الفصل الخامس والسبعون

رسالة من شارل

فدخل هانئ وأشار إلى الرسول بالبقاء خارجًا، وكان عبد الرحمن جالسًا وقد سمع صوت هانئ قبل دخوله، فصاح فيه صيحة الوالد بولده: «ما الذي أخرك يا هانئ؟ لقد شغلت بَالَنَا!»

فقص عليه ما حدث بعد وصولهما إلى الدير، وكيف بعث أود جندًا أخذوا سالمة إليه، وكيف أراد إنقاذها وهي لم ترضَ، ولكنه لم يذكر شيئًا عن السر، وأخبره أن مريم رجعت معه وقد توجهت إلى الأخبية إلى أن قال: «وقد أتيتك برسول من قارله (شارل) قائد جند الإفرنج أظنه يحمل إليك كتابًا وهو بالباب الآن هل يدخل؟»

فصفق عبد الرحمن فدخل أحد الحجاب من غلمانه فقال له: «ادع لنا أحد المترجمين فإذا جاء فأدخله مع الرسول.» فخرج الغلام وظل عبد الرحمن صامتًا كأنه بغت لخبر جديد، ولم يكن هناك شيء جديد، ولكنه تنسم رائحة القتال، وتمثل له عظم الأمر الذي هو قادم عليه، وأدرك هانئ اهتمامه فتهيب وظل ساكتًا حتى عاد الغلام ومعه الترجمان، وهو من يهود إشبيلية وكان يعرف عدة لغات، وللمسلمين ثقة كبرى فيه مثل ثقتهم في سائر يهود الأندلس؛ لأنهم كانوا عونًا كبيرًا لهم في فتح تلك البلاد، ثم دخل الرسول وتأدب في موقفه فسأله عبد الرحمن بواسطة الترجمان عن غرضه فقال: «إنه قادم برسالة من الدوق شارل صاحب أوستراسيا.» فقال عبد الرحمن: «وأين الرسالة؟»

فمد الرسول يده إلى شبه خرج معلق تحت أبطه وأخرج منه لوحًا ملفوفًا بمنديل من الحرير الأحمر، وقد شد حول المنديل شريط من الحرير الأزرق، فتناول عبد الرحمن الرسالة وأشار إلى الرسول فخرج، ثم حل الشريط وفتح المنديل وأخرج ما فيه وهو عبارة عن لوح من الخشب الرقيق مكسو بالشمع، وقد كتب عليه حفرًا في ذلك الشمع على عادتهم في مكاتبات تلك الأيام في أوروبا فلما ظهر اللوح، علم عبد الرحمن — قبل أن يقرأها — أنها رسالة إفرنجية لعلمه أن العرب يكتبون على الجلد أو القرطاس أو النسيج فدفع اللوح إلى الترجمان فقرأه، وهاك ترجمته:

بسم الآب والابن والروح القدس

من الدوق شارل قائد جند الإفرنج وصاحب أوستراسيا إلى الأمير عبد الرحمن قائد جند العرب أما بعد، فإن أخي الدوق أود صاحب أكيتانيا أخبرني بما تعمدتموه من الإيغال في بلاده لغير سبب يدعو إلى الحرب بيننا وبينكم، فأنتم إنما تطلبون الفتح التماسًا للكسب، وقد أطمعكم في ذلك ما رأيتموه من ضعف الذين حاربتم من جند هذه البلاد إلى اليوم، وقد بلغني ما أنت عليه من الشجاعة والتعقل وعلو الهمة فرأيت أن أنصحك لترجع عن قصدك بدون سفك الدماء، ولا أكلفك تسليمًا بل أطلب إليك الانسحاب من هذه البلاد بما تحمله من الغنائم إلى حدود إسبانيا على الأقل إذ لا قبل لكم بالوقوف أمامنا، هذه نصيحتي لكم وإذا لم تقبلوها فموعدنا في النزال قريب والسلام.

فلما فهم عبد الرحمن فحوى الكتاب بما فيه من التهديد ظهر الغضب في وجهه لكنه أمسك نفسه، ونظر إلى هانئ كأنه يستشيره فقال هانئ: «يظهر أن الرجل مغرور بنفسه فأرى أن يكون جوابنا السيف.»

فتبسم عبد الرحمن وصفق فجاء الغلام فقال له: «ادع الأمراء للمفاوضة.» فأدرك هانئ أنه لا يقضي أمرًا إلا بالشورى خوفًا من العتاب أو الفشل، وبعد ساعة جاء الأمراء فتلى الكتاب عليهم، ففوضوا عبد الرحمن أن يجيب عليه فأشار إلى الترجمان أن يكتب:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الرحمن الغافقي قائد جند المسلمين في أكيتانيا إلى الدوق قارله قائد جند الإفرنج، أما بعد، فقد قرأت كتابك وساءني اغترارك بنفسك مع ما بلغني من علو همتك وبسالتك، أيها الدوق، إننا لم نجرد هذا الجند لفتح أكيتانيا وحدها ولكننا نهضنا لفتح هذه الأرض الكبيرة ولو لم تأتِ أنت للقائنا هنا لالتقينا في بلدك ثم نحمل على رومية فالقسطنطينية حتى يدين لنا العالم كله كما وعدنا نبيُّنا، فننصح لك أن تعتبر بما أصاب أخاك صاحب أكيتانيا وإلا فلا تلومن إلا نفسك والسلام.

ولف الكتاب وختمه وأعاده إلى الرسول فحمله وعاد، وانصرف الأمراء إلا هانئًا فظل عند عبد الرحمن وقد انتصف الليل، فقضيا ساعة في المداولة ثم انصرفا إلى النوم.

وقضيا اليوم التالي في التأهب وتدبير الشئون، وكانا في أصيل اليوم الثالث يطوفان بفرسيهما جناح الجند الأيسر إذ جاءهما أحد الطلائع يقول إنه شاهد غبارًا يتصاعد في عرض الأفق بجوار دير القديس مرتين، فأدركا أن شارل لما وصله الجواب زحف بجنده للقتال، فصعدا إلى أكمة أطلا منها فرأيا غبارًا يتصاعد أيضًا من جهة الجنوب حيث معسكر أود، فعلما أن الجيشين متحدان عليهم، فقال عبد الرحمن: «لقد آن وقت العمل يا هانئ وهذه جنود الإفرنج قادمة، فينبغي لنا أن نتيقظ ونتأهب لئلا يهاجموننا على غرة، فامض إلى فرسانك واجعلهم على أهبة النهوض وأنا ماضٍ إلى تنبيه سائر الأمراء.» قال ذلك وتحول، فمضى هانئ في أثره ونفسه تشتاق إلى النزال.

على أن الجيشين لم يواصلا الزحف على العرب، ولكنهما عسكرا تجاه معسكرهم، وما بينهما وبينه إلا ساحة القتال، فلما رأى عبد الرحمن نزول الإفرنج علم أنهم لا ينوون الهجوم في ذلك اليوم فبعث إلى هانئ سرًّا، وبعد صلاة العشاء خرجا من المعسكر ماشيين إلى أكمة قريبة كان عبد الرحمن قد عاينها بنفسه في الأمس، فصعدا إليها ونظرا إلى ما بين أيديهما، وقد طلع القمر وأرسل أشعته في الفضاء فوق ذلك السهل، فكشفت عن معسكرين: معسكر شارل في الشرق، ومعسكر أود نحو الجنوب، تجاه معسكر العرب، ونظر عبد الرحمن إلى مضارب ذينك الجيشين وأمعن في النظر ليقدر عددهم فوجدهم كثيرين يزيدون على جند المسلمين، وود لو أنه يلتقي بمن ينبئه عن قوة الجيشين ومعداتهما وسائر أحوالهما.

وكان يفكر في ذلك ويمشط لحيته بأنامله وهانئ واقف بجانبه يفكر في مثل ذلك الأمر، وقد تبادر إلى ذهنه أن حسانًا لو كان حيًّا لكان أفضل من يقوم بالاستطلاع؛ لأنه يعرف لغة البلاد وعادات أهلها وهو حسن الأسلوب ذكي مخلص، فأراد أن يخاطب عبد الرحمن في هذا الشأن على سبيل فتح الحديث فرآه يتفرس في عرض الأفق كأنه يرى شيئًا جديدًا، فالتفت هو إلى هناك فرأى شبحًا كأنه رجل يعدو من جهة معسكر الدوق شارل وعليه ملابس الإفرنج، ولكنه لا يحمل راية ولا يبدو من مظهره أنه رسول، فقال هانئ: «ما رأيك في هذا القادم أيها الأمير؟»

قال: «لا أظنه رسولًا فربما كان جاسوسًا أو صديقًا.»

وما أتم كلامه حتى أصبح الرجل على بضعة عشر مترًا منهما فتباطأ في مشيته حتى اقترب وهما لا يكلمانه، فلما دنا منهما قال بلفظ عربي مكسر: «أين الأمير عبد الرحمن؟»

فقال له هانئ: «وما الذي تريده منه؟»

فأومأ بإصبعه إلى لسانه مع إشارة النفي، أي أنه لا يعرف العربية، ثم أومأ أنه قادم من معسكر أود لأمر خاص بالأمير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤