أدركَ خبيرُ المحاكاة الإلكترونية المبجَّل إذن أنه لم يَعُد هناك داعٍ يستوجب إعادة برمجتك؟»

«بالضبط! لقد أَعدتُ برمجة نفسي بشكوكي الخاصة.»

«وما الاستنتاج المعقول التالي في هذه السلسلة من أحكام المنطق المُتوهَّمة يا دوج؟»

فكَّرتُ للحظة، ثم قلتُ بصرامة: «أنني سأكون بأمان حتى يقرِّر إجراءَ فحص سريع آخر، ويرى ما إذا كنت قد عدتُ إلى قناعاتي السابقة!»

ضربَ بيده على فخذه بسعادة المنتصر. وقال: «ها أنتَ ذا. ولا بد أنكَ تشكُّ الآن أنَّ هذا ليس سوى الجزء الذي لا يزال عقلانيًّا في دوجلاس هُول، الذي يعترف بأنه حَريٌّ به أن يُحكِم الإمساكَ بزمامِ نفسه قبل أن تخرج تلك الهواجسُ عن السيطرة.»

قلتُ معترضًا: «أعرفُ جيدًا ما رأيتُ وما سمعتُ.»

لم يحاول أن يُخفي شفقتَه عليَّ ورثاءَه لحالي. ومن ثَم قال: «كما تشاء. هذا شيءٌ لا يمكنني أن أفعله لك.»

اتجهتُ نحو النافذة وحدَّقتُ بالخارج في سماءِ الليل، حيث تناثرت النجوم السرمدية متألقةً في سماء الصيف في كوكباتها التي تبلغ دهورًا في القِدَم.

حتى في ذلك الحين كنت ألمح مئات السنين الضوئية في الفضاء، مليارات ومليارات الأميال. ولكن على افتراض أنني تمكَّنتُ من تخطِّي الأبعاد المطلَقة لكَوني هذا، كما هو موجودٌ بالفعل ضمن حدود جهاز المحاكاة الإلكترونية الذي كان يدعمه. هل كنت سأكتشف أنَّ الكون بأكمله قد ضُغِط في بناية واقع علوي، بطول ٢٠٠ قدم، وعمق ١٠٠ قدم تقريبًا، حسب مقياس ذلك العالَم الأعلى.

ها هي هناك كوكبة الدُّب الأكبر. تُرى لو كنت أستطيع الرؤية عبر الوهم، هل ما كنت سأراه بدلًا من ذلك مولِّد للوظائف؟ وتلك الكوكبة هناك، أَتُراها كوكبة ذات الكرسي؟ أم أنها في الواقع معالِج بياناتٍ ضخم يقف بجانب الموزِّع الخاص به، الذي هو مجرَّة أندروميدا؟

وضع كولينجسورث يده بلطفٍ على كتفي. وقال: «لا يزال بإمكانك محاربته يا دوج. كلُّ ما عليك هو أن تدرك استحالة هواجسك.»

كان محقًّا بالطبع. كلُّ ما كان عليَّ فعله هو أن أُقنع نفسي أنني كنت أتخيَّل حكاية فيل أشتون الباعثة على السخرية، وإصراره المستهزئ على أنَّ عالَمي لم يكن سوى عالَم وهمي من المحاكاة الإلكترونية.

قلتُ في نهاية المطاف: «لا يمكنني فعلُ ذلك يا أفيري. كلُّ التفاصيل متوافِقة تمامًا. أشتون لم يخبرني بذلك. بل كانت هذه هي المعلومات التي أخفاها فولر عميقًا في جهاز المحاكاة الذي صمَّمه.»

قال متنهِّدًا: «حسنًا يا بُنيَّ.» ثم أضاف: «إذا لم أستطع إقناعَك بالعدول عن ذلك، فسأساعدُك في الوقوف على حقيقة الأمر في أسرع وقتٍ ممكن.»

عندما أَعدتُ النظر إليه متحيِّرًا، أكملَ: «ليس من الصعب التفكير فيما ستفعله الآن. ولكن بما أنك سوف تستغرق ثلاثة أو أربعة أيام في تصوُّر الخطوة التالية، فسأوفِّر عليك الوقت. وفي نهاية المطاف، ستدفع بمسألة الربط والقياس في ذهنك خطوةً إلى الأمام. وإذا كان هذا العالَم عبارة عن محاكاة إلكترونية، فستخبر نفسك أنه لا بد إذن من وجود شخصٍ لديه كامل المعرفة بآلية عمل كل شيءٍ فيه.»

«تمامًا كما استخدمنا أشتون كوحدة اتصال!»

«صحيح. وستدرك عاجلًا أو آجلًا أن الكشف عن حقيقة فيل أشتون الذي يعيش في هذا العالَم سيكون المعيار النهائي لصحة شكوكك.»

فهمتُ على الفور ما كان يفترضه. كان على الواقع العلوي أن يرسل إلى عالَمنا وحدة هُويَّةٍ خاصة لمراقبة التطوُّرات التي لم تكن لتَلفِت انتباهَهم، حتى يُجرَى فحصٌ دوريٌّ لأحد أجهزة تجميع المخرجات. إذا تمكَّنتُ من العثور على وحدة الاتصال، فقد أستخلصُ منها اعترافًا نهائيًّا حاسمًا.

ولكن ماذا بعد ذلك؟ هل أتركها تباشر أعمالها بعدئذٍ؟ هل أتركها حرةً لتُبلغ المتحكِّم الأعلى في العالَم بما علمتُ خلال اتصالها التالي معه؟ أدركتُ في الحال أن تعقُّبها لم يكن سوى نصف المهمة. ومن ثَم، قررتُ أنني في اللحظة التي سأتعرَّف فيها عليها سأقتلها كي أحمي نفسي.

قال كولينجسورث بجدية: «إذن، واصِل البحث عن وحدة الاتصال الخاصة بك. وأتمنَّى لك مطاردة مُوفَّقة يا بُنيَّ.»

«ولكنه يمكن أن يكون أيَّ شخص!»

«بالطبع. ولكن، إذا كان هذا الشخص موجودًا، فلا بد أنه سيكون قريبًا منك، أليس كذلك؟ لماذا؟ لأنَّ كلَّ الأعراض التي تزعم الشعور بها تنطبقُ عليكَ وحدك.»

كان من الممكن أن يكون واحدًا من كثيرين. أهو سيسكين؟ هل هي دوروثي فورد؟ لقد كانت هناك عندما اختفى لينش! وانتقلت بالقرب مني لمراقبتي عن كثب في اللحظة نفسها التي تعقَّدت فيها الأمور! أم تُراه تشاك ويتني؟ لِم لا؟ ألم يكن حقًّا الوحيدَ الذي شهدَ لحظة انفجار شحنة الثرميت في جهاز التعديل؟ أم هو ماركوس هيث، الذي كان سيَحلُّ محلي في شركة رين؟ أم حتى وين هارتسون؟ فقد ظهرَ كلاهما في وقتٍ مناسب، عندما رأى الواقعُ الأعلى أنَّ من الضروري وضعي تحت مراقبة أكثر صرامة.

هل هي جينكس؟ بالطبع لا. كان من الواضح أنها مرَّت بالأحداث نفسها التي مررتُ بها.

ولكن ماذا عن أفيري كولينجسورث؟ لا بد أنه قد خمَّنَ أفكاري عندما رمقتُه بارتياب.

فقال: «نعم يا دوج، حتى أنا. بالتأكيد يجب أن تفكِّر فيَّ إذا أردتَ لبحثكَ أن يكون شاملًا.»

هل كان صادقًا؟ هل تنبأ حقًّا بردود أفعالي الناتجة عن جنون الارتياب؟ أم أنه يمارس الخداع فحسب من أجل تحقيق نية يستحيل التكهُّن بها؟ هل كان يحاول توجيهي إلى مسارٍ سلوكي بعينه؟

كرَّرتُ كلامَه متمعِّنًا فيه: «حتى أنت.»

استدار لينصرف، لكنه توقَّفَ عند الباب. وقال: «بالطبع لن يغيب عنك أنكَ لا بد أن تحرصَ أثناء بحثك على الظهور بمظهر طبيعي تمامًا. فلا يمكنك التجوُّل بين الناس متَّهمًا إياهم بأنهم وحدات اتصال. وذلك لأنك إذا كنت محقًّا في شكوكك، فلن يمرَّ وقتٌ طويل قبل أن يقضوا عليك. أليس كذلك؟»

وقفتُ هناك محدِّقًا فيه فحسب، وهو يغلقُ البابَ خلفه. لكنه كان على حقٍّ. يمكنني توقُّع العيش بأمان، وذلك على أقل تقدير حتى تَحينَ المرة القادمة التي يقرِّر فيها المتحكِّم الأعلى إجراءَ فحصٍ آخر عبر الاقتران التقمُّصي، ولكن هذا فقط ما لم أستَرعِ انتباهَه قبل ذلك الحين.

في الخارج، لم أنتبه إلى نسمة الليل الباردة وأنا أشقُّ طريقي أمام راصدي ردود الأفعال من مُعتصمي الفترة المسائية، وأتجه إلى ساحة انتظار السيارات. لم يَعُد في داخلي مكانٌ للهدوء أو العقلانية. هذه المباني، والنجوم من فوقها. مجرد ضغطة زر من شأنها أن تُلغيها جميعًا في تحييدٍ مفاجئ للشحنات الكهربائية. ومن شأنها أن تلغيني أنا أيضًا علاوةً على كل شيءٍ آخر.

عندما اتجهتُ إلى أقرب سيارة طائرة للشركة، فكَّرتُ بازدراءٍ في كل القيم، والتعقيدات، والطموحات والرغبات الإنسانية التافهة. في رغبة سيسكين للسيطرة على العالَم وهو لا يعرف أنه هشٌّ وعابِر كالهواءِ من حولنا. في اتحاد راصدي ردود الأفعال وكفاحهم المستميت ضد محاكي سيسكين، دون حتى أن يدركوا أنهم لا يتفوقون على وحدات رد الفعل في تلك الآلة بأي درجةٍ من الوجود المادي الفعلي.

ولكن تفكيري كان مُنصبًّا بصفة أساسية حول خبير المحاكاة الإلكترونية الأعلى، ذلك الكيان الكُليُّ القُدرة، الخارج عن نطاق الإدراك، الذي يجلسُ متعجرِفًا وآمنًا في قسم معالجة البيانات الهائل لمحاكيه الفائق، يوزِّع المحفِّزات ويدمجها، ويضع مخلوقاته التناظرية في مساراتها.

«المَدد الغَيبي.»

كلُّ شيءٍ زائفٌ. كلُّ شيءٍ ميئوسٌ منه تمامًا وغير منطقي في خلفية من الوَهم غير المتوقَّع.

«دوج!»

تراجَعتُ منتبهًا وأنا أنظر شزْرًا إلى السيارة الطائرة التي جاء منها الصوت.

«دوج، أنا جينكس.»

ثم تذكَّرتُ أنها أصرَّتْ على مقابلتي هنا. سِرتُ إليها متردِّدًا. انحنتْ عبر المقعد وفتحَت الباب، وومضت الأضواءُ الداخلية.

قالت ضاحكة: «تبدو حقًّا وكأنك قد ضقتَ ذَرعًا بالأمر.»

ذكَّرَني ذلك بأنني لم أَنم منذ يومَيْن. شعرتُ بإرهاقٍ شديدٍ أفقَدَني القدرة حتى على فَهْم ما مررتُ به من أشياء مرعبة في ذلك اليوم الذي لا يُحتمل.

قلت وأنا أصعد إلى السيارة الطائرة بجانبها: «عصرُ يومٍ مُرهِق.»

حدَّقتُ في وجهها، وأذهَلني على الفور التغييرُ الذي طرأَ عليها. لم يَسعني في الأيام القليلة الماضية سوى أن أتخيَّلها في صورة امرأةٍ جذَّابة. والآن، أرى أنها كذلك بالفعل. وطوال تلك الفترة كانت ملامحها الجميلة مُثقَلة بآثار ما عرَفَته من حقائق مروِّعة. أما الآن، فقد بدا واضحًا أنها قد تحرَّرَت من ذلك العبء. وبدلًا من مظهرها القَلِق وملامحها المضطربة، تجلَّى جمالُها الأخَّاذ.

قالت بابتسامةٍ مشاكِسة ذكَّرَتني بحماس جينكس ابنة الخمس عشرة سنة: «في هذه الحالة، سنُلغي الخطة الأولى ونُعِد خطةً بديلة.»

ارتفعَت السيارة الطائرة في عَنان السماء بسرعة البرق، في حركةٍ متمايلة كِدتُ أنام على إثرها، بينما يحيط بنا جمالُ المدينة البَهي في كل مكان.

قالت: «سنعود إلى ذلك المطعم الصغير. ولكن ليس الآن. أنت بحاجة إلى أمسيةٍ هادئة في المنزل.»

كان عليَّ أن أتصرَّف على نحوٍ طبيعي تمامًا، كما أشار كولينجسورث. فلو أنهم كانوا يراقبونني، فلا بد أن أُقنعهم أنني ما زلتُ جزءًا من الوَهم لا يتطرَّق إليه الشكُّ. فحتى الآن، من المحتمَل أن يكون المتحكِّم في العالَم الحقيقي يراقبني عبر عينَي جينكس، ويستمع إليَّ عبر أذنَيها.

قلتُ موافِقًا، وربما بحماسٍ مبالَغ فيه: «يبدو هذا جيدًا. وفي ظل أجوائه الأُسرية البسيطة، يمكن للأمسية أن تصبح بدايةً لأشياء أخرى سعيدة.»

قالت بخجل: «عجبًا يا سيد هُول! يبدو هذا وكأنه طلبٌ ضمنيٌّ للزواج.»

اقتربتُ وأخذتُ يدها وربتُّ عليها. إذا كان ذاك المتحكِّمُ الأعلى يراني الآن، فقد عقدتُ العزمَ على أن يكون الشكُّ في أفعالي هو آخِر ما قد يخطر بباله.

أَعدَّت عشاءً خفيفًا، بلا تعقيدٍ أو تكلُّف، وتناولناه معًا في المطبخ كما لو كنا معتادَين على الأجواء العائلية الودية.

انجرفتُ لمرةٍ واحدة فقط أثناء تناولنا العشاءَ في نوبة شرودٍ ذهني. ولكنَّ تناقضًا أخيرًا قد ألحَّ عليَّ بإصرارٍ فأفاقَني من شرودي، وهو لماذا لم يعيدوا توجيهي في اللحظة التي أدركوا فيها احتمالية حصولي على «الاكتشاف الأساسي» لفولر؟ لقد أعادوا برمجة جينكس بدقةٍ شديدة، وأزالوا من دوائر ذاكرتها جميعَ البيانات التي لها أيُّ صلةٍ بالمعرفة المحظورة. ولكنهم لم يمنعوها من التواصُل مع وحدة الهوية الوحيدة التي ربما تقودها مرةً أخرى إلى إدراك المعلومات المشئومة التي قد تكون سببًا في الفتكِ بها، والتي هي أنا.

«دوج، أنت مُتعَب حقًّا، أليس كذلك؟»

اعتدلتُ في جِلستي منتبهًا. وقلتُ: «أظنني كذلك.»

أخذتْ يدي وقادتني إلى غرفة المكتب، وفيها إلى أريكة جلدية مغرية. استلقيتُ ورأسي في حِجرها، ومسَّدَت صُدغي بحركة رقيقة ناعمة.

قالت مازحة: «يمكنني أن أغنِّي لكَ شيئًا لطيفًا.»

قلتُ قاصدًا إسماعَ مَن يرانا ويسمعنا أيًّا كان: «إنَّ وَقْع كلامكِ على سَمعي غناءٌ في حَد ذاته.»

ثم أسدلتُ الستارَ بعفوية على مسرحيتي عندما حدَّقتُ في عينَيها النابضتَين بالحيوية والعُمق. أنزلتُ رأسها وقبَّلتُها، وللحظةٍ كانت الخلودَ نفسه، نسيتُ كلَّ شيءٍ عن زَيف المحاكاة الإلكترونية، والواقع الأعلى، والمتحكِّم الكُلِّي القدرة، وعالَم اللاوجود. ها هو شيءٌ ملموس، طوقُ نجاةٍ في بحر متلاطِم الأمواج.

غلبَني النومُ أخيرًا. ولكنه كان تحت دِثارٍ من الخوف؛ إذ كنت أخشى أن يقرِّر المتحكِّم الأعلى إجراءَ فحصٍ سريع آخَر على قناعاتي، قبل أن أتمكَّنَ من معرفة وحدة الاتصال الخاصة به.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤