الفصل السابع

قضيتُ ما تبقَّى من فترة ما بعد الظهيرة لذلك اليوم أرتعدُ — بالمعنى المجازي للكلمة — من جهاز المحاكاة. فقد أصبح الآن شيئًا باعثًا على الرَّوع والشؤم، غولًا إلكترونيًّا يملك حسًّا داخليًّا بالغاية والعَزم، وقد غزا عالمي بطريقةٍ ما كي يقتل فولر ويختطف لينش.

خطرَ ببالي مؤخرًا أنَّ مورتون لينش الذي رأيتُه في ردهة الفندق التناظري ربما كان مجرد وحدة رد فعل تشبهُه فحسب. ولكني لم أدرك إلا في صباح اليوم التالي أن ثمة طريقةً بسيطة يمكنني الاستعانة بها للتحقُّق من الأمر. ومن ثَم، هُرعتُ إلى قسم فهرسة وحدات الهوية واضعًا هذا الهدف نُصبَ عينيَّ.

في ملف «المهن»، بحثتُ تحت عنوان «الأمن». ولكني لم أجده. وبافتراض أنَّ مهنة لينش في عالَم المحاكاة الإلكترونية ربما كانت مشابهة بعضَ الشيء لمهنته الحقيقية، بحثتُ تحت عنوان «الشرطة». ولكني لم أجد شيئًا أيضًا.

ثم أذعنتُ إلى احتمالية أن يكون ما أشكُّ فيه من حيلة هو وهْم لا وجود له، قررتُ أن أسلكَ نهجًا مباشرًا، وحوَّلتُ بحثي إلى الملفات المصنَّفة حسب الأسماء.

كان آخِر اسم تحت حرف اللام «لينش، مورتون، وحدة هوية رقم ٧٦٨٣.»

ارتجفتْ يدي وأنا أتفحَّص الرموز المدوَّنة على البطاقة. كانت وحدة الهوية رقم ٧٦٨٣ مُبرمَجة في جهاز المحاكاة منذ ثلاثة أشهر، وكان مَن برمَجَها هو الدكتور فولر نفسه!

زالت الغمامةُ فجأةً عن ذاكرتي المشوَّشة وتذكَّرتُ الواقعة التي عَميتُ عنها لتفاهتها. أنشأ فولر وحدة مُحاكية لشخصية لينش الواقعية، تتمتَّع بجميع سماته الفعلية، وكان ذلك على سبيل المزاح فقط دون أن يُضمِر أي نوايا سيئة. ثم منحَ مدير الأمن جولة مراقبة سريعة في جهاز المحاكاة، هالَته كثيرًا، حيث كان لينش يراقبُ نفسه.

ابتهجتُ. فقد أثبتُّ لنفسي على الأقل أنَّ مورتون لينش كان له وجود ذات يوم!

أتُراه كان موجودًا حقًّا؟

تراجعتُ مرة أخرى يائسًا أمام البديل المعقول؛ أي تلك الحالة من الشعور بالتعزي: هل يمكن أن يكون الأساس الكامل لاعتقادي بوجود لينش سابقًا هو معرفتي اللاواعية بأنَّ شخصيةً مثله قد بُرمجَت في جهاز المحاكي؟ هل اضطربَت ذاكرتي وشُوِّشتْ لدرجة جعلتني أتصوَّر وجود لينش في الواقع؟

غادرتُ المبنى هائمًا وجِمًا. وتقدَّمتُ بلا هدفٍ وسط صفوف معتصمي اتحاد راصدي ردود الأفعال، وظللتُ على الرصيف الثابت حيث شعرتُ بالطمأنينة حين أحسستُ بصلابة الخرسانة تحت قدَميَّ. كانت رغبتي الوحيدة هي أن أسير حتى أخرج من المدينة لأَتِيه في حقول من الصمت والخواء. لكنني تذكَّرتُ بعد ذلك ذكرى مغامرتي الأخيرة في ضواحي المدينة، وطرحتُ عني كلًّا من تلك الذكرى ونيتي الحالمة.

أوقفني أحدُ مستطلعي الآراء عند الناصية. وقال مخاطبًا إياي: «أُجري استطلاعًا للرأي حول صيحات أزياء فصل الخريف للرجال.»

اكتفيتُ بأن حدَّقتُ إليه.

سألني: «هل تُفضِّل الياقة العريضة؟»

لكن عندما مَد يده إلى دفتره مشيتُ متعثِّرًا إلى نهاية الشارع.

صاح قائلًا: «أنت، عُد! سوف أجازيكَ بغرامة!»

أسفل الجسر العلوي للرصيف المتحرك عند الناصية، صاح بائع الصُّحف الآلي: «راصدو ردود الأفعال في ورطة! قانون يهدِّد بإلغاء استطلاع الرأي العام!»

حتى ذلك — حتى حقيقة أن سيسكين كان قد بدأ بالفعل في إحكام شباكه على اتحاد راصدي ردود الأفعال — لم يترك أيَّ انطباعٍ لديَّ.

بينما كنت أقفُ هناك، وقفَ مستطلعُ آراءٍ آخر أمامي. قال هامسًا بلطفٍ: «أستحلفُك — لمصلحتك يا هُول — أن تنسى الأمر اللعين برُمَّته!»

بعد أن هزَّني التحذير الذي تلقيتُه بما له من صلةٍ وثيقة وصريحة بالموضوع الذي يجول في خاطري، حاولتُ الإمساك بذراعه، لكن ما استقر في يدي هو شارة راصدي ردود الأفعال المعتمَدين التي كان يضعها فوق كُمِّه، حيث مضى واختفَى وسط الحشود.

قلتُ لنفسي في ذهول إنَّ ما حدث لم يحدث. فلم تكن رؤيتي لمستطلع الرأي إلا في خيالي. لكني لم أقتنع بذلك، دسستُ شارته في جيبي.

انفصلتْ سيارة طائرة عن نهر الطريق بانسيابه المروري السريع، وتوقَّفت عند حافة الرصيف.

صاحت جينكس بابتهاج: «دوج! كنت في طريقي إليك لأسألك عما إذا كنت تريد تناول الغداء معي.»

ثم لاحظتْ شحوبَ وجهي. وقالت: «اركب يا دوج.»

ركبتُ السيارة الطائرة مُذعِنًا، ووجَّهتْها بمهارةٍ حتى وصلنا إلى جزيرة الإقلاع. وفي غضون لحظاتٍ، شققنا طريقنا لأعلى سريعًا.

قُدنا إلى السطح عبر أعلى طريق مستوٍ، وعدَّلَت النظام الآلي لتعويض الانحراف. جلسنا هناك، بالأعلى فوق المدينة.

قالت بتردد: «حسنًا، ما الخطب؟ هل تشاجرت مع سيسكين؟»

فتحَت القُبَّة، وهَبَّت نسمةٌ جارفة من الرياح المنعشة لتُبعثر أفكاري المتشابكة كخيوط العنكبوت. لكنها كانت لا تزال أفكارًا غير مكتملة بالقدر الذي يُمكِّنني من التغلب على تلك الأمور المجهولة.

قالت متسائلة عن سبب صمتي، ونسمة الهواء تُداعبُ خصلة من شعرها اللامع وتفرِّقها أمام القبة البلكسيكية: «دوج؟»

إذا كنت متيقنًا من أي شيءٍ، فهو أنَّ وقت المناورة قد انتهى. كان يجب أن أعرف ما إذا كانت حقًّا تخدعني أم أن ذلك أيضًا كان من وحي خيالي.

سألتُها بوضوح: «جينكس، ما الذي تُخفينه؟»

أشاحت بنظرها. وقويتْ شكوكي.

صحتُ فيها: «يجب أن أعرف! شيءٌ ما يحدث لي. يا إلهي، لا أريدكِ أن تتورطي أنتِ أيضًا في الأمر!»

دمعتْ عيناها وارتجفتْ شفتاها على نحو غير ملحوظ.

واصلتُ بعناد: «حسنًا، سأدخل في الموضوع. قُتل والدكِ لأنه كان يعرف بعضَ المعلومات السرية. واختفى الرجلُ الوحيد الذي يعرف شيئًا عن هذه المعلومات. شاهدتُ محاولتَين للنَّيل مني. رأيتُ طريقًا يختفي. اقتربَ مني مستطلعُ آراءٍ لم أره من قبل وأخبرني أن أنسى الأمر.»

أجهشتْ بالبكاء جهرًا. لكنني لم أشعر بأي تعاطف نحوها. فكلُّ ما قلتُه كان يعني لها شيئًا. كنت متأكِّدًا من ذلك. كلُّ ما عليها الآن هو أن تعترف بأنها كانت جزءًا من الأحداث بطريقة ما.

ناشدَتْني: «أوه يا دوج. ألا يمكنك أن تنسى الأمر فحسب؟»

أليس هذا هو تمامًا ما اقترحه راصدُ ردود الأفعال؟

قالت متوسلة: «ألا ترى أنه لا يمكنك الاستمرار على هذا النحو؟ ألا تدرك ما الذي تُلحِقه بنفسك؟»

قلتُ مكرِّرًا ما قالته: ما الذي أُلحِقه بنفسي!

ثم فهمتُ لم تكن تخفي أيَّ شيء! ما فسَّرتُه على أنه خداع كان طَوال الوقت تعاطفًا وشفقة. فلم يكن ما تفعله سوى محاولة لتصرفني بلطفٍ عن شكوكي غير المعقولة، عن هواجسي!

لقد لاحظتْ سلوكي اللاعقلاني. ربما أخبرها كولينجسورث عن الحادث الذي وقعَ في حانة ليمبي. وكان اهتمامها الشديد مبنيًّا على هيكل من الأحلام المتداعية. لقد غذَّت «وَلَع» الطفولة خلال مرحلة المراهقة وصولًا إلى البلوغ، غير أنها وجدت الطريقَ لتحقيق أحلامها مسدودًا بما تصوَّرتْه ضربًا من عدم الاتزان العقلي.

قالت بيأس: «أنا آسفة يا دوج. سأُنزِلك.»

لم يكن ثمة ما يمكنني قوله.

قضيتُ فترة ما بعد الظهيرة في حانة ليمبي أُدخِّن عددًا من السجائر كان كفيلًا أن يترك مذاق فمي مثل خِرقة محترقة، لكنني كنت أُنعِشه بتناوُل كأسٍ من شراب سكوتش أسترويد من حين إلى آخر.

عند الغَسَق، بدأتُ أسير بلا هدف عبر وسط المدينة الذي كاد يصبح كالقلب المُوحِش. ثم صعدتُ الرصيفَ الآلي في النهاية، لأجد نفسي على رصيفٍ سريع لم ألحظ حتى وجهته.

في نهاية المطاف، أنعشَتني برودةُ الليل لتمنحني وعيًا مُلتبِسًا بالوجهة التي كانت رحلتي الغامضة تأخذني إليها. عندما وصلتُ إلى رصيف المحطة، نظرتُ بعيني لأعلى لأجد نفسي في منطقة سكنية ليست شديدة البُعد عن منزل أفيري كولينجسورث. هل لي من وجهةٍ أفضل من استشاري نفسي في ظل الظروف الحالية؟

بالطبع بدا أفيري متفاجئًا.

اصطحبني إلى الداخل، قائلًا: «أنت، أين كنت؟ لقد بحثتُ عنك طَوال فترة ما بعد الظهيرة؛ لآخذ موافقتك على دفعة جديدة من وحدات رد الفعل.»

فأجبتُه: «كان لديَّ بعضُ الأعمال خارج المكتب.»

بالطبع لاحظَ مظهري المُرهَق. لكنه لِلباقته لم يُعقِّب.

حملَ منزل كولينجسورث أدلةً وافرة على حالته الاجتماعية كرجلٍ عَزَب. يبدو أن غرفة مكتبه لم تشهد ترتيبًا منذ أسابيع. ولكن بطريقة ما شعرتُ بالارتياح لما رأيتُه من فوضى الكتب، وطاولته المبعثرة، والأرضية المتناثرة عليها الأوراقُ المجعَّدة.

قال لي بعدما استرخيتُ على الكرسي: «هل ترغبُ في تناوُل شيء؟»

«سكوتش. صافٍ.»

جاء الطلبُ على الفور من ساقيه الآلي وناولني إياه. مرَّر يده وهو يبتسم عبر شعره الأشيب الناعم. وقال: «أقدِّمُ إلى جانب هذا الطلب خدمةَ الحلاقة وقميصًا نظيفًا.»

ابتسمتُ ابتسامةً عريضة وتناولتُ الشراب.

سحبَ كرسيًّا. وقال: «يمكنك إخباري بما لديك الآن.»

فقلتُ بدوري: «لن يكون الأمر سهلًا.»

«هل تقصد زينو؟ شخصًا يُدعَى مورتون لينش؟ أشياء من هذا القبيل؟»

أومأتُ أنْ نعم.

«يسعدني أنكَ أتيتَ يا دوج. يسعدني ذلك حقًّا. هناك أشياء أخرى أكثر من الرسم ولينش، أليس كذلك؟»

«أمورٌ أكثر بكثير. لكني لا أعرف حقًّا من أين أبدأ.»

اتكأَ للخلف. وقال: «أتذكَّرُ أنني قبل أسبوع أو نحو ذلك في حانة ليمبي قد ذكرتُ شيئًا حول المزج بين علم النفس والمحاكاة الإلكترونية، وأنَّ الأمر أَسفَر عن الكثير من القناعات الشاذة. دعني أقتبس من كلماتي: «من الصعب أنْ تملأ آلة ما بأشخاص دون أن تفكِّر أولًا في طبيعة الآلات والبشر وجوهر كلٍّ منهما»، أفترضُ أنه يمكننا البدء من هنا.»

فعلتُ ذلك بالفعل. أخبرتُه بكل شيءٍ. ولم تتغيَّر تعابير وجهه طَوال سردي. عندما انتهيتُ، نهضَ وسارَ في الغرفة.

قال: «بادئ ذي بدء، لا تحاول مطلقًا التقليلَ من شأن نفسك. انظر إلى الأمر بموضوعية. كان لدى فولر أيضًا مشكلاتُه. أوه، ليس بجدية مشكلاتك. لكنه لم يأخذ جهاز المحاكاة لمرحلة متقدِّمة كالتي أخذتَه إليها.»

«ما الذي تحاول أن تقوله؟»

«ما أحاول أن أقوله هو أنَّ نوع العمل الذي تقوم به لا يمكن متابعته دون أن يؤدي إلى عواقب نفسية لا مفرَّ منها.»

«لا أفهم.»

«دوج، أنت كالإله. لديكَ قوًى مطلَقة على مدينة بأكملها من أشخاص افتراضيين، عالَم تناظري. في بعض الأحيان تُضطر إلى اتخاذ إجراءاتٍ تتعارض مع قناعاتك الأخلاقية، مثل إلغاء برمجة إحدى وحدات الهوية. والنتيجة؟ تأنيب ضمير. وفي النهاية، ماذا لدينا؟ لحظاتٌ مواتية وأخرى غير مواتية. فتراتٌ من الابتهاج الشديد، تليها فتراتٌ من إدانة النفس وجَلْد الذات. هل سبقَ لك أن واجهتَ ذلك النوع من رد الفعل؟»

«نعم.» حينها فقط أدركتُ ذلك.

«وهل تعرف ما هي الحالة التي وصفتُها للتو؟»

أومأتُ أن نعم، وهمهمتُ: «جنون الارتياب.»

أطلقَ ضحكةً سريعة. وقال: «لكنه مجرد جنون ارتياب كاذب، حالة مستحثَّة. أوه، إنها حالة موافقة للمعايير ومقنعة. ولدينا جميعُ الأعراض أيضًا، من أوهام العَظَمة، وفقدان التواصل، وشكوك الاضطهاد، والهلوسة.» توقَّف قليلًا. ثم قال بنبرة أصدق: «ألا ترى ما يحدث؟ لقد أبطلتَ برمجة إحدى وحدات رد الفعل التناظرية، وتتوهَّم اختفاءَ شخصٍ ما من عالَمك. أنت تعيد برمجة الخبرات السابقة لأفراد العالَم الوهمي، وتظن أن هناك مَن يتلاعب بعالَمك الذي تعيش فيه.»

برغم الارتباك الذي كنت فيه، كان بإمكاني إدراك المنطق في تفسيره. ومن ثَم قلتُ: «لنفترض أنك على حق. ماذا عليَّ أن أفعل حيالَ الأمر؟»

«لقد أنجزتَ بالفعل تسعين بالمائة مما هو مطلوب. أهم شيءٍ هو إدراك وجود المشكلة ومواجهة النفس بها.» ثم نهضَ فجأة. وقال: «اطلب لنفسك شرابًا آخر بينما أُجري مكالمة عبر الهاتف المرئي.»

عندما عادَ لم أكن قد أنهيتُ الشرابَ فحسب، بل كنت أيضًا في منتصف حلاقتي لذقني في الحمام المجاور لغرفة مكتبه.

قال لي مشجِّعًا: «هذه هي الروح المطلوبة! سأحضرُ لك قميصًا.»

لكن عندما عادَ شعرتُ بالعبوس مرة أخرى. وسألتُه: «ماذا عن نوبات فقدان الوعي؟ تلك حقيقية على أقل تقدير.»

«أوه، أنا متأكِّد من أنها كذلك بالفعل، بالمعنى النفسي الجسدي. فالأنا لديك تتمرَّدُ على فكرة الذُّهان. ومن ثَم تبحث عن عُذر يحفظ لكَ ماءَ وجهِك. تضع نوباتُ الإغماء الأمرَ برُمَّته في المستوى العضوي. فلا تشعر بالإذلال الشديد.»

عندما انتهيتُ من ارتداء ملابسي، قادني إلى الباب واقترحَ قائلًا: «أوصيكَ أنْ تستفيدَ من هذا القميص.»

لم أفهم نصيحته حتى رأيتُ دوروثي فورد وقد أوقفت سيارتها أمام المنزل. ثم فهمتُ أيضًا الغرضَ من مكالمة الهاتف المرئي التي أجراها. دوروثي العجوز الشمطاء، على استعداد تام لتَمنحني «الدَّفعة» التي يبدو أن كولينجسورث قد اقترحها، والتي أنا بحاجة إليها. وحتى إنْ كانت قد أُعدَّت لأداءِ مهمة تعاطُف فلم يُحدِث ذلك فارقًا لديها. فهذه فرصة لها لمراقبة أحد أصول سيسكين.

لكنني لم أهتم.

انطلقنا في الظلام الصامت، وجلسنا ما بين غطاءٍ بَهيٍّ من النجوم الباردة، وبِساط برَّاق من أضواءِ المدينة. وعلى خلفية المنحنى البهيج للقُبَّة البلكسيكية، بَدَت دوروثي دافئةً وناعمة، مليئةً بالحيوية والحماس. شكَّل شعرها، الذي تألَّقَ بالضوءِ المنعكس للوحة العدَّادات، خلفيةً كتانية لابتسامة مُفعَمة بالنشاط والتلهف.

قالت، وقد رفعتْ كَفَّيها المستديرتين اللتين لا تشوبهما شائبة: «حسنًا، هل أقترحُ برنامجًا؟ أم أنَّ لديك أفكارًا معينة؟»

سألتُها: «هل أَوضَح لكِ كولينجسورث الصورة؟»

أومأتْ برأسها أنْ نعم. وقالت: «ظننتُك بحاجة إلى الدعم.» ثم ضحكت. وأضافت: «وأنني الفتاة التي يمكنها توفيره لك.»

«يبدو أنه علاجٌ مشوِّق.»

«أوه، إنه كذلك بالفعل!» لمعتْ عيناها بإيحاءٍ ساخر.

ثم أصبحت جادة فجأة. وقالت: «دوج، كلانا لديه وظيفته. لا يخفى عليكَ قطعًا أنَّ وظيفتي هي التأكُّد من بقائك تحت السيطرة التامة ﻟ «عظيم الشأن قصير القامة». لكن لا مانعَ من أن نحظى بالمرح في الوقت نفسه. هل اتفقنا؟»

«اتفقنا.» صافحتُ يدها التي مدَّتها إليَّ. وسألتُها مباشرةً: «حسنًا، ما هو برنامجكِ؟»

«ماذا عن شيءٍ … مثير حقًّا؟»

سألتُ بحذر: «مثل ماذا؟»

«مثل شحنةٍ أو شحنتَين من التحفيز الكهربائي للدماغ.»

ابتسمتُ لها بتحفظٍ.

قالت مازحةً: «لا تكن متحفِّظًا هكذا. إنها ليست ضد القانون، كما تعلم.»

«لم أتصوَّر أنكِ من النوع الذي قد يحتاج إلى دَفعاتٍ من التحفيز الكهربائي للدماغ.»

«بالفعل أنا لست من هذا النوع.» مَدَّت ذراعها وربتت على يدي. ثم قالت: «ولكن يا عزيزي الدكتور كولينجسورث قال إنكَ بحاجة إليه.»

كان «ركن تيارات القشرة الدماغية» عبارة عن مبنًى متواضع من طابق واحد محصور بين مسلَّتَين من الخرسانة، والزجاج على الجانب الشمالي من وسط المدينة. كانت مجموعة من المندفعين بالخارج يتدافع كلٌّ منهم بصخبٍ نحو الآخر، ويصطدمون بين الحين والآخر بسياراتهم الطائرة القديمة المتداعية المتوقِّفة، وكثيرًا ما يتساقطون في الحارات المرورية شبه المهجورة. وفي النهاية، كانوا يجمعون مواردهم ويدفعون ثمن جلسات شحنات تيارات القشرة الدماغية لعضو يختارونه من أفراد المجموعة.

في ردهة الانتظار بالداخل، جلسَ العملاءُ في تأدبٍ وصبر، يستمعون إلى الموسيقى أو يحتسون الشراب. كان معظمهم من النساء العجائز، اللاتي كن يشعرن بالإحراج وعدم الارتياح، غير أن ذلك لم ينقص من حماسهن شيئًا. وكان قلة من العملاء، بمَن فيهم الرجال، لم يبلغوا أواسط الثلاثينيات من العمر. وهو ما أكَّد على حقيقة أن المجموعات اليافعة من البالغين لا تحتاج إلى الهروب من الواقع عبر حُجرات التحفيز الكهربائي للدماغ.

انتظرنا حتى شرحت دوروثي للمضيفة أننا مهتمان بالدائرة الترادفية التي يبلغ سعرها ثلاثة أضعاف التكلفة.

دخلنا على الفور إلى مكانٍ مُعَد إعدادًا فاخرًا. سَرى صوتُ الموسيقى المحيطية الخافتُ وسط السجاد الجداري المزدان بالرسوم. وعَلِقت الروائحُ المثيرة للعواطف في الهواءِ الدافئ.

استقررنا على أريكة مخملية، وأوتْ دوروثي مستكينةً أسفل ذراعي، كانت وجنتها على صدري، ويتصاعد عبيرُ شعرِها المُعطَّر إلى وجهي. وضعَ لنا المُرافِق الخوذتين فوق رأسَينا، وأدارَ لوحة التحكم حتى أصبحت في متناوَل دوروثي.

قالت وهي تلتفت لتمدَّ يدها إلى مفاتيح الاختيارات: «كلُّ ما عليك فعله هو أن تسترخي وتترك كلَّ شيء لدوتي الصغيرة.»

انطلقَ على الفور تيارٌ مُخدِّر من مجموعة من الأقطاب الكهربائية المستشعرة، والمُوجَّهة على مراكز القشرة الدماغية المتوافقة. الغرفة، والنسيج المزدان بالرسوم، والروائح، كلُّ شيءٍ كان يتلاشى كزَغَب تذروه الرياح.

امتدَّت فوق رأسَينا سماءٌ هشَّة باللون اللازوردي، تُدثِّر بحرًا زمردي اللون يمور متثاقلًا منجرفًا باطراد رتيب باعث على الهدوء فوق شاطئ من أنقى الرمال. جعلتني المياهُ المتلاطمة أطفو، ثم هبطَت بي مرة أخرى في حركة متثاقلة متهدِّجة حتى لامستْ أصابعُ قدميَّ القاعَ المموَّج.

لم يكن وهمًا. بل كانت حقيقة. لم يكن من شكٍّ في صحة شعوري، على الرغم من أنه لم يكن نابعًا إلا من مراكز الهلوسة المُثارة في الدماغ. لقد كان لتحفيز القشرة الدماغية أثرٌ عظيم حقًّا.

سمعتُ جلجلة ضحكٍ خلفي، وفوق قمة الموجة التالية سلكتُ طريقي لأعترضَ بكامل وجهي دفقاتٍ من رذاذ الماء.

اندفعتْ دوروثي بعيدًا عني. تَبِعتُها وغطستْ سريعًا، كاشفةً في لمحة خاطفة وتألُّقٍ لامع عن جَسدِها العاري القوي المرن الذي غَمرَته أشعة الشمس.

سبحنا أسفل المياه، وفي إحدى المرات اقتربتُ منها بما يكفي للإمساك بها من كاحلها، ولكنها تملَّصتْ مني وابتعدتْ مجدَّدًا، وكأنها كائنٌ رشيق من الكائنات البحرية.

عُدتُ إلى السطح وأفرغتُ جرعة ملء فمي من الماء الأُجاج.

وكانت هناك جينكس فولر، واقفةً على الشاطئ، متوترة وقلقة وهي تتفحَّص المشهد البحري بما يعلوه من زَبَد. جعلت الريحُ تنُّورتَها خفَّاقةً على ساقَيها، وطرحتْ شعرَها على جانبَي وجهها.

خرجت دوروثي إلى السطح، ورأتْ جينكس فعبسَ وجهها. وقالت: «المكان ليس جيدًا هنا.»

اجتاحَ الظلام زَيغ حواسي، ثم كنت أنا ودوروثي فوق الزلَّاجات، نتزلَّجُ في سرعة البرق الجانبَ الأبيض لأحد الجبال المغطى بالثلوج، ونضحكُ والرذاذُ البارد للثلج المسحوق يضرب وجهَينا.

تباطأنا وحاولنا الالتفافَ على عمقٍ قليل حول قمة غير منتظمة. لكنها سقطتْ عن زلاجتها، فأوقفتُ زلاجتي وعُدتُ للاستلقاء بجوارها.

ضحكتْ بحماس، ساحبةً نظَّارتها الواقية فوق جبهتها، وطوَّقت عنقي بذراعَيها.

لكنني نظرتُ خلفها، إلى جينكس. كان نصفُها مخبَّأً وراء شجرة مغطاة بالثلوج، وقد كانت تشاهدنا وهي صامتةٌ ومتأملة.

وفي لحظة الانهماك تلك، شعرتُ بذلك الحضور الخفي والهادئ لأفكار دوروثي فورد، وهي تحفرُ — بمساعدة التيارات المنبِّهة — طبقةً تلو أخرى في أنسجة القشرة الدماغية لتُنقِّب خلالها.

كنت قد نسيتُ التأثيرات الراجِعة الرنَّانة لدائرة التيارات القشرية الترددية، نسيتُ أنَّ التحفيز المزدوج يمكن أن يتسبَّب في نقل لا إرادي للأفكار عبر أحد الخاضعين له.

هَببتُ منتصبًا فوق الأريكة وخلعتُ خوذتي.

لحقتْ بي دوروثي وهزَّتْ كتفَيها بلامبالاة. ثم قالت، معطيةً بذلك معنًى جديدًا لمراوغات العجائز من النساء: «لا يمكنك لوم فتاةٍ على محاولتها، أليس كذلك؟»

لم أفعل شيئًا سوى أنني تفحَّصتُ وجهَها بحثًا عن معلومة. هل تعمَّقتْ بما يكفي لتعرف أن السبب الوحيد لاستمراري في العمل لدى سيسكين أنني أعتزمُ تخريبَ مؤامرته مع الحزب؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤