الفصل الثامن والخمسون

شهامة

وكان حسان لا يزال صامتًا إلى تلك الساعة، فلما رأى حيرتهما قال: «عليَّ أنا تدبير هذا الأمر.»

فالتفتا إليه وهما لا يتوقعان منه القدرة على ذلك، فأصاخا بسمعهما إليه وقالت سالمة: «وما هو التدبير؟ إذا كنت ترى تدبيرًا خاصًّا، فيكن عاجلًا.»

قال: «عليَّ تدبير ذلك في هذه الساعة.»

قالت: «وكيف؟»

فوقف حسان وعمد إلى جبة الرهبنة التي كانت عليه فحل حبلها من حول خصره، وطوقها من حول عنقه، وأخذ في نزعها وهو يقول: «عليك بهذه الجبة فالبسيها فوق ثيابك واجعلي هذه القبعة على رأسك وهي تقفل من الجانبين فتغطي الوجه، وإليك هذا العكاز واخرجي مع حضرة الراهب، فلا يشك أحد في أنكما الراهبان اللذان دخلا الآن، ومتى بعدتما عن المعسكر فافعلا ما تريانه.»

فأعجب الراهب بتلك الحيلة اللطيفة، ودهش لشهامة حسان إذ فضل أن يلقي بنفسه إلى التهلكة فداء لمولاته، أما سالمة، فإنها لم تدهش لذلك، وأثنت على حسان فقالت: «لا أستغرب هذه الشهامة يا حسان، فقد رأيت منك مثلها مرارًا ولكني ضنينة بك لسابق تعبك، وقد دنا الوقت الذي آن لي فيه أن أكافئك على جهودك في خدمتي منذ أعوام عديدة وخصوصًا الآن فقد كنت راغبة في لقائك لأبشرك بأمر يسرك كثيرًا ولا أستطيع أن أخبرك به إلا إذا كنا معًا وأخشى إذا افترقنا الآن ألا نلتقي.»

figure
«قال حسان: عليك بهذه الجبة فالبسيها فوق ثيابك، واجعلي القبعة على رأسك، وإليك هذا العكاز واخرجي مع الراهب.»

فتوقف حسان عن خلع الجبة وتطاول بعنقه وقال: «أخبريني عن ذلك الآن قبل أن نفترق.»

قالت: «عندي أمور كثيرة أقصها عليك وأستطلع رأيك فيها وسأحتاج إليك في تنفيذ بعض الشئون.»

قال: «وهل تظنين أن في بقائي هنا خطرًا عليَّ؟ اطمئني وثقي أنكما لا تخرجان من هذا المعسكر حتى ألحق بكما.»

قالت: «أظنك إذا اطلعت على ما سأقصه عليك تفضل البقاء هنا بضعة أيام!»

فلم يعد حسان يستطيع صبرًا عن سماع ذلك الخبر فقال: «أخبريني، يا مولاتي، بما علمت مما يهمني سماعه، أو مريني بما تريدين ثم نتداول — قبل ذهابك — فيما تأمرين.»

ثم انتبهت سالمة إلى نفسها فرأت أن الأجدر بها أن تغض النظر عن إطلاع حسان على ما يشغله أو يؤخره في ذلك المعسكر والحالة تدعو إلى سرعة إرساله إلى عبد الرحمن لتخبره بما علمته من شأن ميمونة وما في معسكر الإفرنج من المعدات، وما كان من استنجاد أود بشارل وغير ذلك مما يئول إلى نصرة العرب، فلما رأت من حسان القلق على استطلاع الخبر قالت: «إن الوقت لا يساعدنا على ذلك يا حسان، وإني أفضل أن أبقى أنا وتذهب أنت برسالة أبعثها معك إلى أمير العرب، فإن الحالة تدعو إلى سرعة الذهاب وإلا ضاعت الفرصة وذهب سعينا هباء منثورًا، فأطعني واذهب أنت ولا بأس عليَّ من البقاء هنا.»

قال: «الأمر لك يا مولاتي، ولكنني لا أرى شيئًا أدعى إلى العجلة من إطلاق سراحك لمقابلة رئيس دير القديس مرتين وعرقلة مساعي الدوق شارل القادم لنجدة هذا الجند، ومتى تم لنا ذلك نذهب بالبشائر إلى الأمير عبد الرحمن دفعة واحدة.»

قالت: «ولكن الأمر الذي أطلب إبلاغه إلى عبد الرحمن الآن أهم كثيرًا من خبر دوق أوستراسيا.»

فاستغرب حسان ذلك وقال: «وهل هو أهم من خبر هذا الدوق وهو قادم لنجدة أود بجيش جرار معه العدة والسلاح فضلًا عما عرف به شارل من البسالة والقوة؟»

قالت: «إني أخاف على جند العرب من عدو مقيم في قصر أميرهم وهم يحسبونه صديقًا، وقد اكتشفت سره في أثناء إقامتي في هذا الأسر ولم يكن استنجاد شارل إلا برأيه فإذا لم نبادر إلى كشف سره استفحل أمره.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤