الفصل السادس

مريم

وكان عبد الرحمن ربع القامة، جليل الطلعة، صبوح الوجه، عريض اللحية والجبهة، قد خالط شعره بياض، وكان واسع العينين مع حدة وذكاء بغير جحوظ، أقنى الأنف وقد تزمل بعباءة سوداء وعلى رأسه عمامة بيضاء كبيرة، فلما وصل، ساد الصمت على الجميع، فالتفت إلى هانئ وقال: «أراكم تختصمون وتتشاجرون، وكان قلبي قد دلني على ذلك منذ أن سمعت بسطامًا يخاطب رسوله في خيمتي، فخشيت النزاع بين أمراء هذا الجند ونحن في أشد الحاجة إلى الاتحاد، وقد لاحظت خروج بسطام فلما أبطأ في العودة أسرعت إليكم، فأحمد الله على ذلك.»

فأعجب الجميع بسهر هذا الأمير على مصلحة جنده وسعيه في جمع كلمته، وأحس هانئ بتوبيخ ضميره؛ لأنه تعاهد هو وعبد الرحمن على الاتحاد والتعاون كما تقدم، فقال: «لم أكن لأخاصم مسلمًا على شيء وإن عز، ولكن بسطامًا يعترضني في سبية اخترتها من بين مئات بعناهن الآن بيع السلع، فلو أننا بعناها لبعض أولئك اليهود فما الذي كان يفعله؟»

فاعترضه بسطام قائلًا: «كنت أفتديها من شاريها بالذي يرضيه.»

فتقدمت المرأة نحو عبد الرحمن بقدم ثابتة وجأش رابط، وقالت: «أظنني واقفة بين يدي عبد الرحمن الغافقي أمير هذا الجند؟»

فاستغرب عبد الرحمن حديثها بالعربية، وقال: «نعم أنا هو وكيف عرفت ذلك؟»

قالت: «عرفتك من اهتمامك بشئون جندك، وقد كنت أسمع ذلك عنك إن الأميرين يختصمان علينا، وما نحن لواحد منهما، ولكن لنا أمرًا نعرضه على الأمير.»

فرآها عبد الرحمن تخاطبه بجسارة لم يعهدها في الأسرى أو السبايا فهابها، وزاده تهيبًا ما آنسه من رزانتها وبساطة لباسها وسواده، ووقعت عيناه في أثناء ذلك على الفتاة فأعجبه جمالها، ومال إلى استطلاع حقيقتها، فقال للمرأة: «قولي ما بدا لك.»

قالت: «لا أقول شيئًا الآن، وإنما أقص حديثي على الأمير في خلوة.»

وكان في ركاب عبد الرحمن رجلًا من خاصته، فأمرهما أن يأتيا بفرسين يحملان المرأة ورفيقتها إلى فسطاطه، على أنه لم يصبر وهو ينتظر قدوم الفرسين أن يسأل المرأة: «ومن هي رفيقتك؟» فقالت: «هي ابنتي.»

وكان هانئ يقف صامتًا، وقد وقع في حيرة من أمر الفتاة وأمها، وخشي أن يكون في حديث الوالدة ما يحول بينه وبين ابنتها وقد ازداد تعلقًا بها بعد ما لاحظه من رغبتها فيه، وأحس أنها تحبه حبًّا شديدًا، فاغتنم فرصة اشتغال الأمير بالحديث مع المرأة، ودنا من الفتاة وقد أراد أن يسمع حديثها ويستطلع أمرها، فقال وصوته يدل على هيامه: «ما اسمك يا فتاة؟»

فأجابته بصوت دل على لواعج الحب، وبلسان عربي فصيح: «اسمي مريم.» فأعجبته غنة صوتها وزاد افتتانه بها لثغة في لسانها تنطق بها الراء غينًا، فكأنه سمعها تقول: «اسمي مغيم.» فقال: «وأنا اسمي هانئ هل حفظته كما حفظت اسمك؟»

فأدركت ما يهدف إليه، وقالت: «لقد حفظته قبل أن أعرفه، فكيف بعد أن عرفته ورأيت منه ما رأيته.» ففرح بذكائها وسرعة خاطرها واطمأن باله، ثم أجابها وهو يقلد لثغتها تحببًا: «أغجو أن تكون معغفة مباغكة.»

فابتسمت مريم ابتسامة أخذت بمجامع قلبه، وتوردت وجنتاها خجلًا، وأطرقت إطراق الحياء وتشاغلت بإصلاح ذيل منطقتها.

أما بسطام فكان يراهما يتكلمان، والحنق يكاد يخنقه، وهو لا يجسر على الكلام في حضرة الأمير، ولكنه أضمر لها الشر، وبعد هنيهة جاء الجوادان، فركبت مريم وأمها وساقوا الخيول إلى المعسكر، وكان هانئ لا يرفع نظره عن مريم فرآها امتطت الفرس بأسرع من لمح البصر، كأنها ولدت على ظهور الخيل فازداد هيامًا بها، ولكنه ظل موجسًا خيفة من تلك الخلوة، حتى إذا اقتربوا من فسطاط عبد الرحمن — وهي أكبر الخيام وعلى بابها الأعلام — التفت عبد الرحمن إلى هانئ وقال: «عد إلى تدبير أمر الجند، وكن كعهدي بك فإننا في بلاد العدو.» والتفت إلى بسطام، وقال: «وأنت يا بسطام أمير ذو بطش، فامض إلى شأنك وانس ما دار بينك وبين هانئ إننا مقبلون على فتوح كثيرة، وستصيب من الغنائم والسبايا ما يعوض عليك أضعاف هذه الخسارة.»

فسار الأميران، وتحول عبد الرحمن ودعا مريم وأمها للنزول، فنزلنا ودخلنا الخيمة في أثره، وفي يد الوالدة تلك المحفظة وقد شدتها إلى زندها وقبضت عليها بكفها كأنها تخاف أن يختطفها أحد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤