الفصل التاسع والسبعون

اللقاء الدائم

فرغا من الدفن وهما صامتان، وكان القمر قد تكبد السماء وأصبح نوره مثل نور النهار فقالت مريم: «وما العمل يا هانئ؟»

فتنهد هانئ وقال: «لو كان معي خمسون رجلًا لهاجمت بهم هذين المعسكرين، على أن وحدتي لا تمنعني من الهجوم ولو كان فيه فنائي، ولكنني أخاف على مريم إذا أنا قتلت أن يلحق بها عار أو إهانة.»

فالتفتت إليه وقالت: «وهل تبقى مريم بعدك؟ ذلك لا يكون وقد قرأت وصية والدتي (وتنهدت) فإنها تحبب إليَّ اللقاء بها في الدار الآخرة، ولا أشك في أنها هناك الآن، فإذا كنت تحب مريم وتريد أن تطمئن على حياتها وعزها، فاسمح لي أن ألحق بوالدتي إذ لا فائدة من بقائي، وأما أنت فإن الإسلام يحتاج إليك والجهاد يفتقر إلى سيفك وذراعك.»

فلما سمع كلامها هاج غرامه حتى أنساه موقفه فقال: «إن الإسلام مفتقر إلى مثلك أكثر من افتقاره إلى مثلي إنك ابنة الملكين فقد حزت فضائل الجنسين والله لو صبر أولئك الجبناء وكنت أنت رائدهم في حومة الوغى لفازوا وقطعنا نهر لوار آه من هذا النهر لقد امتنع علينا عبوره فامتنع اجتماعنا أتطيعيني يا مريم؟»

قالت: «إني أطوع لك من بنانك إلا إذا أردت بقائي بعدك.»

قال: «لقد فشل جندنا، وفر من بقي منا حيًّا وفي الفرار بقاء ترتاح له نفس الجبان، وقد اجتمعنا الآن ولا رقيب علينا وكل منا يريد البقاء، ولا بقاء إلا بالفرار، ونفسي تأبى ذلك، ولا يخفى عليك يا منيتي أن فؤادينا قد ذابا تطلعًا إلى اليوم الذي نقطع فيه ذلك النهر؛ لأن في قطعه اجتماعنا فما الذي يمنعنا من الاجتماع فيه الآن؟»

فقطعت كلامه قائلة: «في جوفه؟»

فقال: «بل في قاعه وإذا كنا معًا فلا أبالي أين نكون ولا كيف نكون.» قال ذلك ووثب حتى ركب جواد عبد الرحمن وأمسك بيدها فأردفها وراءه وأركض الفرس وهي ممسكة بعباءته، واتجها نحو نهر لوار خارج مدينة تورس حتى وصلا إلى ضفة من الرمال تنكسر عليها مياه النهر بعد تموج ضعيف، وسطح النهر يتلألأ في ضوء القمر ويتلون، فترجلا عن الفرس وأطلقا له العنان فعاد إلى المعسكر، وظلا هناك منفردين والجو هادئ ساكن لا يسمع فيه غير خرير الماء ونقيق الضفادع، فخلعا نعالهما ومشيا على الرمل المرطب بالماء، ونزع هانئ عمامته وعباءته فأصبح حاسر الرأس والذراعين مثل مريم، وله ضفيرة كانت العمامة تغطيها فاسترسلت مثل ضفائر مريم، فمشيا على الرمل حتى أصبح تكسر المياه يصيب كعبيهما فوقفا هناك ومد هانئ يديه إلى مريم، قبض بهما على يمناها فأحس ببرودتها ولينها، ولم يشعر بقشعريرتها لانشغاله بقشعريرته، فضغط على يدها بكلتا يديه فارتعدت فرائصها جميعًا، ولم تعد مريم تستطيع الوقوف لاصطكاك ركبتيها، فأسندت رأسها بيسراها على كتف هانئ، فأسكرتها رائحة عرقه كما أسكرته رائحة طيبها ولمس شعرها وجهه واشتبك بشعر لحيته، فأحس بقشعريرة دبت في جسمه دبيب النمل بين اللحم والعظم وخشي لشدة تأثره أن تخونه قدماه فيقع فأبقى يسراه قابضة على يمناها، وأدار يمناه إلى كتفها وتساندا وهما صامتان والهوى يتكلم، ثم رفعت رأسها عن كتفه ونظرت في وجهه، وعيناها ذابلتان من شدة التأثر وقد غشيهما الدمع وقالت بصوت مختنق: «أتحبني يا هانئ؟»

فأعاد يده الأخرى فأمسك يمناها بيديه وأدناها إلى صدره، وقد غلب عليه الحب ونسي مواقف القتال وقال: «نعم أحبك! أحبك!» قالت: «آه، ما ألطف الحب وما ألذه!» قال: «لا لذة بغير الاجتماع هل في الدنيا اثنان يتمتعان بألذ مما نحن فيه الآن؟ ضميني يا مريم يا حبيبتي ضميني إلى صدرك ألا تشعرين بخفقان قلبي؟ إني أشعر بدقات قلبك.» قال ذلك وإحدى يديه فوق كتفها والأخرى قابضة على يدها.

أما هي فرفعت بصرها إلى السماء فرأت القمر مشرقًا إشراقًا باهرًا، وعلى وجهه رسم يشبه رأسين متقاربين كأنهما حبيبان يتعانقان فقالت: «إني أرى صورتنا قد ارتسمت على وجه القمر انظر يا هانئ، ألا ترى وجهين مثل وجهينا؟»

قال: «لا أرى في الدنيا من يشبهنا، ولا من حال تشبه حالنا.» وكانت مريم قد جفت دموعها فلما سمعت قوله تذكرت حالها فقالت وهي تغص بريقها: «إن حالنا عجيبة يا هانئ تمنينا الاجتماع وسعينا إليه فامتنع علينا، فلما التقينا ساءنا الاجتماع خوفًا من الفراق.»

فأجابها وبصره شاخص في وجهها قائلًا: «إني لا أرى ما يشفي غليلي بعد طول التحسر إلا أن نجتمع اجتماعًا متواصلًا لا يتخلله فراق ولا يكون ذلك إلا بالموت معًا، هل تموتين معي يا مريم؟»

فالتفتت إليه ويدها ملتفة بيده إلى الكتف وعيناها ذابلتان ولو لم تتكلم هي لتكلمتا، ثم قالت: «الموت معك حياة يا حبيبي يا حبيبي آه ما ألذ هذا اللفظ، وكم كنت أتلذذ بتكراره في خلوتي وأتحسر على سماعه من فمك.»

قال: «صدقت ولا يعرف لذة هذا اللفظ غير المحبين، وقد كفانا من حبنا المتبادل التمتع بهذا اللفظ؛ لأننا مقيدان بعهود لا تجيز لنا ما وراءه، ولو كتب لنا النصر وقطعنا هذا النهر لكان اجتماعنا أطول وملذاتنا أكبر على أننا لم نكن مع ذلك نأمن الفراق ونكد العيش، والدنيا تأتي بالعجب العجاب أما الآن فإذا متنا متعانقين فكأننا عشنا الدهر معًا ولم ينغص عيشنا فراق.»

قالت: «عجل إذن ولا تطل بنا الوقوف لئلا يحدث ما يحرمنا هذه السعادة.» قالت ذلك ومدت يدها إلى جيبها وأخرجت المحفظة ونظرت إليها لحظة ثم قبلتها وضمتها إلى صدرها وبكت وهي تقول: «أماه يا أماه وا لهفي عليك ما كان أشقاك قضيت العمر في التكتم والتستر والحذر ثم ذهبت قتيلة ذلك السر محافظة على عهد حبيبك وإكرامًا لوصيته، ولو عرفت ذلك من قبل لاستغربت منك هذا التعلق وأما الآن فقد ذقت طعم الحب فلا ألومك، بل أنا فاعلة مثل فعلك وها أنا ذا أتبع وصيتك.» ثم أعادت المحفظة إلى جيبها وهي تقول: «هذا سرك ذاهب معنا إلى غياهب الأبدية.»

وكان هانئ يسمع كلامها وهو يرقب حركات شفتيها وعينيها ويشاركها بكل جارحة من جوارحه، فلما فرغت من قولها أشار بعينيه إلى جسمها الغض وقال لها: «أليس غبنًا أن تذهب هذه الأعضاء طعامًا لأسماك البحر؟»

فقطعت كلامه قائلة: «ذلك خير لها من أن يفترسها وحوش البر الذين يسمون أنفسهم بنى الإنسان عجل يا هانئ قبل أن يغلب علينا حب البقاء.»

فمد يديه ومدت يديها، وتخاصرا من جانب وتماسكا من الجانب الآخر ومشيا على الرمل حتى غرقت أقدامهما في الماء فأحسا ببرده وبانزلاق الرمل تحت الأخمصين، وكانا كلما انغمرا في الماء ازدادا تعانقًا وازدادا تجاذبًا حتى أصبحا جسمًا واحدًا، وغطسا في الماء وكل منهما يتلذذ بذكر اسم الآخر وبعد دقيقة بدا بعض الرأسين، والشعر سابح على سطح الماء، ثم غطسا إلى قاع النهر ولم يعد يعلم مصيرهما إلا الله.

أما جيش الإفرنج فإنهم أصبحوا في اليوم التالي وهم يتوقعون هجوم العرب عليهم، فرأوا الأرض قفرًا والخيام خالية، فاستولوا على ما كان باقيًا فيها من الغنائم وكان ذلك آخر عهدهم بالعرب هناك على ما دونه التاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤