الفصل الرابع عشر

لم يكن لي من ملجأٍ أذهبُ إليه سوى كوخي على ضفاف البحيرة. كان ثمة احتمال أنني ربما أحظى بالأمان هناك، ولو لفترةٍ مؤقتة، حيث لم يكن بالمكان الخفي الذي يمكن الاختباء فيه لفترةٍ أطول.

لم يكن لديَّ أدنى شكٍّ — عندما هبطتُ بالسيارة الطائرة في مساحة الغابة المكشوفة بين أشجار الصنوبر الإبرية الشكل، وجعلتها تنزلق في خفاءٍ إلى المرأب — أنَّ الشرطة كانت لديها أوامر بإطلاق النار عليَّ وقَتلي. وذاك أمرٌ مفروغ منه ومؤكَّد، إذا كانوا يتصرَّفون تحت تأثير سيسكين.

ولكن هنا بالخارج في الغابة، ستكون أمامي على الأقل فرصةٌ للاختباء والدفاع عن نفسي في حال هبطَت فرقة اغتيالٍ لمداهمتي.

من ناحية أخرى، إذا كان المتحكِّم الأعلى يسعى إلى هدفه الخاص في التخلص مني، بعيدًا عن إجراءات الشرطة، فأمامه خياران:

إما أن يتخلَّص مني في الحال، دون سابق إنذار، وفي تلك الحالة لن يكون في استطاعتي أن أفعل شيئًا.

وإما أن يرسل عميلَه ليتولَّى تنفيذ المهمة بنفسه، لتزييفها في واقعة انتحار أو موت في حادث.

وهذا ما كنت أرغبُ فيه طوال الوقت، فرصة كي ألتقي وجهًا لوجه مع وحدة الاتصال. هنا في العراء، ما كانت لتُتاح له الفرصة لإخفاء هويته. كان سيتعيَّن عليه أن يُظهِر نفسه ويُشاركني عزلة الغابة.

دخلتُ إلى الكوخ واخترتُ أثقلَ مسدس ليزر لديَّ. وعندما تحقَّقتُ من تلقيمه، جاهدتُ لفتحه كي يبثَّ شعاعًا واسعَ المدى. لم أكن أرغبُ على الإطلاق في قتلِ عميلِ المتحكِّم الأعلى. لا سيَّما أنَّ التحدُّث إليه كان من المحتمَل أن يساعدَ على وَضْع خطة عمل للتصرف على أساسها.

جلستُ بجوار النافذة، وأمامي البحيرة ومساحة الغابة المكشوفة، واضعًا السلاح على ساقَيَّ ومنتظِرًا.

كان جُل تفكيري مَبنيًّا بالطبع على افتراض أنَّ خبيرَ المحاكاة الإلكترونية بالأعلى كان يضع يده لغرضٍ ما فوق الزر، منتظرًا أن يمحو عالَمي بأَسره. لم أستطع تخيُّل سببٍ لانتظاره.

لساعاتٍ بلا انقطاع، لم يكن يعكِّر صفوَ الهدوء بالخارج سوى الحركة الخفية للحياة البرية وسط الأَجَمات، وأعلى أغصان الشجر، ولم يكسر حاجزَ الصمتِ سوى الحيوانات المارَّة، والتكسُّر الخفيف لمياه البحيرة فوق شاطئها الصخري.

بعد غروب الشمس مباشرةً، ذهبتُ إلى المطبخ وفتحتُ حُزمة من أطعمة التخييم. ولأنني كنت خائفًا من إشعال أي أضواء، جلستُ مُكوَّمًا أسفل إحدى النوافذ، ماضِغًا الطعامَ بلا شعور. ولم أستطع طوال الوقت أنْ أطرحَ عن ذهني التناقضَ الكامن في الحاجة إلى وجود كيانٍ غير مادي لتوفير الطعام المادي.

كان الليلُ قد شارف على أن يُسدِل أستاره عندما رجعتُ إلى غرفة الجوائز، وسحبتُ الستارة، وشغَّلتُ بث الفيديو المسائي. ضبطتُ مستوى الصوت ليكون هَمسًا.

عرضَت الشاشة صورةَ الشارع المملوء بالحُطام أمام شركة ريأكشنز. وظهرت بعدها مشاهد مقرَّبة للقوات الفيدرالية خارج المبنى، فيما كان المذيع يستهجن «إراقة الدماء والعنف اللذين تسبَّبا في معاناة هذا اليوم الشنيع».

تابعَ بجدية: «غير أنَّ الإضرابات ليست هي الحدث الوحيد الذي وضعَ مشروعَ هوراس بي سيسكين الأخير في دائرة الضوءِ في الأخبار هذا المساء.

يتعلق الأمر بالمزيد، بأكثر من ذلك بكثير. ثمة مكايد ومؤامرات. قتل وهروب. كلُّ ذلك مرتبط ارتباطًا مباشرًا بخطة اتحاد راصدي ردود الأفعال المزعومة، لحرمان عالَم متشوِّق للنِّعم التي سيُغدِقه بها محاكي هوراس سيسكين.»

ظهرت صورتي فجأة على الشاشة، وعرَّف المذيع صاحبها.

قال: «هذا هو الرجل المطلوب في جريمة قتل هانون جاي فولر، المدير الفني السابق لشركة ريأكشنز.

إنَّه الرجل الذي وضعَ فيه سيسكين ثقتَه المطلَقة. في يَد دوجلاس هُول وُضع التكليفُ الشامل بإتمام المحاكي بعد الحادث المزعوم لوفاة فولر.

لكنَّ الشرطة قد وجَّهَت اتهامَها اليوم، قُتل فولر بالفعل على يَد هُول لتحقيق مكسب شخصي. وعندما رأى هُول أنَّه حُرِم من ذلك المكسب، انقلبَ غدرًا على مؤسسة سيسكين؛ على المحاكي نفسه.

دوجلاس هُول هو الرجل الذي جرَّته قواتُ أمن سيسكين هذا الصباح، عندما دخلَ المقر الرئيسي لاتحاد راصدي ردود الأفعال. فعلَ ذلك بارتكاب الهجوم الشامل الفاشل على شركة رين.»

توترتُ. لقد علم سيسكين إذن على الفور بزيارتي إلى المقر الرئيسي لمستطلعي الآراء. وافترضَ أنني كنت أخطِّط لخيانة مؤامرته مع الحزب. ومن ثَم، تصرَّفَ بخوفٍ وارتباك، وأرسلَ الشرطة بأوامر لإطلاق النار بهدف القتل.

وفجأة أدركتُ سببًا محتمَلًا وراء عدم تخلص المتحكِّم الأعلى مني حتى ذلك الحين؛ فربما رأى أنَّ سيسكين كان — عن غير قصدٍ منه، وسعيًا وراء أهدافه الخاصة — يعتني بالمهمة لصالح المتحكِّم الأعلى نفسه!

أوه، كان بإمكان المتحكِّم الأعلى أن يساعد في الأمر قليلًا. على سبيل المثال، إذا بدا أنَّ الشرطة كانت تماطِل في الأمر، فربما كان بإمكانه أن يُجري عملية اقتران تقمُّصي أخرى، ويجدني حيث كنت أختبئ، ثم يبرمِج الشرطة ليَحمِلها على البحث عني في الكوخ.

كان بإمكانه إما أن يرتِّب الأمر على هذا النحو، وإما أن يرسل وحدة الاتصال الخاصة به لأداء المهمة. بدا مؤكَّدًا أنه لم يكن يريد التخلص مني؛ لأنه عندئذٍ سيُضطر إلى إعادة برمجة مجموعة كاملة من شخصيات الهُويَّة بالحقيقة البديلة، التي تفيد بأنني لم أكن موجودًا من الأساس.

ولكن حتى عندما حاولتُ تخمين استراتيجية المتحكِّم الأعلى، أدركتُ أخيرًا أن العالَم بأَسره ربما لم يكن ليُمحَى في نهاية المطاف! ربما قد قرَّر المتحكِّم الأعلى تسوية التعقيدات الحالية، ثم يحاول مرة أخرى — أخيرة — أن يمحو محاكي فولر تمامًا.

كان بثُّ الفيديو لا يزال يستعرض موضوعَ خيانتي المزعومة:

«لكن أنشطة هُول الشائنة لم تَنتهِ بالقتل المزعوم لهانون فولر، وخيانته المُدَّعاة لسيسكين وللمحاكي، وذلك حسب معلومات الشرطة.»

عُرضَت صورةٌ لكولينجسورث على الشاشة.

خفضَ المذيعُ صوتَه بجدية شديدة: «ذلك أنه، علاوةً على ذلك، مطلوبٌ لصِلته بأكثر جرائم القتل شناعةً في تاريخ الشرطة المحلية، وهي جريمة قتل أفيري كولينجسورث، المستشار النفسي في شركة ريأكشنز.»

مرَّتْ دقيقةٌ كاملة قبل أن ألتقطَ نفسًا آخر. لقد تخلَّصَ المتحكِّم الأعلى بالفعل من أفيري!

واصلَ المذيعُ وصفَ «الوحشية المروِّعة» لمقتل الدكتور كولينجسورث.

أذاعَ الخبرَ بنبرة عاطفية: «وصفت الشرطة الوفاة بأنها أبشع تشويهٍ حدثَ في التاريخ. وُجدَت أجزاءٌ مقطوعة الأوصال من الجثة؛ مفاصل الأصابع، والساعِدان، والأذنان، مبعثرةً في كل مكانٍ في غرفة مكتب كولينجسورث. كانت كلُّ قطعة بدورها مَكويَّة بعنايةٍ للتحكم في نزيفِ الدماء؛ كي لا يموتَ أثناءَ التعذيب الوحشي.»

أوقفتُ الجهازَ مذعورًا. وحاولتُ أن أُصفِّي أفكاري، لكني لم أستطع أن أرى سوى صور لأفيري، في حالة عجزٍ ورعب، وهو يعلم طوال الوقت أنه لا يمكنه الهروب مما كان يحدث له.

لا يمكن أن يكون مَن فعلَ ذلك عميلًا ماديًّا، أي: وحدة اتصال. لا بد أنه كان المتحكِّم الأعلى نفسه، باستخدام أساليب تعذيب ما ورائية. تخيَّلتُ كولينجسورث يصرخ في ألم مبرِّح بينما تُخلَع أنملة خنصره، كما لو أنه قُطِع بالسكين، بينما ظهر شعاع ليزر مُعدَّل من العَدم كي يكوي مَوضِع البَتر.

نهضتُ أسبُّ في رعب. علمتُ في ذلك الحين أن المتحكِّم الأعلى كان ساديًّا. ربما الجميعُ في ذلك الوجود الأعلى كذلك.

عدتُ إلى النافذة وفتحتُ الستائر على اللون الأرجواني القاتِم للشَّفق المتأخِّر، وجلستُ مكاني قابضًا على بندقيتي منتظِرًا. ماذا كنت أنتظر؟ الشرطة؟ أم وحدة الاتصال؟

خطرَ ببالي لوهلة أن المتحكِّم الأعلى ربما لم يكن يعلم مكاني. لكني رفضتُ تلك الاحتمالية. من المحتمَل أنه قد اقترنَ بالفعل بنفسه منذ وصولي إلى هنا. أوه، كان ذلك ممكنًا، بل ومرجَّحًا أيضًا. فحسبما أرى الآن، لم تكن معرفتي بعمليات الاقتران السابقة لشيءٍ إلا لأنه أرادَ للأمر أن يسير كذلك؛ ومن ثَم كان بإمكانه الاستمتاع بردِّ فعلي المُعذَّب.

زادَت الظلمة بالخارج، واجتاحَ عددٌ لا يُحصَى من النجوم مجالَ الرؤية ظهورًا واختفاءً بفعل أوراق الأشجار في مَهبِّ الريح، ما جعل الظلمة تبدو وكأنها حقلٌ متلألئ من الخنافس المضيئة. وصرَّت صراصير الليل بتمتمتها الشجيَّة المصاحِبة للَّيل المختلِج. ومن مسافةٍ بعيدة، توَّجَت الضفادعُ الكبيرة اللحنَ بنغمة نقيقٍ بين الحين والآخر.

كان وَهْم الواقع مكتملًا تمامًا. حتى أصغر التفاصيل قد وُضِعت بدقة. هناك بالأعلى، كانت قد استقرت التفاصيل كلها باستثناء بعض دعائمها المحاكاة إلكترونيًّا. وعن غير قصدٍ، لم يُسمَح لها إلا بتناقضاتٍ طفيفة غير مُدرَكة.

وجدتُ نفسي أنظرُ في السماء المرصَّعة بالنجوم، محاوِلًا أن أبصرَ عبر الوَهْم الكَوني حقيقةَ الواقع المطلَق وأغواره. ولكن حينها لم يكن العالَم الحقيقي في اتجاه مادي من مكاني. لم يكن في عالَمي، ولا كنت أنا في عالَمه. ولكنه كان في الوقت نفسه في كل مكانٍ حولي، مَخفيًّا بحُجُب إلكترونية.

حاولتُ أن أتخيَّل ما شعرَ به فيل أشتون، عندما قفزَ خارجًا من محاكي فولر. بلغَت أفكاري عَنانَ السماء إلى الوجود الأعلى. ماذا عساه أن يكون الوضعُ هناك بالأعلى؟ إلى أي مدًى يختلف عن الواقع الزائف الذي عرفتُه؟

ثم فهمتُ أنه حتمًا لا يختلف كثيرًا بأي حال. في الواقع، كان لا بد أن يكون عالَمُ فيل أشتون، المدعوم بالتيارات في محاكي فولر، نسخةً طبق الأصل من عالَمنا، إن كنا نريد أن يكون للتنبؤات التي حصلنا عليها من ذلك الخَلْق التناظري تطبيقٌ صالحٌ لدينا هنا.

بالمثل، فإن عالمي الخاص كان سيسلك مسار هذا العالم الأعلى. من المفترَض أن تكون معظم مؤسساتنا، وثقافتنا، وخلفياتنا التاريخية متماثلة، وحتى ميراثنا ومصيرنا يُفترَض أن يكونا متشابهين.

يُفترَض كذلك أن يكون المتحكِّمُ الأعلى وجميعُ الأشخاص الآخرين هناك بالأعلى كياناتٍ بشرية مثلنا؛ لأن وجودنا ما كان ليُمكِن تبريرُه إلا على أنه صورة تناظرية منهم.

تلاشَى الظلامُ في الخارج أمام شعاعِ الضوءِ المتزايد الذي كان يتلاعب أمام الأشجار. ثم سمعتُ هسهسة سيارة طائرة وهي تهبط تابعةً ضوءها.

فتحتُ البابَ بالضغط على الزر، وألقيتُ بنفسي خارجًا، وغُصتُ وراء سياجٍ، ورفعتُ بندقيتي أمامي.

هبطَت السيارةُ الطائرة وأطفأَت أضواءها وأوقفَت محرِّكها. حدَّقتُ بيأس في الليل الذي صار دامسًا فجأة.

لم تكن سيارةَ شرطة، ولم يكن بها سوى شخص واحد.

انفتحَ البابُ، وأطلَّ السائقُ بنصف جسمه إلى الخارج.

أطلقتُ شعاعَ بندقية الليزر.

أظهر ضوءٌ من شعاع قرمزي واسع المدى ملامحَ وجه … جينكس فولر! وفي تلك اللحظة المربِكة نفسها، رأيتُها تنزلُ على الأرض.

صرختُ باسمها، ورميتُ بالبندقية جانبًا على الأرض واندفعتُ إلى مساحة الغابة المكشوفة، ممتنًّا امتنانًا يفوق الحصر أنني قد قلَّلتُ كثافة الإشعاع بحيث يَصعَق الهدفَ فقط، فيُفقِده الوعي دون أن يقتله.

بعد منتصف الليل بوقتٍ طويل، كنت لا أزال أتحرَّك جيئةً وذهابًا في الكوخ، مُنتظرًا إياها حتى تُفيق. ولكني كنت أعلم أنها ستظل فاقدة للوعي لبعض الوقت؛ لأنَّ الشعاع قد أصابَ رأسها. ومع ذلك، لم تكن لتعاني إلا من بعض الآثار الجانبية، وذلك بفضل الإشعاع الواسع المدى.

كنت أتلمَّس طريقي عبر الظلام مراتٍ لا تُحصَى خلال الساعات الأولى من الصباح؛ كي أضعَ المناشِفَ الباردة على رأسها. غير أنها لم تتأوَّه واضعةً يدها المرتخية فوق جبهتها إلا مع بزوغ الفجر، وتسلُّل ضوئه عبر الستائر.

فتحتْ عينَيها وابتسمتْ. ثم سألت: «ماذا حدث؟»

قلتُ نادمًا: «لقد أطلقت شعاع الليزر عليكِ يا جينكس. لم أكن أقصد. ظننتُكِ وحدة … أقصِدُ الشرطة.»

كبحتُ جماحَ نفسي في الوقت المناسب تمامًا. لم أكن أستطيع أن أعقِّد الأمور أكثر من ذلك، بإعادة إعلامها بمقتطفاتٍ من المعلومات المحظورة.

حاولَت الجلوسَ. دعمتُها بأنْ وضعتُ يدي خلف ظهرها.

قالت: «لقد … لقد سمعتُ عن المشكلة التي كنتَ فيها. كان يجب أن آتي.»

«ما كان يجب عليكِ أن تأتي! لا أحدَ يدري ما ستَئُول إليه الأمور. يجب أن ترحلي!»

عندما حاولَت النهوض، سرعان ما سقطت للخلف على الأريكة. لم تكن لتستطيع الذهاب إلى أي مكان لبعض الوقت، ليس بمفردها.

قالت في إصرار: «لا يا دوج، أريدُ أن أبقى هنا معك. لقد أتيتُ بمجرد أن عرفتُ بالخبر.»

تمكَّنتْ في النهاية من الوقوف على قدمَيها بمساعدتي. وتشبَّثتْ بي وهي تبكي بهدوءٍ فوق وجنتي.

حملتُها كما لو كانت الشيءَ الحقيقي الوحيد في هذا العالَم الوهمي بأَسره. وأدهشَني شعورُ الفَقْد الذي غمرَني. أردتُ طوال حياتي شخصًا مثل جينكس. ولكن العثور عليها لم يكن سوى إنجاز عقيم أجوف. ذلك أنه لم يكن هناك واقع باستثناء تدفُّق النبضاتِ الانحيازية في دوائر المحاكاة الإلكترونية.

ابتعدتْ عني وحدَّقتْ بشفقةٍ في وجهي، ثم اقتربتْ مجدَّدًا. ضمَّتْ شفتيها على شفتَيَّ بقوة. بدا الأمر كما لو أنها هي أيضًا كانت تعرف ما سيحدث.

فكَّرتُ بحزن فيما كانت ستَئُول إليه الأمور. لو أن المتحكِّم الأعلى قد نجحَ فقط في تدمير محاكي فولر!

لو أنني ما زلتُ أعمل في شركة ريأكشنز، لأصبحَ بإمكاني إذن أن أدمِّره بنفسي! لو كان مختصُّ المحاكاة الإلكترونية في ذلك الواقع الأعلى قد أعادَ توجيهي، كما أعادَ توجيه جينكس!

همسَتْ: «سنظلُّ معًا يا دوج. لن أتركَك أبدًا يا عزيزي.»

قلتُ محتجًّا: «لكنكِ لا يمكنكِ فعل ذلك!»

ألم تدرك كيف أن كلَّ شيءٍ كان مستحيلًا؟ فمع تهديد سيسكين والشرطة لي، لم يكن من بصيصِ أملٍ أمامي.

تراجعتُ مرتبكًا، وركَّزتُ مرةً أخرى على التفكير في بدائل معقولة. إما أنَّ حُبها لي كان لا حدودَ له، لدرجة أنْ لا شيءَ يمكنه الوقوف في طريقه. وإما أنها ببساطةٍ لم تكن تدرك جميعَ التُّهم التي تُوجِّهها لي الشرطة. بالطبع لم تسمع بالطريقة التي ماتَ بها كولينجسورث، وإلا فما كانت هنا الآن.

قلت: «تعلمين أنني مطلوبٌ لأنني متهمٌ بقتل أبيكِ، أليس كذلك؟»

«أنت لم تفعل ذلك يا حبيبي.»

«و… أفيري كولينجسورث؟»

تردَّدتْ. ثم قالت: «أنت لم تفعل ذلك … لا يمكن أن تكون قد … فعلت ذلك!»

كان الأمرُ كما لو كانت تتحدَّث عن درايةٍ شخصية مطلَقة. كان إخلاصُها وحُبها شديدَين. لم أمتنَّ لإعادتهم توجيهَها إلا في تلك اللحظة؛ لأنه لم يكن عليها أن تواجِه الخطر الذي كنت أواجِهه حينها.

أخذَت بيدي واستدارَت نحو الباب. ثم قالت: «ربما يمكننا الهربُ يا دوج! سنجد مكانًا نختبئُ فيه!»

عندما لم أتحرَّك، أرْخَت قبضتَها وسقطتْ يدي من يدها.

قالت لنفسها بيأس: «لا، لا يوجد مكانٌ يمكننا الذهاب إليه. سيعثرون علينا.»

لم تكن تعرف إلى أي مدًى ما تقوله صحيحٌ. وشعرتُ براحة لا حدود لها؛ لأنها لم تكن تعي نهائيًّا المعنى المزدوج لصيغة الجمع التي استخدمتْها.

كانت ثمة ضوضاء بالخارج، فأمسكتُ ببندقيتي. عند النافذة، فتحتُ جزءًا من الستائر، لكني لم أرَ إلا ظبية تحاول المرور عبر السياج؛ كي تصلَ إلى صندوق الطعام الذي كان فارغًا في ذلك الحين.

رفعتْ رأسها بحذر ونظرتْ في اتجاه الكوخ. هدأتْ مخاوفي، وتركتُ الستائر تنسدلُ مرة أخرى في مكانها. ثم شعرتُ بالتوتر. فنادرًا ما كانت توجَد ظباءٌ في المنطقة في هذا الوقت من العام. رجعتُ إلى النافذة. توجَّه الحيوانُ إلى سيارة جينكس الطائرة، وتوقَّفَ على مسافةٍ قصيرة ونظرَ إلى الباب المفتوح.

أحكمتُ قبضتي على بندقية الليزر. ربما كانت الظباءُ في هذا العالَم الأدنى مجرد دعائم توجد فقط كظلال على خلفيةٍ وهمية لإضفاء لمسة ظاهرية من الواقعية. ولكنها أيضًا ربما كانت تتمتَّع بحقيقة نفسية زائفة، بالمعنى المحدود، مثلها مثل وحدات الهوية نفسها.

إذا كان الافتراض الأخير صحيحًا، فليس هناك سببٌ يمنع من برمجة ظبية على النحو الملائم، كي تتجوَّل في الغابة أمام كوخ بجوار بحيرة، وأنْ تراقِبَ ما كان يجري في الجوار عبر الاقتران التقمُّصي!

أدارَ الحيوانُ رأسه نحو الكوخ بأنفٍ يرتعش، وبأذنَين مُشرئبَّتَين نحو السماء التي كانت لا تزال برَّاقة.

سألتْ جينكس: «ما هذا؟»

قلتُ وأنا أُخفي قلقي: «لا شيء. ربما تطلبين لنا فنجانَين من القهوة، إنْ كنت تستطيعين ذلك.»

شاهدتُها وهي تتجه نحو المطبخ مترنِّحةً يمنة ويسرة، ثم فتحتُ النافذة، ولكن فقط بالاتساع الكافي لاستيعاب مكثِّف الشعاع الخطي للسلاح. وعدَّلتُ مَداه قليلًا.

غادرَت الظبية أخيرًا، متوجِّهةً إلى المرأب.

ضغطتُ على زر الإطلاق، ورششتُ الحيوان بالليزر لمدة عشر ثوانٍ كاملة، مع التركيز على رأسه حيث استلقى بلا حَراك.

رجعتْ جينكس للوقوفِ عند باب المطبخ على صوتِ هَسهسة إطلاقِ الشعاع. وقالت: «دوج! إنها ليست …»

«لا. مجرد ظبية. جعلتُها تنام لبضع ساعاتٍ. لقد كادت تدخل إلى سيارتكِ.»

ارتشفنا القهوة في صمت، وقد جلسَ كلٌّ منا قُبالة الآخر على طاولة الشراب في المطبخ. كان وجهُها شاحبًا، خاليًا من مساحيق التجميل، ويبدو عليه التوتر. تدَّلتْ خصلةٌ شاردة من الشعر الداكن لتحجب جزءًا من عينها. غير أنَّ مظهرَها لم يكن ليُوصَف بالإرهاق. ذلك أنه مع غياب بريق الأناقة، ظهر سحرُ شبابها، بسيطًا، لا تشوبه شائبة.

نظرتْ في ساعتها للمرة الثانية منذ أن استلمَت الأكوابَ من الآلة، ومدَّت يَدها إلى الجانب الآخر من طاولة الشراب لتأخذ بكلتا يديَّ. وسألتني: «ماذا سنفعل يا عزيزي؟»

كذبتُ قائلًا بحِدَّة شديدة: «كلُّ ما هنالك أنني يجب أنْ أظلَّ مختبِئًا ليوم أو يومَين. ثم سنجد حلًّا لكل شيءٍ.» توقَّفتُ لمزيد من الارتجال. ثم أردفتُ: «كما ترَين، ربما يتمكَّن ويتني من تقديم دليلٍ على أنني لم أقتل كولينجسورث. ربما يفعل ذلك الآن بالفعل.»

لم يَبدُ أنها كانت مرتاحة. اكتفتْ بالنظر إلى ساعتها مرة أخرى.

تابعتُ: «لهذا السبب ستركبين سيارتكِ، وتُقلِعين بها بمجرد أن تشعري باستعادة قوَّتك بالقدر الكافي لذلك. إذا اكتشفوا غيابكِ أنتِ أيضًا، فقد يضاعِفُ من فرصهم في العثور عليَّ. بل ربما يفكِّرون في البحث هنا.»

قالت بعناد: «سأبقى معك.»

لم أشعر أنَّ في مقدوري مناقشة الأمر في ذلك الوقت، وكنت متأكِّدًا أنني سأتمكَّن من إقناعها لاحقًا. ومن ثَم، قلتُ: «فلتتولِّي زمامَ الأمور بالنيابة عني. سأذهبُ لأحلق لحيتي بينما لا تزال لديَّ الفرصة لذلك.»

عندما انتهيتُ بعد عشر دقائق، عُدتُ إلى غرفة الجوائز ووجدتُ البابَ الأمامي مفتوحًا. كانت جينكس بالخارج منحنيةً فوق الظبية المصعوقة. أعادَت النظر إلى الكوخ وواصلَت السيرَ دون تخطيطٍ عبر مساحة الغابة المكشوفة.

رأيتُها تختفي في الغابة بحركاتٍ انسيابية رشيقة وكأنها حورية. ومع أنني كنت مُصرًّا على مغادرتها في أسرع وقتٍ ممكن، فقد كنت سعيدًا لقدومها.

ثم ومضَ في ذهني فجأةً — على نحو حادٍّ ومركَّز مثل شعاع الليزر — تساؤلٌ على قدرٍ كبيرٍ من المفارقة، وكأني بوعيي يسخر مني، كيف عرفَت أنني كنت في الكوخ؟ لَم أخبرها قط عن هذا المكان.

أمسكتُ ببندقيتي وهُرعتُ وراءها، عدَوتُ عبر المساحة المكشوفة، وغُصتُ في الغابة. توقَّفتُ وسط أشجار الصنوبر الضخمة المتمايلة، واسترقتُ السَّمع إلى صوت أقدام تَسحَق أوراقَ الشجر الإبرية؛ كي أحدِّدَ الاتجاهَ الذي ذهبتْ فيه.

ثم سمعتُ ما كنت أحاول سماعَه؛ ومن ثَم انطلقتُ مسرعًا في ذلك الاتجاه. اخترقتُ الأدغالَ إلى داخل مساحةٍ مكشوفة صغيرة ثم توقَّفتُ؛ إذ وجدتُني أقف وجهًا لوجه أمام أُيَّل مُرتعِب بقرنٍ ذي عشرة أطراف.

على الجانب الآخر، بعيدًا، رأيتُ جينكس تقفُ منتصبةً في عمودٍ مائل لضوء الشمس المبكر. لكنَّ تبايُنَ الموقف نبَّهني، وأرجعتُ النظرَ إلى الأُيَّل. لم يفر على الرغم من كونه مُرتعِبًا.

وفجأةً باغتَت حواسي الضغوطُ الضارية اللحظية لاقترانِ التقمُّص الناقص. صُعقتُ بفِعل الصخب الهادِر وإلغاءِ التوجيه المصيب بالدوار، فأسقطتُ بندقيتي.

ومن خلال هذا الهرج والمرج الصاخب الذي اعترى حواسي، أدركتُ مرة أخرى نوعًا من الضحك العنيف المنساب عبر رابطة المحاكاة الإلكترونية، التي كانت تربط الآن جميعَ حواسي بحواس المتحكِّم الأعلى.

شبَّ الأُيَّل وركلَ الهواءَ بحوافر قائمتَيه الأماميتَين، ثم أَنزلَهما. خفضَ رأسه وهاجَمني.

ترنَّحتُ تحت تأثير الاقتران غير المتوافق، غير أنني تمكَّنتُ من إبعاد نفسي بعضَ الشيء عن طريق الأُيَّل المندفع.

مزَّقَ قرنُه كُم قميصي، وشَق ساعدي وكأنه شعاع ليزر رفيع كالسلك. وتصوَّرتُ، في المقابل، أنَّ صوتَ ضحك المتحكِّم الأعلى قد ارتفعَ إلى شبه هستيريا.

شبَّ الأُيَّل مرةً أخرى، وحاولتُ إفلات نفسي بعيدًا عن حوافره التي كادَت تنغرس فيَّ. كِدتُ أنجح في ذلك. غير أنَّ الحيوان قد سقط على كتفي بكل ثِقله وطَرَحني أرضًا.

ولكني عندما تدحرجتُ ونهضتُ مرة أخرى، كانت البندقية في يدي. صعقتُ الأيل في خِضَم هجمته التالية. وتحرَّرتُ في اللحظة نفسها تقريبًا من الاقتران.

كانت جينكس أمامي لا تزال واقفةً في شعاع الشمس، غير مُدرِكة لما حدثَ خلفها.

لكنها على الرغم من مراقبتي لها، رفعَتْ نظرها إلى أعلى مترقِّبة، ثم اختفت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤