الفصل الحادي عشر

في منتصف الطريق إلى شركة ريأكشنز في صباح اليوم التالي، أدخلتُ وجهة جديدة في لوحة تحكم السيارة الطائرة. استدارت السيارة الطائرة ثم توجَّهتُ إلى مبنى «بابل سنترال» الكبير الشاهق، الذي ارتفعَ في زهو فوق طبقات السُّحب التي كانت تشبه الفُطْر النفَّاث، حتى بدا كمَن ترتدي تنورةً منتفخة.

شعرتُ بشيءٍ من الفخر لحقيقةِ أنني ما زلتُ أنعمُ بسلامة عقلي ولم يُصبني الجنونُ، كما حدث مع كاو نو في عالَمه الزائف. في اللحظة التي استيقظتُ فيها في غرفة المكتب بمنزل جينكس، تساءلتُ إن كنت سأتمكَّن من أن أُواري اكتشافَ فولر في أعماق ذهني، بالعُمق الذي لا يُسمح باكتشافه خلال أيٍّ من عمليات الاقتران التقمُّصي.

ولكن هل كنت سأتمكَّن من العودة إلى حياتي الطبيعية وقد علمتُ ما علمتُ؟ هل في وسعي أن أدفنَ رأسي في الرمال، وأن أَقبلَ ببساطة المصيرَ الذي برمجَته لي القوى العليا في مُحاكيها أيًّا ما كان؟ بالطبع لا. كان عليَّ أن أعثر على وحدة الاتصال الخاصة بي في هذا العالَم، إن كانت موجودة. وكان سيسكين نقطةَ بدايةٍ جيدة للغاية.

انحدرَت السيارة الطائرة في وضع التحليق، أثناء انتظاري إقلاع مركبتَين أُخريَين من منصة الإقلاع الخاصة بمبنى «بابل سنترال».

انحرفتُ بنظري في لحظة شرودٍ مني إلى الضواحي التي يكتنفها الضبابُ شرقيَّ المدينة. وتذكَّرتُ الليلة التي كنت فيها في جولة بالسيارة الطائرة مع جينكس حتى وصولنا إلى حافة عَدم مُرعِب لا مُتناهٍ، وشاهدتُ خَلق نصف الكون. أدركتُ عندئذٍ أنَّ ثمة تناقضًا آخر يستعصي على التفسير هنا. ما لم …

بالطبع! يعتمد العالَم المُحاكَى إلكترونيًّا على مفهوم الصِّيغ (الجشطلت) في إثبات أَرجَحيَّته، بمعنى أنَّ وجود عدد كافٍ من العناصر في نمط معين يدل بدوره على وجود النمط بأكمله. فالكلُّ المُدرَك يكون أكبر من مجموع أجزائه المُدرَكة. لم يكن المشهد المفقود من العالَم سوى إحدى «الثغرات» في الواقع. وتلك الثغرات لا تصادفها عادةً وحداتُ رد الفعل.

حتى في جهاز المحاكاة الذي اخترعه فولر، كان من الوارد جدًّا أن تُصادف إحدى وحدات الهوية جزءًا غير مكتمِل من «المشهد». ولكنَّ هذا الاكتشافَ قد حفَّز عددًا من دوائر إعادة البرمجة التلقائية، التي لم «تَخلُق» على الفور العنصر المطلوب فحسب، بل سَلبتْ من كيان رد الفعل ذكرى مصادفته لأي دعائم مفقودة في المشهد.

لحُسن حظي أنَّ الطريق وضواحي المدينة قد «امتلآ» على الفور. ولكن لماذا لم يعيدوا توجيهي كي أعتقد أنه ما من شيءٍ مفقود من الأساس؟

هبطَت السيارة الطائرة، وشققتُ طريقي عبر ممر ضيق مرصوف بالحجارة، وكان يحدُّه سياجٌ من الأشجار، قادني هذا الممر إلى مكتب سيسكين مباشرةً. وهناك تفحَّصني موظفُ الاستقبال بتلك النظرة المُستعلِية التي يرمقُ بها موظفو المؤسسة الداخلية مَن هم مِن خارجها، ثم أبلغَه بقدومي.

خرجَ سيسكين بنفسه لاستقبالي، وأخذَ بذراعي ليرجع بي إلى داخل غرفته. كان الحماسُ يملؤه عندما جلس إلى المكتب مُدليًا ساقَيه.

قال: «كنت على وشك الاتصال بك. ربما لا تُضطر إلى إضفاء الكثير من التنميق على صورة سيسكين عندما تُبرمِجها في جهاز المحاكاة. لقد قَبِلوني عضوًا في اللَّجنة المركزية للحزب!»

بدا مُستاءً بعضَ الشيء لعدم اندهاشي من وضعه الجديد. غير أنَّ ذلك لم يثبِّط من عزيمته.

فقال: «والأكثر من ذلك، يا دوج، أنهم يفكِّرون في ترشيحي لمنصب الحاكِم!»

أضاف مفكِّرًا: «لكنني بالطبع لن يسعدني شيء كهذا. إنني في الرابعة والستين من عمري، كما تعلم. ولا يمكن أن أعيشَ إلى الأبد. عليَّ أن أنجز أعمالي بسرعة.»

وفي لحظة قرارٍ متهوِّر، تقدَّمتُ نحوه ووقفتُ في مواجهته مباشرةً. ثم قلتُ: «حسنًا يا سيسكين. يمكنك خلع القناع. أنا أعرفُ كلَّ شيء!»

تراجعَ مجفلًا من حِدَّة نظرتي. رمقَ جهازَ الاتصال الداخلي مضطربًا، ثم نظرَ إلى السقف، ثم في عينَيَّ مجدَّدًا.

عندما واجهتُه أخيرًا، ارتجفَ صوتُه على النحو الذي توقَّعتُه من صوتِ وحدة الاتصال، وقال: «هل تعلم بالأمر؟»

«ألم تظن أنني سأكتشفُ كلَّ شيءٍ في النهاية؟»

«كيف عرفت؟ هل أخبرك هيث؟ أم تُراها دوروثي مَن أخبرَتك؟»

«أكلاهما يعرفان أيضًا؟»

«حسنًا، كان لا بد لهما أن يعرفا، أليس كذلك؟»

تحرَّكت أصابعي في توتر. كان عليَّ أن أتحقَّق من هُويته. ثم كان عليَّ أن أقتله قبل أن يتمكَّن من إبلاغ مختصِّ المحاكاة الإلكترونية في ذاك الواقع الأعلى، بأنني قد تحرَّرتُ من قبضتهم، وكسرتُ قيودَ عبوديتي.

سألتُه: «هل تقصد أنَّ هناك ثلاثًا من وحدات الاتصال؟»

رفعَ أحدَ حاجِبَيه. وقال مستنكِرًا: «ما الذي تتحدَّث عنه بحق الجحيم؟»

لم أعُدْ متأكِّدًا الآن. ومن ثَم، قلتُ له: «أَخبِرني أنت.»

«دوج، كان عليَّ أنْ أفعلَ ذلك، من أجل حمايتي. لا بد أنكَ تدرك ذلك. عندما أخبرَتني دوروثي أنك تنوي خيانتي وخيانة الحزب، كان عليَّ أن أتخذَ إجراءاتٍ مضادة!»

زالَ عني كلُّ توتري. فقد اتضحَ أننا لم نكن نتحدَّث عن الأمر نفسه.

تابعَ: «بالتأكيد، أحضرتُ هيث، تحسُّبًا لعنادِك ووجوب التخلص منك. لا يمكنك أن تلومني على حمايتي لمصلحتي.»

قلتُ متدارِكًا الأمر: «بالطبع لا.»

«لم أكن أكذب عندما قلتُ إنني معجبٌ بك. لكن لسوء الحظ أنك لا ترى كلَّ شيءٍ من وجهة نظري. لكن لم يَفُت أوانُ ذلك. كما قلتُ، فإنَّ هيث لا يعدو كونه ورقتي الرابحة المؤجَّلة. لا أريدُ الاستعانة به.»

توجَّهتُ غير مبالٍ إلى الباب، وأنا أعي أنَّ العثور على وحدة الاتصال ربما لم يكن بالسهولة التي تخيَّلتُها.

سأل بهدوءٍ وهو يَتبَعني: «ماذا ستفعل يا بُنيَّ؟ لا تحاول ارتكاب أي حماقاتٍ. لديَّ نفوذٌ كبير. غير أنني لا يُرضيني استخدامه ضدك.»

استدرتُ ونظرتُ إليه. تأكَّدتُ، بما لا يدعُ مجالًا للشك في ذلك الحين، أنه لم يكن هو وحدة الاتصال. أَشعَره الغموضُ في حديثنا في البداية بالتهديد وعدم الراحة، ما كان من شأنه أن يجبِره على الإفصاح بحقيقته لو كان هو وحدة الاتصال. علاوةً على ذلك، فإنَّ وحدة الاتصال كانت ستستمر في شعورها اللامتناهي بالإحباط. كان سيبدو عليه الرعب الأبدي من عدم جدوى كل شيء. كان سيظهر عليه الانطواء والنظرة الفلسفية للأشياء. فهل كان سيسكين؟ استحالة. إنَّ ما يحفِّزه بشدة هو الثروة المادية، والتملك، والطموح.

«لم أفقد الأمل فيك يا دوج. يمكنك استعادة مكانتك. كلُّ ما عليك فعله هو الموافقة وسوف أُسقِط هيث من حساباتي. بل إنني سأُوقِف دوروثي كذلك. كلُّ ما عليك فعله هو أن تُثبِت لي أنك قد غيَّرتَ رأيك عني.»

سألتُه بسطحية: «كيف؟»

«لِتأتِ معي إلى الخبير النفسي المعتمَد لإجراء فحصِ تأكيدٍ شامل.»

قلتُ كي أنصرفَ فحسب: «سأفكِّرُ في الأمر.»

في طريق عودتي إلى شركة رين، فكَّرتُ عرَضًا فيما حدث في مكتب سيسكين. كان من الواضح أنَّ ما كان يفعله لم يكن سوى تنفيذٍ لحركة مؤجَّلة. كان يعرض عليَّ وَعدًا بالصَّفْح ونَيْل الحُظوة، لا لشيءٍ إلا ليَثنيني عن الكشفِ عن خُططه السياسية أمام عموم الناس.

ولكن إنْ كنت أمثِّل له تهديدًا، فلماذا لم يستخدم نفوذه ببساطة، ويجعل الشرطة تقبض عليَّ بتهمة قتل فولر؟ هذا الأمر كان من شأنه بالتأكيد أن يحرم جهازَ المحاكاة من العديد من التحسينات التي خطَّطتُ لها أنا وفولر معًا. لكن لا بد أنه قد افترضَ الآن بالطبع أن النظام يمكنه الاضطلاع بمهمة وضع استراتيجيةٍ سياسيةٍ مضمونةٍ حتى من دون تحسيناتٍ إضافية.

ثم عندما بدأَت السيارة الطائرة في هبوطها بمحاذاة المنارة العمودية بالقرب من شركة ريأكشنز المحدودة، أصابني التوتر تحت تأثير شكٍّ جديد ومُربِك اعتراني. هل كان سيسكين يتلاعبُ بالشرطة ليَحول دون خيانتي له؟ أم كانت الشرطة في الواقع أداةً غير واعيةٍ للكيان الأعلى، متأهِّبة للقبض عليَّ بتهمة قتل فولر في اللحظة التي يدرك فيها المتحكِّم الأعلى أنني قد علمتُ طبيعة الواقع الحقيقية؟

غُصتُ يائسًا في كُرسيَّ. كان الأمرُ ملتبِسًا عليَّ على نحوٍ ميئوسٍ منه، محصورًا بين شِقَّي الرَّحى لعالَمين كلاهما شرٌّ، مشوَّشًا للغاية لدرجة أنني لم أكن لأستطيع أنْ أتبيَّن من أي اتجاهٍ يأتيني الأذى.

وكان عليَّ طوال الوقت أن أحافظ على رباطة جأشي. ذلك أنَّ أقل إظهارٍ لمعرفتي بوجود العالَم الحقيقي قد أدفع ثمنه إلغاء برمجتي بالكامل؛ ومن ثَم أُصبح طَي النسيان.

في شركة ريأكشنز، وجدتُ ماركوس هيث يجلس إلى مكتبي مُنكبًّا على رُزمتَيْن من المذكرات اختلسهما من الأدراج.

ضغطَ على زر الباب مغلِقًا إياه، ثم رفعَ عينَيه ناظِرًا إليَّ عبر نظَّارته. لم يظهر في عينَيه الحادَّتَين أيُّ ارتباك. كان من الواضح أنه لم يعتبر نفسه قد ضُبط متلبِّسًا.

قال بنفاد صبر: «نعم؟»

«ما الذي تفعله هنا؟»

«هذا مكتبي الآن. وردَت تعليماتٌ من المؤسسة الداخلية مباشرةً. في الوقت الراهن، ستجد لك مكتبًا احتياطيًّا مع السيد ويتني في قسم توليد الوظائف.»

بلامبالاةٍ مفهومة لمثل هذا التطور العادي المُبتذَل، استدرتُ مغادرًا المكان. ولكني تردَّدتُ عند الباب. لم أكن لأجد وقتًا أنسبَ من ذلك لمعرفة ما إذا كان هيث هو وحدة الاتصال.

سألَني بانفعال: «ماذا تريد؟»

رجعتُ إلى المكتب وتفحَّصتُ قَسَماته المتجمِّدة، متسائِلًا عما إذا كنت أخيرًا على وَشْك أن أُثبِت عدم وجودي. لا بد أنني موجود! لقد قدَّمَت الفلسفةُ الديكارتية دحضًا مُسهبًا لشكِّي في ذاتي:

«كوجيتو إرجو سوم»: أنا أفكِّر إذن أنا موجود.

قال هيث منزعجًا: «لا تُضِع وقتي. لا بد أن يكون هذا المحاكي جاهزًا للعرض على الجمهور في غضون أسبوع.»

استقمتُ منحِّيًا تردُّدي جانبًا. «يمكنك الكفُّ عن التمثيل. أنتَ عميلٌ لذلك المحاكي الآخر.»

ظلَّ محافِظًا على رباطة جأشه الظاهرة. غير أن الغضبَ كان يضطرم بداخله. كان باستطاعتي أن أُدركَ ذلك من الضراوة التي ظهرت فجأةً في عينَيه. ثم أدركتُ أنه في هذه اللحظة نفسها قد يكون في حالة اقتران تقمُّصي مع المتحكِّم الأكبر في الواقع الأعلى!

سألَ بهدوء: «ماذا قلت؟»

كان يريدني حينئذٍ أن أُعيدَ كلامي كي يسمعه المتحكِّم الأعلى! كان تأخُّري قاتلًا بالفعل!

اندفعتُ بقوة عبر المكتب محاوِلًا دون جدوى الإمساكَ به. لكنه تراجعَ للخلف بعيدًا عن متناوَل يدي، وأخرجَ يَده من الدرج ممسِكًا بمسدس ليزر.

خرجَ الشعاع القرمزي العريض المدى منتشرًا على ذراعيَّ وصدري وبطني، وسقطتُ فوق المكتب، فاقِدًا على الفور أيَّ تحكُّم في عضلاتي، من خصري حتى عنقي.

كان من السهل عليه أن يرفعني ويُوقِفني على قدمَيَّ. ثم دفَعَني للخلف نحو أحد الكراسي وأَجلَسني عليه. ونشرَ شعاعَ مسدس الليزر فوق ساقَيَّ.

جلستُ في مكاني مترنِّحًا يَمنة ويَسرة، لا يمكنني أن أحرِّكَ شيئًا سوى رأسي. حاولتُ مذعورًا أن أرفعَ ذراعي كي أعلم شدة الشلل. لكن شيئًا لم يتحرَّك في جسدي سوى سبَّابتي. كان ذلك يعني أنني لم أكن لأستعيدَ قدرتي على الحركة لساعاتٍ. وكلُّ ما كان يحتاجه هو دقائق. لم يكن بوسعي أن أفعلَ شيئًا سوى الجلوس مكاني وانتظار إلغاء برمجتي.

سألتُه وقد فارقَني الأمل: «متى سيحدث الأمر؟»

لم يُجب. بعد وهلة، أغلقَ أقفال كِلا البابَين. ثم انحنى على حافة المكتب.

«كيف عرفت يا هُول؟»

لم تمضِ عليَّ دقيقةُ وعي واحدة أمس دون أن أتساءل عن ردِّ فعلي، عندما أجد نفسي محصورًا في مثل هذه المواجهة الأخيرة. أما الآن، وقد وصلتُ إلى هذه المواجهة، فلم أقترب حتى من الشعور بذلك الخوف الذي تخيَّلتُ أنني سأشعر به.

قلتُ: «عن طريق فولر.»

«ولكن كيف عرف؟»

«إنه هو مَن اكتشفَ كلَّ شيء. لا بد أنك تعرف ذلك جيدًا.»

«لِم عساي أن أعرف؟»

«إذن هناك أكثر من عميل؟»

«لو كان الأمر كذلك، لكانوا قد أبقَوا الأمر سرًّا دفينًا عنك.»

رمقَ جهازَ الاتصال الداخلي، ثم أعادَ النظر إليَّ. كان واضحًا أنه منزعجٌ من أمرٍ ما. لكنني لم أستطع أن أتبيَّن ما هو. لا بد أنه قد أبرأ ذمته، وذلك حسبما يتراءى من وجهة نظر الواقع الأعلى.

ثم ابتسمَ وهو يعودُ أدراجَه ويمسك بحَفنةٍ من شعري. دفعَ رأسي إلى الوراء وأطلقَ القليلَ من الليزر على حَلْقي.

أصبحتُ مشلولًا مرة أخرى. إذا كانوا سيتخلَّصون مني في أي لحظة، فلِم يُصيب أحبالي الصوتية بشلل مؤقَّت؟

مرَّر يده خلال شعره وهَندَم من مِعطَفه. عادَ ليجلس في كرسيه وتحدَّثَ بهدوءٍ في جهاز الاتصال الداخلي:

«آنسة فورد، هل يمكنكِ أن تُوصليني بالسيد سيسكين، من فضلكِ؟ وضَعي المكالمة على دائرة أمان.»

لم أتمكَّن من رؤية الشاشة. لكني ما كنت لأُخطئَ صوتَ سيسكين، حين سألَه: «هل من خَطْب لديك يا ماركوس؟»

«لا. كلُّ شيءٍ تحت السيطرة. لقد أعددتَ كلَّ شيءٍ على نحو جيد للغاية يا هوراس، وستكون الأمور مُربِحةً لكلَينا لأننا نتَّفق تمامًا في كلِّ الأمور.» تَلعثَم هيث.

«نعم؟»

«ذلك مهم يا هوراس … أن نتفق في وجهات نظرنا. بشأن الحزب وكلِّ ما سواه. أؤكِّدُ على تلك النقطة لأنني أريد أن أَمثُل معك غدًا أمام الخبير النفسي المعتمَد.»

كانت حيرتي تزيد. لن يُلغوا برمجتي، بل إن هذه المحادثة كانت خارجة تمامًا عن صُلب الموضوع.

قال سيسكين معترضًا: «حسنًا، انتظر لحظة، لا أعرف لماذا يتوجَّبُ عليَّ إثبات كلِّ شيءٍ قلتُه لك.»

«ليس عليك ذلك.» بدا على قَسَمات وجه هيث الإرهاق والصدق والخنوع. «إنه أنا مَن يجب أن يقنعك أنني من الآن فصاعدًا سأصبحُ الرجلَ الأكثر ولاءً في مؤسستك. وليس ذلك فحسب لأنني أقدِّر الصفقة الجيدة عندما تجيء لي. ولكن السبب الرئيسي هو أن كلينا في فريق واحد، على الجانب نفسه من الأمور.»

«كلامُك غير واضح بما يكفي يا ماركوس. ما الذي يدور في ذهنك؟»

«ببساطة، لقد جئتُ إلى هنا بصفتي عميلًا لمشروع المحاكاة الآخر.»

«بارنفيلد؟»

أومأ هيث برأسه إيجابًا. «أتقاضى راتبي منهم في الوقت الحالي. كان يُفترَض أن أسرق جميع أسرار شركة ريأكشنز؛ كي تتمكَّن بارنفيلد من إتمام صناعة جهاز محاكاة يُنافِس جهازَك.»

على الرغم من أنني كنت تحت تأثير الشلل الذي أصابني به مسدس الليزر، فقد فهمتُ أخيرًا. لقد تسرَّعتُ مجدَّدًا في التفسير بسبب الغموض الذي شاب الأمورَ. كان هيث عميلًا داخليًّا لإحدى شركات المحاكاة الإلكترونية، ولكن من أجل صناعة مُحاكٍ منافِس في هذا العالَم فحسب.

سأله سيسكين باهتمام: «وهل فعلت ذلك؟»

«لا يا هوراس. لم أنوِ أن أفعل ذلك. ليس منذ المحادثة الثانية التي خُضتها معك حول العمل هنا. سيؤكِّد الخبير النفسي المعتمَد ذلك.»

لاذَ سيسكين بالصمت.

«ألا ترى يا هوراس؟ أريدُ أن أعمل معك بإخلاص. أردتُ منذ البداية تقريبًا أن أعمل لصالحك بقدر ما أستطيع.

كلُّ ما في الأمر هو أنني لم أكن قد قرَّرتُ بعدُ الوقتَ الذي أُصارحك فيه، وأطلبُ إجراءَ فحصٍ لدى الخبير النفسي المعتمَد.»

«وما الذي دفعك إلى هذا القرار؟»

«اقتحام هُول عليَّ الغرفة قبل بضع دقائق؛ ليخبرني بأنه يعرف بصلتي ببارنفيلد ويهدِّدني بكَشْف أمري.»

بدَت السعادة على صوت سيسكين عندما قال: «وهل أنت على استعدادٍ لتأكيد كل هذا أمام الخبير النفسي المعتمَد؟»

«في أي وقت. الآن إذا أردت.»

«لا بأسَ من الانتظار للغَد.» ثم ضحكَ سيسكين بسعادة، وأردفَ قائلًا: «زرعتْ بارنفيلد عميلًا هنا! هل يمكنك تخيُّل ذلك؟ حسنًا جدًّا يا ماركوس. سنظل على اتفاقنا، إذا أعطانا الخبير النفسي المعتمَد تأكيدًا بالطبع. وستمدُّ بارنفيلد بجميع المعلومات التي تريدها، والتي يُفترَض أنها سرية. كلُّ ما هنالك هو أننا سنتأكَّد من أنها بيانات مُزيَّفة من النوع الذي سيقضي عليها تمامًا.»

أنهى هيث الاتصال وتوجَّه نحوي. ثم قال: «حسنًا يا هُول، لم يَعُد معك شيءٌ ضدي، أليس كذلك؟ والأدهى من ذلك أنك ستتعذَّب بعد أن أُطلِق الليزر عليك.» سكتَ قليلًا متذوِّقًا طعم النصر. ثم أضافَ: «سأجعل جادسن يعيدك إلى المنزل.»

لم يكن أيٌّ من سيسكين وهيث هو وحدة الاتصال. مَن التالي الذي عساي أن أبحثَ عنه؟ صِدقًا لم أكن أعرف. توصلتُ في نهاية المطاف إلى أن الوحدة يمكن أن تكون أي شخص، حتى أقل الموظفين منصبًا. وكنت قد توصلتُ إلى قناعة يائسة أنني، قبل وقتٍ طويل من انتهاء بحثي، سأجد نفسي فجأةً تحت التأثير المميت لنوبة اقتران تقمُّصي تالية لا مفر منها. سيكتشف المتحكِّم الأعلى حينئذٍ أنني أعرف كلَّ شيءٍ عن واقعه الأعلى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤