الفصل الخامس

مرت بضعة أيام أخرى قبل أن يُتاح لي الوقتُ لإجراء فحص عشوائي للمحاكي «سميولكرون-٣». علاوةً على كوني أسيرًا للعمل، كان عليَّ استرضاءُ سيسكين من خلال وَضْع بعض الخطط الأولية؛ لتحويل مجمع المحاكاة الإلكترونية إلى قاعدة ذات توجُّه سياسي.

في هذه الأثناء، ظلَّت أفكاري مشوَّشةً بتحقيق الشرطة الذي فُتح مجدَّدًا. أتُراه إجراءً مستقلًّا اتخذَته الشرطة من جانبها؟ أم أن غاية ما في الأمر أنَّ سيسكين كان يستخدم نفوذه ليوضِّح لي ما يمكن أن يحدث إذا قررتُ عدم مسايرته هو والحزب؟

في إحدى المرات، خلال محادثة عبر الهاتف المرئي مع سيسكين، طرحتُ مسألة زيارة رئيس الشرطة فارنستوك. وشعرتُ أنَّ شكِّي كان في محله، عندما لم يُبدِ سوى القدر القليل من الدهشة من اهتمام الشرطة المفاجئ بوفاة فولر.

قال كي يوضِّح لي ببراعةٍ أنه من مصلحتي أن أظلَّ أعمل لصالحه: «إذا شرعوا في مضايقتك، فما عليكَ سوى أن تُعلِمني.»

قررتُ بعد ذلك أن أجسَّ نبضه في مسألة أخرى. قلتُ بحذر: «لا يمكنك إلقاء اللوم على الشرطة لالتزامهم بالتحقيق في الأمر. فقد ظلَّ لينش يزعم أن وفاة فولر لم تكن حادثًا.»

«لينش؟ لينش؟»

واصلتُ بجرأة ولكن بغموضٍ في الوقت نفسه. «مورتون لينش. الرجل الذي اختفى أثناء حفلك.»

«لينش؟ اختفى؟ ما الذي تتحدَّث عنه يا بُنيَّ؟»

كان ردُّ فعله صادقًا. وهذا يعني أن سيسكين، مثله مثل أي شخصٍ آخر سواي، قد نسي تمامًا الرجل الذي اختفى من الحديقة العلوية في مَبناه. أو لعله يجيد التمثيل ببراعة فائقة.

قلتُ متقنًا الكذب: «ظلَّ لينش يمزح معي بشأن التخلص من فولر والاستحواذ على منصبه.»

عندما تسنَّى لي الوقتُ أخيرًا لإجراء الفحص العشوائي للمُحاكي الذي اقترحه ويتني، فوجئتُ أنني وجدتُ نفسي أُقبِل على التجربة بترقُّبٍ أكثر من المعتاد.

اصطحبني تشاك إلى غرفة «العين السحرية»، ووجَّهني إلى أقرب أريكة للاستلقاء عليها. سألني بابتسامة عريضة: «أيَّ نوعٍ من المراقبة تريد؟ أترغب في دائرة مراقبة؟»

فأجبتُه: «لا. أريدُ فقط اقترانًا تقمُّصيًّا عاديًّا.»

«هل تفضِّل وحدة هُوية بعينها؟»

«فلتَخترْ أنت.»

من الواضح أنه كان قد اختار بالفعل. ومن ثَم قال: «ما رأيك في دي طومسون، وحدة هُوية رقم ٧٤١٢؟»

«يناسبني ذلك. ما مهنته؟»

«سائقُ سيارةٍ طائرة. سنستدعيه في مهمة توصيل. ما رأيك؟»

«هيا بنا.»

وضع خوذة الانتقال على رأسي، ثم قال مازحًا: «إذا تسبَّبتَ لي في أي مشكلة، فسأعطيك جرعة من الجهد الكهربائي العالي.»

لم أضحك. حسب نظرية فولر، فإن الانفلات في إشارات المُعادِل يمكن أن يتسبَّب في انتقال عكسي. فكما ثُبِّتت ذاتُ المراقِب مؤقتًا في وحدة تخزين الهوية، قد تتسلَّل وحدةُ الهوية وتطبع نفسها في دماغ المراقِب في تبادُل عنيف ومفاجئ.

لا يعني ذلك أنَّ الانتقال العكسي لا يمكن التراجع عنه لاحقًا. ولكن إذا حدث شيءٌ ما لصورة وحدة الهوية في تلك الأثناء، فستتكوَّن نظريًّا حواجزُ أمام المراقِب المُحاصَر في بيئة المحاكاة.

اتَّكأتُ فوق بطانة الأريكة الجلدية أشاهدُ تشاك وهو يضبط إعدادات لوح الانتقال، مُجريًا بعضَ التعديلات النهائية، ثم مَد يده إلى مفتاح التفعيل.

كان ثمة تشويشٌ حاد قصير المدى في جميع حواسي، بدءًا من توهُّج ضوءٍ متغيِّر الألوان، مرورًا بدَويِّ صوتٍ صارخ، وانقضاض مذاقاتٍ وروائح لا تُطاق، وانتهاءً بشعور باللمس.

ثم أصبحتُ هناك، في الجانب الآخر. مررتُ بلحظةٍ شعرتُ فيها بالخوف والارتباك؛ حيث أعادَت عملياتي الإدراكية التكيُّف مع المَلَكات الإدراكية لدى دي طومسون، وحدة هُوية رقم ٧٤١٢.

جلستُ إلى وحدة التحكم في السيارة الطائرة، أشاهد على مهلٍ المدينةَ التناظرية تمرُّ مُسرِعة من تحتي. كنت أشعر بكل شيءٍ، حتى بصدري (أو بالأحرى، صدر طومسون) بصعوده وهبوطه المنتظم، وبدفءِ أشعة الشمس المتوهِّجة عبر القُبَّة البلكسيكية.

غير أن علاقتي بهذا العالَم كانت سلبية. فلم يكن بإمكاني أن أفعل شيئًا سوى أن أنظر، وأسمع، وأشعر. ولكني لم أكن أملك القدرة على الحركة. كما لم تكن ثمة طريقة تُمكِّن الوحدة الذاتية من إدراك الاقتران التقمُّصي.

انزلقتُ بالشاحنة إلى المستوى الأدنى حيث يغيب الصوتُ، ووصلتُ إلى تدفُّق أفكاره الواعية، فوجدتُني كنت قلقًا أن أكون قد تأخَّرت. ولكن، اللعنة، فأنا (وحدة هُوية رقم ٧٤١٢) لا أعبأ بشيء. عَجبًا، كان بإمكاني أن أكسبَ ضِعف المبلغ لدى أي شركة توصيل أخرى.

بعدما أصبحتُ راضيًا عن اكتمال الاقتران، تراجعتُ (أنا دوج هُول) من التقمُّص التام إلى التقمُّص الواعي، ونظرتُ بعينَي طومسون حيث حدَّق في الرجل الجالِس في المقعد الآخر.

وتساءلتُ عما إذا كان مساعِده هو أيضًا وحدة هوية كاملة أم مجرد «دُمية». فقد صنعنا مئات الآلاف من «الدُّمى» لتجهيز البيئة المُحاكاة بشكل كامل.

انتظرتُ بفارغ الصبر أن يغذِّي تشاك مُحفِّز الاختبار. كنت أتطلَّعُ إلى المغادرة مبكرًا عصرَ ذلك اليوم؛ لأنه كان لديَّ موعدٌ مع جينكس في منزلها لتناول العشاء، والاطلاع على مذكرات الدكتور فولر.

وصلَ المحفِّز أخيرًا. وظلَّ طومسون يحدِّق فيه لمدة عشر ثوانٍ كاملة قبل أن أدركَ ماهيته.

على سطح أحد المباني المرتفعة بالأسفل، كانت مصابيحُ الزينون المتصاعِدة الأبخرة، والعالية الكثافة، لإحدى اللوحات الإعلانية الأفقية؛ تومِض مرارًا وتكرارًا:

سكوتش سوروبمان: مُعتَّق وغير لاذع

هل تعرف منتجًا أفضل تقطيرًا؟

لقد كانت خدعة لتحفيز وحداتنا الذاتية على التعبير عن رأيها. وقد جاء ردُّ الفعل الانعكاسي من طومسون، الذي كان قد ذاق المحاكي الإلكتروني المكافئ لسكوتش سوروبمان لما بدا له وكأنه عدة سنوات.

«اللَّعنة على الخمر الرديئة!»، هكذا شعرتُ (أنا وحدة هُوية رقم ٧٤١٢). «ربما لم يكن ليصبح بهذا السوء إذا كان قد عُتِّق بما يكفي للتخلُّص من مذاقه اللاذع. ولكن أيضعون شرابَ السكوتش في زجاجة تشبه كرة البولينج؟»

وفي الوقت نفسه، كانت جميعُ وسائل الإعلان المرئية الأخرى في جميع أنحاء المدينة التناظُرية تُومِض بالرسالة نفسها.

وكانت ردود أفعال الآلاف من كيانات وحدات الهوية يُجرَى فرزها، وتحليلها، وتجميعها في سجل الإخراج الرئيسي. في هذا السجل يُجرَى تصنيفها، وتخزينها، وفهرستها. وبمجرد ضغطة زر واحدة، تحصل على توزيعاتٍ حاسمة كاملة حسب العُمر، والجنس، والمهنة، والانتماء السياسي، وغيرها.

في غضون ثوانٍ قليلة، أنجزَ جهازُ محاكاة فولر ما كان سيستغرق شهرًا من الجهد، من قِبَل كتيبةٍ من راصدي ردود الأفعال المعتمَدين.

ما حدث بعد ذلك باغَتني، وكان من حُسن حظي أنَّ الاقتران التقمُّصي كان من طرَف واحد فقط. وإلا كان دي طومسون قد عرف أنه لم يكن وحده في دهشته.

ضربَت السماءَ الصافية صاعقةُ برقٍ عنيفة. توهَّجت ثلاثُ كراتٍ من النار فوق رءوسنا. ظهرت الغيوم من العَدم، وتوسَّعَت سريعًا في مداها حتى حجبَت كلَّ بقعةٍ تقريبًا من ضوء النهار، وأطلقت العِنان لسيول من البَرَد تسقط عنيفةً كضرب السِّياط. واشتعلت النيران فجأةً في مبنيَين أصغر بالأسفل.

استبعدتُ وأنا مذهول احتمالَ أن يكون تشاك قد تلاعبَ بدعائم خلفية المشهد. على الرغم من أن شيئًا كهذا كان من الممكن ألا تكترث به وحداتُ الهوية، دون اللجوء إلى بذل جهد محظور، باعتباره «نزوة من نزوات الطبيعة»، فلن يخاطر ويتني بإخلال التوازن الدقيق لمجتمعنا التناظري.

لم يبقَ سوى احتمال واحد، وهو أنَّ عُطلًا ما قد وقع في مجمع المحاكاة الإلكترونية! إخلال في التوازن، أو تعطُّل، أو توليد مضطرب للطاقة، أو حتى قطْع بسيط في الدائرة الكهربائية، كلُّ هذا يمكن للنظام ترجمته تلقائيًّا على أنه مكافِئات «طبيعية» نوعًا ما لقوًى إلكترونية شاردة. لا بد من حدوث خلل في مكان ما في خط الاتصال، لكن تشاك لم يُرجِعني؛ لأنَّ الانسحاب من اقتران الاستعراض العاجل يجب أن يكون طوعيًّا أو في نهاية الفترة المُبرمَجة. وبخلاف ذلك، قد يُفقَد جزءٌ كبير من كيان وحدة الهوية ولا يُمكن استرداده.

ثم جابَ طومسون لوحة الإعلانات الأفقية بعينيه، وشعرتُ بردِّ فعله الذي غلبت عليه الحيرةُ تجاه الرسالة الغريبة التي كانت في ذلك الحين تُومِض بأضواءِ الزينون:

دوج! عُد! حالة طوارئ!

على الفور، قطعت الاقتران التقمُّصي وطفوت عبر الانتقال النازع للروح إلى ذاتي الحقيقية. كانت غرفة العين السحرية في حالة فوضى من الإشارات المنطلقة، والأصوات الصارخة، والحرارة الخانقة، والروائح اللاذعة للعازل المحترق.

ألقى تشاك نظرة خاطفة على أريكتي، وهو يحاول جاهدًا إخماد النيران التي اندلعت في لوحة التحكم مُستخدِمًا مِطفَأة حريق.

صرخ: «لقد عدت! حمدًا لله! كنا سنتعرض لزيادة في التيار في أي لحظة!»

وبعدها فصل المفتاح الرئيسي. توقَّف فجأةً صوتُ طقطقة الشرارات الكهربائية كما لو أنَّ أحدًا قد أغلق عليه بابًا. إلا أنَّ الضوءَ الشديد المُضطرِم استمرَّ في التدفُّق من فتحات التهوية بلوحة التحكم.

خلعتُ الخوذة. وسألتُه: «ماذا حدث؟»

فأجاب: «وضعَ شخص ما شحنة ثرميت في جهاز التعديل!»

«الآن؟»

«لا أعرف. لقد غادرتُ بعد إجراء الاقتران. لو لم أعُدْ في الوقت المناسب، لكنتَ قد استحلتَ إلى رماد!»

اتَّسم ردُّ فعل سيسكين تجاه واقعة شحنة الثرميت برباطة جأشٍ مثيرة للدهشة، وبهدوءٍ مفرِط، هكذا رأيتُه. وفي غضون دقائق، كما بدا، كان في شركة ريأكشنز يتفحَّص الضرر، ويُومئ لنا مطَمْئنًا أن التأخير لن يطول لأكثر من يومٍ أو يومَين.

أما عن المسئول عن الخيانة، فقد كان تفسيره جاهزًا، وأكَّده بالدق بقبضته في راحة يده. حيث قال: «يا لراصدي ردود الأفعال اللُّعناء! تمكَّن أحدُهم من التسلل إلى هنا!»

نفَى جو جادسن هذا الاحتمالَ بشدة. فقال: «إنَّ إجراءاتنا الأمنية لا تُخطئ أبدًا يا سيد سيسكين.»

تجهَّم وجهُ سيسكين. وقال: «إذن، جاءت الخيانة من الداخل! أريدُ إجراء فحص مضاعَف وشامل للجميع مرةً أخرى!»

عندما عدتُ إلى مكتبي، سِرتُ أمام النافذة، ورحتُ أُطالِع المشهدَ بالخارج وقد عاد إلى نظامه مجدَّدًا. لم يكن هناك سوى اعتصامات مستطلِعي الآراء. اختفى الغوغاء الثائرون. ولكن إلى متى سيظل المشهد على تلك الحالة؟ وما هو القاسم المشترك بين راصدي ردود الأفعال وهجوم الثرميت إلى غير ذلك من أمور مستحيلة حدثت مؤخرًا؟

كنت متأكِّدًا بطريقة ما أنه لا بد من وجود ارتباطٍ جوهري بين جميع الأحداث الغريبة التي وقعت خلال الأسبوع الماضي أو نحو ذلك، بدءًا من وفاة فولر، واختفاء لينش، ثم «المحو التام» لاسم لينش من شبكة الخبرات السابقة بأكملها، وما تركه فولر من رسم أخيل الذي أصبحَ مفقودًا الآن، وتغيُّر النقش على الكأس خلف طاولة الشراب في حانة ليمبي، وتحقيقات الشرطة المتغيِّرة كلَّ حين.

يبدو أن قنبلة الثرميت، على سبيل المثال، كانت ردة فعل عنيفة من اتحاد راصدي ردود الأفعال ضد المؤسسة التي تهدِّد استمراريته. ولكن هل كانت هكذا حقًّا؟ أم أنها كانت تستهدفني أنا تحديدًا؟

من كان وراءها؟ بالطبع لم يكن سيسكين. ذلك أنه حتى لو كانت لديه أسباب لرغبته في إقصائي، فقد كان بإمكانه فعل ذلك من خلال تحقيق الشرطة الذي كان يتلاعب به.

بعد ذلك، عندما توقَّفتُ للنظر من النافذة، خطرَ لي احتمالٌ آخر، وهو أنَّ العديد من الآثار المُربِكة ربما كانت تستهدف على نحو غير مباشر مُحاكي البيئة نفسه!

موت فولر، واختفاء لينش، وشحنة الثرميت، والحادث الذي كاد يُودي بحياتي، هل هي حملة مخطَّطة للقضاء على أكثر اثنَين من مختصِّي المحاكاة الإلكترونية، في مقدورهما ضمان نجاح شركة رين؟

أشارت أصابعُ الشكِّ مجددًا إلى اتحاد راصدي ردود الأفعال. ولكن، مرةً أخرى، يقضي المنطقُ باستبعاد أن يكون الاتحاد وراء هذا الأمر. لا بد أنَّ وكالةً ما تمتلك قوًى خارقة للطبيعة أو وسيلة لمحاكاة مثل تلك القوى على نحو مُقنِع.

لم أستطع إخراج سلسلة الألغاز هذه من ذهني، حتى أثناء استمتاعي بعشاءٍ هادئ ولطيف مع جينكس مساءَ ذلك اليوم.

تناولنا طعامَنا في صمتٍ دام عشرَ دقائق كاملة، عندما خطرَ لي أنه لا يوجد سببٌ يدعوها للتعمُّق في التفكير.

حدَّثتُها قائلًا: «جينكس.»

جفلت وأسقطت شوكتَها. فأصدرَت الشوكةُ صلصلةً في صحنها، وابتسمتْ هي في حَرجٍ ثم ضحكت. وقالت: «لقد أخفتني.»

غير أنَّ كلَّ ما فعلتُه هو أنني همستُ باسمها. ومن ثَم، سألتُها: «هل من خطبٍ ما؟»

كانت ترتدي فستانًا كريمي اللَّون لامعًا، تراجعَ عن كتفَيها كثيرًا. ومن ثَم، كشف عن مساحة كبيرة من بشرتها السمراء التي ينسدل عليها شعرُها الأسود الطويل.

قالت: «أنا على ما يُرام. كنت أفكِّر في أبي.»

ألقتْ نظرةً خاطفة نحو المكتب ورفعتْ يدَيها لتُخفي بهما وجهَها. توجَّهتُ إليها في الناحية الأخرى من الطاولة لمواساتها، إلا أنني وقفتُ مكاني وقد أربَكَني إدراكي أن شيئًا ما لم يكن صحيحًا تمامًا. كان بإمكاني أن أتفهَّم حزنها لأنها ووالدها لم يكن لكلٍّ منهما سوى الآخر. غير أن هذا الانكشاف لعاطفتها كان بمثابة رجوعٍ لافت للنظر إلى منتصف القرن العشرين.

لقد كانت الأمور مختلفة قبل أن يُغيِّر التنوير موقفَ الناس تجاه الموت، ويُخلِّصنا من القسوة الشديدة التي تكتنفُ الشعائرَ الجنائزية. في تلك الأيام، كان إثبات الوفاة يتم تأكيده على أساسٍ عملي. فهؤلاء الذين يَحضُرون مراسم السهر عند جثمان الميت قبل دفنه وشعائر دفن الموتى، كانوا يرَون المُتوفَّى وقد غادر الحياة، ويصدِّقون ذلك بناءً على رؤيتهم له. ثم يتركونه وهم مقتنعون أنه قد فارق هذه الحياة بالفعل، وأنه لا مجالَ لأي تعقيداتٍ تنشأ من احتمالية أن يعود هذا الشخص الذي يُفترَض أنه مات إلى الحياة مرة أخرى. ولا حسابَ في ذلك كله للجروح النفسية التي يعاني منها بعد ذلك الأشخاصُ المقرَّبون من المُتوفَّى.

ولكن بمجرد أن فرضَت التكنولوجيا نفسها، أصبحت هناك وفرة في أدلة إثبات الوفاة المتاحة، حتى من خلال التقنيات البدائية مثل بصمات الأصابع، وقياس السعة الحيوية، وفحوصات رنين القشرة الدماغية. وأصبحَ الجُرح الأكبر الذي تعاني منه العائلات هو لحظة إخبارهم بوقوع الوفاة، وبأنه تم تدبير أمر التعامل مع الجثمان.

ما أحاولُ شرحَه هو أنه على خلفية معرفتي بجينكس كفتاةٍ عادية، فإنَّ حزنَها العميق الحالي بعيدٌ كلَّ البُعد عن شخصيتها.

وعندما اصطحبَتني إلى المكتب بعدها بلحظات، تساءلتُ فجأة عما إذا كانت تدفعني فحسب إلى تصديق أن انفجارها في البكاء كان بدافع الحزن. وعما إذا كانت تُخفي سببًا أعمق بكثير وراءَ ألمها؟

أشارت نحو مكتب فولر. وقالت: «ابحث بنفسك عما تريد، بينما سأذهبُ أنا لتعديل مكياجي.»

شاهدتُها متأمِّلًا وهي تترنَّح خارجةً من الغرفة، كانت طويلة رشيقة، وجميلة على الرغم من عينَيها الملتهبتَين.

غابت لفترة طويلة بما يكفي لأتصفَّح أغراضَ فولر المهنية القليلة. غير أنه لم يجذب انتباهي سوى أمرَين. الأول أنه في دفاتر الملاحظات القليلة على نحو عجيب، التي كانت منتشرة فوق المكتب، ومُخزَّنة في درجَين من أدراجه؛ كانت بعضُ المذكرات مفقودة. كيف عرفتُ ذلك؟ حسنًا، أخبرني فولر عدة مراتٍ أنه كان يُجري بحثًا في منزله حول عواقب المحاكاة الإلكترونية على الفهم البشري. ولم أتمكَّن من العثور على كلمة عن ذلك الموضوع.

الأمر الثاني هو أنَّ أحد أدراج المكتب — وهو الدرج الذي احتفظَ فيه بملاحظاته المهمة — كان قد فُتح عَنوة.

أما فيما يخصُّ الملاحظات نفسها، فلم يكن بها ما يثير اهتمامي، ولم أكن أتوقَّع حقًّا العثور على أي شيء.

عادت جينكس وجلست متوترةً على حافة الأريكة دون أن تبتسم، وقد ضمَّت يدَيها النحيلتَين حول ركبتَيها. كان وجهُها قد استعاد نضارته. ولكن يبدو أن ثمة إصرارًا حذِرًا في خطوط فهمها الدقيقة.

سألتُها: «هل كلُّ شيءٍ كما تركه الدكتور فولر تمامًا؟»

فأجابت: «لم يُمَس شيءٌ.»

قلتُ، وأنا أراقِب بحذر ردَّة فعلها: «بعضُ الملاحظات مفقودة.»

اتسعت عيناها. وقالت: «كيف عرفت؟»

فقلتُ: «لقد حدَّثني عن شيءٍ كان يعمل عليه. لا أجد أيَّ ذكر عنه.»

أشاحت بنظرها بعيدًا — ربما بقلق — ثم أعادت النظر إليَّ. وقالت: «أوه، لقد تخلَّص من الكثير من الأوراق، خلال الأسبوع الماضي.»

«أين؟»

«أحرقَها.»

أَشرتُ إلى الدرج المكسور. وسألتُها: «وماذا عن هذا؟»

فأجابت: «أنا …» ثم ابتسمت واقتربت من المكتب. وقالت: «هل هذا استجواب؟»

قلتُ مهدِّئًا: «أحاولُ فحسب أن أُلملِم شتاتَ بعضِ ما تبقَّى من أبحاثه.»

«لا يمكن أن يكون الأمر بهذه الأهمية، أليس كذلك؟» ولكن قبل أن أتمكَّن من الإجابة، اقترحَت باندفاع: «دعنا نذهب في جولة بالسيارة الطائرة يا دوج.»

أَعدتُها إلى الأريكة وجلسنا متجاورَيْن. وقلتُ لها: «دعيني أطرح بضعة أسئلة أخرى فحسب. ما خطبُ هذا القُفل المكسور؟»

«أضاعَ أبي مفتاحه. كان ذلك قبل حوالي ثلاثة أسابيع. ومن ثَم، فَتح الدرج عَنوةً مستخدِمًا سكينًا.»

كنت أعلم أن هذه كذبة. فقبل عام، كنت قد ساعدت فولر في تثبيت مُحفِّز للسعة الحيوية على القفل؛ كي يتمكَّن من فتح الدرج دون الحاجة إلى مفتاحه، الذي طالما كان يضعه في غير مكانه.

نهضَت واقفةً. وقالت: «إذا كنا سنذهب في جولةٍ بالسيارة الطائرة، فسأُحضِر معطفًا.»

ولكني قلتُ: «فيما يخصُّ الرسم الذي رسمه والدُكِ …»

فسألتني: «أيُّ رسم؟»

«رسم أخيل والسلحفاة بالحبر الأحمر، الذي كان في مكتبه. لَم تأخذيه، أليس كذلك؟»

«أنا حتى لم أرَه.»

لم تكن قد لاحظَت الرسم فحسب، بل كنت واقفًا خلفها أشاهدُها وهي تتفحَّصه لبعض الوقت.

قررتُ أن أتَّبع معها أسلوبَ الصدمة؛ لأتمكَّن فقط من معرفة تأثير ذلك عليها. ومن ثَم، قلتُ: «جينكس، ما أحاولُ فعله حقًّا هو معرفة ما إذا كانت وفاة والدكِ حادثًا أم لا.»

فغَرَت فاها وتراجعَت للخلف. ثم قالت: «أوه يا دوج، هل أنت جاد؟ هل تعني أنَّ أحدًا ربما يكون قد … قتله؟»

«أظن ذلك. كما أظن أنَّ ثمة شيئًا في ملاحظاته يكشف عن القاتل والدافع وراء القتل.»

«لكن لا أحدَ يريد أن يفعل شيئًا كهذا!»

لاذت بالصمت للحظة. ثم أضافت: «ولو كنتَ على حق، فقد تكون أنتَ أيضًا في خطر! أوه يا دوج، ينبغي أن تنسى الأمر!»

«ألا تريدين الإيقاعَ بالجاني؟»

تردَّدتْ قائلةً: «لا أعرف. أنا خائفة. لا أريدُ أن يحدث لك أيُّ شيء.»

لاحظتُ باهتمام أنها لم تقترح الذهابَ إلى الشرطة. سألتُها: «لماذا تظنين أن ثمة خطبًا ما سيحدث لي؟»

فقالت: «أنا … أوه يا دوج. أنا مرتبكة وخائفة.»

حوَّل قرصُ القمر اللامع القبَّةَ البلكسيكية للسيارة إلى قُبَيبة فضية مُتلألِئة، تُضفي بريقًا ناعمًا على جسد الفتاة الجالسة إلى جانبي.

كانت صامتة وشاردة، عيناها تنظران بضجرٍ على الطريق الذي امتدَّ أمام الوسادة الهوائية للسيارة، فبدَت مثلَ خزَف الدريسدن الهَش، الذي قد يتهشَّم تحت الاجتياح الناعم لضوء القمر.

كانت حينئذٍ مستغرِقةً في التفكير، غير أنها لم تكن على هذه الحال قبل بضع دقائق. ثم توسَّلتْ إليَّ، شِبه يائسة، أنْ أنسى أنَّ والدها ربما يكون قد قُتل.

ولم يزدني ذلك سوى حيرة. بدا الأمرُ وكأنها كانت تقف حاجزًا بيني وبين ما أصاب والدها أيًّا ما كان هو. ولم أستطع تجنُّب الشعور بأنها كانت تحاول حماية المسئول عن الحادث.

وضعتُ يدي على يدها. وسألتُها: «جينكس، هل أنتِ في ورطة؟»

من المفترَض أن يكون ردُّ فعلها الطبيعي هو سؤالي عما أعطاني هذا الانطباع. لكنها لم تقل سوى: «لا، بالطبع لا.»

تحمل الكلمات هدوءًا وإصرارًا على المُضي قُدمًا في المسار الذي اختارته. وعلمتُ أنه لا يمكنني الدفع لأبعد من ذلك في هذا الاتجاه. كان عليَّ أن أسلك طريقًا آخر، على الرغم من أن جينكس كانت تُمثِّل طريقًا مباشرًا إلى هدفي.

ومن ثَم، تراجعتُ للتقوقُع حول أفكاري، وبدَّلتُ نظام القيادة إلى النظام الآلي، وتركتُ السيارة الطائرة توجِّه نفسها على طريق ضواحي المدينة المهجور وغير المألوف. لم يكن هناك سوى احتمالَين فقط لتفسير جميع التناقضات. الأول هو أنَّ جهة كبيرة، وذات أغراض خبيثة وقدرة ضارية، لا يمكن التنبؤ بها؛ كانت تتَّبع مسارًا غامضًا يتعذَّر فهمُه. والاحتمال الثاني هو أنه لم يحدث شيءٌ على الإطلاق خارجٌ عن المألوف، إلا في ذهني.

لكنني لم أستطع التخلص من الشعور الذي ظلَّ يراوغني بأنَّ هناك قوة ضارية وغامضة مصمِّمة على أن تَثنيني عن معرفة السبب وراء وفاة فولر، بينما تُعطيني في الوقت نفسه انطباعًا ضمنيًّا بأنني إذا توقَّفتُ عن الاستهانة بهَيمنة تلك القوة ونفوذها، كما بدا أنها وجينكس تُريدانِني أن أفعل، فسيكون كلُّ شيءٍ على ما يُرام.

كنت أريدُ حقًّا أن تسير الأمور على ما يُرام. عندما رمقتُ الفتاةَ بنظرةٍ سريعة، أدركتُ كم كنت أتوق بشدة إلى الحالة الطبيعية للأمور. كانت جينكس جميلة في ضوء القمر، مثل فنار يبثُّ دفئًا ويدعوني إلى التخلي عن تعاستي وقبول الأشياء العادية.

لكنها لم تكن عادية. كانت شيئًا مميزًا للغاية.

بدت وكأنها تستشعر ما يجول في خاطري؛ ومن ثَم اقتربَت مني وأخذَت ذراعي في ذراعها، وأراحت رأسها على كتفي.

قالت بمزيجٍ غريب من الكآبة والأمل في صوتها: «هناك الكثير حقًّا في الحياة، أليس كذلك يا دوج؟»

أجبتُها: «بالقدر الذي تريدين أن تَجديه فيها.»

«وما الذي تريد أن تجده؟»

فكَّرتُ فيها، في اقتحامها لعالَمي في الوقت الذي كنت فيه في حاجة ماسَّة إلى شخصٍ مثلها.

قالت: «عندما كنت خارج البلاد، لم أكفَّ قط عن التفكير فيك. شعرتُ كأنني طفلة حمقاء مُحبَطة طَوال الوقت. لكني لم أكفَّ قط.»

انتظرتُ أن تستأنفَ كلماتها الناعمة التي تتدفَّق بانسيابية، لكني لم أسمع سوى صوت تنفُّس عميق. وجدتُها قد نامت. ولمع فوق وجنتَيها نهران بلَون الزئبق الفضي في ضوء القمر.

كانت تهرب من شيءٍ ما، مثلي تمامًا. لكنني علمتُ حينها أنه على الرغم من أننا ربما تشاركنا مشاعر اليأس نفسها، فلا سبيلَ لنا لتبادُل أطراف الحديث بيننا حول ذلك؛ لأن هذا هو ما أرادَته لسبب غير مفهوم.

صعدت السيارة الطائرة جانب تل، غامرةً المنحدَرَ بضوئها، وكاشفة عن جزءٍ من ضواحي المدينة لم أره من قبل.

وصلنا إلى القمة، وشعرتُ بالخوف وكأنه عصفة جليد تمزِّق صدري. ضغطتُ على المكابح وتوقَّفنا بسلاسة وسرعة.

تفزَّعت جينكس لكنها لم تستيقظ.

جلستُ في مكاني وكأنه قد مضى عهد من الزمن، ورحتُ أحدِّق أمامي متشكِّكًا.

كانت نهاية الطريق على بُعد مائة قدم.

على جانبَي الطريق، سقطَت الأرضُ نفسها في حاجز منيع من الظلام الدامس.

لم تكن هناك نجوم ولا بصيصٌ من ضوء القمر، لا شيءَ سوى العَدم المطلَق الذي تجده عندما تغور في أعماق ما وراء اللانهائية الحالكة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤