الفصل الثالث عشر

توقَّفَ كولينجسورث أمام النَّبتة في الوعاء، وتلاقتْ أعيننا، حيث كانت عيناه ثابتتَين لا تعبيرَ فيهما، وكانت عيناي تبحثان مضطربتَين عن طريق للهرب. لكن لم يكن هناك من مفر.

اندفعَ الرجل الآخر عائدًا إلى غرفة الرئيس.

قال كولينجسورث بهدوء: «كنت أتوقَّع قدومَك.»

كانت غريزتي تصرخ في داخلي بأنْ أقتله، بسرعة، قبل أن يتمكَّن من إعطاء إشارة للمتحكِّم الأعلى.

قال المستشار النفسي: «كنت أعلم أنك ستفترض، عاجلًا غير آجل، أنَّ الاتحاد هو خادم المتحكِّم الأعلى في هذا العالَم. ومتى كنت ستفكِّر في ذلك، كان سيصبح لزامًا عليك أن تأتي إلى هنا؛ بحثًا عن وحدة الاتصال الخاصة بك. أليس كذلك يا دوج؟»

أومأتُ موافقًا وعاجزًا عن الرد.

ابتسمَ ابتسامةً خافتة. أعطاه هذا التعبير، مع شعره الأشعث الأبيض ووجهه الممتلئ، مظهرًا ملائكيًّا غريبَ الأطوار.

تابعَ: «ومن ثَم، أتيتَ إلى هنا ووجدتَني. كنت أخشى حدوث ذلك. لكني لا أظن هذا مهمًّا بعد الآن. لأنه، كما تعلم، قد فات الأوان.»

سألتُ، وكان لا يزال لديَّ بصيصٌ من أمل: «ألن تُبلِغ عني؟»

كرَّر سؤالي: «ألن أُبلِغ عنك؟» وقال ضاحكًا: «دوج، إنَّ عقلك لم يخرج من ثغرته، ألن ينوي؟ ألا ترى بعد أن …»

خرجَ الرجل الذي كان معه مرةً أخرى من مكتب الرئيس. كان هذه المرة في صحبة أربعة من راصدي ردود الأفعال الذين يبدو على مظهرهم العنف.

لكن كولينجسورث وقفَ في طريقهم. وقال: «لا ضرورة لذلك.»

«لكنك قلتَ إنه كان يعمل لدى شركة ريأكشنز!»

«ربما لا يزال يعمل بها. لكنه لن يستمر في ذلك، ليس لوقتٍ طويل. فقد وضعه سيسكين على المحكِّ.»

نظر إليَّ الرجل مخمِّنًا. «أهذا هو هُول؟»

أومأ كولينجسورث أنْ نعم. «دوجلاس هُول، المدير الفني السابق لشركة رين. دوج، هذا فيرنون كار. كما تعلم، كار هو رئيسُ اتحاد راصدي ردود الأفعال.»

مَد الرجلُ يَده. لكنني تراجعتُ. لم أسمعْ من المحادثة سوى أصواتٍ خافتة. فقد كنت مشغولًا بالاستعداد للَّحظة الأخيرة التي سيتخلَّصون مني فيها على الفور. هل سيحدث ذلك دون سابق إنذار؟ أم أنَّ المتحكِّم الأعلى سيتواصل معي أولًا للتحقُّق من عدم صلاحيتي؟

قال أفيري في اعتذارٍ غامض: «عليكَ أن تعذر هُول، إنه ليس في حالته الطبيعية. كانت لديه مشكلاته الخاصة منذ البداية. ولم يكن سيسكين يسهِّل الأمورَ عليه نهائيًّا.»

سألَ كار: «ماذا سنفعل معه؟»

أخذني كولينجسورث من ذراعي وسحبني عبر الردهة نحو بابٍ مغلق. وقال: «قبل أن نقرِّر ذلك، أريدُ أن أتحدَّث معه على انفراد.»

فتحَ الباب بضغطة زر، وأدخلني إلى ما كان واضحًا أنه غرفة اجتماعاتٍ، ذات طاولةٍ طويلة من خشب الماهوجني، موجود على جانبَيها صفَّان من الكراسي الشاغرة.

ثم فهمت. كان عليه أن ينفرد بي كي لا يكون هناك شهودٌ على إلغاء برمجتي.

التفتُّ ودفعتُ زرَّ الباب. لكنه كان مُوصَدًا.

قال كولينجسورث مُهدِّئًا من رَوعي: «خُذ الأمور ببساطة. أنا لست وحدة اتصال.»

استدرتُ مرتابًا ونظرتُ إلى وجهه. وسألتُه: «أحقًّا؟»

فأجابني: «لو كنت كذلك، لقرَّرتُ التخلصَ منك منذ وقتٍ طويل، وذلك حسب قناعاتك العنيدة.»

«إذن ماذا تفعل هنا؟»

«فلْتنسَ هَوَسك اللعين. انظر إلى هذا التقدُّم بعقلانية. أليس من المنطقي أن أنساقَ بالكامل ضد هوراس سيسكين وشركته الحقيرة؟ باختصار، أنا عميل، حسنًا. ولكن ليس بالمعنى الذي تتخيَّله. أنا أتعاون مع اتحاد راصدي ردود الأفعال؛ لأنني أدرك أنها المؤسسة الوحيدة التي تمتلك القوة الكافية لمحاربة مُحاكي سيسكين.»

تلمَّستُ طريقي إلى أحد الكراسي وأنا مرتاح، ولكن مرتبك في الوقت نفسه.

جاءَ كولينجسورث ووقفَ أمامي. ثم قال: «لقد كنت أعمل مع راصدي ردود الأفعال، وأُبقيهم على اطلاع بكل تحرُّكات سيسكين. ولهذا السبب، كان الاتحادُ مستعدًّا بمناورته الاعتصامية خلال ساعاتٍ من إعلان سيسكين عن المحاكي «سميولكرون-٣» أثناء الحفل.»

نظرتُ لأعلى. ثم سألتُ: «هل زرعتَ قنبلة الثرميت؟»

«نعم. ولكن صدِّقني يا بُنيَّ، لم أكن أعلم أنك ستكون في غرفة العين السحرية عند انفجارها.»

كرَّرتُ غير مصدِّق: «أكنت تتجسَّس على سيسكين؟»

قال أفيري وهو يُومئ برأسه: «إنه فاسِد يا دوج. لقد أدركتُ هدفَه الأساسي عندما رأيتُه مع هارتسون. لكني كنت أعمل مع فيرنون كار قبل ذلك بزمنٍ طويل. كان لديَّ ما يكفي من الحس الداخلي القوي، كي أعلم أنك لا تستطيع أن تطرد ملايين الأشخاص في جميع أنحاء البلاد من عملهم، بالضغط على زر المحاكي الإلكتروني.»

عندما اقتنعتُ أخيرًا أنه رغم كل شيءٍ لم يكن هو وحدة الاتصال، فقدتُ اهتمامي بتعقيداته التافهة. لكنه ظنَّ خطأً أن صمتي دلالةٌ على الشكِّ.

«يمكننا أن نحاربه يا بُنيَّ! لدينا حلفاء لا نعرف حتى أيَّ شيءٍ عنهم! على سبيل المثال، لقد جعل سيسكين والحزبُ أتباعَهم يقدِّمون قانونًا يحظر استطلاعات الرأي العام. وماذا حدث؟ أُهمِل الاقتراح الذي كان من المفترَض أن يصبح قانونًا في هذه الجلسة!»

نهضتُ من الكرسي مندفعًا. وقلتُ: «أفيري! ألا تدرك ما يعنيه ذلك حقًّا؟ ألا ترى مَن هو حليفنا في الكونجرس؟»

اعتدلَ متحيِّرًا.

قلتُ مشيرًا إلى أعلى: «إنه المتحكِّم الأعلى!» ثم أردفتُ: «كان يجب أن أدرك ذلك منذ وقتٍ طويل. ألا تفهم؟ الواقع الأعلى لا يحاول فقط إعادة توجيه أي شخص يعرف الحقيقة أو إلغاء برمجته. ذلك لا يعدو كونه أحدَ أهدافه. ولكنَّ الهدف الرئيسي هو سيسكين نفسه! إنهم يريدون تدميره!»

تجهَّم قائلًا: «أوه، أستحلِفُكَ يا بُنيَّ! اجلس و…».

«كلَّا، انتظر! ذلك هو مَربَط الفرس يا أفيري! أنت لم تزرع قنبلة الثرميت لصالح اتحاد راصدي ردود الأفعال. بل فعلت ذلك لأنك كنت تحت برمجة المتحكِّم الأعلى!»

سألَ وقد نفدَ صبره: «إذن لماذا لم أُبرمَج لزراعة قنابل أخرى حتى ينجح الأمر؟»

«لأنَّ كلَّ ما يحدث هنا بالأسفل يجب إجراؤه في الإطار المنطقي للسبب والنتيجة. بعد أن ضاعفَ سيسكين احتياطاته الأمنية في شركة رين، لم يكن من المرجَّح أن تنجح محاولةٌ تخريبية كهذه!»

قاطعني بضجر: «دوج، اسمع …»

«لا، بل اسمع أنت! الواقعُ الأعلى لا يريدنا أن نُشغِّل المحاكي الخاص بنا. لماذا؟ لأنَّ ذلك سيقضي على اتحاد راصدي ردود الأفعال. ولا يمكنهم السماح بذلك؛ لأن مستطلعي الرأي يمثِّلون نظامَهم لجلب محفِّزات الحصول على ردود الأفعال إلى هذا العالَم!»

«في الواقع يا دوج، أنا …»

تقدَّمتُ للوقوف أمامه. وقلتُ: «لهذا السبب، يحاولون جميعًا القضاءَ على محاكي فولر. يبرمِجونك على استخدام السلاح. وتفشل. ويبرمِجون جميعَ مَن في اتحاد راصدي ردود الأفعال. يتصوَّرون أن كلًّا من الاعتصامات والشغب والعنف سيَفي بالمهمة. لكن سيسكين يقاوم ما يظن أنه استراتيجية اتحاد راصدي ردود الأفعال بحَشد الرأي العام ضد الاعتصامات. والآن اللُّعبة الأخيرة. لهذا السبب رُفع الضغط عني مؤخرًا. فالمتحكِّم الأعلى لم يكن لديه الوقت للتحقق مما إذا كنت ما تزال على استعدادٍ للاعتقاد بأن ما أُعانيه لم يكن سوى جنون ارتياب كاذب أم لا.»

«أنت تبرِّر هلاوسك فحسب.»

«كلامٌ فارغ! أنا أفهم بوضوحٍ الآن. ويمكنني أن أرى أنني لست الوحيد الذي في خطر!»

ابتسم. «مَن أيضًا؟ أنا؟ لأنك … آه، لوَّثتني بأفكار محظورة؟»

«لا. ليس أنت فقط. العالَم بأسره!»

«أوه، توقَّف.» إلا أن تجعُّدات وجهه العميقة بدأت تُظهِر شكوكه.

«اسمع. لقد جرَّب المتحكِّم الأعلى كلَّ طريقة معقولة للتخلص من المحاكي «سميولكرون-٣»؛ من تدميرٍ، وهجومٍ مباشر على يَد اتحاد راصدي ردود الأفعال، وسَن القوانين. لكن جميع جهوده باءت بالفشل. لا يمكنه إعادة برمجة سيسكين؛ لأنَّ الحزب سيبدأ من حيث انتهى سيسكين. ولا يمكنه إعادة برمجة الحزب؛ لأنَّ ذلك سيشمل الآلافَ من كياناتِ ردود الأفعال، نزولًا إلى آخِر المستويات.

وهو لم يتخذ خطوةً واحدة منذ عدة أيام. ما يعني شيئًا واحدًا فقط، وهو أنه يخطِّط لهجوم شامل أخير من نوع أو آخر على جهاز المحاكاة! إذا نجح، فسيرجع عالمنا آمنًا مرة أخرى. ولكن إذا فشل …»

انحنى كولينجسورث إلى الأمام متوترًا في كُرسيه. وقال: «وماذا بعد؟»

واصلتُ عابسًا: «إذا فشلَ، فأمامه سبيلٌ واحد فقط، سيكون عليه أن يدمِّر النظام بأكمله! يمحو كلَّ دائرة من دوائر ردود الأفعال محوًا! يغلق جهاز المحاكاة الخاص به — عالَمنا — ويبدأ من جديد!»

ضَم كولينجسورث يديه معًا. وأدركتُ برعب فجأة أنه ربما عليَّ إقناعه بحالتي! كانت العواقب الكارثية واضحة في لحظتها:

إنَّ اهتمام المتحكِّم الأعلى منصرفٌ عني حاليًّا. لكنه لم يكن منصرفًا عن أفيري! لقد بُرمِج كولينجسورث بدهاءٍ لتخريب جهاز المحاكاة، ولمساعدة مستطلعي الرأي في مهاجمة شركة ريأكشنز المحدودة، وحتى للتحايل على معرفة الطبيعة الحقيقية للواقع؛ من أجل إقناعي أنني مجرد ضحية لجنون الارتياب الكاذب!

إذا علم المتحكِّم الأعلى بدلًا من ذلك أنني قد أقنعتُ كولينجسورث، فسيدرك عدم جدوى محاولته لإرجاعي إلى سابق عهدي. وسيعني ذلك إجراءَ إلغاءِ برمجةٍ كاملٍ لي ولأفيري؛ ومن ثَم نصبح طَي النسيان!

رفعَ كولينجسورث رأسَه، والتقَتْ أعيننا.

قال بهدوءٍ: «أحد اختبارات نظام المنطق هي صحة تنبؤاته. لذلك كنت متأكِّدًا تمامًا من دقة تشخيصي للأعراض التي تُعانيها. ولكن قبل لحظةٍ واحدة، تنبَّأتَ بشيءٍ. خمَّنتَ أن المتحكِّم الأعلى كان يخطِّط لهجومٍ شامل وأخير على …»

انفتحَ البابُ فجأة، يصحبه أزيزُ دورانٍ فعلَتْه إحدى دوائر السعة الحيوية. اقتحمَ فيرنون كار المكانَ. «اللَّعنة يا أفيري! أتدري كم الساعة الآن؟»

قال كولينجسورث في غير اهتمام: «نعم.»

تضرَّعتُ بيأس: «أفيري، انسَ ما قلتُه للتو!» ثم ضحكتُ. «ألا ترى أنني كنت أحاول أن أضع فرضية و… أنْ أُثبتَ لك أنَّ …»

لم تكن ثمة جدوى من ذلك. لقد أقنعتُه. والآن سيكون الاقتران التقمُّصي التالي بين المتحكِّم الأعلى وبين أحدِنا، حيث سيُقتل كلانا.

سألَ كار: «حسنًا، ماذا سنفعل مع هُول؟»

هَز كولينجسورث كتفَيه ونهضَ غير مُبالٍ. وقال: «لم يَعُد الأمر مُهمًّا حقًّا، ليس بعد الآن.»

أحاطت الحيرة بملامح كار الشبيهة بملامح الصقور، ولكن لبرهة فحسب. ثم ضحكَ وقال: «ولكن بالطبع أنت على حق. هذا كلُّ في الأمر يا أفيري! إما أن ننجح ونقضي على المحاكي في نصف الساعة القادم، أو سنفشل. ما يفعله هُول بين الحين والآخر لن يُحدِث فَرقًا.»

عبرَ بحماسٍ إلى الجدار وسحبَ زوجًا من الستائر، كاشِفًا عن شاشة فيديو ضخمة. شعرتُ بطريقةٍ ما أنني على وشك أن أعلم السببَ وراء اندهاش كولينجسورث من توقُّعي العفوي. ضغطَ كار على الزر وامتلأت الغرفة على الفور بصخب من الأصوات المضطربة، حيث طاردَت بقعُ الضوء والظلال الدائرية بعضها بعضًا، عابرةً باهتياج أنبوب خروج الأشعة على سطح الشاشة.

نزلَت الكاميرا لأسفل من نقطة عالية لتقريب مبنى شركة رين بأكمله. كان محاطًا بجموع غاضبة كالبحر الهائج من راصدي ردود الأفعال الذين داروا وحاموا، وآل بهم الحالُ إلى الاقترابِ من المدخل وقد دُفِعوا للخلف مرارًا وتكرارًا. كلُّ موجة كانت تُقابِلها نطاقاتٌ من رجال الشرطة الحاملين للهِراوات، والراشِّين للِّيزر، ثم آلاف المدنيين الذين كانوا يدعمونهم.

كانت السيارات القوية تدور فوق الرءوس، وتحوم كالنسور باحثةً عن الجِيَف، فيما كانت مكبِّرات الصوت تَصدَع بصوت سيسكين ناصحًا المناصرين. ذُكِّر رجالُ الشرطة والمدنيون أنَّ المحاكي «سميولكرون-٣» كان أعظم هدية للبشر، وأنَّ قُوى الشر عازمةٌ الآن على تدميره.

قطعتْ أشعة الليزر المُشِلة حاجزًا عريضًا من الصمت عبر القوات المُهاجِمة. ولكن كان خلفهم دائمًا المزيدُ من الراصدين ليحلوا محلَّ مَن تساقطوا. وحتى عندما كنت أرى المشهد ينفضُّ، كانت تياراتٌ مطَّرِدة من شاحنات الْتقاط اتحاد راصدي ردود الأفعال تهبط في الخلفية لجلب التعزيزات.

كان مَبنى شركة ريأكشنز نفسه سدًّا منيعًا أمام مقذوفات الأسلحة النارية وقِطع الطوب، حيث كانت ترتطم جميعها بدرعه القوي ثم ترتدُّ عنه، فتُحيط المبنى بهالة وامضة من الشَّرر الساطع.

وقفَ فيرنون كار قلِقًا أمام شاشة الفيديو، يلوِّح بعدوانية بكل اندفاعٍ وهجوم.

ظلَّ يصرخ: «سننجح يا أفيري!»

اكتفيتُ أنا وكولينجسورث بأنْ حدَّقَ كلٌّ منا إلى الآخر، حيث كان صمتُنا المشترك جسرًا كافيًا للتواصل.

لم أكن مهتمًّا بالقتال نوعًا ما. ليس لأنه لم يكن أكثر المعارك التي رأيتها وحشية. بل كان كذلك بالفعل. كان الوجودُ نفسه لعالَم بأكمله — عالَم مُحاكًى إلكترونيًّا — مرهونًا بنتائج تلك الحرب. ذلك أنه إذا نجحَ راصدو ردود الأفعال وقضَوا على محاكي فولر، فسيصبح المتحكِّم في الواقع الأعلى راضيًا، وسيصفح عن جميع خلقه.

لكن ربما نظرًا لضخامة الأوتاد، لم أتمكَّن من مشاهدة تقدُّم القتال. أو ربما لأنني كنت أعرف أنه في ظل هذه الظروف، سيُجري المتحكِّم الأعلى بنفسه قريبًا اقترانًا تقمُّصيًّا مع أفيري. وعندما يحدث ذلك ستكون نهاية كلٍّ منا.

ذهبتُ إلى الباب الذي كان لا يزال مفتوحًا بعد دخول كار، وخرجتُ إلى الردهة. ضغطتُ خدِرًا على الزر لاستدعاء المصعد.

ترنَّحتُ على طول الرصيف الثابت في طريقي رجوعًا إلى ساحة انتظار السيارات. عبرتُ بهو مبنًى، حيث أظهرتْ شاشة فيديو عامة مشاهدَ بانورامية من العنف، الْتقطَتها الكاميرات من فوق مبنى شركة ريأكشنز. لكني أدرتُ رأسي بعيدًا. لم أكن أريد أن أعرف كيف كان تقدُّم المعركة.

توقَّفتُ على بُعد نصف مربع سَكني من ساحة انتظار السيارات متردِّدًا أمام أحد عروض المشاهدة النفسية. حدَّقتُ بلا إدراك تقريبًا إلى مُلصَقه الدعائي، الذي تفاخرَ بالحضور الحالي ﻟ «ناظِم الشِّعر الأكثر تجريدية في زماننا؛ راجير روجاستا».

نادى حارسٌ بالزي العسكري على المارَّة فوق الرصيف المتحرك: «تعالَوا أيها الناس. لقد بدأ العرض النهاري للتو.»

كان عقلي وكأنه متاهةٌ من الأفكار المُرعِبة والمؤلِمة. كنت أمام حاجز سدٍّ منيع من اليأس العارم. كان عليَّ أن أجد طريقة ما لتصفية ذهني، حتى أتمكَّن من تحديد ما أفعله بعد ذلك، إن كنت سأفعل شيئًا. لم تكن هناك جدوى من الهروب. فلم يكن ثمة مكانٌ للاختباء. كان من المحتمَل إجراءُ الاقتران التقمُّصي معي أو إلغاء برمجتي في أي مكان. ومن ثَم، دفعتُ رسوم الدخول وترنَّحتُ عبر البَهو.

أخذتُ أول مكانٍ شاغر تمكَّنتُ من إيجاده في الصفوف الدائرية للمقاعد، وتركتُ عينَيَّ تركِّزان بلا اكتراثٍ على المنصة الدوَّارة في المنتصف.

جلسَ راجير روجاستا هناك، متألِّقًا في أَردِيَته وعمامته الشرقية، مكتوفَ اليدين، يرسل نظراته التي تجتاح الجمهور الجالس بدوران المسرح، فتصيبه بما يشبه الغيبوبة. شكَّل التلاعب بالأضواء الخافتة على ملامحه السمراء الصارمة تبايُنًا مهدِّئًا حثَّني على ارتداءِ خوذة المشاركة.

لم يكن عليَّ أن أغلِق عينَيَّ لأنجرفَ داخل جوهر شِعر روجاستا التصوُّري. كان التداخل الفائق في مجال رؤيتي مثلَ سيلٍ متدفِّق هائل لأكثر الجواهر بريقًا التي رأيتُها من قبل. سقطت أحجارُ الياقوت، والزفير، والألماس، واللآلئ بعضُها فوق الأخرى، حتى إنَّ بريقَ جمالها الساطع قد أَعماني عن الطابع التخاطري الإلكتروني لحُسنِها.

على خلفيةٍ ضبابية من الرمال المتحركة، والحياة البحرية الزاحفة، أرسلَت انعكاساتِها البرَّاقة لتضرب بضوءٍ مُشِع في أعماق حالِكة. ثم مثل فمٍ فاغِر لتنين بحرٍ ضخم، تنفتحُ فُوَّهة فارغة في البُعد الحالِك السواد. وفي أعماقها تُومِض أكثر الجواهر لمعانًا التي يمكن تخيُّلها.

كان بإمكاني أنْ أَشعر في كل شيءٍ حولي برطوبة المياه، ووحدة العُزلة، وأعماق ما تحت البحار، واكتساح اليأس، وضغط سكون الموائع، كما لو أنني لم أكن في مشاهدة نفسية على الإطلاق.

ثم أتى التحوُّل العنيف المخادع، من الرطوبة إلى الجفاف اللافح، ومن الوحدة الخانقة للأعماق البعيدة الغَور، إلى الجَدب الشارق للأراضي الممتدة الشاسعة المُقفرة.

كان الشيءُ الوحيد الذي ظلَّ صامدًا خلال ذلك التغيُّر هو الجوهرة التي لا مثيلَ لها. إلا أنها أيضًا قد تحوَّلتْ في ذلك الوقت إلى زهرة قرمزية متعددة البتلات تفوح أريجًا مُثيرًا للحواس.

كان عرضُ روجاستا ذا تأثير منوِّم ساحِر لدرجة أنَّ روح القراءة قد الْتهمَتني في غير قدرة مني على المقاومة. ويمكنني الآن إدراك المقطع التالي:

«كم جوهرةٍ من أنقى الجواهر وأصفاها،
تسكنُ كهوفَ المحيط المظلم البعيدةَ الغَوْر.
وكم من زهرةٍ تُولَد وتتفتَّح، ولا تُبصرها الأعين،
ثم تفقدُ نضارتَها في هواءِ الصحراء اللافِح.»

إنها مَرثيَة جراي بالطبع.

كنا ننظر في ذلك الحين لأسفل، إلى الغطاء النباتي الغزير الذي أحاطَ بإحدى قنوات المريخ. هاجت المياه بالحضور المضطرب لآلاف …

انتهى نَظم الشِّعرِ نهايةً صادمة؛ حيث سطعت الأضواءُ الرئيسية في عرض المشاهدة النفسية.

انحدرت شاشة فيديو رباعية الجوانب لتحيط بروجاستا، ودبَّت الحياة في كل وجه من وجوهها بصورة للأحداث الواقعة خارج مبنى شركة ريأكشنز.

كانت هناك استعادة لشكل من أشكال النظام. كان راصدو ردود الأفعال يتراجعون أمام ذخيرة الليزر الثقيل المندفعة من الرشاش المُثبَّت فوق المبنى.

تدخَّلَت القواتُ الفيدرالية. كانوا يحتشدون فوق الأسطح. وينزلون من مئات الشاحنات الحربية.

خَسِرَ اتحادُ راصدي ردود الأفعال.

خَسِر المتحكِّمُ الأعلى.

فشلَ العالَمُ الأعلى في محاولته اليائسة الأخيرة لتدمير محاكي فولر، ضمن حدود السُّبُل المنطقية. لم يتمكَّن المتحكِّم الأعلى من الحفاظ على نظام تحفيز ردود الأفعال، مؤسسة راصدي ردود الأفعال في عالَمنا.

علمتُ ما كان يعنيه ذلك.

كان لا بد من القضاء على هذا العالَم بأسره حتى تتسنَّى برمجة نظام مُحاكًى إلكترونيًّا جديدٍ للتنبؤ بالسلوك.

خلعتُ خوذةَ المشاركة التي أصبحت معطَّلة في ذلك الحين، واكتفيتُ بالجلوس في مكاني متسائِلًا عن موعد إنهاء العالَم. هل ستُجرَى إعادة برمجة شاملة على الفور؟ أم أن المتحكِّم الأعلى عليه أولًا أن يستشير مجموعةً خاصة من الاستشاريين؛ مجلس إدارة؟

عزَّيتُ نفسي بأنني لم يَعُد لديَّ على الأقل ما يدعو إلى القلق بشأن القضاء عليَّ وحدي، أو حتى فحصي عبر اقترانٍ تقمُّصي. إذا كانت جميع الدوائر ستُمحَى، فسأذهبُ أدراجَ الرياح مع الجميع.

ثم بمجرد أن أقنعتُ نفسي بأنني لم أَعُد مرشَّحًا لمعاملةٍ خاصةٍ من قِبَل المتحكِّم الأعلى، حدثَ الأمر.

تلاشَت التفاصيلُ المرئية للمشاهدة النفسية، ودارت صفوفُ المقاعد بجنونٍ من حولي. ترنَّحتُ تحت التأثير الساحق للاقتران التقمُّصي المضطرب خارجًا إلى البهو. أصبحَ البحرُ الذي كان يَهدِر في أذنيَّ رَعدًا مُدويًا تلاشَى رويدًا إلى صوتٍ أشبه ﺑ… ضحك مُقعقِع!

انكمشتُ أمام الجدار، مُدرِكًا أنه حتى في ذلك الحين كان المتحكِّم الأعلى يلتقط كلَّ معلومة حيوية من عقلي! وأنَّ الضحك — الذي كان كأحد مكوِّنات الاقتران غير القادر على إرجاع صدى الصوت — قد أصبحَ مثلَ قرع الطبول في رأسي، هازِئًا، ساديًّا.

ثم انتهى الأمرُ، وأصبحَ عقلي حرًّا من جديد.

تعثَّرتُ خارجًا فوق الرصيف الثابت، وفي اللحظة نفسها التي هبطتْ في الشارع أمامي مباشرةً سيارةٌ طائرة مُزركَشة بصورة هلال ونجمة على كلا جانبَيها.

صاحَ السائقُ بالزي الرسمي: «ها هو!»

واندفعَ بسرعة شعاعُ ليزر، قاتِل في حِدَّة القلم الرصاص ودقته، أمام جدار المنزل بجوار كتفي، مُفتِّتًا الخرسانة في نقطة تركُّزه.

دُرتُ حولي وعُدتُ أدراجَي إلى البهو.

صرخَ أحدُهم: «توقَّف يا هُول! أنت رهنُ الاعتقال بتهمة قتل فولر!»

هل كان هذا التطوُّر الأخير بتحريضٍ من سيسكين؟ هل عزمَ على الانتقام كوسيلة أخيرة وحاسمة لضمان إبعادي عن طريقه؟ أم كان هذا نتيجةً لبرمجة المتحكِّم الأعلى؟ هل كان لا يزال متمسكًا بالوسائل المنطقية التقليدية للتخلص مني، على الرغم من حقيقة أنه على وشك أن يُلغي برمجة نظامه المُحاكَى إلكترونيًّا بالكامل؟

اندفعَ شعاعا ليزر آخران نحوي قبل أن أعودَ آمنًا إلى المشاهدة النفسية.

درتُ في دائرة واسعة حول صفوف المقاعد، واندفعتُ خارجًا من أحد المخارج الجانبية إلى ضوء الشمس اللافح في ساحة انتظار السيارات المزدحمة. في غضون ثوانٍ قليلة، كنت في سيارتي أقودها منطلقًا نحو السماء بأقصى سرعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤