الفصل السابع

الخلوة

فلما دخلوا الخيمة أشار عبد الرحمن إلى من كان فيها من الأمراء والحاشية، فخرجوا جميعًا وبقي هو والمرأة وابنتها، وقد تشوق إلى سماع ذلك الحديث، فجلس في صدر الخيمة على بساط ثمين، كانوا قد خصوه به من غنائم ذلك اليوم، وأجلسهما بين يديه فالتفت كل منهما بردائها الأسود، والنقاب الأسود على رأسيهما، فنظر عبد الرحمن إلى وجه المرأة على نور المصباح، فرأى الجمال لا يزال باديًا في وجهها مع أنها قد تجاوزت سن الشباب، ونظر إلى مريم، فرأى عينيها الجذابتين وقد زادها التفكير والإطراق هيبة، فسبح الخالق لذلك الصنع العجيب، ثم غلب شوقه إلى سماع تلك القصة، فحول نظره إلى المرأة فرأى الاهتمام ظاهرًا في عينيها وهي تنتظر إشارة للشروع في الكلام، فقال لها عبد الرحمن: «ما خبرك يا فتاة؟ وما هو غرضك؟»

قالت: «أما خبري فسأطلعك عليه في فرصة أخرى، وأما غرضي فهو نصرة هذا الجند حتى تتحقق أمانيه.»

فلما سمع عبد الرحمن كلامها، استغرب تلك الغيرة من امرأة لا يعرف من هي، وقد توسم في كلامها — وإن كان عربيًّا — شيئًا من العجمة، فأراد أن يستطلع حقيقتها، فقال لها: «ما الذي حملك على الحماس لنصرة العرب، وكلامك يدل على أنك غير عربية، ومظهرك ولباسك يدلان على أنك غير مسلمة فلا يعقل أن يكون هذا هو هدفك، فاصدقيني.»

فنظرت إليه نظرة استغراب، وقالت: «لم أمثل بين يدي الأمير عبد الرحمن الغافقي لألفق له حديثًا مكذوبًا، ولا أرى فراسته فيَّ صحيحة؛ لأني وإن كنت غير عربية ولا مسلمة، فليس ثمة ما يمنع غيرتي على نصرة العرب أو المسلمين وفي نفس هذه المدينة وغيرها من مدن النصارى والإفرنج من يؤثر انتصار المسلمين العرب على انتصار النصارى الإفرنج لأسباب لم أكن أظنها تخفى على مولاي الأمير.»

فأطرق عبد الرحمن وقد تضاعف استغرابه، ولكنه صبر إلى النهاية لعله يستشف شيئًا من حديثها يكشف له الحقيقة فقال لها: «لم أفهم مرادك هل يتمنى أهل هذه البلاد انتصار المسلمين على ملوكهم؟»

قالت: «كانوا يتمنون ذلك منذ سمعوا بحال الإسبان بعد دخولهم تحت لواء العرب؛ لأنهم رأوهم قد انتقلوا تحت ظل الإسلام من الرق إلى الحرية ومن الظلم إلى العدالة.»

قال عبد الرحمن: «وهل عدلوا اليوم عن ذلك الرأي؟»

قالت: «نعم.»

قال عبد الرحمن: «ولماذا؟ أرجو الإفصاح.»

قالت: «لا يخفى على مولاي أن المسلمين عندما فتحوا إسبانيا منذ ٢٢ عامًا، عاملوا أهلها بالرفق والعدل فلم ينهبوا بيعة ولم يسفكوا دمًا بريئًا، ومن اختار البقاء على دينه حافظوا على عهده، ومن اعتنق الإسلام وكان عبدًا فإنه يصير حرًا له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وكان حكام القوط يعدون رعاياهم عبيدًا لهم يستخدمونهم في منازلهم وحقولهم استخدام الأرقاء، فلما جاء المسلمون وفتحوا بلادهم خيروهم بين الإسلام والجزية، وإن من أسلم وكان عبدًا صار حرًا، فتهافت جانب عظيم من أولئك الأرقاء على الإسلام لتتحقق لهم الحرية التي كانت عزيزة عليهم لا ينالها إلا أفراد قليلون مكافأة على شجاعة عظيمة أو خدمة ذات بال، ومع ذلك فإن المعتقين في أيام القوط والرومان لم يكونوا يتمتعون بكل حقوق الأحرار، وإنما كانوا وسطًا بينهم وبين الأرقاء، أما المسلمون فمن أسلم من رعاياهم عاملوه معاملة الأحرار تمامًا، ومن ظل على النصرانية تركوا له الحرية في أداء مراسم دينه والتمسك بعاداته وآدابه وسائر معاملاته حتى الحكومة والقضاء، فأحس الإسبانيون بأنهم انتقلوا بالفتح الإسلامي من الضيق إلى الفرج ومن الرق إلى الحرية، فشاع ذلك في سائر أنحاء هذه البلاد فرأى موسى بن نصير سهولة الفتح عليه لهذا السبب، فعزم على أن يتم فتوحاته حتى يعود إلى دمشق من طريق القسطنطينية بعد أن يفتح كل أوروبا، ولكن المسلمين عجلوا عليه وعلى ابنه عبد العزيز، رحمهما الله، مما لا يخفى عليك، ولولا ذلك لتم الفتح للمسلمين من ذلك الحين، ولكانت هذه البلاد التي جئتم لفتحها الآن ملكًا لهم منذ نيف وعشرين سنة، ولكن الذين خلفوهما على إمارة الأندلس كان معظمهم من أهل المطامع، فأساءوا إلى النصارى وإلى المسلمين من غير العرب ففسدت النيات، وشاع خبر ذلك في هذه البلاد فأصبح فتحها صعبًا؛ لأن أهلها لا يرون فائدة من الانتقال إلى دولة غير دولتهم ودين غير دينهم.»

figure
«فقال لها عبد الرحمن: ما خبرك يا فتاة وما غرضك؟ قالت: أما خبري فسأطلعك عليه في فرصة أخرى، وأما غرضي فهو نصرة هذا الجند حتى تتحقق أمانيه.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤