الفصل الثاني

بحلول ظهيرة اليوم التالي، كانت جهود سيسكين الترويجية تؤتي ثمارها. بقدر ما استطعت التأكُّد منه، قدَّم برنامجا فيديو صباحيان تعليقًا «داخليًّا» على التطور الوشيك في مجال المحاكاة الإلكترونية. وتضمَّنت الطبعاتُ الأولى من الصحف المسائية ثلاث المقالات في صفحاتها الأولى حول شركة ريأكشنز المحدودة، ومحاكي البيئة الكاملة «المذهل» الذي أنتجته «سميولكرون-٣».

غير أنني لم أجد شيئًا عن اختفاء مورتون لينش إلا في موضع واحد. فقد اختتم ستان والترز عموده في صحيفة «إيفيننج بريس» بالفقرة التالية:

يبدو أن الشرطة اليوم مهتمة، وإن كان ظاهريًّا فحسب، بما ورد إليها عن «اختفاء» شخصٍ يُدعَى مورتون لينش، مسئول الأمن الداخلي في شركة ريأكشنز المحدودة، المنشأة الأسطورية الجديدة لقطب الأعمال هوراس بي سيسكين. ولكننا نراهن على أن البحث في هذه القضية لن يقضَّ مضاجعهم لوقت طويل. يقول المُدَّعي إن لينش «اختفى» فجأة. يُفترَض أن الأمر برُمَّته قد حدث البارحة في حفل سيسكين بالطابق العلوي. والجميع يعلم أن أشياء أكثر دهشة تحدث في حفلات سيسكين الكبيرة.

كنت قد ذهبتُ بالطبع إلى مقر الشرطة وأدليتُ بأقوالي. ما الذي كان بوسعي أن أفعله غير ذلك؟ فاختفاء رجل على هذا النحو المفاجئ ليس بالشيء الذي يمكنك ببساطة تجاهله ونسيانه.

رنَّ جرسُ جهاز الاتصال الداخلي على مكتبي، لكنني تجاهلتُه متابعًا سيارة طائرة تهبط في منطقة الهبوط المركزية بالشارع. بعدما استقرت السيارة الطائرة على مستوى تحويم ست بوصاتٍ مالت عبر الطريق حتى توقفت أمام حافة الرصيف. نزلَ منها سريعًا اثنا عشر رجلًا يحملون شارات راصدي ردود الأفعال المعتمَدين.

وزَّعوا أنفسهم على مسافاتٍ فوق الرصيف أمام مبنى شركة رين، وحملوا لافتاتٍ مكتوبًا عليها الآتي:

شركات سيسكين تهدِّدنا

بطالة جماعية!

اضطراب اجتماعي!

فوضى اقتصادية!

رابطة راصدي ردود الأفعال

كانت هذه هي الاستجابة الفورية الأولى للتوقع المرتقَب بتخفيض العمالة في أول تطبيق واسع النطاق للمحاكاة الإلكترونية. ولم يكن هذا بالأمر الجديد. فقد شهد العالم من قبلُ صدماتٍ مماثلة، خلال الثورة الصناعية عند التحوُّل إلى استخدام الآلات.

رنَّ جرس جهاز الاتصال بمزيد من الإصرار، وأدرتُ المفتاح. ظهر وجه الآنسة بويكينز على الشاشة، وقد بدت عليه أمارات القلق ونفاد الصبر. «السيد سيسكين هنا!»

طلبتُ من موظفة الاستقبال السماح له بالدخول متعجبًا بحقٍّ من زيارته.

لكنه لم يكن وحده. هذا حسب ما وسعني رؤيته عبر الشاشة. في الخلفية بجانب الآنسة بويكينز، كان الملازم ماكباين من إدارة المفقودين، والنقيب فرانستوك من مكتب جرائم القتل. كلاهما كان هنا في وقت سابق من صباح اليوم.

اقتحمَ سيسكين المكتب يتأجَّج غضبًا. وكانت يداه مشدودتَين في قبضتَين ضئيلتَين وهو يخطو إلى الأمام.

انحنى فوق مكتبي. وقال: «ما الذي تحاول فعله بحق الجحيم يا هُول؟ ما كل هذه الجَلَبة حول لينش وفولر؟»

نهضتُ عن مكتبي احترامًا. وأجبتُه: «لقد أخبرت الشرطة بما حدث فحسب.»

«حسنًا، هذا غباء، وأنت تجعل نفسك وتجعل المؤسسة بأكملها موضع سخرية!»

استدار ليقف وراء المكتب، وعرضتُ عليه أن يجلس في مقعدي. وقلتُ في إصرار: «ولكن ذلك ما حدث بالضبط.»

هزَّ ماكباين كتفَيه بعدم اكتراث. «أنت الوحيد الذي يرى ذلك فيما يبدو.»

حدَّقتُ في الرجل، في ملابسه المدنية. «ماذا تقصد؟»

«لقد كلَّفتُ قِسمي باستجواب جميع ضيوف الحفل. لم يرَ أحدٌ مطلقًا لينش ليلة أمس.»

غاصَ سيسكين في الكرسي الذي ابتلعَ جسمه الصغير بين ذراعَيه المنحنيَين. «بالطبع لا. سنعثر على لينش، حسنًا … بعد أن نُداهِم ما يكفي من حُجرات التحفيز الكهربائي للدماغ.»

التفت إلى ماكباين. وقال: «أدمَنَ الرجلُ تيارات المحاكاة التي تعمل على القشرة الدماغية. إنها ليست المرة الأولى التي يدخلُ فيها في نوبات الأقطاب الكهربائية.»

حدَّق فيَّ ماكباين بصرامة، لكنه خاطَب سيسكين. «هل أنت متأكِّدٌ من أن لينش هو مَن أدمَنَ ذلك؟»

قال سيسكين متذمِّرًا: «إنَّ هُول على ما يُرام، وإلا فلم أكن لأجعله يعمل في مؤسستي. ربما أَسرفَ في الشراب قليلًا ليلة أمس.»

قلتُ محتجًّا: «لم أكن ثمِلًا.»

تقدَّمَ فرانستوك نحوي. «إنَّ مكتب جرائم القتل مهتمٌّ بما يُفترض أنَّ هذا الرجل المدعو لينش قد قاله عن قتل فولر.»

ذكَّرتُه قائلًا: «لقد قال صراحةً إنَّ فولر لم يُقتَل.»

بدا النقيب متحيِّرًا. وقال: «أودُّ أن أرى مكان وقوع الحادث وأتحدَّث إلى أحد الشهود هناك.»

«لقد كان في غرفة دمج الوظائف. كنت في إجازة من العمل في ذلك الوقت.»

«أين؟»

«في كوخ أمتلكه في أعالي الجبال.»

«هل كان أحد معك؟»

«لا.»

«هل يمكننا إلقاء نظرة على غرفة الوظائف؟»

قال سيسكين: «إنها تابعة للقسم الذي يَرأَسه ويتني. إنه مساعِد السيد هُول.» أدارَ مفتاحًا في جهاز الاتصال الداخلي.

أضاءت الشاشة متذبذبةً بين نمط أو نمطَين متعرِّجَين، ثم استقرت على صورة شاب صغير الحجم، كان في مثل عمري تقريبًا، غير أن شعره أسود مجعَّد.

سألَ تشاك ويتني متفاجئًا: «ما الأمر يا سيد سيسكين؟»

«سيكون الملازم ماكباين والنقيب فرانستوك في الردهة في غضون عشر ثوانٍ تقريبًا. رافِقهما وأرِهما قسم دمج الوظائف.»

بعدما غادر ضابطا الشرطة، كرَّر سيسكين كلامه. فقال: «ما الذي تحاول فعله بحق الجحيم يا دوج، أتريد أن تقضيَ على شركة رين قبل أن تبدأ عملها؟ سنبدأ بعد شهرٍ الإعلانَ عن عقود الأبحاث التجارية. شيء كهذا من شأنه أن يُربِكنا! ما الذي يجعلك تفكِّر في أن موت فولر لم يكن حادثًا؟»

«لم أقُل إنه لم يكن حادثًا.»

لم ينتبه إلى الفَرق. «على أي حال، مَن يريد قتل فولر؟»

«أيُّ شخص لا يريد أن يرى شركة ريأكشنز تنجح في عملها.»

«مثل مَن؟»

أشرتُ بإبهامي إلى النافذة. وقلتُ: «هم.» لم يكن اتهامًا فعليًّا. كلُّ ما في الأمر أنني كنت أحاول الإشارة إلى أن الجريمة لم تكن بعيدة المنال إلى ذلك الحد.

نظرَ ورأى — لأول مرة كما كان واضحًا — اعتصامات اتحاد راصدي ردود الأفعال. جعله هذا يقفز عن كرسيه ويدور واثبًا مثل قزم صغير.

«إنهم يعتصمون يا دوج! تمامًا كما توقعتُ! ستكون هذه دعاية عظيمة لنا!»

قلت: «إنهم قلقون بشأن ما ستعنيه شركة رين لهم، وهو تسريحهم من العمل.»

«حسنًا، أتمنَّى ألَّا تكون مخاوفهم في غير موضعها. فانتشارُ البطالة في مجتمع مستطلعي الآراء سيتناسب طرديًّا مع نجاح شركة رين.»

غادرَ مندفعًا على عجلة من أمره، قائلًا: «أراكَ قريبًا.»

وقد غادرَ في الوقت المناسب. دارت الغرفة بجنون من حولي، وترنَّحتُ أمام المكتب. تمكَّنتُ من الجلوس على الكرسي، ثم مالَ رأسي إلى الأمام.

بعد لحظاتٍ استعدتُ توازني، ربما في ذهول وخوف، ولكني كنت على الأقل مالكًا زمام نفسي.

ثم أدركتُ أنه لا يمكنني تجاهل نوبات اضطراب الوعي أكثر من ذلك. لقد أصبحَت الآن تزداد بوتيرة أكثر تكرارًا من ذي قبلُ. ولم يساعدني حتى قضاءُ إجازة لمدة شهر في الكوخ على إيقاف النوبات المتكررة.

لكني لن أستسلم للأمر. فقد كنت مصمِّمًا على رؤية انطلاق شركة ريأكشنز بالشكل اللائق.

لم يكن شيءٌ ليُقنِعني بأنَّ لينش لم يَختفِ حقًّا. ربما لم يَلحَظ وصولَه أحدٌ غيري ممَّن حضروا الحفل. ولكن أن تكون الواقعة برُمَّتها من وحي خيالي، فهذا تسليم بأمر لم أستطع أن أُقنِع نفسي به.

انطلاقًا من هذه النقطة، كان عليَّ التعامل مع ثلاث فرضياتٍ بديهية، غير أن كلًّا منها تتعارض مع الأخرى، وهي أن لينش قد اختفى بالفعل، وأن فولر لم يَمُت في حادث على أي حال، وأن هناك «سرًّا» في الأمر على حدِّ تعبير لينش، وهذا السر كان على ما يبدو السبب في وفاة فولر واختفاء لينش.

ولكن إذا أردتُ التحقق من صحة أيٍّ من هذه الفرضيات، فسيتعيَّن عليَّ القيام بذلك بنفسي. فقد جاء ردُّ فعل الشرطة غير متفهِّم، وهو ما كان متوقَّعًا في حالة بلاغ غريب كهذا.

غير أن المسار المنطقي الوحيد للأمر لم يُفصِح عن نفسه إلا في صباح اليوم التالي. وهو أنني يجب أن أتحرَّى الأمر بواسطة نظام الاتصال الذي كنت أتواصل من خلاله مع فولر. وقد هداني أيضًا إلى هذا المسار شيءٌ ذكره لينش.

اعتدتُ أنا وهانون فولر أن يستعرض كلٌّ منا ملاحظات الآخر بشكلٍ دوري لتنسيق جهودنا. وكنا في كتابتنا لهذه الملاحظات نستخدم الحبر الأحمر؛ لتمييز النقاط التي ينبغي للآخر ملاحظتها.

وَفقًا لما قاله لينش، فقد عَهِد إليه فولر بشيءٍ ذي طبيعة سرية. غير أن في ذلك إشارةً بأنه كان سيخبرني أنا وليس هو فقط لو أنني كنت حاضرًا حينها. ومن ثَم، كان من الممكن أن يكون فولر قد تدبَّر بالفعل نقل المعلومات المتعلقة بالموضوع عبر وسيلتنا المتمثلة في تلك الملاحظات المكتوبة بالحبر الأحمر.

ضغطتُ على زر جهاز الاتصال الداخلي. وسألتُ: «هل نُقلتْ متعلقات السيد فولر الشخصية يا آنسة بويكينز؟»

«لا يا سيدي. ولكنها ستُنقَل قريبًا. النجَّارون والكهربائيون على وشك التوجُّه إلى مكتبه.»

تذكَّرتُ الآن أن المكان سيجري تحويله إلى غرض آخر. فقلتُ لها: «أخبريهم أن ينتظروا إلى الغد.»

عندما وجدتُ بابَ مكتب فولر مواربًا، لم أتفاجأ على الإطلاق؛ لأننا كنا نستخدم غرفة استقباله الخارجية لتخزين معدات المحاكاة الإلكترونية. ولكن بعدما عبرتُ فوق السجاد السميك إلى الباب الداخلي، تراجعتُ متوترًا.

كانت هناك امرأة جالسة إلى المكتب تتصفَّح كومة من الأوراق. ويبدو أنها قد فتَّشَت المكان جيدًا، حيث كانت الأدراج لا تزال مفتوحة، وكومات المقالات بجانب النشَّاف.

تسلَّلتُ إلى الغرفة، ووقفت خلفها، محاولًا الاقتراب قدر الإمكان دون أن تكتشف وجودي.

كانت شابَّة، لم تكن بالتأكيد قد تجاوزت أوائل العشرينيات. كانت وَجْنتاها ناعمتَين مَلساوَين، على الرغم من صرامتهما الناتجة عن انهماكها بالبحث في أوراق فولر. تنافست شفتاها مع عينَيها الكبيرتَين على احتلال المساحة الأكبر من وجهها. ومع أن شفتَيها كانتا ممتلئتَين ونَضِرتَين، فقد وضعت عليهما قدرًا بسيطًا من أحمر الشفاه أبرزَ حُسنَهما في غير تكلُّف ولا إسراف. كان لون عينَيها العسليتَين، المنصرفتَين تمامًا إلى المذكرات، يصنع تباينًا مستحَبًّا مع لون شعرها الأبنوسي البارز من قبعة صغيرة، ذات تصميم يتسم إلى حدٍّ ما بكونه خارج السياق.

تسحبتُ خلفها، ولكني تلكَّأتُ كي لا ينكشف وجودي. كان وجودها هنا إما بصفتها عميلة لإحدى مؤسسات المحاكاة الإلكترونية باستخدام الكمبيوتر، التي كانت شركةُ ريأكشنز على وَشْك أن تحلَّ محلَّها، أو لأنها ذات صلة ما ﺑ «سِر» فولر الغامض.

كانت الفتاة قد أوشكت على الانتهاء من قراءة الملاحظات. شاهدتُها تقلِّب الصفحة ما قبل الأخيرة، وتضعها وجهُها للأسفل فوق الكومة التي أنهت تفحُّصها. ثم سقطت عيناي على الورقة الأخيرة.

كانت الورقة بالحبر الأحمر! غير أنه لم يكن فيها أي كلمات أو صيغ أو رسومات تخطيطية. مجرد رسم عشوائي لا معنى له. أظهَر الرسم محاربًا من نوع ما، يمكن الحُكم من خلال سترته وسيفه وخوذته بأنه محارب إغريقي، كما أظهر الرسم سلحفاة. لم يكن في الورقة شيءٌ آخر. غير أن كلَّ شيءٍ فيها كان قد وُضعَت تحته عدة خطوط حمراء.

تجدر الإشارة هنا إلى أن فولر عندما كان يريد لفْت انتباهي إلى شيءٍ مهم في مذكراته، كان يضع تحته خطًّا أو أكثر حسب أهميته. على سبيل المثال، عندما انتهى من وضع صيغة التحويل لبرمجة السمات الشعورية في وحدات رد الفِعل الذاتية للمحاكي، وضَع تحتها خمسة خطوط عريضة بالحبر الأحمر. وقد كان محقًّا في ذلك؛ حيث إنها حجر الأساس الذي بُني عليه نظامُه للمحاكاة البيئية الكاملة برُمَّته.

في هذه الحالة، وضع عدة خطوط أسفل المحارب الإغريقي والسلحفاة، خمسين خطًّا على أقل تقدير، حتى لم يَعُد لديه مكان في الورق!

انتفضَت الفتاةُ من مكانها عندما شعرتْ بوجودي أخيرًا. فأمسكتُ بمعصمها خوفًا من أن تركضَ نحو الباب.

سألتُها: «ما الذي تفعلينه هنا؟»

ارتجفتْ تحت ضغط يدي. ولكن الغريب أنه لم تظهر على وجهها أماراتُ الدهشة أو الخوف. بل إن عينيها كانتا تتحركان بغضب هادئ ووَقور.

قالت بلا انفعال: «أنت تؤلمني.»

حيَّرتني للحظةٍ فكرةُ أنني ربما قد رأيتُ من قبلُ هاتَين العينَين الحازمتَين، وهذا الأنف الصغير المعقوف. خفَّفتُ من قبضتي ولكنني لم أترك معصمها.

قالت دون أن تُخفِّف من سخطها: «شكرًا لك يا سيد هُول. أنت السيد هُول، أليس كذلك؟»

«بلى. لماذا تسرقين محتويات هذا المكتب؟»

«حسنًا، على الأقل أنت لست دوجلاس هُول الذي كنت أعرفه.» حرَّرتْ معصمَها بسحبة عنيدة. «ولكني لا أسرق شيئًا. لقد رافقني إلى هنا أحدُ حُراسك.»

تراجعتُ في ذهول. «ألستِ أنتِ …؟»

ظلَّت قسماتُها جامدة. وكان الانضباط الشديد في تعبيراتها يدعم ذلك الجمود.

وجدتُ نفسي فجأة أحدِّق فيها — في هيئتها المتعجرفة التي جمعت الرزانة ومظهر المثقفين الذي اكتسبته حديثًا — ثم رجعتُ بذاكرتي ثماني سنواتٍ إلى «جينكس» فولر الخرقاء، البالغة من العمر حينها خمسة عشر عامًا. وتذكَّرتُ أنها كانت حتى في ذلك الوقت مندفعة وسليطة اللسان، ولم يحدَّها عن ذلك تقويم أسنانها، أو ضفائر التلميذات، أو زي المراهقات.

تذكَّرتُ أيضًا بعضَ التفاصيل، ومنها عندما تحدَّث بحرجٍ عن أن ابنته المراهقة «مُولَعة» ﺑ «العَم» دوج، وكذا المشاعر المختلطة التي انتابَتني وقتها وأنا في برج نضجي العالي، عندما كنت في الخامسة والعشرين من عمري، وعلى وشك الحصول على درجة الماجستير في العلوم تحت إشراف الدكتور فولر. أرسلَ فولر ابنته للعيش مع أخته في مدينة أخرى؛ كي تحظى برعايةٍ شبيهةٍ برعاية الأم، ولاستكمال دراستها؛ وذلك إدراكًا منه للصعوبة التي كان من شأنه أن يواجهها في مهمته كأب أرمل.

أعادني صوتُها من الماضي. «أنا جوان فولر.»

صحتُ مندهشًا: «جينكس!»

ترقرقت عيناها، وبدا أن بعضًا من ثقتها بنفسها يذهب عنها. وخاطبتني قائلة: «لم أتصوَّر أن أحدًا سيناديني بذلك الاسم مرة أخرى.»

أمسكتُ بيدها باهتمام. ثم حوَّلتُ انتباهها عن عمدٍ شارحًا سبب وقاحتي. فقلتُ: «لم أعرفكِ.»

«بالطبع لم تعرفني. وعن سبب وجودي هنا، فقد طُلِب مني القدوم لأخذ أغراض أبي.»

أفلتُّ يدها لتعود إلى الكرسي مرة أخرى، واتكأتُ أنا على المكتب. ثم قلت: «كان من المفترَض أن أعتني بهذا الأمر. ولكنني لم أكن أعرف … ظننتُكِ خارج البلاد.»

«لقد عدتُ من شهر.»

«هل كنتِ تُقيمين مع الدكتور فولر عندما …؟»

أومأتْ برأسها أنْ نعم، متجنِّبةً عن عمدٍ النظرَ إلى الأشياء التي جمعتها على المكتب.

كان ينبغي ألَّا أتسرَّع في التطرُّق إلى الأمر في تلك المرحلة بالذات. ولكنني لم أكن لأفوِّت الفرصة.

«بالحديث عن والدكِ … هل بدا قلقًا أو منزعجًا؟»

رمقتني بنظرة حادة. وقالت: «لا، لم ألحظ أيًّا من ذلك. لماذا؟»

«لأنه اتضح أن …» ثم قررتُ أن أكذب حتى لا أُقلِقها. فأردفتُ: «كنا بصدد العمل على شيءٍ مهم. وقد كنت في إجازة. يهمُّني أن أعرف ما إذا كان قد وجد حلًّا للمشكلة.»

«هل للأمر أي صلة ﺑ… التحكم في الوظائف؟»

تفحَّصتُ تعابيرها جيدًا. «لا. لماذا تسألين؟»

«أوه، لا أدري. لا شيء.»

«ولكن لا بد أن هناك سببًا للسؤال.»

تردَّدتْ. ثم قالت: «حسنًا، لقد كان قلقًا بعضَ الشيء حيال شيءٍ ما، على ما أظن. كان يقضي الكثير من الوقت في غرفة مكتبه. ورأيتُ بعضَ الكتب والمراجع التي تتناول ذلك الموضوع على مكتبه.»

لا أعرفُ ما الذي جعلني أشعر وقتها بأنها تحاول إخفاء شيءٍ ما. ومن ثَم قلتُ: «إذا كنتِ لا تمانعين، أودُّ القدوم إلى المنزل في وقتٍ ما والاطلاع على مذكراته. ربما أجد ما أبحث عنه.»

كان ذلك، على الأقل، أكثر لباقة من أن أخبرها بأن وفاة والدها لم تكن حادثًا.

أمسكتْ بحقيبة بلاستيكية وبدأتْ في ملئها بمتعلقات فولر الشخصية. وقالت: «يمكنك القدوم وقتما تشاء.»

«ثمة شيء آخر. هل تعلمين ما إذا كان مورتون لينش قد زار والدكِ مؤخرًا؟»

عبستْ لبرهة. ثم قالت: «مَن؟»

«مورتون لينش … «عمكِ» الوحيد، بخلافي.»

نظرت إليَّ في حيرة. ثم قالت: «لا أعرفُ أحدًا يُدعَى مورتون لينش.»

أخفيتُ حيرتي خلف صمتٍ متجهِّم. كان لينش يعمل في أعمال الإصلاحات بالجامعة، عامل صيانة. أتى معي أنا والدكتور فولر عندما ترك فولر التدريس، من أجل العمل في مجال الأبحاث الخاصة. علاوةً على ذلك، فقد عاش مع عائلة فولر لأكثر من عشر سنوات، ولم يقرر الانتقال للعيش في منزل أقرب إلى مبنى شركة رين إلا قبل سنتَين.

«ألا تتذكَّرين مورتون لينش؟» أنعشتُ الذكريات الراسخة لرجل كبير في السن يبني لها بيوتًا للدُّمى، ويصلح لها الألعاب، ويحملها على كتفَيه لساعاتٍ متواصلة في كل مرة.

«لم أسمع به من قبل.»

تجاوزتُ عن الأمر، وقلَّبتُ بعناية في كومة المذكرات الموضوعة على المكتب. توقَّفتُ عندما وصلتُ إلى رسم المحارب الإغريقي، ولكني لم أُطِل.

«هل من شيءٍ أساعدكِ فيه يا جينكس؟»

ابتسمتْ. وبهذا عاد كلُّ الدفء والعفوية اللذين كانا أيام شغفها، عندما كانت في الخامسة عشرة من عمرها. للحظة، شعرتُ بشيء من الأسى أنَّ «ولعها» بي جاء في سنٍّ مبكرة جدًّا في حياتها.

قالت مُؤكِّدةً: «سوف أتدبَّر أمري. لم يترك أبي الكثير من المال. وأنوي العملَ … بدرجتي العلمية في تقييم الآراء.»

«هل ستصبحين راصدة ردود أفعال معتمَدة؟»

«أوه لا، ليس في مجال أخذ العينات. بل في التقييم.»

كانت ثمة مفارقة في أن تقضي أربع سنواتٍ في التدريب على مهنة ستندثر؛ بسبب ما كان والدُها يعمل عليه في الفترة نفسها.

ولكن لم يكن ثمة مجال للتعاطف هنا. وقد أعربتُ عن تعاطفي بما يكفي عندما قلتُ: «ستتدبرين حالكِ جيدًا بحصتكِ في شركة ريأكشنز.»

«أتقصد نسبة العشرين بالمائة التي كان يملكها أبي؟ لا أستطيع الاقتراب منها. أوه، إنها ملكي. ولكن سيسكين استحوذ عليها بموجب اتفاق قانوني مُلزِم. وحصلَ على الوكالة. ستظل الأسهم والأرباح في عُهدته حتى أبلغ الثلاثين من عمري.»

إنه انتزاع كامل للحق. ولم يتطلب الأمر الكثير من الدهاء لمعرفة السبب. لم يكن فولر الوحيد الذي أصرَّ على تخصيص جزءٍ من جهود شركة ريأكشنز لجهود البحث، من أجل الارتقاء بروح الإنسان من مستنقعها الشديد البدائية الذي لا تزال تقبع فيه. فقد كان إلى جانبه ما يكفي من الأصوات المؤيِّدة لإعطاء أولويةٍ للأمر في أي اجتماع لمجلس الإدارة. ولكن الآن، بعد أن استحوذ سيسكين على نسبة العشرين بالمائة التي كانت لفولر، أستطيع الجزم أن جهاز المحاكاة لن يُستخدَم في مشروعاتٍ مثالية أو غير هادفة للربح.

أغلقَت الحقيبة البلاستيكية. ثم قالت: «أنا آسفة على تصرفي معك بوقاحة يا دوج. ولكن الغيظ قد تملَّكني. كلُّ ما جاء في ذهني بعدما قرأتُ عن حفل سيسكين هو شعورك بالانتشاء لأخذكَ مكان أبي. لكن كان يجب أن أدرك أن الأمر ليس بهذه الصورة.»

«بالطبع، ليس كذلك. على أي حال، الأمور لا تسير حسبما أراد لها الدكتور فولر. لا يهمني كيف تُدار الأمور. وظني أنني لن أمكث طويلًا إلا بالقدْر الذي يُمكِّنني من رؤية جهاز المحاكاة الذي صمَّمه يعمل على أرض الواقع. فجهوده تستحق ذلك القدر من التقدير على الأقل.»

ابتسمتْ بودٍّ، ودسَّت الحقيبة تحت ذراعها، وأشارت إلى كومة المذكرات التي أصبحت الآن مبعثرة. وكان أحد أركان الورقة التي تحتوي على الرسم بالحبر الأحمر ظاهرًا، وشعرتُ أن المحارب الإغريقي كان ينظر إليَّ ساخرًا.

قالت متوجِّهةً إلى الباب: «ستحتاج إلى فحص هذه الأوراق. سأنتظر زيارتك بالمنزل.»

بعدما غادرتْ، عدتُ متلهِّفًا إلى المكتب وأمسكتُ بالمذكرات. ولكنني رفعتُ يدي فجأة مجفِلًا.

لم يَعُد المحارب ينظر إليَّ. قلَّبتُ على عجل في كومة الملاحظات. لم يكن الرسم بها.

قلَّبتُ في الأوراق كالمجنون، ثم رحتُ أقلِّب فيها بعناية مرارًا وتكرارًا. بحثتُ في الأدراج، ونظرتُ تحت النشَّاف ومشَّطت الأرضية.

لكن الرسم كان قد اختفى تمامًا كما لو لم يكن موجودًا من الأساس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤