الفصل الرابع

انتابتني سلسلةٌ من الكوابيس، كنت فيها كلما أمسكتُ بشيءٍ تحوَّل إلى أشلاء، فلم أحظَ إلا بفتراتِ نومٍ قصيرة متقطِّعة دون راحة حتى ساعاتِ النهار الأولى. ومن ثَم أطلتُ في النوم، واضطُررتُ للخروج دون أن أتناول الإفطار.

ومع ذلك، فقد تجنَّبت، في طريقي إلى وسط المدينة، الطُّرقَ ذات الاختناقات المرورية الكبيرة، وهو ما زاد من تأخري نظرًا لطول المسافة التي قطعتُها، ورحتُ أفكِّر في أثناء ذلك في حادث الليلة السابقة الذي كاد يقضي عليَّ. هل ما حدث طبيعي؟ هل خرجت السيارة الطائرة عن نطاق السيطرة عمدًا؟

نفضتُ عني الشك. ما كان من الممكن أن يكون الحادث مدبَّرًا. ومن ناحية أخرى، فقد تعرَّض الدكتورُ فولر لحادث أودَى بحياته لا يمكن أن يكون مدبَّرًا كذلك. وكان هناك كذلك اختفاءُ لينش. هل كانت ثمة نية عصية على التصوُّر وراء ذلك أيضًا؟ وكيف بدا الآن أنَّ ثلاثة من أقرب معارف لينش لم يسمعوا به من قبل؟

هل كان منبع كل هذه التطورات المذهلة هو بعض المعلومات المبهَمة التي نقلها فولر إلى لينش؟ هل كانت معرفة لفتت الأنظار، أول ما لفتت، إلى صاحبها الأصلي، ثم إلى مَن خلفه في معرفتها؟

حاولتُ تجميع أجزاء اللُّغز معًا في منظور منطقي بعضَ الشيء، لكنني لم أستطع. فقد ظلَّت صورة اللافتة المُبدلة على الكأس تتصدر المشهد أمامي مرارًا وتكرارًا، جالبةً معها رسمًا بالحبر الأحمر أصبحَ الآن غير موجود، ورجلًا ضئيل الجسم أشبه بحيوان ابن عِرس، جلسَ متعجرفًا في مقعده في مكان التدخين السري، في حين ادَّعى ليمبي أنه رئيسُ الأمن في شركة رين.

الأمر برُمَّته يفوح برائحة شيءٍ لا يمكن وصفه بأقل من أنه خارق للطبيعة. لقد تجنَّبتُ هذا التفسير قدر ما تمكَّنتُ. ولكن ماذا عساه أن يكون غير ذلك؟

على أي حال، بدا شيءٌ واحد على أقل تقدير مرجَّحًا، وهو أنَّ فولر ولينش قد تورَّطا بمعرفة «معلوماتٍ سرية» أو «اكتشافٍ أساسي»، سَمِّه ما تريد. ماذا كان سيحدث لي لو كنت قد حصلتُ على تلك البيانات؟ أو حتى استمررتُ في إبداء اهتمامي بها؟ هل كان حادث السيارة الطائرة مجرد تحذير؟

وجَّهتُ عربتي للهبوط في ساحة انتظار شركة رين، وجعلتُها تتحرك بسرعة إلى مكانها المخصَّص. بمجرد أنْ أطفأتُ المحرك، سمعتُ جَلَبة أمام المبنى.

عندما تمكَّنتُ من العبور، تفاديتُ أنبوبًا يندفع في الهواء في اتجاه نافذة الطابق الأول. ولكنه فقدَ زَخْمه في وابل من الشَّرر، ثم تحطَّم على الأرض عند حافة حاجز التنافُر.

ازداد عددُ المعتصمين من راصدي ردود الأفعال بمقدار ثلاثة أضعاف. ومع ذلك، كانوا لا يزالون محافظين على النظام. غير أن مصدر القلق كان بالأحرى من حشدٍ غلبت عليه الفظاظة كان قد تَجمهَر متحديًا فِرقةً من قوات مكافحة الشغب.

في نهاية المربع السكني، وعلى منصة التحويل، كان هناك رجل أحمر الوجه يصرخ في مكبِّر صوتٍ:

«فلتسقط شركة ريأكشنز! لم نشهد كسادًا منذ ثلاثين عامًا! سيؤدي الجمع الآلي للآراء إلى انهيار اقتصادي كامل!»

اقتربَ مني رقيبُ فِرقة مكافحة الشغب. وسألني: «هل أنتَ دوجلاس هُول؟»

عندما أومأتُ برأسي أنْ نعم، أضاف قائلًا: «سأُرافِقكَ إلى الداخل.»

شغَّل مولِّد الشاشة المحمول الخاص به، وشعرت بوخزٍ نتيجة مجال التنافُر الذي طوَّقَنا أثناء تكوُّنه حولنا.

قلتُ له معبِّرًا عن استيائي وأنا أتبعه نحو المدخل: «لا يبدو أنكَ تحاول فضَّ هذا الحشد.»

«نحن نوفِّر لك الحماية الكافية. علاوةً على ذلك، إذا لم نسمح لهم بالتنفيس عن غضبهم، فسيزداد الأمر سوءًا.»

بالداخل، كان كلُّ شيءٍ طبيعيًّا. لم يكن هناك ما يشير إلى أنه على بُعد أقل من مائة قدم كان المتعاطفون مع راصدي ردود الأفعال يستفزُّون عُش الدبابير. لكن حجم العمل العاجل في جدول أعمال اليوم تطلَّب هذا القدر من اللامبالاة.

ذهبتُ مباشرةً إلى قسم شئون العاملين. لم أجد في خزانة الملفات، وتحديدًا في الحرف «إل»، أيَّ ملفاتٍ باسم مورتون لينش.

ووجدتُ في الحرف جي «جادسِن، جوزيف إم، مدير الأمن الداخلي». كان تاريخُ صدور استمارة طلب التوظيف ١١ سبتمبر ٢٠٢٩؛ أي قبل خمس سنوات. وأَظهَر الملفُّ أنه عُين في منصبه الحالي منذ أسبوعَين.

سألتني موظَّفة الملفات: «هل من خَطبٍ ما يا سيد هُول؟»

فالتفتُّ إليها. وسألتُها: «هل هذه البيانات مُحدَّثة؟»

قالت باعتدادٍ: «نعم يا سيدي. إني أحدِّثها كلَّ أسبوع.»

«هل أتتنا أي شكاوى بشأن جو جادسِن؟»

«أوه، لا يا سيدي. لا يوجد في ملفه سوى شهادات الكفاءة والأهلية. علاقتُه جيدة بالجميع. أليس هذا صحيحًا يا سيد جادسِن؟» وابتسمتْ بلطفٍ تجاه شخصٍ يقف خلفي.

التفتُّ. كان الرجلُ ذو الوجه الشبيه بوجه حيوان ابن عِرس يقف هناك.

ابتسمَ ابتسامةً عريضة. وقال: «هل اشتكى أحدٌ مني يا دوج؟»

التزمتُ الصمتَ للحظة. ثم تمكَّنتُ أخيرًا أن أقول «لا» بنبرة ضعيفة.

ردَّ قائلًا، وكان من الواضح أنه نظرَ إلى الأمر برُمَّته بسطحية: «ذلك جيد. بالمناسبة، هيلين تشكرك على السلمون المُرقَّط الذي أرسلتَه من البحيرة. إذا لم تكن مرتبطًا بأي شيءٍ مساءَ الجمعة، فلتأتِ إلى منزلنا ولْتتناول العشاءَ معنا. يريد جونيور أن يسمع المزيدَ عن المحاكاة الإلكترونية. لقد جعلته منبهرًا للغاية بالموضوع.»

جو جادسِن، هيلين، جونيور، تردَّدت الكلماتُ جوفاءَ في أذني بلا معنًى، كما لو كانت أسماءً غريبة للسكان الأصليين لعالَم لم يُكتشَف بعدُ على الجانب الآخر من المجرَّة. وقد ذكرَ سمك السلمون المرقَّط، عجبًا، لم أصطد سمكة واحدة طَوال الشهر الذي كنت فيه عند البحيرة! على الأقل، لم أتذكَّر أنني اصطدتُ أيَّ سمك.

خطرت لي فكرةُ إجراء اختبار أخير. تركتُ جادسِن والموظَّفة يتبادلان النظرات في ذهول، وأسرعتُ عبر الممر إلى مكتب تشاك ويتني في قسم توليد الوظائف. وجدتُه مُنكبًّا برأسه يتفحَّص الأجزاء الداخلية لمدمج البيانات الرئيسي الذي يستخدمه. ربتُّ على كتفه ورفعَ رأسه.

بدأتُ قائلًا: «تشاك، أنا …»

فسألني: «نعم يا دوج، ما الأمر؟» وقد بدت البشاشةُ على وجهه الوَدود الضارِب إلى السُّمرة، ثم بدا متحيِّرًا من تردُّدي الجَلي.

مرَّر يده خلف رأسه عبر شعره الأسود الكثيف، الذي كان شديد التلبُّد في تجعُّداته العنيدة على نحو يُذكِّرنا بقَصَّة البحَّارة ذات الشعر القصير، التي عفا عليها الزمن منذ ما يزيد على جيل كامل. ثم سأل وقد بدا عليه القلق: «هل لديك مشكلة؟»

قلتُ مترددًا: «الأمر يتعلق ﺑ… مورتون لينش. هل سمعتَ عنه من قبل؟»

«مَن؟»

كرَّرتُ قائلًا وقد تملَّكَني اليأسُ فجأة: «لينش. مورتون، مسئول … أوه، لا تهتم. انسَ الأمر.»

بعد لحظاتٍ كنت عند مَدخل غرفة الاستقبال في مكتبي، ورُحِّب بي ببشاشةٍ: «صباح الخير يا سيد هُول.»

أَعدتُ النظر إلى موظَّفة الاستقبال. كانت الآنسة بويكينز قد رحلت. وفي مكانها جلست دوروثي فورد، شقراء على نحو لافت للنظر، ومُتأهِّبة حيث نظرتْ إليَّ بأُنسٍ خَجول. تمتمتْ: «هل تفاجأتَ؟»

سألتُها: «أين الآنسة بويكينز؟»

فأجابتني: «استدعاها السيدُ سيسكين وذهبتْ إليه. إنها الآن في ربوع المؤسسة الداخلية المريحة، هانئة، حسبما نأمُل؛ حيث تحظى بحفاوة القُرب من «عظيم الشأن قصير القامة».»

دنوتُ منها. وسألتُها: «هل هذا تعديلٌ دائم؟»

أرجعتْ للوراء خصلةَ شعر كانت قد ضلَّت طريقها على صُدغها. ولكنها بطريقة ما لم تبدُ بذلك القدر من التهور، أو عدم الكفاءة الذي كانت عليه في حفل سيسكين. نظرت للأسفل إلى يدَيها وقالت بنبرةٍ إيحائية: «أوه، أنا متأكِّدة أنك ليست لديك مشكلة مع التغيير يا دوج.»

لكنني كان لديَّ مشكلة مع الأمر. وربما أظهرتُ ذلك كثيرًا عندما دخلتُ إلى مكتبي قائلًا بضجر: «سأعتادُ الأمر.» لم أكن أقدِّر حقيقةَ أن سيسكين كان كمَنْ يُحرِّك بيادقَه على رقعة الشطرنج، وأنني كنت واحدًا من تلك البيادق. أصبح من الواضح الآن أنه يعتزم فرض إرادته عندما يحين الوقت لتعيين المهام التي سيؤديها محاكي البيئة. ولم يكن لديَّ أدنى شك في أنه سيرفض توصيتي باستخدام جزءٍ من النظام لأغراض البحث الاجتماعي، تمامًا حسبما كان على وشك أن يعطي فولر رفضًا قاطعًا على الأمر نفسه.

ولكن في حالتي، كان هناك شكلٌ من أشكال المهادنة، ومن الواضح أنه شكلٌ من أشكال الإلهاء المفترَض أن يثير الاهتمام. من المُسلَّم به أن هيئة الآنسة بويكينز لم تكن متكلَّفة بالقدر الذي يجعلها نقيضًا صارخًا لمفهوم البساطة، ولكنها كانت تتمتع بالكفاءة واللُّطف. أما دوروثي فورد المتعددة المواهب، فقد كان من شأنها أن تخدم أغراضًا عديدة، والتي من أهمها، بلا شك، «مراقبتي» لصالح مؤسسة سيسكين.

لم تشغل تلك الأفكار ذهني لفترة طويلة، حيث جذبني لغز لينش مرةً أخرى كالمغناطيس.

فتحتُ الهاتفَ المرئي، وفي غضون ثوانٍ ظهر الملازم ماكباين على الشاشة.

بعد أن عرَّفتُه بنفسي، قلتُ: «بخصوص بلاغي حول مورتون لينش …»

«ما هي الإدارة التي تريد التحدُّث إليها؟»

«إدارة المفقودين، بالطبع. أنا …»

«متى قدَّمتَ بلاغك؟ وعمَّ كان؟»

بلعت ريقي بصعوبة. ولكن ردَّ فعله لم يكن غريبًا بطريقة ما. قلتُ متلعثمًا: «مورتون لينش. في حفل سيسكين. حادث الاختفاء. لقد جئتُ إلى شركة ريأكشنز و…»

«معذرةً يا سيد هُول، لكن لا بد أنك قد اختلط عليك الأمرُ بيني وبين شخص آخر. لم تتلقَّ هذه الإدارة أيَّ بلاغ من هذا النوع.»

بعد عدة دقائق كنت لا أزال أحدِّقُ في الشاشة الفارغة.

ثم انحنيتُ فجأةً للأمام في مقعدي وفتحتُ الدُّرج العلوي. كانت طبعة الجريدة المسائية التي وضعتُها جانبًا لا تزال موجودة. قلَّبتُ صفحاتها بفارغ الصبر حتى وصلت إلى صفحة العروض، وقرأتُ المقال الأخير في عمود ستان والترز.

لقد كان نقدًا ساخرًا ولاذعًا لأحدث عروض مسرح المجتمع.

لم تُذكَر كلمةٌ واحدة عن مورتون لينش والحفل الذي أقامه سيسكين في سقيفة مبناه.

كان صوتُ جرسِ جهاز الاتصال الداخلي يرنُّ بلا هوادةٍ إلى أنْ ضغطتُ أخيرًا على زِر الرد، دون حتى أن أنظر إلى الشاشة. وقلتُ: «نعم يا آنسة فورد؟»

«السيدُ سيسكين هنا لمقابلتك.»

مرة أخرى لم يكن وحده. أحضر معه هذه المرة رجلًا أنيقًا جعلتْ بِنيتُه «دمية دوروثي الصغيرة الأنيقة» تبدو أصغر بجواره.

قال سيسكين بحماس: «دوج، أريدُ أن أعرِّفك بشخص ليس هنا! هل تفهمني؟ لم يكن هنا قط. وبعد رحيلنا، سيبدو كما لو أنه لم يكن موجودًا، وذلك حسبما تعتقد.»

نهضتُ واقفًا، وكدتُ أطيح بمقعدي عندما أدركتُ التشابه بين ما قاله وما حدث للينش.

قال معرِّفًا كلًّا منا إلى الآخر وقد بلغَ ذروة حماسه: «دوجلاس هُول، وين هارتسون.»

مدَدتُ يدي مرتجفًا، وعلى الفور أمسكتْ بها قبضةٌ قوية بإحكام.

سأل هارتسون: «هل سأعمل مع هُول؟»

«ليس قبل أن نسوي كلَّ شيء. وليس قبل أن يعي دوج أنَّ ما نقوم به هو لمصلحة الجميع.»

عبسَ هارتسون. «ظننتُ أنكَ قد سويتَ كلَّ شيءٍ داخل مؤسستك.»

طمأنَه سيسكين قائلًا: «أوه، لقد قمت بذلك بالفعل!»

ثم تذكَّرتُ الرجل. إنه وين هارتسون، أحد أبرز الشخصيات السياسية في البلاد.

تابعَ سيسكين وهو يكاد يهمس: «من دون هارتسون، لم تكن الإدارة لتتمكَّن من مباشرة أعمالها. بالطبع كل علاقاته سرية؛ لأن ظهوره لم يكن إلا للتوفيق بين جهود الحزب والحكومة.»

اتصلت دوروثي، وظهر وجهها عبر جهاز الاتصال الداخلي. وقالت: «راصد ردود أفعالٍ مُعتمَد رقم ٣٤٧١-ج عبر الهاتف المرئي يريد التحدُّث إلى السيد هُول.»

توهَّج الغضبُ في عينَي سيسكين عندما دفع بنفسه أمام الشاشة. وقال: «أخبريه …»

غير أنَّ وجه الفتاة كان قد اختفى، وحلَّ محلَّه بالفعل وجهُ مستطلِع الآراء. قال: «إنني أُجري استطلاعًا حول تفضيلات الرجال لهدايا أعياد الميلاد.»

ردَّ سيسكين متذمِّرًا: «إذن هذا ليس استطلاعًا ذا أولوية، أليس كذلك؟»

«بلى يا سيدي. ولكن …»

«السيد هُول يرفض الإجابة. يمكنك استخدام تسجيل هذه المحادثة لتحصيل الغرامة.»

أغلق سيسكين الاتصالَ واختفَت الصورة، بينما كان الرجل يستجمع شتات نفسه، ويحاول رَسْم ابتسامةٍ على وجهه. لا ينزعج راصدو ردود الأفعال مطلقًا من المطالبة بنصيبهم من غرامات رفض إجراء الاستطلاعات.

تابعَ سيسكين: «وأما عن السيد هارتسون، فكنت أقول إن الإدارة لا تستطيع تدبُّر أمرها من دونه.»

قلتُ، متوخِّيًا الحيطة مما كنت أعلمُ أنه سيحدث لاحقًا: «لقد سمعتُ عن السيد هارتسون.»

سحب هارتسون كرسيًّا وجلس واضعًا ساقًا فوق الأخرى، واكتسى وجهُه بتعبيرٍ يُوحي بالصبر وطول الأناة.

ذَرَع سيسكين المكانَ جيئةً وذهابًا، وأخذَ يرمقني بين الحين والآخر. ثم قال: «لقد تحدَّثنا عن هذا الأمر من قبل يا دوج، وأنا أعلم أنك لا تتفق معي في بعض النقاط. ولكن، يا فتى، يمكن أن تصبح شركة ريأكشنز أهم شركة في البلاد! ثم بعد أن نستردَّ استثماراتنا، سأُنشئ لك نظامَ محاكاةٍ آخر يمكنك استخدامه حصريًّا في الأغراض البحثية.

الأمر وشيك يا دوج، أعني نظام الحزب الواحد. لا يمكننا إيقافه. ولست على يقين أنه سيحلُّ بالسوء على البلاد. لكن بيتَ القصيد في الأمر هو أن شركة ريأكشنز سيكون لها دور في المراحل المبكرة لهذا التحوُّل!»

أعربَ هارتسون عن رأيه. وقال بصراحة: «يمكننا النجاحُ في غضون العامَين القادمَين أو الأعوام الثلاثة القادمة، بإعاقة الحزب الآخر تمامًا واستجلاب أهم كوادره، إذا لعبنا أوراقنا على النحو الصحيح.»

انحنى سيسكين على المكتب. وقال: «وهل تدري ما الذي سيخبرهم بالأوراق التي يلعبونها … في جميع الانتخابات المحلية والوطنية وفي كل مسألة؟ إنه المُحاكي الذي صنعتُه لكم!»

شعرتُ ببعض الغثيان من حماسه المتهوِّر. ومن ثَم، سألتُه: «وما الذي سيعود عليك من هذا؟»

استأنف ذَرْعه جيئةً وذهابًا بعينين مفتوحتين لا تستكينان، ثم قال معدِّلًا سؤالي: «بل ما الذي سيعود علينا؟» ثم أردفَ: «سأخبرك يا بُنيَّ. يمكننا التطلع إلى اليوم الذي سوف يحظر فيه القانون منظومة استطلاع الآراء بأكملها، الرصد الشفهي لردود الأفعال، باعتبارها مصدر إزعاج لا يُطاق للجمهور.»

سعلَ هارتسون لجذب الانتباه. ثم قال: «ستكون شركة ريأكشنز في الصدارة بعمليتها السرية. فستظل هناك حاجة لاستطلاعات الآراء، التي ستكون أكثر شموليةً من أي وقتٍ مضى. لكن …» هزَّ رأسَه في قلقٍ زائف، ثم قال: «لا أدري كيف ستُلبَّى هذه الحاجة دون إقامة امتياز فيدرالي لشركة رين.»

أمسكَ سيسكين بالمكتب بقوة، وقال: «ألا ترى يا دوج؟ سيكون نظامُ محاكاة سيسكين وهُول في كل مدينة! سيكون القرار بيد وحدات رد الأفعال «الخاصة بك!» سيعني هذا عالَمًا جديدًا كليًّا! وحينئذٍ، بعد وضع جميع الأساسات، ستكون لديك مجموعةٌ كاملة من مؤسسات المحاكاة الإلكترونية تبحث في طرق تحسين العالم، وجَعْله مكانًا أفضل وأكثر عدلًا وإنسانية!»

ربما كان عليَّ أن أخبره أنَّ عليه البحث عن مختصِّ محاكاة إلكترونية آخر، ولكن ما الفائدة التي كان من الممكن أن تعود عليَّ من ذلك؟ إذا كان الأمرُ — كما اعتقد فولر — أنَّ سيسكين والحزب يخطِّطان لمؤامرةٍ كبرى، فما الذي كان سيعود عليَّ من التنازل عن موقع استراتيجي؟

سألتُ: «ماذا تريدني أن أفعل؟»

ابتسمَ سيسكين ابتسامةً عريضة. وقال: «واصِلْ عملك على نفس المنوال الحالي. وأبرِمْ بعضَ العقود التجارية. سيُمكِّننا هذا من اختبار إمكانات النظام. وفي الوقت نفسه، يمكنك التفكير في إعادة برمجة الآلة بأكملها، محوِّلًا إياها إلى مُحاكٍ مُوجَّه للأغراض السياسية.»

اقتحمت دوروثي المحادثة عبر جهاز الاتصال الداخلي. وقالت: «يا سيد هُول، السيد ويتني يعمل على برمجة تلك الدفعة الجديدة من وحدات رد الأفعال. ويريد أن يعرف ما إذا كان بإمكانك أن تأتي إليه.»

في طريقي إلى قسم توليد الوظائف، صادفتُ أفيري كولينجسورث في الممر.

قال: «لقد أعطيتُ ويتني لتوِّي موافقةً نهائية على الخصائص النفسية لوحدات الهوية السبع والأربعين الجديدة. هذا موجَز الأمر في حالِ أردتَ أن تفحصه.»

رفضتُ أن آخذ لوحَ الكتابة الذي قدَّمه لي. وقلتُ: «لا ضرورة لذلك. لم أشكِّك في حكمك من قبل.»

فقال بدوره: «قد أخطئ سهوًا، كما تعلم.» وابتسم.

ورددتُ: «لن تُخطئ.»

تردَّد، وحاولتُ أن ألوذَ بالفرار دون أن أجعله يظن أنني كنت قلقًا بشأن ما حدث في غرفة التدخين السرية.

لمس ذراعي باهتمام. ثم سألني: «هل أنتَ بخير الآن؟»

أجبتُه: «بالطبع.» وأجبرتُ نفسي على إطلاق ضحكة عفوية. ثم أضفت: «بشأن الليلة الماضية في حانة ليمبي، أظن أنني أسرفتُ في الشرب بعضَ الشيء بينما كنت أنتظرك.»

ابتسمَ بارتياح واستمر في طريقه إلى نهاية الردهة.

خارج قسم ويتني، وقفتُ بحيوية واتكأتُ بظهري على الحائط. ها هو الأمر نفسه يحدث من جديد، بحارٌ تمُوج في أذنيَّ، ونبضٌ يضرب صُدغيَّ. لكني قاومتُ فِقدانَ الوعي. في النهاية استقرت الجدران، ووقفتُ هناك متوترًا خائفًا. وبعد أن ألقيتُ نظرة على الممر لأرى إنْ كان أحد قد شاهدَ النوبة التي انتابتني، واصلتُ طريقي إلى غرفة توليد الوظائف.

كان تشاك ويتني مبتهجًا وهو يخرج من تجويف الصيانة. صاح قائلًا: «دُمجَت جميعُ وحدات الهوية السبع والأربعين بنجاح!»

سألتُه: «ألم تواجهك أي مشكلات؟»

فأجابني: «لم يحدث أيُّ انسحابٍ مفاجئ. يبلغ تعدادُ السكان الحالي في المُحاكي ٩١٣٦.»

أخذنا المصعدَ إلى إحدى «ردهات» الهوية في الطابق الثاني. سِرتُ إلى أقرب صف من صفوف وحدات التخزين. توقفتُ مبهورًا عند وصولي إلى بداية الصف الذي يحوي الكيانات المضافة حديثًا.

كانت كلُّ وحدة من وحدات التحكم تبثُّ تأكيدًا مطَمئنًا عبر صوتٍ خفيض من حاويات الذاكرة الطنَّانة، وقعقعة نقاط الاتصال المتشابكة، وإيقاعات الآليات المُعزِّزة، بحيث أصبحت الحياة الزائفة بداخلها مُفعَمة بالحيوية ومنظَّمة، وأصبحت الدوائر المعرفية مُحفَّزة كما ينبغي.

شاهدتُ الأضواءَ المتعددة، الدالة على تشغيل الوظائف، تومِض على لوحتَين. بدَت المصابيح المقابِلة وكأنها تُومِض وتنطفئ في تناغُم تام. وتخيَّلتُ هذا الزوج من وحدات رد الفعل في اتصال متجانس. ربما شاب وشابة. محمولان على الرصيف المتحرك، مُشبِّكان ذراعَيهما. بل ربما يفكِّران في أفكار مماثلة، بينما يكوِّن كلٌّ منهما هيكله الخاص للتجربة الاختيارية بناءً على الواقع الذي قدَّمناه لهما.

فهمتُ جيدًا، دون تَحفُّظ الآن، كيف قرَّر فولر أن يشير إلى الشخصيات في مُحاكيه بعبارة «أشخاصي الصغار».

قاطعَ تشاك أفكاري. فقال مقترِحًا: «يمكنني أن أخصِّصَ لك دائرة تقمُّص مباشر أو دائرة مراقبة أشخاص، إذا كنت تريد أن تُجري فحصًا عشوائيًّا سريعًا.»

لكنَّ السماعة المعلَّقة على الحائط رنَّت فجأةً، وسُمع صوتُ دوروثي فورد. إذ قالت: «يا سيد هُول، يوجد هنا رئيسُ شرطة يُدعَى فارنستوك يطلبُ رؤيتَك. إنه ينتظر في غرفة الوظائف.»

نزلنا بالمصعد، وتقدَّم فارنستوك نحونا مُظهِرًا شارته.

سألَ مُحدِّقًا في ويتني: «هل أنت هُول؟»

صحَّح له تشاك قائلًا: «لا، أنا ويتني. هذا هُول.»

شعرتُ بالتوتر، ولكن للحظة فقط، عندما لم يستطع التعرف عليَّ. ولكن ألم يتصرف الملازم ماكباين وكأنه لم يسمع بي قَبلًا قبل ما لا يزيد عن ساعة؟

غادرَ تشاك الغرفة وقال قائدُ الشرطة: «أودُّ أن أطرحَ عليك بعضَ الأسئلة بخصوص وفاة الدكتور فولر.»

رفعتُ حاجبي في فضول، وسألتُه: «لماذا؟» ثم أضفتُ: «لقد قال محقِّق الوفَيَات إنَّ الوفاة كانت حادثًا، أليس كذلك؟»

ارتخت أساريرُ رئيس الشرطة الجامدةُ الغليظة. وقال مستعليًا: «نحن لا نتوقفُ في تحقيقنا مطلقًا عند هذا الحَد. سأكون صريحًا معك يا سيد هُول. من المحتمَل أنَّ ما حدث لفولر لم يكن حادثًا على الإطلاق. بَلَغني أنكَ كنت في إجازة في ذلك الوقت.»

أربكَني سؤاله. ليس لأنه يستجوبني حول ما تعتبره الشرطة الآن جريمة قتل. ولكن لأنَّه بدا لي أنَّ بعضًا من أجزاء هذا اللُّغز تتجمَّع بطريقة غير متوقَّعة تمامًا.

مات فولر، ورحل لينش. ولم يَعبأ أحدٌ أيضًا. كلُّ ذلك بسبب بعض المعلومات «الأساسية» التي أحاولُ الآن معرفة طبيعتها. وكنت على وشك أن أُقتَل في أثناء ذلك. والآن، تحقيق الشرطة الذي تغيَّر فجأة. هل كانت مناورة تكتيكية لإقصائي وتنحيتي جانبًا؟ ولكن كيف؟ ومَن عساه أن يكون المسئول عن ذلك؟

قال فارنستوك مهادِنًا: «حسنًا، ما قولك؟»

أجبتُه: «أخبرتُك أنني كنت في كوخي على البحيرة.»

فسألني مجدَّدًا: «ماذا تقصد بأنكَ قد أخبرتني؟»

بلعتُ ريقي. ثم قلتُ: «لا شيء. لقد كنت في كوخي.»

«هل كان معكَ أحد؟»

«لا.»

«إذن ليس لديك إثباتٌ من أي نوع أنك كنت هناك في وقت وفاة فولر. أو أنك قد ذهبت إلى كوخك من الأساس.»

«لماذا عليَّ أن أثبت أيَّ شيء؟ لقد كان فولر أعزَّ أصدقائي.»

ابتسمَ ابتسامةً ساخرة. «هل كان لك بمثابة أب؟»

نظرَ حوله، كما لو كان يرى المبنى بأكمله وليس غرفة الوظائف فحسب. وقال: «أنت في منصب جيد الآن، أليس كذلك؟ المدير الفني. ولديك فرصة في الحصول على حصةٍ في ملكيةِ واحدةٍ من أبرز شركات القرن الحادي والعشرين.»

قلتُ بهدوءٍ: «يوجد مستودَع للمؤن على بُعد نصف ميل من الكوخ، حيث كنت أذهب إليه كلَّ يوم تقريبًا للحصول على أغراضي. ستُظهِر أشرطةُ الحساب عدد مرات محاسبتي بسعتي الحيوية الخاصة وأوقاتها.»

قال بحذر: «سنرى.» ثم أضافَ: «في الوقت الحالي، لا تذهب إلى أي مكان بخلاف الأماكن المعروف لنا أنك تتردد عليها.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤