الفصل الثامن عشر

كانت الأشرطة في الأرصفة المتحركة في الخارج مكتظَّة بالأشخاص المتجهين إلى شركة «رين»، عندما اعتلَيتُ الحزامَ الناقِل البطيء، وسحبتُ جينكس إليه. قبل بلوغنا نهاية المربع السكني، كنا قد عبرنا إلى الرصيف المتوسط السرعة. فلم يكن لنا مكانٌ على الشريط السريع.

ارتفعَ أمامنا من بعيدٍ دويُّ أصواتِ هُتافٍ هادرة كالموج. ورافقَها تصفيقٌ بين الحين والآخر. وفي اللحظة التالية لذلك، أقلَعتْ سيارةُ سيسكين الخاصة بقوة من منطقة الهبوط أمام شركة «ريأكشنز»، وتوجَّهتْ إلى «بابل سنترال».

لاحظتُ في نهاية المطاف التضاربَ الباديَ في الحشد من حولي؛ لم يكن هناك أيٌّ من راصدي ردود الأفعال. أدركتُ أن غيابهم كان يعني أنَّ اتحاد راصدي ردود الأفعال قد تخلَّى عن وظيفته؛ ومن ثَم فإن محاكِي العالَم الأعلى أصبح لا يمتلك نظامًا خاصًّا به لاستطلاع ردود الأفعال.

وقفتْ جينكس فوق الشريط بجواري صامتةً، وكانت عيناها تنظران إلى الأمام مباشرةً، ووجهُها صارمًا وعيناها شاردتَين عما حولنا.

كنت أنا أيضًا منشغلًا بأفكار بعيدة عما يدور حولنا، أفكار تجاوزتْ لامحدوديةَ وجودي المقيَّدة. حاولتُ أن أتخيَّل ما كان يفعله المتحكِّم الأعلى في تلك اللحظة. وبما أنَّ عالَمَينا يرتكزان على أساسٍ زمني متماثل، فلا بد أنه مستيقظ الآن.

ربما يكون في اجتماعٍ مع مجلسه الاستشاري في هذه اللحظة نفسها. وذلك حسب ما أستشف من حقيقة أنه لم يقرن نفسه بي بعد. ولكني لم يكن لديَّ أدنى شك في أنه يعكف الآن على أن يستعيدَ بحماسٍ رابطتَه المُحاكاة إلكترونيًّا بيننا، بمجرد انتهاء الإجراءات الرسمية للجلسة. ويعني ذلك أنَّ النهاية قد اقتربت.

تباطأَت الأرصفة المتحركة تحت وطأة الوزن الكبير لحمولتها، فأصبحتْ في سرعة الحلزون. كان الراكبون عن يميني ينزلون عن الشريط السريع بلا صعوبة، ويتدفقون في الحارات المرورية المزدحمة والمختنقة مروريًّا؛ لمواصلة التجمهُر عند شركة «رين» الكائنة على بُعد مربعَين سكنيَّين.

أمسكتْ جينكس بيدي بشدة. وقالت: «هل من إشارةٍ على تدخُّله؟»

«ليس بعد. أظنُّه لا يزال مجتمِعًا بالمجلس.»

ولكن في اللحظة نفسها التي نفيتُ فيها تدخُّلَه، أدركتُ أنه قد أجرى بالفعل اقترانًا تقمُّصيًّا معي. استطعتُ أن أشعر بوجوده الآن، ولكن على نحو أكثر دهاءً من أي مرةٍ ماضية.

لم ينشأ عن الاقتران هذه المرة الألمُ الحادُّ المستهزئ بضعفي، كما كان في المرات السابقة. عرفتُ بطريقةٍ ما أنه على غير العادة قد اكتفَى بالملاحظة غير مُبالٍ. إذا كان قد نوَى تعذيبي، فقد أجَّله لسببٍ ما.

نظرتُ جهة اليسار، فأصبحتْ جينكس في مجال رؤيتي. واستطعتُ أن أشعر بتوتره من هَوْل المفاجأة، ورؤيته لها إلى جانبي. ثم عرفتُ أنه كان يُمعِن النظرَ في تجاربي الأخيرة ليعرف ما حدث.

لا شكَّ أنه تفاجأ وشعر بمتعةٍ سادية، حين عرفَ أن جينكس قد ربطتْ نفسها بلا رجعةٍ في علاقةٍ محتومة مع هيكله المُحاكَى إلكترونيًّا.

تساءلتُ حائرًا لماذا لم يبدأ تعذيبي بعد، لماذا لم يضع مُعادِل الاقتران خارجَ الطَّور. ثم اتضحَت الإجابة أمامي؛ فمن أشدِّ أشكال التعذيب أنْ تجعلَ الضحية تدرك اقترابَ العذاب ولكنك تُؤخِّره، فتجعلها في حالة خوفٍ وترقُّب مستمرَّة.

استجابةً لتلك الفكرة، أحسستُ أنني أسمعُ ضحكته الخبيثة الماكرة مجلجِلةً بقوةٍ تكاد تكون مسموعة. رأيتُ أنه لم يكن أمامي وقتٌ لأُضيِّعه، ولم أكن أعلم كم تبقَّى لديَّ. وبدا أنه يستمدُّ من ذلك التخوُّف الجديد مزيدًا من التلذُّذ والمتعة.

تركنا الرصيفَ المتحرك وتقدَّمنا سيرًا على الأقدام، متدافعَين عبر الحشود.

ناديتُه في ذهني: «هُول؟»

فلم ألقَ ردًّا. ثم تذكَّرتُ أنَّ الاقترانَ من جانبٍ واحد.

«هُول، أظن أنَّ بمقدوري أنْ أنقذَ لك جهاز المحاكاة الإلكترونية هذا.»

لم أجد حتى ولو أثرًا لردِّ فعل يُوحي باستماعه. هل كان يستمع؟ ولكن لا بد أنه يعلم حتمًا ما خطَّطتُ له. لا بد أنه قد رآه في أفكاري الدفينة.

«سأجعلُ هذا الحشد يهاجم آلة سيسكين. ولا يهمني ما يحدث لي.»

ما مدى الابتهاج الذي كان يستمده من الخوف والإذلال الشديدَين، اللذَين شعرتُ بهما في مخاطبته مباشرةً بهذه الطريقة؟

«سأدبِّرُ الأمرَ بحيث لن يصبح أحدٌ يطيق محاكي سيسكين. حتى إنهم سيدمِّرونه. وهو ما تريده بالضبط. ولكن ذلك ليس ضروريًّا. صَدِّقني. لأنه بإمكاننا الاحتفاظُ بآلة سيسكين وراصدي ردود الأفعال التابعين لك هنا بالأسفل في الآن نفسه. كلُّ ما علينا هو أن نستخدمَ شركة رين في الأبحاث المتعلقة بالمشكلات الاجتماعية فحسب.»

لا يوجد حتى الآن ما يشير إلى أنه يكترث لهذا الأمر، أو أنه حتى يستمع إلى ما أقوله.

«أعتقدُ أنَّ بإمكاني تحويلَ الرأي العام ضد سيسكين. ولكنهم سيصُبُّون جامَ غضبهم على «سميولكرون-٣». لن أتمكَّن من إيقاف ذلك. لكنك تستطيع. سيكون الأمر سهلًا. عاصفةٌ رعدية عنيفة ستفرِّقُهم، بعد أن أجعلهم ينقلبون عليه مباشرةً.

في تلك الأثناء، يمكنك إعادة برمجة عدد قليل من وحدات رد الفعل. والقضاء على سيسكين ماليًّا. وبعدها تخطِّط لنقل الحيازة العامة لآلته والاستحواذ عليها. سيعرفون أنها لا تُستخدَم في شيءٍ بخلاف الأبحاث في مجال العلاقات الإنسانية. ومن ثَم، يكون هناك أساسٌ منطقي يُعزِّز وجودَ راصدي ردود الأفعال في هذا العالَم.»

هل كان يتلاعبُ بي؟ أم أنه يستمر في صمته فقط حتى يُشعِرني بمزيدٍ من القلق؟ أم أنه ينتظر منشغلًا بلحظة رؤية الشرطة لي وعثورهم عليَّ، أو بالكيفية التي سيعاملني بها الغوغاءُ عندما أحطِّم أوهامَهم؟

بحثتُ في السماء عن إشارة تفيد بأنه قد أمر بهبوب العاصفة الرعدية التي ارتأيتُ أنها ستكون ردَّه التالي. ولكن لم تكن هناك غيمةٌ واحدة في الأفق.

كنا الآن في المربع السكني الأخير قبل شركة ريأكشنز. وكان الشارعُ مكتظًّا للغاية لدرجة أنني تمكَّنتُ بصعوبة من المرور بجينكس خلاله.

رفرفتْ عاليًا اللافتةُ المبهجة التي وضعَها سيسكين في واجهة المبنى:

حدثٌ تاريخي!

ترقَّبوا البيانَ العام اليوم

(مجاملة لهوراس بي سيسكين)

ستحُلُّ شركة رين أُولى مشكلاتها الإنسانية

كانت هذه بالطبع عملية احتيال. لم يكن لدى هيث الوقتُ الكافي لإعادة برمجة المحاكي لأداء وظيفة جديدة. وفي نهاية المطاف، لن يقدِّم سيسكين للناس سوى بعض المراوغة المُتقَنة — ربما استعدادًا لإصدار تشريعاتٍ جديدة يتعدَّى من خلالها على راصدي ردود الأفعال — بعد أن يتركهم يهدَءُون لبضع ساعات.

تقدَّم الحشدُ دافعين بنا معهم. وقد كنت ممتنًّا ﻟ «بيانِ» سيسكين. فقد احتشدَ الآلاف هنا ممن يمكنني أن ألقي على مسامعهم ما كان عليَّ قوله.

استدارت جينكس نحوي متوترةً. وقالت: «بالطبع لا بد أنه قد أجرى اقترانًا معك الآن!»

لكنني كنت أركِّز أفكاري بقوة على المتحكِّم الأعلى في استجداءٍ صريحٍ أخير:

«هُول، إذا كنت تفكِّر فيما أقول، فثمة أمران آخران. تستحق دوروثي فورد وضعًا أفضل مما هي فيه. يمكنك أن تمحو فريقَ العمل الدنيء عن طريق إعادة توجيهه. وسيكون ويتني أفضل من هيث في الإشراف على البحث الاجتماعي. وأَوجِد طريقة ما لإخراج جينكس من هنا. أنا لا أستطيع.»

كنا قد وصلنا إلى التقاطُع الأخير، وشعرتُ كأنني شخصٌ يرتل صلواته. ربما كان عدم التيقُّن الذي تلا مناشدتي الصريحة مناظِرًا للتضرُّع إلى إله من منظور واحد على الأقل، وهو أنَّ المرءَ لا ينتظر ردًّا شفهيًّا في أيٍّ من الحالتَين.

ثم شعرتُ به … ذلك الدوار المتزايد، وَقْع الصوتِ الهادِر الذي لم يكن صوتًا على الإطلاق، والغثيان، وتأجُّج النيران الزائفة في كلِّ حواسي.

لقد أخرجَ المعادِلَ عن الطَّور. واستشعرتُ، من خلال الألم المتواصل، تأثيرَ ضحكته الوحشية الذي نقله إليَّ عبر عملية التقمُّص.

لقد سمعني. غير أنَّ خضوعي البائس قد أمدَّه ببهجةٍ تحوَّلت لديه إلى هَوَس بالترقُّب.

ثم خطرَ لي أنه ربما لم يرغب قطُّ في إنقاذ هذا العالَم. ربما كان يتطلَّع طوال الوقت إلى المَرَح والتلذُّذ بإرهاب الآلاف من وحدات رد الفعل، وهم يشاهدون عالَمهم يتداعى أمام ناظريهم وتحت أقدامهم.

اندفعتْ زمرةُ الناس التي كنا محاصَرَين فيها إلى الأمام، ثم اصطفُّوا إلى اليسار. وتفرَّقوا حول منصة تحويل بين الأرصفة المتحرِّكة، وكأنهم تيارٌ منهمر حول عائقٍ ما.

اندفعنا إلى الرصيف الذي وصلَ ارتفاعُه إلى الخَصر، وأخرجتُ ذراعي لأَحُول دون تأذِّي جينكس من حافته المعدنية. كان رجلان من رجال الشرطة على مقربة منا يحاولان استعادة بعض أشكال النظام.

رفعتُ جينكس على المنصة، وخَطوتُ على الحافة المكسورة الملتوية لرصيف متحرك مقطوع، وصعدتُ بجوارها. سُحِبنا مرتَين تقريبًا قبل أن نتمكَّن من شَق طريقنا إلى وحدة التحكم الفوقية.

ثم وقفتُ على التجويف الذي أخذَ شكل حرف V وقيَّمت موقفنا. مع الفولاذ الموجود خلفنا وعلى كلا الجانبَين، لم نكن مكشوفَين إلا من الأمام حيث شاهدْنا المدَّ المندفع للبشر الذي امتدَّ إلى مبنى ريأكشنز عبر الشارع.

أمسكتُ بكَتِف جينكس ووجَّهتُها إليَّ. وقلتُ لها: «لم أكن أريد أن تسير الأمور بهذه الطريقة. لكن لا خيارَ أمامنا.»

سحبتُ المسدسَ من جيبي، وجعلتُها تستدير لتصبح أمامي كالدرع، وأمسكتُها من خَصرها. ثم لوَّحتُ بمسدس الليزر، ورفعتُ صوتي ليعلو فوق صوتِ الضجيج في محاولة لجذب الانتباه.

رأَت امرأةٌ المسدسَ وصرخَت: «احترسوا! إنه مسلَّح!» وقفزتْ من فوق المنصة.

تبعَها ثلاثةُ رجال، وصرخَ أحدهم وهو يقفز. وقال: «إنه هُول! إنه ذلك الرجل المدعو هُول!»

في اللحظة التالية، كانت منصة التحويل قد أُخليَت، ولم يتبقَّ عليها سواي أنا وجينكس. تركونا واقفَين في التجويف الأمامي لوحدة التحكم الفوقية.

أنزلتُ المسدس الفارغ ووضعتُه أمامي، موجِّهًا مُكثِّفه ناحيتها.

شقَّ رجلُ الشرطة الأقربُ طريقَه عبر الحشد على حافة المنصة، وسحبَ مسدسَه.

قلتُ محذِّرًا: «لا تحاوِل أن تصعقنا! إذا أطلقتَ الإشعاعَ عليَّ، فسيقتلُها ردُّ فِعلي المنعكس.»

أنزلَ سلاحَه ونظرَ غير متيقِّن إلى ضابط الشرطة الآخر الذي انضمَّ إليه مؤخرًا.

صرختُ: «إنكم جميعًا مخطئون في حمايتكم لمحاكي سيسكين! إنه لن يستخدمه لتحسين الجنس البشري!»

كان هناك هِياجٌ عام من صيحاتِ الاستهجان، وصاحَ أحدُهم: «أَنزِلوه!»

شقَّ أربعةٌ آخرون من ضبَّاط الشرطة طريقَهم إلى المنصة، وأخذوا في الانتشار في أرجائها. لكنهم لم يتقدَّموا كثيرًا حتى حجبتهم وحدة التحكم الفوقية.

قالت جينكس خائفةً: «لا أظن أنَّ الأمرَ سينجح. إنهم لا يُنصِتون.»

بعد أن هدأت الردود التهكُّمية الهازئة، واصلتُ: «إنكم جميعًا لَحَمقى! سيسكين يستغلكم كالخِراف! أنتم فقط تحمون مُحاكيه من راصدي ردود الأفعال!»

تلاشى صوتي وسط عاصفةٍ من الاحتجاجات: «كذبٌ! كذبٌ!»

حاولَ أحدُ رجال الشرطة الصعودَ إلى المنصة. سحبتُ جينكس إليَّ وغرزتُ مسدسي بقوة أكبر في ضلوعها.

تراجعَ وحدَّق بإحباطٍ في سلاحه. لقد كان معَدًّا على أعلى تركيز، كثافة قاتلة.

شرعتُ في مخاطبة الناس مرةً أخرى، ولكنني توقَّفتُ في مكاني مرتجفًا؛ حيث زادَ المتحكِّم الأعلى في إخراج جهاز تعديل الاقتران الخاص به عن الطَّور. كافحتُ — مهتاجًا — الهديرَ الراعِد، والحرارة الحارقة التي اشتعلتْ في رأسي.

سألتْ جينكس: «دوج، ما الأمر؟»

«لا شيء.»

«أهو المتحكِّم الأعلى؟»

«لا.» لم تكن ثمة حاجة لأنْ تعرفَ بالاقتران.

شعرتُ بأن توترها قد خفَّ. كان الأمر كما لو أنها قد أُصيبَتْ بخيبة أمل لأنَّ تعذيبي لم يبدأ بعد.

هدَأَ الحشدُ، وأَلقيتُ بمزيدٍ من الكلمات الثائرة:

«هل كنتُ سأخاطر بحياتي لأخبركم بهذا إلا لو كان صحيحًا؟ لا يريدُ سيسكين سوى تعاطفكم كي لا يستطيع اتحادُ راصدي ردود الأفعال مقاومته! لن يخدم محاكيه سواه!»

ازدادَ خروجُ معادِل الاقتران بالأعلى عن الطور، وأصبح الهدير الداخلي ألمًا ضاريًا. لم يخفِّفه سوى التأثير المنعكس من ضحكته الوحشية.

نظرتُ لأعلى. لم يكن هناك أدنى أثر لغَيمة. إما أنه أرادَ بالفعل تدميرَ هذه الخلائق المُحاكاة إلكترونيًّا، وإما أنه لا يعتقد أنه بإمكاني إعادة توجيه آلاف وحدات رد الفعل في عالَمه.

صرختُ بيأس: «ما يريدُ سيسكين سوى أنْ يحكمَ البلاد! إنه يتآمَر مع الحزب! ضدَّكم!»

مرةً أخرى، كان عليَّ انتظار أنْ تهدأَ الإثارة المدوِّية قبل أن أتمكَّن من المواصلة:

«عندما يهيمنُ جهازُ المحاكاة على استراتيجيته السياسية، سيترشَّح لأي منصبٍ يريده!»

كان بعضُ الناس يستمعون الآن. لكن الغالبية العظمى حاولتْ أن ترفع صوتها فوق صوتي.

أحاطتْ مجموعةٌ من ضبَّاط الشرطة بالمنصة. كان العديدُ منهم يشقُّون طريقَهم حول الجزء الخلفي من وحدة التحكم الفوقية. وكان أحدُهم يصرخ بشيءٍ ما في المذياع. لن يمرَّ وقتٌ طويل قبل أن تظهر سيارة طائرة. ولن أستطيع التدرُّع بجينكس من راكِبِيها.

في الجانب الآخر من الشارع، كان عدةُ أشخاص يتحرَّكون على سطح مبنى ريأكشنز. عرفتُ اثنَين منهم، دوروثي فورد والمدير الفني الجديد «ماركوس هيث».

عُدتُ قلِقًا إلى الحشد بالأسفل. وصِحتُ قائلًا: «أعرفُ خُطط سيسكين لأنني كنت جزءًا من المؤامرة! إذا كنتم لا تصدقونني الآن، فإنكم تُثبتون بذلك أنكم حمقى كما يراكم سيسكين!»

على السطح، رفعَ هيث مكبِّر صوتٍ إلى شفتَيه. دوَّتْ كلماتُه الثائرة بالأسفل:

«لا تسمعوا له! إنه يكذب! ما يقول ذلك إلا لأنه طُرِد من المؤسسة بأمرٍ من السيد سيسكين والحزب و…»

صمتَ فجأة، مُدرِكًا على ما يبدو لخطورة ما قاله. وكان باستطاعته أن يغطِّي على زَلة لسانه بإكمال جملته: «… والحزب والسيد سيسكين ليس لديهم أي صلة بأي شكل.»

لكنه لم يفعل ذلك. واضطربَ. وساعدَ في إثبات وجهة نظري بفراره إلى المبنى.

كان من شأن هذا وحده أن يكون كافيًا، غير أنَّ دوروثي تدخَّلت أيضًا. الْتقطتْ مكبِّر الصوت وتحدَّثتْ فيه بهدوء:

«ما قاله دوجلاس هُول صحيح. أنا السكرتيرة الخاصة للسيد سيسكين. أستطيعُ إثبات كلِّ كلمة مما قال.»

تنفَّستُ الصُّعَداء، وشاهدتُ الغوغاءَ يندفعون نحو المبنى. ولكني صرختُ حينها من الألم؛ حيث عاقبني المتحكِّم الأعلى بجميع آلام الاقتران الكاذب، حيث بدا واضحًا أنه قد انزعجَ من نجاحي.

صاحت جينكس: «لقد تدخَّل!»

أومأتُ مُشتَّتَ الذهن.

ثم اخترقَ كتفي من أعلى شعاعُ سلاح الليزر الحاد كالقلم الرصاص. وعندما سقطتُ، رأيتُ رجل الشرطة يتشبَّث بالشُّرفة أعلى وحدة التحكم الفوقية.

مَدَدتُ يدي لأدفعَ جينكس بعيدًا، لكنَّ يدي لم تلمس شيئًا. كانت قد رحلت. غادرت أخيرًا إلى عالَمها الخاص.

أذهلَ اختفاؤها رجال الشرطة المُطبِقين عليَّ، لكنه لم يكن إلا تأثيرًا لحظيًّا. فسرعان ما انطلقَ شعاعُ ليزر آخر، مخترقًا صدري. وشقَّ شعاعٌ ثالث بطني. وقطعَ رابعٌ نصف فكِّي.

نزَفتُ من الجراح، وتدحرجتُ ووقعتُ في هُوَّة.

عندما استعدتُ رشدي، شعرتُ ببشرة ناعمة تحت جسدي، وبضغطِ شيءٍ ثقيل ومشدود على رأسي.

كنت مستلقيًا في حيرة بلا حراك. لا أشعر بأي ألم، أو بأي تدفُّق حارق من الدم من جراحي العديدة. وبينما كنت قبل لحظة منكمشًا أمام اعتداءٍ وحشي من قوى الاقتران المنعدمة الرنين، لم يكن هناك الآن شيءٌ سوى الصمت الباعث على السكينة.

ثم أدركتُ أنني لم أكن أشعر بأي ألم؛ لأنَّ جسمي لم يكن فيه أيُّ جروح!

فتحتُ عينَيَّ في ذهول، ووجدتُني على الفور وسط تجهيزات غرفة غريبة تمتدُّ في كل مكان حولي.

على الرغم من أنني لم أرَ هذه الغرفة من قبل، استطعتُ أن أميِّزَ حقيقة المعدات المُحاكاة إلكترونيًّا التي ملأت كلَّ المساحات المتوفرة تقريبًا.

نظرتُ إلى الأسفل، ورأيتُ أنني كنت مستلقيًا على أريكة شديدة الشبه بالتي استخدمتُها من قبل أثناء الاقتران مع وحدات رد الفعل في محاكي فولر. رفعتُ يدي وخلعتُ خوذة التقمُّص، ثم جلستُ أحدِّقُ فيها غير مستوعِب.

كانت هناك أريكة أخرى بجواري. كان سطحُها الجلدي لا يزال يحمل آثارَ تعرُّجاتٍ من شخصٍ قد استلقى عليها لفترةٍ طويلة، على ما يبدو لي من عُمق التعرجات. وكانَت على الأرض بجواري بقايا ممزَّقة لخوذةٍ أخرى، كان من الواضح أنها سقطَت أو طُرحَت جانبًا.

«دوج!»

جَفَلتُ من مفاجأة سماع صوت جينكس.

همسَت باستماتة: «ابقَ مستلقيًا! لا تتحرك! أَعِد الخوذة على رأسك.»

كانت تقفُ بعيدًا عن يساري، أمام لوحة تحكم كبيرة. بدأت على عجلٍ في ضغط المفاتيح وتدوير الأقراص.

واستجابةً للإلحاح في صوتها، رجعتُ للاستلقاء على الأريكة وغُصتُ في حيرتي.

سمعتُ شخصًا دخل الغرفة. ثم سألَ بصوتٍ جاد:

«هل أنتِ بصدد إلغاء البرمجة؟»

قالت جينكس: «لا. لسنا مضطرين إلى ذلك. لقد وجدَ هُول طريقة للحفاظ على كلِّ شيءٍ. إننا نعطِّل العمليات فحسب، حتى نتمكَّن من برمجة بعضِ التعديلات الأساسية.»

صاحَ الرجل: «هذا جيد! سيُسَرُّ المجلسُ لسماع ذلك.»

ثم اقترب مني، وسألني: «وماذا عن هُول؟»

«إنه يأخذ قسطًا من الراحة. كانت الجلسة الأخيرة مُتعِبة للغاية.»

«أخبريه أنني ما زلتُ أرى أنه يجب أن يأخذ تلك الإجازة قبل أن يُنشِّط المحاكي مرة أخرى.»

ثم سمعتُ وَقْعَ أقدام الرجل مغادِرًا.

وأصبحتُ فجأة أفكِّر في ذلك اليوم الذي اقتحمَ فيه فيل أشتون عليَّ مكتبي أمام تشاك ويتني. فمثْل أشتون، تمكَّنتُ بطريقةٍ ما من عبور حاجز المحاكاة الإلكترونية بين العالَمين! ولكن كيف!

انغلقَ البابُ، ونظرتُ لأعلى لأرى جينكس واقفةً أمامي.

انبسطتْ أساريرُ وجهها في ابتسامةٍ عريضة وهي تجثو على ركبتَيها وتنزع خوذتي. «دوج! أنت هنا بالأعلى الآن!»

حدَّقتُ إليها بشدة فحسب.

استطردتْ: «ألا ترى؟ عندما سألتُكَ إن كان قد بدأ التواصل معك، كان ذلك كي أتمكَّن من تحديد وقت عودتي!»

قلتُ مُشوَّشًا: «لقد غادرتِ. وأتيتِ إلى هنا. كنتِ تعلمين أنكِ ستجدينه وقد اقترنَ معي. وقد زِدتِ الدائرة التي كان يستخدمها إلى ذروة جُهدِها فجأة!»

أومأتْ برأسها. وقالت: «كان لا بد من إجراء الأمر بتلك الطريقة يا عزيزي. لقد كان بصدد تدمير عالَمٍ بأَسره، مع أنه كان في مقدوره أن يُنقذه.»

«ولكن لماذا لم تُخبريني بما كنتِ ستفعلينه؟»

«كيف؟ لو كنتُ أخبرتُكَ، كان سيعرف هو أيضًا.»

نهضتُ وكنت ما زلتُ مذهولًا. وتحسَّستُ صدري، وبطني. اختفت الجراحُ تمامًا على نحو لا يُصدَّق تقريبًا. واستغرقتُ لحظة لاستيعاب أبعاد الأمر. وبتبديل مكاني مع هُول الآخر، يكون قد استحوذَ على جسدٍ جريح فانٍ في الرمق الأخير من حياته.

أثناء تخبُّطي في أرجاء الغرفة، مررتُ أمام سطحٍ معدني لامع لأحد أجهزة التعديل، ورأيتُ انعكاسَ صورتي. كل قَسَمةٍ من قسماتِ وجهي، كانت أنا، كما اعتدتُ أن أكون. لم تبالِغ جينكس عندما قالت إنَّ السمات الجسدية لهُول المتحكِّم الأعلى وهُول التناظري متطابقة تمامًا.

حدَّقتُ عبر النافذة في مشهد الشارع المألوف تمامًا بالأسفل، حيث الأرصفة المتحركة، والسيارات الطائرة التي تهبط على طول الحارات المرورية، ومناطق الهبوط، وأشخاصٌ يرتدون ملابسَ كالتي كانت ترتديها وحداتُ رد الفِعل في عالَمي. ولكن لِم يُفترَض أن يكون أيُّ شيءٍ مختلفًا؟ كان ينبغي أن تكون مدينتي التناظرية انعكاسًا تامًّا لهذا العالَم، إنْ كانت ستحقِّق الغرض المرجو منها، أليس كذلك؟

بإلقاء نظرةٍ فاحصة، رأيتُ أنه كان ثمة فَرق ملموس. فهناك عددٌ ليس بالقليل من الناس يدخِّنون السجائر بلامبالاة. لم يكن لديهم التعديل رقم ٣٣ هنا بالأعلى. وكان من الواضح أنَّ اختبارَ جدوى حظر التبغ كان إحدى وظائف المحاكاة الإلكترونية لعالَمي الزائف.

استدرتُ إلى جينكس فجأة. وقلتُ: «ولكن هل يمكننا أن نُفلِت بهذه الفعلة؟»

ضحكَت. «لِم لا؟ أنت دوجلاس هُول. كان يرتِّب ليأخذ إجازة شهرَين. مع تعطيل المحاكي عن العمل، سأتمكَّن من أخذ إجازةٍ أنا أيضًا. حسنًا، فلنأخذها معًا.»

تابعتْ بحماس: «سأعرِّفُك على كل شيءٍ؛ سأُريكَ صورًا للعالَمَين، وأخبركَ بحقائق عالَمنا وسماته، وبخلفيتك الشخصية وسلوكياتك، وبتاريخنا، وسياستنا، وعاداتنا. ستعرف دور هُول تمام المعرفة بعد أسابيع قليلة.»

كان من الممكن للأمر أن ينجح! كان بإمكاني أن أرى ذلك بسهولة شديدة الآن. وسألتُها: «ماذا سيحدث … للعالَم هناك بالأسفل؟»

ابتسمتْ. وقالت: «يمكننا إصلاحه ليعودَ جديدًا. أنت تعلم الإصلاحات والتعديلات اللازمة. قبل أن أُلغي تنشيط المحاكي مباشرةً، جعلتُ هيث يُنشِّط حاجزَ تنافُر شركة ريأكشنز. عندما تُعيد تشغيلَ المحاكي، يمكنك البدءُ من تلك اللحظة.»

قلتُ في حماسٍ فجأة: «ستَهبُّ عاصفة بَرَد عنيفة لتفريق الغوغاء قبل أن يتمكَّنوا من اختراق الحاجز. ثم ستكون لدينا قائمةٌ مطوَّلة من التطويرات، وعمليات إعادة التوجيه التي سيكون علينا برمجتها.»

قادتني إلى المكتب. وقالت: «يمكننا أن نبدأ الآن. سنضع قائمة بالتعليمات ونتركها مع فريق العمل. يمكنهم الاعتناء بالمهام التحضيرية بينما نحن في إجازتنا.»

جلستُ في كرسيِّ هُول، وعندها فقط بدأتُ أدركُ أنني قد بُعِثت حقًّا من الوَهْم إلى الحقيقة.

لقد كان التحوُّل مُزلزِلًا، ولكن سرعان ما سأعتادُ الأمر. وفي نهاية المطاف، سيبدو كما لو أنني كنت أنتمي دومًا إلى هذا الوجود المادي.

طَبَعتْ جينكس قُبلةً رقيقة على وجنتي. وقالت: «سيروق لك الحال هنا بالأعلى يا دوج، وإن كان لا يتمتع بالأجواء الغريبة نفسها لعالَمك. كما تعلم، فإنَّ هُول كانت لديه نزعةٌ حالِمة عندما برمَجَ جهازَ المحاكاة. أعتقدُ أنه قد أطلقَ لخياله العِنان في اختياره لأسماء العناصر في الخلفية، مثل البحر الأبيض المتوسط، والريفيرا، والمحيط الهادي، وجبال الهيمالايا.»

هَزَّت كتفَيها كما لو كانت تعتذر عن الافتقار إلى النسبية في عالَم الواقع المطلَق الذي هي منه. ثم أردفَت: «سترى أيضًا أنَّ حجم قمرنا هو رُبع حجم قمركم. ولكني متأكِّدة أنك ستعتادُ على كلِّ الاختلافات.»

وضعتُ يدي حول خَصرها وقرَّبتُها مني. كنت أنا أيضًا واثقًا من أنني سأعتادُ الأمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤