الفصل الثالث والعشرون

المكاشفة

أما مريم فإنها عادت من وراء ذلك الجدار وقد شبت نيران الحب في قلبها، والتمست الخلوة لتسترجع ما دار بينها وبين حبيبها استئناسًا بذكراه، ومخافة أن يكون قد بدر منها ما تؤاخذ عليه، جلست في غرفتها هنيهة كأنها في عالم الخيال، ثم انتبهت للقارورة وكانت لا تزال في قبضتها، فنظرت إليها وفتحتها واشتمت رائحتها فطربت لها واستأنست بها؛ لأنها من هانئ، وصبت قليلًا من الطيب على كفها دهنت به شعرها ووجهها وكفيها ففاحت رائحة الخباء بطيبها.

وبينما هي في خلوتها دخلت ميمونة وهي تبتسم ابتسام محب معجب بحبيبه، فقابلتها مريم بمثل ابتسامتها وقد ارتاحت إليها وتاقت إلى مكاشفتها بما شغل خاطرها من الحب، ولكنها أمسكت لئلا يكون في ذلك ما يغضب حبيبها، على أنها رحبت بميمونة وتحفزت للوقوف احتفاء بها فسبقتها ميمونة إلى الحديث، فقالت وهي تهش لها: «أراك عدت من غرفة القهرمانة وقد زدت طيبًا.»

وكانت القارورة لا تزال في قبضتها، فضحكت وبدا الحياء في وجهها، وبادرت إلى القارورة فخبأتها في جيبها ولم تحر جوابًا.

فأدركت ميمونة أن بين تلك القارورة وهانئ علاقة، فعمدت إلى اكتشاف سرها منها، فقالت: «لقد زادك الحياء طيبًا يا حيبيبتي لعل هذا الطيب من ضيفك البطل الصنديد الأمير هانئ، أرجو ألا يكون من سواه؛ لأنه يليق بك، ولو خيرت أن تنتقي لك حبيبًا من بين رجال العالمين لما وقع اختيارك على خير منه.»

فأدركت مريم اطلاع ميمونة على ذلك السر، ولكنها تجاهلت وقالت: «كيف تحكمين على الأمر قبل التثبت منه؟ من أين عرفت ذلك؟»

قالت وهي تضحك وتقترب من مريم: «عرفته من مصدر وثيق، وتحققت منه بقرائن الأحوال وإذا كنت تنكرين ذلك عليَّ فإن ملامحك تشهد عليك، على أنني لا ألومك على التستر؛ لأن الحب يحلو بالكتمان، وقد كان يجدر بي أن أسايرك وأظهر اقتناعي بإنكارك، ولكنني لم أرضَ بذلك شفقة عليك وحبًّا لك.»

فلما سمعت مريم قولها استغربت تلميحها بالشفقة، ولم تفهم مرادها فرفعت بصرها إليها وقالت: «لم أفهم مرادك من الإشفاق هل في حالتي ما يبعث على الشفقة؟ أفصحي.»

قالت ميمونة: «لا أقول شيئًا قبل أن تثقي بحبي لك وغيرتي على مصلحتك.»

فقالت مريم: «أنت تعلمين أني أحببتك وقد وثقت بك من أول نظرة، وخصوصًا بعد ما شاهدته من مظاهر حبك، فلا حاجة بعد ذلك إلى برهان.»

قالت ميمونة: «صدقت يا حبيبة، إني أشعر من قلبي بإخلاصك، ولكنني أخشى أن أقول لك قولًا تحملينه على غير محمله، ومع ذلك فإني أفعل ما تدعوني إليه محبتك، نعم ليس هناك ما يدعو إلى القلق الكثير، ولكنني اختبرت هؤلاء العرب واطلعت على سجاياهم — وفي جملتها أنهم يغارون على أعراضهم غيرة شديدة — وأنت تعلمين أنك هنا في خباء الأمير عبد الرحمن، وكل من في هذا الخباء من نسائه فيجدر بك أن تحاذري من التظاهر بشدة ميلك إلى الأمير هانئ في حضرته، وأظن أن الأمير هانئًا نفسه يتوقع ذلك، لا تظني أنني أقول هذا بناء على قول سمعته فإني واثقة من حب الأمير عبد الرحمن لهانئ فهو لا يمنع عنه شيئًا يريده؛ لأنه يعتمد عليه في هذه الحرب، وهو يمينه التي يناضل بها، ولكني أردت أن أنبهك لعلمي أن هانئًا يريد ذلك منك وإن كان لا يظهره لك أنفة وترفعًا، وأما أنا فقد خبرت عادات القوم وآدابهم في هذا الشأن، ولعلك سمعت عن منزلتي عند الأمير عبد الرحمن وإلا فإني أخبرك أني أقرب نسائه إليه وهو يعتمد عليَّ في كثير من المهام، فإذا علمت ذلك فكوني على يقين من أن الأمير عبد الرحمن لا يفعل إلا ما يرضيك.»

فقبلت مريم تلك النصيحة بإخلاص وازدادت ثقة بميمونة بعد ما عرضت من مساعدتها، وهان عليها مكاشفتها بما في قلبها فالتفتت إليها وقد انبسطت نفسها، وقالت: «أشكرك على ذلك يا سيدتي، وسأعمل حسب إشارتك ولا ريب أنك تعلمين بذلك كله، وأنت من أكثر نساء هذا الخباء ذكاء وفطنة.»

فاكتفت ميمونة من ذلك الحديث بما وصلت إليه، وأرادت الانتقال إلى موضوع آخر فقالت: «ذكرت لك الطيب فلم تجيبيني عليه أين القارورة؟»

فمدت مريم يدها وأخرجت القارورة ودفعتها إلى ميمونة ففتحتها واشتمت رائحتها، وهي تقول: «لم أصادف في حياتي مثل رائحة هذا الطيب، إنه طيب خاص ليس عند أحد من أهل هذا الخباء مثله.» قالت ذلك وأرجعت القارورة ولم تمس ما فيها.

فقالت مريم: «تطيبي بشيء من هذا الطيب فإنك أهل لذلك.»

فامتنعت ميمونة وهي تسد القارورة وتقول: «لا يجوز لأحد سواك أن يمس هذا الطيب؛ لأنه هدية لك خاصة.» ودفعت إليها القارورة وهي تبالغ في الامتناع.

فاستحسنت مريم تمنعها وازدادت ثقة بصدق مودتها، ففتحت لها قلبها وصارت لا تستأنس إلا بقربها مع ميل إلى مكاشفتها بعواطفها، وميمونة تعمل فكرتها لاستخدام ذلك عند الحاجة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤