سادسًا: تنزيه الله عن فعل القبائح

إذا كانت الواجبات العقلية مثل الخلق والتكليف وشكر النعم واجبات من جانب الإنسان، فقد تمتد الواجبات العقلية فتشمل أيضًا الله؛ نظرًا لأن لفظ الوجوب يُطلَق على الإنسان والله معًا، على الوجوب الأخلاقي والوجوب بمعنى واجب الوجود. بل إن الواجب العقلي الأوَّل، أي الخلق والتكليف، يصعب الحكم عليه، هل هو واجبٌ إنساني أم واجبٌ «إلهي». فالله هو الخالق وهو المكلِّف والإنسان هو المخلوق وهو المكلَّف. والواجب الإنساني، شكر المنعم، يصعب التمييز فيه أيضًا بين الإنسان وهو الشاكر، وبين الله وهو المشكور؛ فالشكر فعلٌ مشترك بين الشاكر والمشكور وإلا كان هناك جحود ونكران.

وهناك واجباتٌ عقليةٌ أخرى يتضح فيها هذا التوتر بين الجانبين، جانب الله وجانب الإنسان، وذلك مثل تنزيه الله عن فعل القبائح والشرور والآثام والمعاصي، وتبرئته عن فعل الظلم. وكيف يمكن إضافة القبائح إلى الله؟ كيف يمكن تجويز الظلم والجور عليه؟ إن لم تكن هناك واجباتٌ عقلية، فما هو الطريق إلى تنزيه الله عن فعل القبيح؟ تجمع الأمة على أن الله لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب، ولكن الخلاف في الأساس والتصور. هل يرجع ذلك إلى ذاته وصفاته، فهو الحاكم يفعل ما يشاء في حكمه، وملك يفعل ما يريد في ملكه، أم لأن ذلك حكم العقل رعايةً للصلاح والأصل وإعمالًا للغائية والعلية وتعويضًا عن الآلام أو على أقل تقدير لطفًا بالعباد؟ التنزيه الأوَّل يرجع إلى طبيعة الذات، في حين أن التنزيه الثاني يرجع إلى مصالح العباد. الأوَّل مفروض من جانب الله، والثاني مفترض من جانب الإنسان.

(١) هل الله خالق الخير والشر؟

إن أول طريق لتنزيه الله عن فعل القبائح يرجع إلى أن الله خالق كل شيء، يفعل ما يريد، فلا واجب عليه ولا قبيح في فعله. وذلك راجع إلى طبيعته وذاته. هو مالك كل شيء، يتصرف في ملكه كما يشاء. لا يوجد مقياس لفعله ولا حكم بأمر ولا بنهي.١
ولكن ألا يضل المالك؟ أليس له من يراجعه؟ ألا يوجد مقياسٌ موضوعي آخر عن عقل أو طبيعة أو جماعة، من مصلحة أو مفسدة؟ وهل العالم مملوك أم هو موجود؟ هل يقع العالم في مقولة الملكية أم في مقولة الوجود؟ ألا يؤدي ذلك إلى الجبر المطلق وبالتالي يرجع موضوع الحسن والقبح إلى الموضوع الأوَّل وهو خلق الأفعال؟ أليس في ذلك إثبات للقبح كحق للمالك دون تبرئته منه؟ وكيف يكون الله مسئولًا عن الشر والآثام والظلم والقبائح التي لا يمكن نفيها وإن أمكن تبرئة الذات منها؟ وهل يتم حل قضية، وهي قضية تنزيه الله عن فعل الشرور، بخلق قضيةٍ أخرى وهي الوقوع في القضاء والقدر وإنكار الشرور في العالم عن طريق هدم خلق الأفعال الذي تم إثباته أولًا في الشق الأول من أصل العدل؟ إن قبول كل شيء من الله هو قضاء على خلق الأفعال والحسن والقبح معًا لأنه إنكار لمسئولية الإنسان عن الشر وجعل الله مسئولًا عنه. كما أنه إنكار للشر ليس لأنه نقص في الخير في الإدراك الإنساني، ولكن تبرئة لله منه عن طريق نسبة كل شيء إليه؛ وبالتالي محو التفرقة بين الخير والشر والتمييز بين الحسن والقبح.٢
والحقيقة أن ذلك تضخيم للسؤال الأوَّل وإحالته إلى سؤالٍ أعمَّ تحاشيًّا من الإجابة الخاصة، فبدل أن يكون السؤال على مستوى الفعل الإنساني، فإنه يصبح على مستوى الكون والخلق. بدلًا من أن يكون السؤال: هل الله هو خالق القبح في أفعال الإنسان؟ يصبح: هل الله خالق الشر خلقه للخير في الكون؟ هل يضر الله كما ينفع؟ والسؤال يتوجه إلى الشر وليس على الخير لأنه من الطبيعي أن يصدر الخير عن الخير، بالرغم مما يثير ذلك في موضوع خلق الأفعال. ويتوجه نحو الشر لتبرئة الله عن الشر، فينتهي بإثباته له لما كان خالقًا لكل شيء. ويدل السؤال التقليدي: هل يُقال خلق الله الشر؟ على البناء النفسي نفسه الذي يدل عليه سؤال: هل يرزق الله الحرام؟ في آخر موضوع خلق الأفعال، في الآجال والأرزاق والأسعار. وبدلًا من أن يكون الهدف تبرئة الله من الشر فإنه ينتهي إلى تبرئة الإنسان منه وجعل الله مسئولًا عن كل شيء كما هو الحال في الجبر.٣ إن أخطاء الجبر كثيرة، وعلى رأسها إضافة القبيح إلى الله مع أن الهدف كان هو تنزيهه عن فعله. وكيف يصدر القبح عن الحسن والشر عن الخير؟ والجبر أيضًا إنكار لحرية الإنسان ومسئوليته عن القبح، هذه الحرية التي تم إثباتها من قبلُ في خلق الأفعال وأصبحت أحد مكتسبات العدل، ومِنْ ثَمَّ يهدم علم أصول الدين ما بناه من قبلُ، ويعود من البداية لإثبات الحرية. كما أنه إثبات الوجود الموضوعي للقبيح لأنه مخلوق، والخلق شيء، ولا يمكن أن يخلق العدم أو النقص أو الغياب. وبدلًا من تبرئة الله من فعل القبيح فإنه يثبت مرتين، كفعلٍ إلهي وكوجودٍ موضوعي، مرة في الله ومرة في الكون، والإنسان كموجود بين عالمَين غائب وحريته ساقطة. وفي الوقت نفسه ينتفي القبح الإنساني نظرًا لتسليم الإنسان بكل شيء واعتباره القبح من نسيج الوجود وأحد مخلوقات الله. ويصبح الجبر سلاحًا ذا حدَّين، ينقلب من الإنسان إلى الله، فالقبح ضرورة كونية لا يستطيع أحد أن يغير منها. فتسلب الحرية من الإنسان كما تسلب الحرية من الله، وكأن الله يفعل الشر ضرورة فعله للخير. إن إثبات قدرةٍ مشخصة على فعل القبيح إلغاء لقوانين العقل وحرية الإنسان، ويقوم على التشبيه وعلى إسقاط الإنسان لنفسه خارجًا عنه.٤ وإذا كان من الصعب إيجاد حججٍ عقلية على الجبر وجعل الله خالقًا للخير والشر، فإنه يسهل إيجاد حججٍ نقلية ومنها قصة غواية إبليس لآدم كجزء من الخطة الإلهية. وهذا إنكار للحرية الإنسانية، إنكار لقدرة الإنسان على الدخول في التحدي مع الآخر الغاوي. فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يعيش في عالمَين، عالم الخير والشر، عالم الضرورة والحرية، في حين تعيش باقي المخلوقات في عالمٍ واحد، الحتمية للخير أو الحتمية للشر، وهما العالمان اللذان سُمِّيا عالم الملائكة والشياطين اعتمادًا على الصورة الفنية.٥ والحقيقة أن الحجج النقلية معارضة بأخرى تنزه الله عن فعل الشرور والقبائح والآثام والمعاصي، وتنسب ذلك كله إلى الإنسان إثباتًا لحريته وتثبيتًا لمسئوليته.٦
وهل يكفي تنزيه الله عن القبائح ذاتًا وصفاتٍ، وتنزيهه عن الشهوة والغضب حتى لا يكون هناك شر في العالم؟ والحقيقة أن تنزيه الله عن فعل القبيح بالعودة إلى الذات والصفات ليس استدلالًا، بل إثباتًا للتوحيد دون تعامل مع القبائح والشرور والظلم والجور في العالم، أي تناول أفعال الإنسان ومسئوليته عنها. وهو عجز عن الانتقال من التوحيد إلى العدل وحل مسائل العدل بالعود إلى أصل التوحيد.٧ بالإضافة إلى أن هذا التصور المثالي للذات إنما هو ناشئ عن نفي صفات النقص عن الإنسان وبالتالي فإن منشأه العدل. فكيف يأتي التوحيد كحل لمسألة العدل؟ اللهم إلا إذا جعلنا التوحيد ناشئًا من العدل، وكأن العدل أساس التوحيد! وكيف يتم تبرئة الذات المشخص عن فعل القبيح وفي الوقت نفسه يكون قادرًا على كل شيء بفعل الخلق؟٨ إن إثبات الصفات والأفعال على ما بان في التوحيد يؤدي إلى القضاء على حرية الأفعال، كما أنه يؤدي إلى إنكار الصفات الموضوعية في الأشياء.
وقد يتم تنزيه الذات المشخص وذلك بالتمييز بين الذات والصفات وإثبات صفاتٍ زائدة على الذات؛ فتكون صفات أفعال وليست صفات ذات.٩ ولكن في هذه الحالة تفعل الصفات في العالم وتهب الأشياء صفاتها من الخارج. وبالتالي تكون الأشياء تابعة في صفاتها إلى قدرةٍ خارجة عنها. فإذا ما كانت الصفات مساوية للذات، فإن الصفات لا تفعل في العالم، وترد إلى العالم موضوعيته، وتصبح صفاته ذاتيةً ثابتة لا تتغير. فتظهر صفات الأشياء في ذاتها وكأن صفات الذات تصبح صفات الأشياء. ويكون الأمر والنهي من الله كاشفين عن الحسن والقبح في الأشياء. ولا يثبت حسن الفعل أو قبحه بحسن الفاعل أو قبحه، بل يثبت حسن الوضع الناشئ عن الفعل أو قبحه. فالفعل وإن كان صادرًا عن فاعل، إلا أنه يهدف إلى تغيير بناء الواقع. فحسنه وقبحه موضوعيان لا شخصيين.١٠ وليس المقصود من طرح مسألة الصفات الذاتية للأفعال تبرئة الذات المشخص واتهام النفس، فهذا موقفٌ بطولي عاجز، بطولي لأنه يقوم على اتهام النفس وتبرئة الغير، وعاجز؛ لأنه غير قادر على إدراك الصفات الذاتية للأفعال. ودفاعًا عن الله الخير وإثباتًا لمسئولية الإنسان عن الشر تكون الإجابة أن الله ليس خالقًا للشر. الخير والشر صورتان عامتان لمواقفَ اجتماعية، نافعة أو ضارة، وليسا شيئين مجسَّمين. هي أوضاعٌ اجتماعيةٌ ناشئة عن ممارسة حريات الأفراد وضغوط الجماهير. ومع أن النفي أكثر تنزيهًا لأنه يضع عواطف التأليه في حيز الكمال إلا أنه يؤدي إلى إثبات الحرية الإنسانية. فالإنسان يتحمل أفعاله وهو مسئول عنها حتى ولو لم يكن عنها راضيًا. وتلك طبيعة الفعل الحر والإحساس بالمسئولية عنه.١١ قد يكون الشر مجرد عرض أو يكون عقابًا في الآخرة نتيجة للأفعال وطبقًا للاستحقاق وقد يكون مجازًا لا حقيقة. وفي كل الحالات تثبت مسئولية الإنسان عنه. الأفعال الحسنة والقبيحة هي أفعال الإنسان، والإنسان مسئول عنها في العالم وأمام الناس.

(٢) هل الله قادر على فعل القبيح؟

وهو السؤال نفسه السابق ولكن مركز على الصفات، وخاصةً القدرة على الفعل الإنساني. وإثباتًا لحق الذات ومطلق الصفات يكون الرد بالإيجاب؛ فالله قادر على فعل القبيح. ويمكن إثبات ذلك بعدة حججٍ عقلية منها القسمة العقلية. فإمَّا أن يفعله ويقبح منه فعله وبالتالي تلزمه الحجج لتنزيهه عن فعل القبيح أو يحسن منه وهو غير معقول.١٢ ولما كان إثبات قدرة ذات مشخص على القبيح طعنًا في التنزيه وضربًا للصفات بعضها بالبعض الآخر وإعلاءً للقدرة فوق الحكمة، فإن إثبات أفعال لا واقع لها، بل لمجرد إثبات قدرة هو إثبات قدرة ينقصها الوعي والعقل والحكمة؛ وبالتالي يكون إثبات القدرة أولى. لا توجد إذن أفعال بلا قدرة. يثبت حسن الأفعال وقبحها الإرادة الواعية وراء الأفعال. القدرة والعلم كصفتين مطلقتين لذات مشخص واحد لا يتعارضان.١٣ والقادر على الفعل قادر على جنسه. ولما كان الحسن مثل القبح فالقادر على الحسن قادر على القبح. تتعدى قدرة الذات المشخص من القدرة على القبيح وجنسه إلى القدرة على جميع الأجناس في الطبيعة. بل إن الإنسان إذا كان قادرًا فإنه يكون قادرًا على مقدور غيره؛ إذ تساعد الرغبة في البطولة من لا يستطيع أن يكون بطلًا في تحويل عجزه إلى قدرةٍ مشخصة يجعلها قادرة على عمل ما هو عاجز عنه أو أقدر مما هو عليه قادر.١٤ ولو استوى الصدق والكذب فإن الإنسان يكون أقرب إلى فعل الصدق. وهو الدليل نفسه لإثبات الحسن والقبح العقليين، وأن الفاعل قد يفعل الفعل لحسنه، وأن الإنسان قادر على التفرقة بين من أحسن وبين من أساء إليه. ولو قال فعلت الحسن لحسنه لكان الجواب مقنعًا.١٥ وحكم القادر لنفسه أقوى من حكم القادر بقدرة في أن مقدوره لا ينحصر في جنسٍ واحد. الفعل تعبير عن ضرورة.١٦ وفعل لا يقع ضرورة، بل قد لا يقع ولا يقع فعل لا يهدف على عكس البشر.١٧ والحقيقة أن هذه الحجج كلها إنما تثبت القدرة النظرية دون تخصيصها بالقبح. وتؤدي إلى ظهور الواقع الإنساني الهش ثم تدعو الحاجة إلى إجراءٍ تنزيهيٍّ مضاد وقياسًا للغائب على الشاهد وهو أساس الفكر التشبيهي. وما الحكمة من إثبات القدرة النظرية على فعل القبيح ثم حدها بعد ذلك بحكم العقل، فالله لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب بحكم العقل؟ وكيف يتم التوفيق بين القدرة على فعل القبح وأنه ما هو قبيح منه يتركه وما يجب عليه يفعله، إذ لا حاكم بقبح القبيح ووجوب الواجب إلا العقل؟١٨ وكيف يكون قادرًا على فعل القبيح وهو صادق لذاته؟ ألا يفترض ذلك تناقضًا بين الذات والصفات؟١٩ وما الحكمة من إثبات القدرة النظرية على فعل القبيح ثم تقييدها بوجوب الصلاح والأصلح في الدنيا والتعويض عن الآلام في الآخرة وباللطف؟٢٠ إن إثبات القدرة على ما إذا فعله كان قبيحًا إثباتٌ نظريٌّ خالص دفاعًا عن حق الذات الخالص. وإن إثباتًا نظريًّا لقدرة الذات على فعل القبيح لا يثبت شيئًا بالفعل. فما الفائدة من قدرةٍ نظرية لا تتحقق عملًا؟ وكيف تكون قدرة ذات مطلق غير متحققة بالفعل؟ إن إثبات قدرة نظرًا ونفيها عملًا أقرب ما يكون إلى تحصيل الحاصل أو إثبات الشيء ونفيه أو إثبات العلة ونفي المعلول. إن إثبات قدرة للذات المشخص على فعل القبيح إخراج للإنسان من موقفه وتنصيبه مدافعًا عن غيره وليس مدافعًا عن نفسه. وإن إثبات قدرة للذات المشخص على فعل القبيح قد لا يثبت قدرة بقدر ما يثبت طغيانًا. صحيح أن القدرة قدرة عاقلة وليست قدرة غاشمة، وهي قدرةٌ مدركة للقبيح وفعله ولكن تظل القدرة أعلى من الحكمة. إن جواز القدرة على الكذب تغليب للحرية على العقل وهو غير معقول تمامًا مثل جواز عدم القدرة على الكذب وتغليب العقل على الحرية.
وتوجد حلولٌ متوسطة تحاول الجمع بين إثبات القدرة وإثبات العدالة الإنسانية، منها إثبات الأولى نظرًا والثانية عملًا، الأولى كحقٍّ نظري والثانية كواقعٍ عملي. وعيب ذلك الحال هو اعتبار الحق النظري غير واقع، واعتبار الواقع العملي غير قائم على حقٍّ نظري، وبالتالي الفصل بين النظر والعمل وهو ما لا يجوز لا في علم الله الواقع ولا في فعله الحكيم.٢١ وقد يحدث الجمع بين القدرة المطلقة والعدالة الإنسانية بإثبات حق القدرة المطلقة ثم وضعها في نطاق الكمال. فالمطلب الخلقي يوجب الحق الطبيعي. والكمال هنا هو الحسن العقلي والعلم. فالعلم فضيلة وصفة من صفات الكمال، والظلم جهل وآفة يعبر عن حاجة، جلب منفعة أو دفع مضرة، وهو ما يستحيل على الله.٢٢ وقد يُعاد وضع المسألة من جديد دون الدخول في المتاهة العقلية ثم يفرض الشعور بالتنزيه صياغةً عقليةً جديدة. وهنا لا تفعل القدرة العدل اضطرارًا بل اختيارًا، أي إن الحرية العاقلة التي تميز الإنسان أعطيت للقدرة المشخصة فأنارتها.٢٣ ومن ضمن الحلول المتوسطة الأخرى أن يخلق الله الظلم للظالم والجور للجائر. فالظلم والجور ليسا فعلين صوريين بل فعلان ماديان.٢٤ ويصبح الأمر أكثر إشكالًا إذا ما تدخل الله في أفعال العباد وأجبرهم على الجور أو الظلم. فمن أجل حل قضية العدل تُثار من جديد قضية الحرية ويُنتهى فيها إلى الجبر.٢٥ فإذا كان الرد بالإيجاب، أي إثبات القدرة كتعبير عن عواطف التعظيم والإجلال، فإن ذلك يقضي بتاتًا على العدالة الإنسانية وعلى مثالها في العدل الإلهي.٢٦ ويكون التنزيه قد أراد تأكيد جانب فقضى على جانبٍ آخر. بل إنه يقضي على الفعل الإلهي ذاته لأن القدرة المطلقة قادرة على فعل ما أخبر عنه أنه لا يُفعَل! وهذا طعن للإنسان في العدالة البشرية وقضاء على ما يمكن للإنسان أن يجعله رسالته. وتكون النتيجة في السلوك البشري القضاء على الحياة الإنسانية وعلى كل ما فيها من قيم وإثبات الدكتاتورية والطغيان. ففي الإمكان القضاء على كل شيء في هذا العالم ثم بث روح المذلة والاستكانة والرهبة والخوف. فليس هناك قيمةٌ ثابتة يدافع الإنسان عنها ويركن إليها. ومن ضمن الحلول المتوسطة الجمع بين الإثبات والنفي للمحافظة على القدرة المطلقة والحرية الإنسانية في آنٍ واحد مثل نفي علم قديم بالإرادة ثم إثبات حدوث هذه الإرادة بالفعل.٢٧ ولكن هل ينفي العلم القديم من أجل إثبات الحرية، وهو نقص في عواطف التأليه بالنسبة إلى العلم كما أنه يثبت تدخل الإرادة حتى ولو كانت حادثة؛ وبالتالي تنتفي الحرية؟ ومن نوع الحلول المتوسطة نفسها التفرقة بين إرادتين، إرادة ذات قديمة وإرادة فعل حادثة، أو بين إرادة التكوين وهي شاملة للأشياء جميعًا وإرادة الفعل التي تترك للفعل الإنساني حريته واستقلاله.٢٨ أمَّا الجمع بين النفي والإثبات من أجل تنزيه التأليه عن الشر وإثبات الحرية الإنسانية للشر، فإنه أيضًا يحد من القدرة المعظمة وفي الوقت نفسه ينفي الحرية الإنسانية للخير، ويوزع الخير والشر بين الله والإنسان.٢٩

وتتوالى الحلول المتوسطة إلى أن تصبح أقرب إلى نفي القدرة على فعل القبيح وبالتالي نفي القدرة على الظلم باعتباره المثل الصارخ على القبح. وتصبح الغاية من نفي القدرة على فعل القبيح هو تنزيه الله عن فعل الظلم؛ وبالتالي يبلغ أصل العدل قمته في نفي نقيضه وهو الظلم. فبعد تدخل القدرة الإلهية في مواجهة الفعل الإنساني لإثبات عظمتها وسيطرتها عليه انتقلت إلى العدالة الإنسانية لإثبات قدرتها على قلبها وتغييرها إلى الضد؛ ومِنْ ثَمَّ ظهر السؤال بوضوح: هل يوصف الله بالقدرة على الظلم؟ فإذا كان الرد بالإيجاب تتحول القدرة إلى شبحٍ مخيف يقضي على المبادئ الإنسانية العامة التي تماثل صفات الله المطلقة. تنفرد صفة وهي القدرة تصول وتجول في باقي الصفات كالعدل، وعلى آثار العدل في الحرية الإنسانية مثل العدالة. ويكون الطريق إلى التنزيه هو إثبات القدرة على فعل الضد. ولما كان الضد على الإنسان، فإنه لا يستعصي على القدرة المعظمة. أمَّا الرد بالنفي فإنه حد لهذه القدرة في مواجهة العدل. ويأتي هذا الحد من داخل القدرة ذاتها؛ فهي قدرة تقوم على الحكمة والرحمة والعقل والعلم وتظهر في الطبيعة ولا توجب الحدث. وقد تكون مجرد افتراضٍ نظري أو تمنٍّ يعبر عنه بأداة الشرط «لو»، ثم يصل الأمر إلى نفي القدرة الإلهية علانية حرصًا على العدل الإنساني.

فقد يكون السبب في حد القدرة هي الحكمة استنكافًا من تعبير عدم القدرة وهو أخف من القول بالعجز. وقد تشفع الحكمة بالرحمة كي تصبح حكمةً عملية أو بالعقل لتصبح حكمةً نظرية. فالله يقدر على الظلم ولكنه لا يفعل لحكمته ورحمته، وهما صفتان للذات، ويقدر على الظلم ولكن العقل يدل على أنه لا يفعل.٣٠ وقد يكون قادرًا على ظلم الأطفال والمجانين دون العقلاء. وذلك يعني أن العقل قدرة على مقاومة الظلم والدفاع عن العدل. وهو الضامن للقيم والحارس لحقوق الإنسان. ولا مكان لضعاف العقول ولا للأغبياء في هذا العالم. ومع ذلك فإن هذا التصور لا يجعل العدل صفة ذات بل مجرد صفة فعلٍ متغيرٍ متقلب طبقًا لأحوال الناس، وكأن الله ينتهز الفرصة ليظلم الضعاف والصبية والمجانين ويكذب عليهم؛ وبالتالي يحملهم ما لا طاقة لهم به خاصة وأن مسئولياتهم عن أوضاعهم التي هم عليها محدودة؛ فصغر السن والضعف الجسماني والمرض النفسي يمنع من وقوع الأفعال الواعية الحرة. كما أن ذلك ليس من شيمة العظماء؛ استضعاف الناس والخوف من الأقوياء.٣١ وقد لا يوجد أي حرج في القول صراحة بأن الله لا يقدر على فعل القبيح بالرغم مما في التعبير من نيل من إطلاق القدرة. فقد لا يفعل الله القبيح لعلمه أنه قبيح؛ ومِنْ ثَمَّ فلا يختار فعله على أي وجه. ينفي القبح من أجل العلم. فالله قادر على فعل ما علم أنه يفعله ولا يقدر على فعله ما علم أنه لا يفعله.٣٢ والحقيقة أن ذلك تناقض لأنه كيف يقدر الله على ما لا يعلم؟ إن عدم القدرة يحتاج إلى علم وهو غير موجود. كما أن جعل القدرة تابعة للعلم هو جعل العلم أعلى من القدرة. والصفات متساوية في الإطلاق والشمول. ولا يحل الإشكال إلا بجعل القدرة تابعة للعلم. وفي هذه الحالة تكون القدرة مشروطة، وما دامت مشروطة فهي مقيدة، وفي كل الأحوال يمكن فهم ذلك. فلإنسان مع العلم وكمال العقل لا يفعل القبيح ولا يقع منه التشويه. وفعل القبيح نقص وذم. كما يفعل الإنسان الحسن لذاته كما يفعل الفنان أو الصوفي أو المثالي. هو فعل يتصف به المتطهرون أو من يود الإعلان عن الطهارة بإلصاقها بالذات المشخص ووصف أفعاله من خلالها.
ويرجع السؤال القديم في التوحيد: هل الله قادر على ما علم أنه لا يكون؟ هل يجوز كون ما علم الله أنه لا يكون؟ ويُعاد طرحه هذه المرة في العدل على المستوى الإنساني الخالص: هل الإنسان قادر على ما علم الله أنه لا يكون؟ والرد بالنفي إثبات لعجز الإنسان أمام علم الله وقدرته، وهو المطلوب. في حين أن الرد بالإيجاب إثبات للقدرة الإنسانية على أنها مصدر لتكوين الأشياء.٣٣
والحقيقة أن السؤال يضعه الذهن أمام الشعور حتى يستطيع الشعور أن يجد فرصة لديه للتعبير عن عواطف التأليه، خاصةً إذا كان السؤال حادًّا يسمح بنبرةٍ عالية في الرد. وإذا كان الذهن هنا يعارض القدرة بالعلم فهل تستطيع القدرة أن توجد ما قرر العلم عدم وجوده؟ بالرغم من أن السؤال يحتوي على تناقضٍ داخلي وهو العلم بما لا يكون أو كون ما لا يعلم، وبالرغم من أنه يحتوي على نقص في عواطف التأليه، إذ كيف تكون صفتان مطلقتان مثل القدرة والعلم متعارضتين إلا أن الذهن يقدمه كي يسمح للشعور بالتمرين وإظهار مدى انفعاله بالتأليه. والرد بالإيجاب يثبت عظمة القدرة على حساب العلم على ما في ذلك من نقص في عواطف التأليه بالنسبة إلى العلم. بل تكمن خطورته في تثبيت العقلية الغيبية والإيحاء بأنه يمكن العلم بشيء غير موجود أو إيجاد شيء بلا علم. وهو السؤال نفسه: هل خلاف المعلوم مقدور؟ وقد ينشأ حل متوسط يجمع بين الإثبات والنفي، يثبت القدرة على الإمكانية؛ إمكانية كون ما علم أنه لا يكون ولكنه ينفي وقوع ذلك بالفعل.٣٤
وقد توجد حلولٌ متوسطةٌ أخرى خارج أصلي التوحيد والعدل، والسبق إلى السمعيات أو بالعودة إلى المقدمات النظرية الأولى في الطبيعيات واللغويات. يُقال مثلًا إن الله لو فعل القبيح لجاز أن يبعث رسولًا كاذبًا ويظهر المعجز على يديه ليدعوهم إلى الضلال والكفر. والمعجزة دلالة تصديق.٣٥ وقد يمنع الظلم إذا ما وصلت القدرة إلى الطبيعة والأجسام وأصبحت هذه معراة عن العقول واستحال الوصول إلى الذات من الطبيعة وإلى إثبات وجود الله ابتداءً من العالم على ما هو معروف في نظرية الوجود في المقدمات النظرية.٣٦ فكما أن الحرية الإنسانية قادرة على مقاومة القدرة الإلهية فإن قوانين الطبيعة عليها أقدر. وحتى لو استطاعت القدرة الإلهية فعل الظلم فإن ذلك لا يوجب حدث الأجسام وتظل الأجسام باقيةً ثابتة. وتبلغ قمة مقاومة الطبيعة وإثبات استحالة اختيار الجور في القول بالطباع وبشمول المبادئ الإنسانية من أجل نفي القدرة على الظلم. وإذا دل الدليل على أن الله يظلم فإن الله يظل متعاليًا ليقين أنه لا يظلم.٣٧ وقد يمنع القبح والظلم من أفعال الله لأن السؤال يظل افتراضًا خالصًا. كما أن أداة الشرط «لو» لا تدل على الشك؛ الشك في العدل، بل على اليقين؛ اليقين بعدم الظلم.٣٨ وقد يكون نفي القدرة على الظلم واجبًا دون أن يُقال «لا يقدر»، أي الاعتراف بالظلم دون إصدار حكم على نفي القدرة.٣٩ وفي حالة اليأس تلغى المتاهة العقلية بالتوقف المطلق.٤٠
وقد يأتي الحل الأخير بكل قوة وشجاعة لا خلاف في ذلك بين الأشعري ذاته وبعض المعتزلة والإعلان صراحةً على أن الله لا يقدر على فعل الظلم. إذ لا يجوز أن يوصف الله بالقدرة على الكذب أو الحركة أو الجهل، إمَّا لصفة في القديم أو لصفة ترجع إلى المقدرة أو لبعض الأدلة لاستحالة كون المقدور مقدرًا أو لأن ذلك ينقص أصلًا من أصول التوحيد والعدل.٤١ وقد يكون الدافع لذلك الإيمان وشناعة القول بأن الله يقدر على الظلم والتضحية بالقدرة وبأن الله قادر على كل شيء حتى يصل الأمر إلى افتراض الجبر في الله وتحديد قدرته، وبالتالي ينقلب الجبر في أفعال الإنسان إلى جبر في أفعال الله. وقد يكون الدافع هو التصور الجبري للعالم؛ نظرًا لنظام الكون الثابت على ما هو معروف في علوم الحكمة. وقد يكون الدافع هو إثبات الصفات الذاتية للأشياء وبالتالي يفرض الموضوع نفسه على الإرادة. وبالتالي تكون استحالة القدرة على الظلم دفاعًا عن الإنسان عملًا بصرف النظر عن الحق النظري الواجب للذات المشخص. ويكون الرد على السؤال بالنفي إثباتًا للتنزيه وللصفات المطلقة وعلى رأسها العدل الإلهي كما أنه يحفظ المبادئ الإنسانية العامة وعلى رأسها العدالة دون أن يكون في ذلك إلحاد فلسفي أو كفر مجوسي.٤٢ ومِنْ ثَمَّ يفلت المتكلم أحيانًا من قبضة الإرادة المطلقة ويقضي على اغترابه ويعود إلى العالم ويصبح متكلمًا باسم الإنسان مدافعًا عن عقله وحريته.
١  عند الأشاعرة أجمعت الأمة على أن الله لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب من جهة أنه لا قبح ولا واجب عليه؛ فالله حاكم يحكم فيما يريد (المواقف، ص٣٢٨؛ القول المفيد، ص٥٣؛ حاشية الكلنبوي، ص١٨٥). وهو أنه سبحانه مالك الملك على الإطلاق، وكل من كان مالك الملك على الإطلاق فإنه يتصرف في ملكه، ومن تصرف في ملكه فإنه لا شيء من أفعاله قبيح (المسائل، ص٣٧٦). والدليل على أن كل ما فعله فله فعله أنه المالك القاهر الذي ليس بمملوك ولا فوقه قبيح ولا آمر ولا زاجر ولا ما ظهر ولا من رسم له الرسوم وحدَّ له الحدود. فإذا كان هذا هكذا لم يقبح منه شيء إذا كان الشيء إنما يقبح مِنَّا لأنَّا تجاوزنا ما حدَّ لنا وأتينا ما لم نملك إثباته، فلما لم يكن الباري مملوكًا ولا تحت آمر لم يقبح منه شيء (اللمع، ص١١٧-١١٨). وكذلك ليس ظلمًا خلقه للأفعال التي هي من عباده كفر وظلم وجور؛ لأنه لا آمر عليه ولا ناهي، بل الأمر له والملك له (الفصل، ج٣، ص٨٢-٨٣). ولا يهتدي أحد إلا مَن هَداه الله، ولا يضل أحد إلا من أضله الله، ولا يكون في العالم إلا ما أراد الله كونه من خير أو شر وغير ذلك، وما لم يرد كونه فلا يكون البتة (الفصل، ج٣، ص٧٧-٧٨).
٢  إن الله يجوز في حقه أن يخلق الخير والشر، إن الأمور خيرها وشرها بقضاء وقدر (الكفاية، ص٦٥–٦٨). جواز أن يخلق الله سبحانه الخير والشر (المحصل، ص٢٩–٣٢). في أنه سبحانه لا قبيح في أفعاله ولا يجوز وصفها بأنها قبيحة (المسائل، ص٣٧٣–٣٧٨). الله خالق الخير، هو أيضًا خالق الشر. بل إن القدرة أعم من التأثير والكسب (القول المفيد. ص٣٨-٣٩). مذهب أهل السنة أن الله يجوز عليه خلق الخير والشر خلافًا للمعتزلة في الحسن والقبح وخلق الأفعال (التحفة، ص١٤، شرح عبد السلام، ص١٠٢-١٠٣). وقد قيل شعرًا:
فهو تعالى خالق كل عمل
خيرًا وشرًّا فاجتنب أهل الزلل
(الوسيلة، ص٣٨)
وجائز عليه خلق الشر
والخير كالإسلام وجهل الكفر
(الجوهرة، ص١٤-١٥)
٣  عند أهل الإثبات (الأشاعرة) ينفع له المؤمنين ويضر الكافرين في الحقيقة في دنياهم، وفي ذلك فريقان: (أ) أن لله نعمًا على الكافرين في دنياهم كنحو المال وصحة البدن. (ب) أبى ذلك بعضهم لأن كل ما فعله بالكفار إنما فعله بهم ليكفروا (مقالات، ج٢، ص١٩٥-١٩٦). وعند أهل الإثبات أيضًا عذاب جهنم ضرر وبلاء وشر في الحقيقة، وأن ذلك ليس بخير ولا صلاح ولا منفعة ولا رحمة ولا نظر (مقالات، ج٢، ص١٩٥).
٤  أضافت المجبرة إلى الله كل قبيح (الشرح، ص٣٠١). أضافت القبائح إلى الله من جميع الوجوه (المحيط، ص٢٤٥)، وقالت: إن كون القبيح قبيحًا من الله مستحيل (الشرح، ص٧٠). وقالت: الله غير موصوف بالقدرة على التفرد بالقبيح وإن قدر على أن يجعله كسبًا للعبد؛ وبالتالي ناقضوا حيث أضافوا إلى الله كل قبيح، وعند المجبرة لا يوصف بالقدرة على أن يفعل خلاف ما علم أنه يفعل (الشرح، ص٣١٣). ويبرئ الأشاعرة الله من أن يكون جائرًا سفيهًا فاعلًا للقبيح بالرغم من نسبة كل شيء إليه (الإبانة، ص٤٧–٥٤).
٥  يقول إبليس: إذا خلقني الله وكلفني عمومًا وخصوصًا ولعنني ثم طرقني إلى الجنة وكانت الخصومة بيني وبين آدم، فلم سلطني على أولاده حتى أراهم من حيث لا يرونني وتؤثر فيهم وسوستي ولا تؤثر في حولهم وقدرتهم واستطاعتهم؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو خلقهم على الفطرة دون أن يحيدوا عنها فيعيشون طاهرين سامعين مطيعين، وكان أحرى بهم وأليق بالحكمة؟ سلمت بهذا كله، خلقني وكلفني مطلقًا ومقيدًا وإذا لم أطع لعنني وطردني وإذا أردت دخول الجنة مكنني وطرقني، وإذا عملت عملي أخرجني ثم سلطني على بني آدم فلم إذا استمهلته أمهلني؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو أهلكني في الحال استراح آدم والخلق مني وما بقي شر ما في العالم؟ أليس بقاء العالم على نظام الخير خيرًا من امتزاجه بالشر؟ (الملل، ج١، ص١٥–٢٣).
٦  وذلك مثل: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (٤: ٤٩)، (الإنصاف، ص١٥٢-١٥٣)؛ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (٢: ٢٠٥)، (الإنصاف، ص١٦٢)؛ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ (٢٨: ١٥)، (الإنصاف، ص١٥١-١٥٢)؛ مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ (٦٧: ٣)، (الإنصاف، ص١٥٠-١٥١)؛ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ(٤١:٤٦)، (الإبانة، ص٥١؛ الشرح، ص٣١٥-٣١٦؛ المحيط، ص٢٢٥–٢٤٨)؛ إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ (٤: ٤٠)، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (١٨: ٤٩). وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ (٤٢: ٢٧).
٧  في أنه سبحانه لا قبيح في أفعاله ولا يجوز وصف أفعاله بكونها قبيحة. والدليل عليه أنه منزه عن الشهوة والغضب واللغو في الأفعال، وثبت أنه خالق كل شيء؛ فيلزم ألا يكون شيء من أفعاله قبيحًا لأنه لو كان شيء من أفعاله قبيحًا لوجب ألَّا يخلق الله ذلك الفعل (المسائل، ص٣٧٦).
٨  الكلام في العدل. المقصود أن نبين أنه تعالى لا يفعل إلى الحسن ولا بد من أن يفعل الواجب ولا يتعبد به إلا على وجه معين. ونبين تنزيهه عن القبيح بعد الدلالة على أنه قادر على ما إذا فعله كان قبيحًا وأن القبيح لا يستحيل منه لأمر يرجع إلى أحواله كونه ربًّا مالكًا ناهيًا (التعديل والتجوير، ص٣-٤). في أن الله موصوف بالقدرة على ما لو فعله كان قبيحًا (الشرح، ص١٠٨–٢٩٩).
٩  لا يصح أن نُنزِّه عنه كثيرًا من الأفعال إلا بعد بيان كونها أفعالًا. وذلك يقتضي أن نبين أن الكلام فعله وليس هو من صفات ذاته، وكذلك القول في الإرادة لأنه لا يصح أن ننزهه عن إرادة القبائح لقبحها إلا بعد كونها فعلًا وإبطال قول إنه مريد لنفسه (التعديل والتجوير، ص٤).
١٠  المحيط، ص٢٥٠-٢٥١، ص٢٥٤.
١١  عند المعتزلة: لا يجوز أن يضر الله أحدًا في الحقيقة (مقالات، ج٢، ص١٩٥-١٩٦). وعند المعتزلة إلا عبادًا: يخلق الله الشر الذي هو عرض والسيئات التي هي عقوبات، وهو شر في المجاز وسيئ في المجاز (مقالات، ج١، ص٢٨٧). وعند الجبائي أن الله لا يضر أحدًا في باب الدين ولكنه يضر أبدان الكفار بالعذاب في جهنم بالآلام التي يعاقبهم بها. الله خير بما فعل من الخير لأن من كثر منه الشر قيل له شرير. الأمراض والأسقام ليست بشرٍّ في الحقيقة، وإنما هي شر في المجاز وكذلك جهنم. فاعل الشر شرير. وعذاب جهنم ليس بخير ولا شر في الحقيقة لأن الخير هو النعمة وما للإنسان من منفعة، والشر هو العبث والفساد، وعذاب جهنم فليس بصلاح ولا فساد، وليس برحمة ولا منفعة ولكنه عدل وحكمة (مقالات، ج٢، ص١٩٥). وعند الخمارية الخمر ليست من فعل الله وإنما هي من فعل الخمار لأن الله لا يفعل ما يكون سبب المعصية (الفِرَق، ص٢٧٩). وهذا هو موقف المعتزلة إلا أبا موسى المردار (مقالات، ج٢، ص١٧٦). وهو أيضًا موقف غيلان الدمشقي، فالله يريد أمرًا فلا يكون أو ما يكون ما لا يريد (مقالات، ج٢، ص١٦٧). وقد أنكر عباد أن يخلق الله شيئًا نسميه شرًّا أو سيئةً في الحقيقة (مقالات، ج١، ص٢٨٧). إن الله لم يفعل شرًّا بوجه من الوجوه. ولم يقل إن عذاب جهنم شر في الحقيقة ولا في المجاز، وكذلك قوله في الأمراض والأسقام. وهو يعارض المعتزلة قائلًا: إذا قلتم إن الباري فعل فعلًا هو شر على وجه من الوجود فما أنكرتم أن يكون شريرًا (مقالات، ج٢، ص٢٩٥). وعند الإسكافي: عذاب جهنم خير في الحقيقة ومنفعة وصلاح ورحمة بمعنى أنه نظر لعباده إذ كانوا بعذاب جهنم قد رهبوا من ارتكاب الكفر (مقالات، ج٢، ص١٩٥).
١٢  الشرح، ص٣١٨، ص١٢٩–١٣٢، ص١٥٧–١٧٦؛ المحيط، ص٢٤٨–٢٥٠؛ الشرح، ص٣١٤.
١٣  المحيط، ص٢٤٦، ص٢٦٣؛ التعديل والتجوير، ص١٣٢–١٣٤.
١٤  التعديل والتجوير، ص١٥٧–١٧٦؛ المحيط، ص٢٤٨–٢٥٠؛ الشرح، ص٣١٤.
١٥  التعديل والتجوير، ص٢١٤–٢٣٠.
١٦  الشرح، ص٣١٨–٣٣٢؛ المحيط، ص٢٤٦–٢٥٩.
١٧  المحيط، ص٢٦٠-٢٦١؛ الشرح، ص٣٠٢–٣٠٥؛ التعديل والتجوير، ص١٧٧–١٨٠. في ذكر الدلالة على أنه تعالى قادر على ما إذا وقع كان قبيحًا؛ نفي القبيح عن الله فعلًا. إنما يصح ويمكن بعد أن يكون قادرًا عليه فأمَّا ما لم يقدر على الشيء فنفيه عنه محال (التعديل والتجوير، ص١٢٩). والعجيب أن يكون ذلك هو موقف القاضي عبد الجبار من المعتزلة وهو ما لم يصل إليه الأشعري نفسه، وقد جوز العطوي من أصحاب الأشعري الظلم والكذب وباقي القبائح على الله (الشرح، ص٣١٨-٣١٩؛ المحيط، ص٢٥٤).
١٨  لا يفعل القبيح ولا يختاره ولا يخل بما هو واجب عليه، وأن أفعاله كلها حسنة (الشرح، ص٣٠١).
١٩  وأوجبوا عليه اللطف والثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، وفعل الأصلح للعباد في الدنيا والعوض عن الآلام (المواقف، ص٣٢٨–٣٣٠)، وهذا هو موقف جمهور المعتزلة.
٢٠  الشرح، ص٣١٩-٣٢٠. وهذا هو أيضًا موقف القاضي عبد الجبار.
٢١  هذه هي إحدى مقالات المعتزلة مثل مقالة القاضي عبد الجبار (مقالات، ج١، ص٢٥١-٢٥٢).
٢٢  هذا هو موقف أبو الهذيل إذ يقول إن الله قادر على أن يظلم ويكذب ولكنه محال لأن ذلك نقص والله كامل. الظلم آفة والله ليس بآفة؛ فمحال أن يفعل الظلم (الفِرَق، ص١٩٨–٢٠١). وهو أيضًا موقف محمد بن شبيب. فهو يقدر على الظلم ولكن الظلم آفة والله ليس به آفة (مقالات، ج٢، ص٢١٠). وعند أبي علي وأبي هاشم يوصف بالقدرة على ما لو فعله لكان ظلمًا وكذبًا وأنه لا يفعله لعلمه بقبحه وباستغنائه عن فعله (تعديل والتجوير، ص١٢٨). استحالة القدرة على الظلم لأن الظلم لا يقع إلا من ذي حاجة حاملة على اعتقاده أو جاهل بقبحه. العدل لا يقع إلا لاجتناب منفعة ودفع مضرة والذي يفعله يجب عليه لعلمه بحسنه أو قبحه. وكذلك يجيب أهل السنة بالإثبات ولكن لا يجوز وقوع الظلم لقبحه وغناه عنه وعلمه بغناه عنه والظلم جهل والله عالم (الفِرَق، ص٢٠٠-٢٠١). وعند باقي المعتزلة في البصرة: الله قادر على العدل يجب أن يكون قادرًا على الظلم، والقادر على الصدق يجب أن يكون قادرًا على الكذب وإن لم يفعل الظلم والكذب لقبحهما ولغناه عنهما. ولكن القدرة على شيء هي القدرة على ضده (الفِرَق، ص١٣٤). لو كان قادرًا عليه لصحَّ تقدير وقوعه منه، ولو وقع لدل على جهله وحاجته، وهذا إثبات قدرته على دلالة تدل على جهله وحاجته (المحيط، ص٢٤٨-٢٤٩؛ الشرح، ص٣١٥؛ التعديل والتجوير، ص١٣٥–١٣٧).
٢٣  هذا هو موقف الخياط: الله لا يفعل العدل طباعًا أي مضطرًّا بل باختيار. الله مختار للعدل ومحال أن يختار الجور (الانتصار، ص١٤٢–١٤٥، ص٤٨-٤٩). المطبوع غير المضطر، فالمطبوع مضطر ضرورة طبيعية، والمضطر قادر على الاختيار (الانتصار، ص٢٣–٢٥).
٢٤  يتفق الأشاعرة والمعتزلة على أن الله لا يوصف بالقدرة على التفضل بفعل القبيح (المحيط، ص٢٤٥). ليست أفعال القبيح من فعل الله مباشرةً لسببين: (أ) خلق الله ظلمًا للظالم به، والجور جورًا للجائر، والكذب كذبًا للكاذب. (ب) الظلم والكذب والجور ليس من حيث الصور والفعل بل من حيث مخالفة الأمر (الإنصاف، ص١٥٦-١٥٧). وعند ابن حزم الله لا يفعل الظلم لأنه وضع في نفوسنا تلك المعرفة أي بداهات العقول (الفصل، ص١٦٣-١٦٤).
٢٥  قال قوم من أهل الإثبات: الله قادر على أن يضطر عباده إلى ظلم وجور، ولا جور في العالم ولا ظلم فيه إلا والله فاعل لذلك (مقالات، ج١، ص٢٠٨).
٢٦  جوز بعض الرافضة ذلك (مقالات، ج١، ص١٠٦). وعند البعض الآخر يوصف بالقدرة على أن يظلم ويكذب ولا يظلم ولا يكذب وأنه قادر على ما علمه وأخبر أنه لا يفعله أن يفعله (مقالات، ج١، ص١٣٨-١٣٩). وقال فريق من المعتزلة إنه قادر على الظلم يعني أنه قادر على أن يظلم، وعند البلخي: الله يقدر على العدل وخلافه والظلم وخلافه. وعند محمد بن عيسى ومعمر: الله قادر على الجور. وعند الأشج: الله قادر على الظلم والكذب، ولو ظلم وكذب لكان عدلًا (الفِرَق، ص٢٠٠). وعند أهل السنة الله قادر على الجور؛ فهو قادر على كل مقدور، ولو وقع منه لم يكن ظلمًا منه (الفِرَق، ص٢٠١).
٢٧  هذا هو حل بعض المعتزلة إلا بشرًا وعبادًا. ولم يزل غير مريد لما علم أنه يكون ثم أراده.
٢٨  التقسيم الأوَّل هو حل بشر. فالإرادة لديه ضربان إرادة فعل وإرادة ذات. والثانية غير لائقة بمعاصي خلقه وإن كانت تقع على سائر الأشياء (مقالات، ج٢، ص١٧٦). ويقول بشر: إذا علم حدوث شيء من أفعال العباد ولم يمنع منه فقد أراد حدوثه (الفِرَق، ص١٥٦).
٢٩  هذا هو رأي المفضلية أصحاب فضل القرشي. فالطاعة أرادها الله والمعصية لم يردها (مقالات، ج٢، ص١٧٦).
٣٠  عند أبي الهذيل: لا يقدر على الظلم والجور والكذب وعلى أن يجور ويظلم ويكذب، فلم يفعل ذلك لحكمته ورحمته، ولا يفعلهما أصلًا (مقالات، ج٢، ص٢٠٩). إثبات القدرة واجب ولكن العقل يمنع من وقوع الظلم، يقدر على الظلم ولكن العقول تدل على أنه لا يظلم.
٣١  عند الإسكافي يوصف الله بالقدرة على ظلم الأطفال والمجانين دون العقلاء؛ فجمع بين القولين، يقدر على ظلم من لا عقل له ولا يقدر على ظلم العقلاء (الفِرَق، ص١٦٩-١٧٠، ص٢٠٠؛ الملل، ج١، ص٨٩). دفاع الخياط عنه بأن العقل يمنع من ذلك (الانتصار، ص٩٠).
٣٢  عند الأسواري وأتباعه من المعتزلة أن الله إنما يقدر على أن يفعل ما قد علم أنه يفعله. فأمَّا ما علم أنه لا يفعله أو أخبر عنه نفسه بأنه لا يفعله فإنه لا يقدر على فعله (الفِرَق، ص٣٣٥). وقال إن الله لا يوصف بالقدرة على ما علم أنه لا يفعله ولا على ما أخبر أنه لا يفعله مع أن الإنسان قادر على ذلك لأن قدرة العبد صالحة للضدين. ومن المعلوم أن أحد الضدين واقع في المعلوم أنه سيوجد دون الثاني (الملل، ج١، ص٨٩). وقال: إذا قرن القول بأنه عالم بأن الشيء لا يكون إلا مع القول بأنه يقدر على تكوينه كان ذلك محالًا متناقضًا، فإذا أفرد كل قول من هذين عن صاحبه صح الكلام (التعديل والتجوير، ص١٢٧). وعنده أن الله يوصف بالقدرة على غير ما يفعل وأنه غير قادر على كل شيء مع تقدمه علمه بأنه لا يكون (الفصل. ج٢، ص١٦١-١٦٢). وقال عباد إن ما علم الله أنه يكون يقدر على تكوينه ولا يُقال يقدر على ألَّا يكونه. وما نعلم أنه لا يكون لا يُقال يقدر على أن يكونه، وإن قيل يقدر عليه (التعديل والتجوير، ص١٣٧، ص١٢٧-١٢٨، ص١٨١–٢١٤؛ الأصول، ص٩٤). وأيضًا: (الشرح، ص٣٠٢–٣٠٧؛ المحيط، ص٢٥٤-٢٥٥). وعند المجبرة والحشوية والمرجئة والرافضة لا يوصف بالقدرة على أن يفعل خلاف ما علم أنه يفعل.
٣٣  الرد الأوَّل موقف أهل الإثبات (الأشاعرة)، والثاني موقف المعتزلة (مقالات، ج١، ص٢١٤). الأوَّل موقف أبو الهذيل وجعفر بن حرب (مقالات، ج١، ص٢٥٤–٢٥٦). وكذلك هو موقف عباد والجبائي والأشج بقولهم إن الله قادر على أن يفعل ما علم أنه لا يفعله، ولو فعله كان عالمًا أنه يفعله (الفِرَق، ص٢٠٠). والثاني موقف علي الأسواري ما علم أنه لا يكون لم يكن مقدورًا لله (الفِرَق، ص١٥١). فالله لديه لا يقدر على ما علم أنه لا يفعله أو أخبر بأنه لا يفعله (الفِرَق، ص٢٩٩). وهو أيضًا موقف الجبائي بقوله إن الله لا يسمع الشيء في حال كونه (مقالات، ج٢، ص١٦٢-١٦٣؛ الاقتصاد، ص٤٥-٤٦).
٣٤  هو موقف عباد بن سليمان؛ فالله قادر عليه لا قادر على أنه لا يكون (مقالات، ج٢، ص٢١٢–٢١٤؛ الاقتصاد، ص٤٦-٤٧).
٣٥  انظر الفصل التاسع عن النبوة.
٣٦  انظر الفصل الرابع نظرية الوجود.
٣٧  عند الإسكافي إن قدر الله على فعل الظلم فإن الأجسام بما فيها تدل على أنه لا يظلم. ولو قبح الظلم منه لكانت الأجسام معراة عن العقول التي دلَّت بأنفسها على أنه لا يظلم (التعديل والتجوير، ص١٢٨-١٢٩؛ مقالات، ج٢، ص٢١١). وكان يقول إن الأجسام تدل بما فيها من العقول على النعم وعلى أن الله ليس بظالم (الانتصار، ص٩٠). نفي القدرة على الظلم إثباتًا للطباع (الانتصار، ص١٤٦-١٤٧). والمطبوع غير المضطر؛ المطبوع مضطر ضرورةً طبيعية والمضطر قادر على الاختيار (الانتصار، ص٢٣–٢٥). وعند أبي موسى لو ظلم الله مع وجود الدلائل على أنه لا يظلم لدلَّت إذ ذاك على أنه يظلم والظلم لا يوجب الحدث كما أن العدل لا يوجبه (التعديل والتجوير، ص١٢٨؛ الملل، ج١، ص١٣٩).
٣٨  عند الفوطي وعباد لو قيل: لو فعل الظلم. قال «لو» للشك. ولا يوجد شك في أنه لا يظلم بل للنفي أي إن الله لا يظلم ولا يجور (مقالات، ج٢، ص٢١١).
٣٩  هذا موقف سليمان بن جرير الزبيدي إذ يقول: لا يوصف الله بالقدرة على الظلم ولا يُقال «لا يقدر» (مقالات، ج١، ص١٠٦).
٤٠  هذا هو موقف الجبائي وابنه (الفِرَق، ص٢٠٠).
٤١  العجيب أن الأشعري يعلن عن ذلك صراحة وبوضوح إذ يقول: لا يجوز أن يوصف بالقدرة على أن يكذب كما لا يجوز وصفه بالقدرة على أن يتحرك ويجهل (اللمع، ص١١٧-١١٨). ويعرض القاضي عبد الجبار حججهم التي يتعلقون بها في أربعة أمور: (أ) إمَّا أن يمنعوا من كونه قادرًا على ذلك لصفة في القديم. (ب) أو لصفة ترجع إلى المقدر. (ج) لبعض الأدلة في استحالة كون مقتدر غيره مقدرًا له. (د) أو لأن القول بذلك ينقض أصلًا ثبتت صحته بالدليل (التعديل والتجوير، ص١٣٥). وهو أيضًا رأي جمهور المعتزلة؛ فالله عدل لا يجور، صادق لا يكذب ولا يُخلف الميعاد (التنبيه، ص٣٦). وأشهر المعتزلة في ذلك النظام ورفاقه مثل الأسواري والجاحظ (المحيط، ص٢٤٤). فالله غير موصوف بالقدرة على فعل ما لو فعله لكان قبيحًا (الشرح، ٣١٣). والله لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي. ليست هي مقدورة للباري، خلافًا لأصحابه؛ فإنهم قضوا بأنه قادر عليها لكنه لا يفعلها لأنها قبيحة. إنما أخذ هذه المسألة من قدماء الفلاسفة حين قضوا بأن الجواد لا يجوز أن يدخر شيئًا لا يفعله فيما أبدعه وأوجده هو المقدور ولو كان في علمه ومقدوره ما هو أحسن وأكمل مما أبدعه نظامًا وترتيبًا وجلالًا لفعل (الملل، ج١، ص٨٠–٨٢؛ التعديل والتجوير، ص١٤١). وعند النظام: الله قادر على غير ما يفعل ولا يقدر على الظلم والجور أو اتخاذ الولد أو إظهار معجزة على يد كذاب أو المحال أو نسخ التوحيد (الفصل، ج٢، ص١٦١-١٦٢). وعند أبي موسى المردار: الظلم قبح على الإنسان والأولى على الله، وإلا لكان ظالمًا بدلائل الظلم. وعن هشام الفوطي أن «لو» تعني الشك والله لا يظلم. لو قدر عليه لم ندرِ لعله قد جاء وكذب فيما مضى أو يجوز أن يجور ويكذب في المستقبل أو جار في بعض أطراف الأرض ولم يكن لنا من أمان إلا من جهة حسن الظن به ولا دليل يؤمننا من وقوع ذلك منه (الفِرَق، ص١٩٩). وعند عباد بن سليمان تلميذ الفوطي: لا يقدر الله على غير ما فعل من الصلاح. وكان يقول إن الله لا يقدر على أن يخلق غير ما خلق وأنه لم يخلق المجاعة ولا القحط. لم يأمر الكفار قط بأن يؤمنوا في حال كفرهم ولا نهى المؤمنين قط في حال إيمانهم لأنه لا يقدر أحد قط على الجمع بين الفعلين المتضادين، المحاباة ظلم وجور (الملل، ج٣، ص٧٨). وعند النجارية: لا يجوز على الله الكذب الذي يدل على الجهل والحاجة أو لأنه قبيح والله لا يوصف على التفرد بالقبيح ولا يجوز عليه الكذب لأنه صادق (الشرح، ص٣١٨؛ المحيط، ص٢٥٤). الله غير موصوف بالقدرة على القبح (الشرح، ص٣٢٢-٣٢٣). وعند أحمد بن سلمة الكوشاني من أصحاب أبي الحسن النجار أنه لا يزعم أن الباري يفعل الجور (مقالات، ج٢، ص١٩٨). وعند البلخي وطوائفَ أخرى من المعتزلة: الله قادر على غير ما فعل، وعلى الجور والظلم، ولكنه لا يقدر على المحال أي أن يكون الشيء موجودًا ومعدومًا وقائمًا وقاعدًا معًا (الفصل، ج٢، ص١٦١-١٦٢). كما أنكرت الخوارج أن يوصف الله بالقدرة على الظلم (مقالات، ج١، ص١٨٩؛ الانتصار، ص٢١). وهو أيضًا موقف بعض الرافضة والمرجئة (مقالات، ج١، ص١٠٦؛ الانتصار، ص١٨). وموقف المجبرة وهشام بن الحكم (الانتصار، ص٤٩).
٤٢  هذا هو اتهام الأشاعرة للمعتزلة بأنهم مجوس؛ إذ يقول الأشعري: للرد على المعتزلة: يُقال لهم: أليس المجوس أثبتوا أن الشيطان يقدر على الشر الذي لا يقدر عز وجل عليه فكانوا بقولهم هذا كافرين؟ … فإذا كان الكافرون يقدرون على الكفر والله لا يقدر عليه فقد زادوا على المجوس؛ لأنهم يقولون إن الشيطان يقدر على الشر والله لا يقدر عليه. هذا ما يبينه الخبر عن رسول الله … وإنما صاروا مجوس هذه الأمة لأنهم قالوا بقول المجوس (الإبانة، ص٥٤).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤