الفصل السابع والخمسون

بشرى

ولما هم الراهب بالكلام، تذكرت سالمة ما حدث لها في المرة الماضية مع رودريك، وكيف اطلع ذلك الأحوال على حديثهما، فطلبت من الراهب أن يتمهل، وأشارت إلى حسان أن يتفقد الحرس وأماكنهم، فأطل من باب الخيمة ومن ثقوب في بعض جوانبها، فتحقق من بعد الحراس بضعة أمتار عن الخيمة، وأنهم جلوس يتحدثون، فعاد وطمأنها وجلس فأخذ الراهب في الحديث بصوت منخفض، وسالمة تنصت وكلها آذان لاستيعاب كلامه، فقال: «لا يخفى على مولاتي أننا معشر الرهبان وسائر جماعة الأكليروس قد أوقفنا حياتنا لعبادة الله وخدمة بني الإنسان، لا نبتغي على ذلك أجرًا سوى خلاص نفوسنا، ولذلك فقد أكرم الأمراء والملوك وفادتنا وساعدونا في مشروعاتنا، ونحن أيضًا ساعدناهم في حمل الشعوب على الطاعة، وكثيرًا ما كنا سببًا في تنصيبهم وعزلهم، فأصبح الرهبان موضع ثقة أولي الأمر ومحل احترامهم، لا يحلون أمرًا دونهم ونحن نحافظ على ولائهم ونبذل أقصى الجهد في خدمتهم، وكان الدوق أود (وخفت صوته) من أنصارنا ونحن من أنصاره إلا في بعض الأحوال، ولكننا على الإجمال كنا نغضي عن بعض سقطاته ونعزوها إلى الضعف البشري، لعلمنا أننا في حال تدعو إلى جمع الكلمة في أثناء الحرب، ولو انحرفنا عنه قليلًا وأظهرنا استياءنا منه أمام الشعب لقضي على دولته من زمن بعيد؛ لأن الشعب الغالي أهل هذه البلاد الأصليين لا يحبون الإفرنج، وهم مستعدون لخلع نيرهم عند أول إشارة منا، ولكننا لم نفعل ذلك بل كنا نبذل الجهد في حفظ تلك السلطة لهم، وأظنك لاحظت ذلك من رئيسنا المحترم في أثناء حديثك معه، أما الآن فقد ارتكب الدوق أود أمرًا دل على ضعفه وجبنه، فلم يبقَ لنا معه صبر على هذه الحال، ولعلك عرفت ذلك الأمر!»

فأطرقت سالمة وأخذت تفكر في معرفة ذلك السبب، ولكن الراهب لم ينتظر جوابها فقال: «إن الأمر الذي أراده الدوق أود إذا وفق إليه فإنه سيذهب بسلطانه ويضيع كرامتنا، ويخرب ديارنا، فيضعف شأن الدين ويصبح الناس فوضى.»

فأدركت سالمة غرضه، فقالت: «أظنك تعني استنجاده بالدوق شارل صاحب أوستراسيا؟»

قال: «نعم هذا الذي أعنيه؛ لأن هذا الدوق من أشد الناس قسوة على رجال الله، وقد أذاق أكليروس أوستراسيا مُرَّ العذاب فاستولى على أملاك الأديرة ووزعها على جنده وأهان الأساقفة وارتكب في ذلك كل معصية، وقد دعاه أود لنصرته، فإذا فاز أصبحت أكتانيا هذه في قبضته وأصبحت أديرتها عرضة لمطامعه.

وكثيرًا ما كان أود يهم باستنجاد شارل ونحن نرجعه ونخوفه على نفسه وعلينا، فلما تملكه الخوف من العرب وسيوفهم عمد إلى الاستنجاد بذلك الرجل، وقد وقع هذا الخبر وقعًا سيئًا عند أهل هذه البلاد كافة، كهنتها وشعبها، لعلمهم بما سيترتب على هذا الأمر.»

وكان الراهب يتكلم، وقلب سالمة يطفح سرورًا، وتذكرت ما كانت تحدثها به نفسها في أثناء ذلك النهار، واعتقدت أنها ألهمت الصواب وأن الأمر أخذ ينقلب على الإفرنج من تلك الساعة، ولكنها ظلت صامتة لتسمع بقية الحديث.

ولم يتوقف الراهب عن الكلام إلا ريثما سعل ومسح لحيته بمنديله ثم قال: «وكان من أشد الناس غضبًا لذلك رئيسنا المحترم؛ لأنه كان من أكثرهم ولاء لأود ودفاعًا عن مصلحته، فلما علم بما ارتكبه أصبح شديد الرغبة في عرقلة مساعيه لاعتقاده أنه إذا نجح في ذلك يكون قد خدم شعبه وحكومته وكنيسته، والظاهر أنه كان قد لاحظ من كلامك نصرة العرب أو ربما جاءه كتاب من أسقف بوردو في هذا الشأن لا أدري ولكن الذي أعلمه أنه بعث إليَّ ذات صباح وسألني عنك مع أني كنت قد أنبأته يوم عودتي بما جرى أمام بوابة بواتيه، ولكنه دقق في البحث عنك وسألني عن الرجال الذين أخذوك مني فأخبرته أنهم من رجال الدوق أود فهز رأسه ومص شفته وأمرني أن أستقدم هذا الشيخ، وكان قد أخذ في النقاهة من جرحه، ولم أخبره بعد بخبرك لئلا أكدره، فلما أمرني الرئيس باستقدامه سرت إليه وقصصت عليه خبرك فتكدر، ثم أتيت به إلى الرئيس، فلما وقف بين يديه، أمرني فأغلقت الباب فأسر إلينا أمرًا كلفني أن أبلغك إياه ولا ريب أنه يسرك؛ لأنه يهدف إلى الغرض الذي تسعين إليه فهل أقوله؟»

فقالت: «أتسألني؟ قل.»

قال: «لقد أعطاني كتابًا كتبه بخط يده إلى رئيس دير القديس مرتين، لا أدري فحواه، ولكنه بلا شك يتضمن تحريضه على مقاومة شارل وجنده حتى لا يفوزوا على العرب، أو لكيلا يحاربوهم؛ لأن رئيسنا أصبح يفضل سلطان العرب على سلطان شارل وزمرته لما تحققه من رفق المسلمين برعاياهم المسيحيين فنأمن — على الأقل — على أديرتنا وكرامتنا.»

فلم تتمالك سالمة عند سماع تلك العبارة عن الابتسام من شدة الفرح، ونسيت كل ما مر بها من المتاعب، وتحققت أن كل ما أصابها من الشرور إنما كان القصد منه الوصول إلى هذا الخير، وأن ذلك كله حدث بعناية خاصة من مدبر هذه الكائنات، ذلك هو اعتقاد أهل الأديان، والإنسان بفطرته ميال إلى ذلك، فيحسب أن الدنيا قد وجدت لخدمته وحده، فإذا زرع وأمطرت السماء قال: إنها تمطر إكرامًا له، وإذا جفت فجفافها نكاية فيه، ولذلك فإذا أصابته مصيبة وإن كان هو الجاني بها على نفسه شكا من فاعل آخر يتبع خطواته إذا لم يسمه الخالق سماه الدهر أو الزمان، فلما توسمت سالمة قرب نجاح مهمتها، ابتسمت وقالت للراهب: «وأين الكتاب؟»

فمد يده إلى كمه وأخرج لفافة دفعها إليها فتناولتها، فإذا هي مختومة، فوضعتها في جيبها وهي تقول: «وما هو السبيل إلى دير القديس مرتين وحولي الحراس ساهرون ليلًا ونهارًا؟ ألا يقوم بإيصال هذا الكتاب أحد بالنيابة عني؟»

فقال الراهب: «لا يستطيع ذلك أحد سواك؛ لأنه في الواقع كتاب توصية بك، وقد ترك لك إقناع الرئيس، وأوصانا رئيسنا حفظه الله أن نبذل أقصى الجهد في سبيل إنقاذك من هذا السجن، فما الذي ترينه؟»

قالت: «لا أدري وأظن أن حضرة الرئيس قال ذلك وهو لا يعلم مقدار التضييق المحدق بي في هذا السجن، وقد شاهدتم ذلك بأنفسكم الآن وسمعتم أقوال الحراس فهل ترون حيلة لي؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤