الفصل الثاني عشر

ظلَّت تياراتٌ من الحُمَم تسري في أوردتي طوال الليل، حيث أخذتْ آثار ما بعد الرش بالليزر مسارها في الألم المبرِّح. ربما كنت أُخفي الألم تحت موجة من الحقد الانتقامي من هيث. ولكنه قد مرَّ وقتٌ طويل منذ أن فقدتُ توهُّمي بأنَّ الأمور المادية التافهة قد لا تزال ذات أهمية.

قبل منتصف النهار بقليل، ساعدني حارسٌ كلَّفه جادسن بشقتي على النهوض من السرير، وقادني إلى المطبخ. تناولتُ وجبة فطور خفيفة من الخادم الآلي. ولم تكن مشبِعة. ومع ذلك، لم تكن معدتي قادرة على هضمها.

بعدما غادر، قضمتُ قطعة من الخبز المحمَّص المتوازن، وتناولتُ قليلًا من القهوة. ثم جلستُ مكاني أتساءلُ عما إذا كان من الممكن التكيُّف مع المعلومات التي أخبرني بها فولر.

لم أكن شيئًا، مجرد حُزمة من شحنات المحاكاة الإلكترونية. ولكن لا بد أنني كنت موجودًا. لم يكن ليقبل المنطق البسيط بأقل من ذلك. أنا أفكِّر، إذن أنا موجود. ولكني إذن لم أكن أولَ شخص تؤرِّقه احتمالية أن كلَّ شيءٍ غير حقيقي. ماذا عمَّن تبنَّوا مبدأ الذاتوية، وفلسفة بيركلي، والفلسفة المتعالية؟ كان الواقع الموضوعي عبر التاريخ محلَّ نظر دقيق. لم يكن مناصِرو الذاتية استثناءً كبيرًا في جهود فهم الطبيعة الحقيقية للوجود. وحتى العلم البحت قد رجَّح بشدة الظاهراتية بمبدئها من عدم اليقين، أي: مفهومها القائل بأنَّ المُلاحَظ جزءٌ لا يتجزأ من المُلاحِظ.

في الواقع، لم يفتقر علم الوجود قط إلى تقديره للمذهب التصوُّري. رأى أفلاطون أنَّ الحقيقة المطلَقة لا توجد إلا في صورة أفكار بحتة. وفي رأي أرسطو، كانت المادة شيئًا غير جوهري وسلبيًّا، يحفِّز التفكيرَ على إنتاج الواقع. لم يكن التعريف الأخير في جوهره شديدَ البُعد عن مفهوم السعة الذاتية لوحدات الهوية، أي: تأثيرها في بيئتها المحاكاة إلكترونيًّا وتأثُّرها بها.

لم يكن تقديري المكتسَب مؤخرًا للحقيقة الأساسية ينقصه سوى تسليم أخير، وهو يوم الفَناء؛ فعندما يأتي لن يكون ظاهرةً فيزيائية، بل محو تام لدوائر المحاكاة الإلكترونية.

ومن بين كل المفاهيم الميتافيزيقية التي بزغت طوال تاريخ الفلسفة الطويل، كان مفهومي هو الوحيد المنفتح على تأكيدٍ أخير. يمكن إثباته على نحو قاطع بمجرد العثور على العميل المكلَّف بإلغائي؛ وحدة الاتصال المخفية.

بحلول الظهيرة، أزالَ عني حمَّامٌ ساخن وتدليكٌ بسَفْع الهواء آخِر تشنُّجات نتجت عن مسدس الليزر، وعُدتُ إلى شركة ريأكشنز.

في الممر المركزي، خرجَ تشاك ويتني من قسم توليد الوظائف وأمسكَ بذراعي. سألَ: «دوج! ما الذي يحدث؟ لماذا يجلس هيث في مكتبك؟»

«دعنا نَقُل إنني في نزاعٍ مع سيسكين.»

«حسنًا، ما دمتَ لا تريد التحدُّث عن ذلك …» ثم دخلَ إلى قسم توليد الوظائف وأشار إليَّ أن أتبعه. وقال: «من المفترَض أن أُريك مكانَ عملك من الآن فصاعدًا.»

قادني أمام وحدة تكامل البيانات الأساسية، وإلى آخِر صف من موزِّعات الإدخال الضخمة، حيث كانت كلُّ خزانة جاثمة تقف مثل حارس كئيب بمئات العيون الوامضة والأقراص الدوَّارة.

وصلنا إلى الطرف الآخر من الغرفة، وأشار إلى صندوقٍ صغير ذي جدران زجاجية. وقال: «خذ راحتك.»

دخلنا وقضينا بعضَ الوقت نتفحَّصُ المكانَ الجديد الكئيب الذي فُرِض عليَّ. أرضيةٌ عارية من خشب البلوط غير المصقول. مكتب مزوَّد بجهاز نسخ صوتي مفتوح لأَستخدمه في مراسلاتي. كُرسيَّان مستقيما الظهر، وخزانة ملفات.

جلسَ تشاك على الكرسي الإضافي بالعكس. وقال: «كان سيسكين هنا في الصباح. وقد أحضر مساعِدَين جديدَين لهيث. مما فهمت، لقد رتَّبَ لعرض المحاكي على العامة في أقرب وقتٍ ممكن.»

«ربما يريد أن يأسر وجدان العامَّة بعرضٍ استعراضيٍّ كبير.»

قال: «أنت على وشك المغادرة يا دوج. لماذا؟»

غُصتُ في الكرسي الآخر. وقلتُ: «سيسكين لديه أفكاره الخاصة حول كيفية استخدام المحاكي. وأنا لا أتفقُ معه.»

«إذا كان هناك أيُّ شيءٍ يمكنني فعله، فما عليك سوى أن تخبرني.»

هل كان ويتني هو وحدة الاتصال؟ شخصٌ عرفته على مدار سنوات؟ صديقي المفضَّل؟ حسنًا، لِم لا؟ في المحاكي الذي صنعناه كان لفيل أشتون معارف مقرَّبون أيضًا. ولم يشكَّ أحدٌ منهم في طبيعته الحقيقية.

سألتُ مفكِّرًا: «تشاك، كيف تميِّز بين العمليات الإدراكية ذات الصلة عندما ترى كُرسيًّا، على سبيل المثال، وعندما ترى وحدة هوية كرسيًّا مكافئًا مُحاكًى إلكترونيًّا؟»

«أسيكون ذلك في إطار جلسة للتلاعُب بالعقول؟» وضحكَ.

«حقًّا، ما الفرق؟»

«حسنًا، في حالتنا، تسقط صورة ثنائية الأبعاد للكرسي على شبكية العين. تستشعرها الأعصابُ، وتقسِّمها إلى سلسلة من النبضات الحِسية التي تُرسَل مباشرةً إلى الدماغ. في شكل معلوماتٍ مُشفَّرة. تحويل خطي.»

«وماذا يحدث في حالة وحدة الهوية؟»

«الكرسي التناظري هو في الواقع نمطٌ من النبضات المخزَّنة. عندما تصادِفُ الوحدة اتصالًا «مرئيًّا» عبر المحاكاة الإلكترونية بالكرسي، تتأثَّر إحدى دوائرها الإدراكية بتلك النبضات. وتنقلها الدائرة بدورها إلى حاويات الذاكرة الخاصة بالوحدة.»

«ما مدى كفاءة النظام الإدراكي لوحدة الهوية؟»

«إنَّه يضاهي نظامنا الإدراكي. فكلُّ حاوية من حاويات الذاكرة لدى وحدة الهوية تخزِّن ما يزيد على سبعة ملايين بت، وتُكمِل الدورة الواحدة في جزأين من الألف من الثانية. ونتيجةً لذلك، فإنَّ زمنَ الإدراكِ وردِّ الفعل مكافئٌ لزماننا تقريبًا.»

اتكأتُ للخلف أشاهِدُ وجهه بتمعُّن، وأتساءلُ عما إذا كان قد شكَّ فيما إذا كنت أقوده إلى منطقةٍ محظورة. «وماذا يحدث عندما تخرج وحدة الهوية عن السيطرة؟»

«هل تفقدُ عقلها؟» حدَّب كتفَيه في غير علم. ثم أضافَ: «يخرج الموزِّع عن المزامنة. وتتلقَّى الدوائر الإدراكية لوحدة الهوية نبضاتٍ متضاربة. ومن ثَم، يظهر فجأة شيءٌ لا يُفترَض أن يظهر، أو قد يختفي. وتبدأ الوحدة المتشكِّكة في ملاحظة الصَّدع الموجود في بيئتها المُحاكاة إلكترونيًّا نتيجة عملها في ظل تعديلٍ مَعِيب.»

قلتُ وقد أصبحتُ أكثر جرأة فجأة: «كالحال، على سبيل المثال، عند التعثُّر في أحد الطرق، مُنعطَف لضواحي المدينة، واكتشاف نصف مجرَّة غير موجودة؟»

«بالطبع. شيءٌ من هذا القبيل.»

قال ذلك دون أن يرجف له جفن. على ما يبدو أنه قد اجتازَ الاختبار بنجاح.

من ناحية أخرى، هل يمكن لوحدة اتصال، برمَجها المتحكِّم في الواقع الأعلى، أن تكون بهذه الكفاءة؟

ثم عندما حدَّقتُ عبر الفاصل الزجاجي في قسم توليد الوظائف، توتَّرتُ عندما أدركتُ أنني في تلك اللحظة تحديدًا كنت أنظر إلى أحد «الصدوع البيئية».

عندما رأى ويتني تعابيرَ وجهي، أَلقى نظرةً حَيرَى داخل الغرفة. وسألني: «ما الأمر؟»

أدركتُ على الفور فرصةً لإجراء اختبار ثانٍ، للتأكُّد أكثر من أنه لم يكن هو وحدة الاتصال. ضحكتُ. ثم قلتُ: «لاحظتُ للتو شيئًا غريبًا بشأن وحدة تكامل البيانات الرئيسية لدينا.»

تفحَّصها في لحظتها. وقال: «لا أرى شيئًا.»

«الخزانة بأكملها عبارة عن وحدة مندمجة واحدة. أظن أن بإمكاني تقدير أبعادها. خمس أقدام ونصف في اثنتَي عشرة. بارتفاع أكثر قليلًا من عشر أقدام. هل تتذكَّر عندما ثبَّتناها؟»

«بالطبع. لقد وجَّهتُ الطاقم.»

«ولكن يا تشاك، لا توجد نافذة أو باب في هذه الغرفة بالحجم الذي يسمح بمرور شيءٍ بهذا الحجم من خلاله!»

ارتبكَ للحظة. ثم ضحكَ وأشارَ بيده. «ما لم يكن قد مرَّ عبر ذلك الباب الخلفي المؤدي إلى ساحة انتظار السيارات.»

حافظتُ على ملامح وجهٍ حازمة عندما استدرتُ ونظرتُ. كان هناك بابٌ بالفعل، كبيرٌ بما يكفي لإدخال جهاز التكامُل. ولكنه لم يكن موجودًا قبل لحظة!

لقد حفَّز ردُّ فعل تشاك المتحيِّر دائرةَ تعديل آلية. كانت قدرتي على تذكُّر الوقت الذي لم يكن فيه البابُ موجودًا؛ الدليلَ الوحيد على أنني ما زلتُ، لسببٍ ما، لم أتعرَّض لإعادة التوجيه.

رنَّ جرسُ جهاز الاتصال الداخلي. ضغطتُ على زر التشغيل وأضاءَ الشاشة وجهُ دوروثي فورد القَلِق. رمقَتْ تشاك بنظرةٍ مضطربة.

قال مُجامِلًا قبل أن يغادر: «لديَّ عمل لأقوم به.»

لاحظتُ أنَّ دوروثي تخوض معركة حامية مع قلقها. كانت عيناها دامعتَين، وأصابعها تتشابك في توتر. سألتْ: «هل سيخفِّف من حدَّة الأمر إنْ قلت إنني آسفة؟»

«هل أخبرتِ سيسكين أنني أنوي إفسادَ خُططه؟»

أومأتْ برأسها في حرج. وقالت: «نعم يا دوج. كان عليَّ أن أفعل ذلك.»

وقد علمتُ من صدق صوتها أنَّ خيانتي كانت آخِر ما ترغب في فعله.

واصلتْ حديثَها بجدية. «لقد حذَّرتُكَ، أليس كذلك؟ لقد أوضحتُ أنه يتعيَّن عليَّ أن أعتني بمصلحة سيسكين.»

«وقد أثبتِّ كفاءةً في عملكِ.»

«نعم، أظنُّ ذلك. لكنني لست فخورةً بما فعلت.»

ولهذا السبب، اعترفَت بأنها كشفت أمري لسيسكين. هل ستعترف في النهاية بأنها خانتني لصالح قوة أكبر بكثير.

ضحكتُ. وسألتُها: «لن نترك الأمر عند هذا الحد، أليس كذلك؟»

عبستْ في حيرة.

وتابعتُ: «حسنًا، لقد قُلتِ ذات مرة إن كلينا لديه وظيفته، ولكن لا يزال بإمكاننا الاستمتاع معًا.»

لم تفعل شيئًا سوى أنها طأطأت رأسَها، فيما بدا أنه خيبة أمل مباغتة.

قلتُ متظاهرًا بالمرارة: «أوه، أتفهَّم الأمر. الوضعُ لم يَعُد كما كان. الآن وقد حقَّقتِ هدفكِ، لم أَعُد محل اهتمامكِ.»

«لا، الأمر ليس كذلك يا دوج.»

«لكنكِ بالتأكيد قد أدَّيتِ واجبكِ على نحو جدير بالإطراء، ولستِ بحاجة لمراقبتي من الآن فصاعدًا.»

«لا، هذا غير صحيح. سيسكين راضٍ تمامًا.»

تظاهرتُ بنفاد الصبر، وشرعتُ في إغلاق جهاز الاتصال الداخلي.

انحنتْ إلى الأمام بلهفة. ثم قالت: «كلَّا، انتظر!»

هل كانت مجرد فتاة أُصيبَت بخيبة أمل لأن الشخص المفترَض فيه التواضع، الذي لعبت عليه لعبتها أثناء أدائها لعملها، قد قرَّر قبولَ عرضها؟ أم أنها وحدة اتصال تخشى أن تفقد تواصلها المباشر مع موضوع ملاحظتها.

قالت بلا حماس: «حسنًا، يمكننا الاستمتاع.»

سألتُها: «متى؟»

تردَّدتْ. ثم قالت: «متى أردت.»

في تلك اللحظة، لم أستطع أن أتخيَّل شخصًا مثيرًا للشُّبهة في بحثي عن وحدة الاتصال أكثر منها. يمكنني التحقق من هذا الأمر جيدًا. قلتُ مقترحًا: «الليلة. في منزلكِ.»

كانت شقة دوروثي فورد أحد تلك المعتكَفات الوثيرة المترَفة، التي ارتبطت عادةً بالامتيازات المتحرِّرة لرجال الأعمال الأثرياء. رأيتُ منذ البداية، بدعوتها لي للقدوم إلى هنا، أنَّ الأمر لم يَعدُ كونَه إهانةً أخرى للفتاة.

جداريات متحركة ثلاثية الأبعاد، لكلٍّ منها خلفية موسيقية، ومشهد إيحائي مُتباهٍ. نفخَ الإله بان في مِصفاره، وركلَ للأعلى بحوافره المشقوقة، بينما أحاطت به الحوريات الخليعات برقصهن الحسي المنغمس في الملذات. عانقَت أفروديت أدونيس بين عمودَين رخاميَّين مزيَّنَين بالورود المتسلِّقة ومُؤَطَّرين لخلفية بعيدة من بحر إيجة. وكليوباترا، بشعرها الداكن المتلألئ في الانعكاس الناعم لضوء القمر المداعِب على صفحة النيل، ترفع كأسًا مُرصَّعةً نخبَ مارك أنطونيو، ثم تنحني إلى الوراء أمام سور مركبها.

يشرف على كل ذلك صورةٌ شخصية ثلاثية الأبعاد لهوراس بي سيسكين. حدَّقتُ في اللوحة أعلاه، وقد أدركتُ في ذلك الحين وجهًا في شخصية الرجل لم أكن واعيًا به من قبل. كانت عيناه، في تحديقهما في جدارية أفروديت وأدونيس، تُشعَّان بنيَّة داعِرة. لم يُعطِ كامِلُ تعابير وجهه سوى انطباع حتمي واحد، وهو الشهوانية.

تلاشى السحر المتناغم للغرفة عندما ضغطتْ دوروثي زر الطلب في الساقي الآلي. تلقتْ شرابها، وارتشفتْ نصفَه، ثم حدَّقتْ شاردة الذهن في كأسها، كما لو كانت تبحث عن شيءٍ فقدتْه منذ زمن طويل. كانت ترتدي ثياب نوم مريحة باللون الأزرق الناعم، مُشذَّبة بفَرو القاقُم الأبيض. وكان شعرها، المرفوع لأعلى والمتلألئ برذاذٍ وامض، مثلَ تاج ناعم من غُبار النجوم الذي كشفَ بطريقةٍ ما عن مظهر بريء مليء بالحيوية لوجهها المنحوت. غير أن ثمة إصرارًا هادئًا قد علا ملامحَها. لقد عقدتْ صفقة. والآن كانت على وشك أن تنفِّذ نهايتها.

تجوَّلتْ في المكان مشيرةً نحو صورة سيسكين الشخصية. وقالت: «يمكنني أن أسحبَ الستائر وأُزيله من الصورة.»

«أتُزيلينه من كل تلك الأشياء التي يمتلكها؟»

جفلت. وقالت: «لم يعد مهتمًّا. كانت تعني له شيئًا يومًا ما. ولكن الحيوية ليست بالشيء الذي يدوم.»

«تبدين نادمة.»

«يا إلهي، لا.»

رجعتْ وطلبت لنفسها شرابًا منعِشًا آخر، وتركتني جالسًا في مكاني حائرًا. هل تسمح وحدة الاتصال لنفسها أن تتورَّط في تعقيداتٍ غير تقليدية؟

استنفدَت الشرابَ المنعش، وانتظرتْ كأسًا ثانية، ثم عادت. كان مفعول الكحول قد بدأ. بدت معنوياتها أعلى بعضَ الشيء، على الرغم من أنَّ أثرًا من تجهُّم قد ظلَّ على وجهها.

«هذا نخب «عظيم الشأن قصير القامة».» رفعت كأسها وارتشفت منه، ثم تراجعتْ للخلف وسكبته على الصورة.

نزلَ على وجنة سيسكين اليسرى، تاركًا شقًّا في القماش الذي أكملَ فُرجة فمه المائلة. بدا الشراب المسكوب كما لو كان متدفِّقًا من فمه.

ضحكتْ بجفاءٍ وقالت: «الآن، أنا لا أريد أن أفعل ذلك يا دوج.» وأضافت: «ستظن أنني ليست لديَّ روحٌ رياضية.»

«لماذا سمحتِ لي بالمجيء إلى هنا؟»

هزَّتْ كتفَيها وكذبت. «من أجل الأجواء. لن تجد مكانًا أنسب من ذلك في أرجاء المدينة. فذوقُ سيسكين لا يمكن مقاومته، مثله تمامًا.»

عندما رجعتُ إلى طاولة الشراب، أمسكتُ بذراعها. استدارتْ، وتمايلت قليلًا، وحدَّقتْ في عينَيَّ بنظرةٍ ثاقبة.

قالت: «لقد حذَّرتُكَ من قبل، رغم أني ما كان يجب أن أفعل ذلك. إليكَ تحذيرًا آخر مجانيًّا. ينبغي ألَّا تتورَّط معي في شيءٍ. لقد جئتُ بكَ إلى هنا لتدركَ ذلك بنفسك.»

على الرغم من هدفي المُلحِّ من زيارتها، وجدتُ نفسي أنجذبُ لا إراديًّا إلى لغز دوروثي فورد. وتساءلتُ بشعورٍ من الشفقة عن الداعي الغريب للبرمجة الخاصة التي كانت مسئولة عن إنتاج شخصيتها.

سألتُ: «متى كانت آخِر مرة جاء فيها سيسكين إلى هنا؟»

«منذ عامَين.»

«وهل أنتِ محبَطة؟»

بدا الاستياءُ في عينَيها. وأزاحتْ رأسي جانبًا بصفعةٍ لاسعة. ذهبتْ إلى الكرسي الطويل ودفنتْ وجهَها في أعماقه الوثيرة.

تبعتُها. وقلتُ: «أنا آسف يا دوروثي.»

«لا تتأسَّف. لقد شاركتُ في الأمر بكامل وعيي.»

«لا، لستِ في كامل وعيك. ذلك واضح. ماذا حدث؟»

نظرتْ إلى أعلى، وحدَّقتْ في جدارية أنطونيو وكليوباترا. وقالت: «كثيرًا ما أتخيَّل أن قدرتي على تقرير مصيري لا تتعدَّى قدرة إحدى الشخصيات في جهازنا. فثمة أوقاتٌ أشعرُ فيها وكأنني واحدة منهم. حتى إنني أرى أحلامًا مروِّعة يجلس فيها سيسكين أمام جهاز «سميولكرون-٣» ويجعلني أرقصُ كالدمية.»

عرفتُ في ذلك الحين أن دوروثي فورد لم يكن من الممكن أن تكون هي وحدة الاتصال.

آخِر شيء يفعله عميل من هذا النوع هو أن يُلمِّح، ولو من بعيدٍ، بالظروف الحقيقية للواقع. بدلًا من ذلك، فقد كادت أن تُصيب كبد الحقيقة.

تابعتْ من بعيد: «كلَّا. لستُ امرأةً شَبِقة. لم أعرف سوى سيسكين. فوالدي، كما تعلم، أحد مديري الشركة التابعة للمؤسسة. وسيظل العبقريَّ المالي — كما يتخيَّل — ما دمتُ أُلبِّي رغبات سيسكين.»

«تقصدين أنَّ نجاح والدكِ مشروطٌ فقط بأنكِ …»

أومأتْ برأسها في بؤس. وقالت: «هذا هو السببُ الوحيد. عندما وظَّفه سيسكين قبل خمس سنوات، كان والدي يتعافى من نوبةٍ قلبية. لم يستطع استيعابَ الوضع الذي كان عليه.»

جفلتْ عندما دقَّ جرسُ الباب. ذهبتُ إليه وشغَّلتُ شاشة الفيديو الأحادية الاتجاه.

كان الرجلُ في الممر يحمل دفترًا عندما عرَّفَ نفسه. وقال: «جيمس روس، راصد ردود أفعال معتمَد رقم ٢٣١٧-ب٣. للآنسة دوروثي فورد.»

كان من قبيل المصادفة البحتة أن يظهر أحدُ راصدي ردود الأفعال، في اللحظة نفسها التي كنت أحاول فيها إثبات ما إذا كانت دوروثي هي وحدة الاتصال.

قلتُ: «الآنسة فورد مريضة. لا تستطيع رؤية أحد.»

«آسف يا سيدي، لكني يجب أن أطالب بعد ذلك بحقوقي بموجب قانون راصدي ردود الأفعال.»

ثم تذكَّرتُ ما رأيتُه عندما دخلتُ الشقة. وقلت: «إذا نظرتَ أعلى عدسة الاتصال يا سيد روس، فستلاحظ وثيقة تقول إن الآنسة فورد لديها «إعفاءٌ مسائي» خاص.»

ما إنْ نظر للأعلى حتى تجهَّم في خيبة أمل. وقال: «آسفٌ يا سيدي. لم أرَ ذلك.»

بعد أن أطفأتُ الشاشة، وقفتُ مكاني لفترة طويلة وإصبعي على الزر. هل هو مجرد خطأ؟ أم كان اتحاد راصدي ردود الأفعال متورِّطًا بطريقة ما في مخطَّط الواقع الأعلى لي؟

ذهبتُ إلى طاولة الشراب، والبداياتُ الخافتة للإدراك المنطقي تحاول اختراق تشوُّشي. إلى جانب كوني قد برمَجني المتحكِّم في العالَم الأعلى، كان اتحادُ راصدي ردود الأفعال في موقع ممتاز لممارسة المراقبة عن قرب، ليس فقط عليَّ، ولكن على الجميع إنْ أراد.

ألم يكن يحذِّرني أحدُ مستطلعي الآراء المجهولين: «أستحلفك يا هُول … أن تنسى الأمر اللعين برُمَّته»؟

طلبتُ شرابًا، ولكنني تركتُه في فتحة الاستلام، متسائِلًا عما إذا كان راصدو ردود الأفعال أنفسهم ربما ليسوا مكلَّفين بوظيفة محدَّدة غير متوقَّعة في هذا العالَم الزائف.

ثم باغتَتْني الإجابة: بالطبع! لِم لَم أفكِّر في ذلك من قبل؟ المخلوقات المحاكاة إلكترونيًّا لا يمكن أن توجَد كغاية في حَد ذاتها. لا بد من وجود «عِلَّة للوجود»، وظيفة أصلية. كان المجتمع التناظري الذي بنيتُه مع فولر يُعنَى في الأساس بالتنبؤ بردود الأفعال الفردية كوسيلة لتقييم رواج المنتجات التجارية في الأسواق.

على غرار ذلك، ولكن على مستوًى أعلى، فإن عالَمنا بأكمله، المُحاكَى إلكترونيًّا، الذي أوجَد فيه بصفتي وحدة رد فعل؛ لم يكن سوى وسيلة للأسئلة والإجابات لتثقيف المنتجين، والصنَّاع، والمسوِّقين، والتجَّار في ذلك الواقع الأعلى!

«مثَّل راصدو ردود الأفعال النظام الذي يطرح من خلاله المتحكِّم الأعلى أسئلته، ويقدِّم محفزاته!» كانت الوسيلة مماثلة للوسيلة الأكثر بدائيةً لفولر من استخدام لوحاتِ الإعلانات التناظرية، والشبكات الموجَّهة للجمهور، والتلفزة المفتوحة لتحفيز ردود الأفعال في المحاكي الذي صنعناه!

ألمْ يكن من المنطقي أن يكون للمتحكِّم الأعلى عميلٌ مُطَّلِع على صلةٍ مباشرة باتحاد راصدي ردود الأفعال، الذي هو أهم مؤسسة في نظامه المُحاكَى إلكترونيًّا بأكمله؟

في وقتٍ مبكر من صباح اليوم التالي، هبطتُ بهدوءٍ في إحدى ساحات انتظار السيارات على بُعد مربعَين سكنيَّين من مبنى اتحاد راصدي ردود الأفعال. قطعتُ بقية المسافة على الرصيف المتحرك واضعًا على ذراعي الشيءَ الوحيدَ الذي كان سيضمن لي دخولًا غير مشروط لمقر الاتحاد، وهو شارة الذراع التي انتزعتُها من مستطلع الرأي الذي حاولَ تحذيري.

غير أنه عند المدخل، لم يكن هناك أي حُرَّاس للتحقق من هويات الراصدين الذين كانوا يتدفَّقون إلى المبنى لأداءِ مهامهم. ولكن قبل أن يستبدَّ بي الشكُّ، ذكَّرتُ نفسي بأنَّ الاتحادَ لم يكن مؤسسة سرية، ولم يكن على ما يبدو لديه شيءٌ ليُخفيه.

في الردهة المركزية، توقَّفتُ أمام لوحة المعلومات، وبحثتُ فيها بإدخال عبارة «مكتب الرئيس، ٣٤٠٧.»

كانت لديَّ خطةٌ بسيطة. كلُّ ما هنالك أنني كنت سأطلبُ من سكرتارية كلِّ مسئول، من أعلاهم رتبةً إلى أدناهم، أن يعلنوا عن أن راصدًا جديدًا من شركة الواقع الأعلى المحدودة كان يُجري تحقيقًا بشأن الاتحاد. إذا كانت في المكان وحدة اتصال، فإن مجرد ذكر اسم الشركة التي زعمت أنني أمثِّلها سيُخرِجها من عَرينها.

في الطابق الرابع والثلاثين، خرجتُ من المصعد واختبأتُ على الفور خلفَ نَبتة في وعاءٍ فخم. كان هناك رجلان يخرجان لتوِّهما من مكتب الرئيس.

ولكن حتى وأنا أحاول الاختباء، أدركتُ أنَّ أحدهما قد رآني وعرَفَني.

وقد كان هذا الرجل هو وحدة الاتصال نفسها!

لا بد أنه هو. لأنه كان أفيري كولينجسورث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤