تاسعًا: العوض عن الآلام

إذا كان الله منزَّهًا عن القبائح والشرور والآثام، فإذا حدث شيء منها فإنها تكون أصلح للعباد. وإن لم يمكن فهمها بالأصلح فقد تكون لطفًا من الله. وإن صعب الاقتناع بها فقد تكون عن استحقاق. وإن لم تكن عن استحقاق فيجب التعويض عنها حتى يتم أصل العدل وينتفي الجور؛ فالظلم كله ضرر لا نفع فيه. ومن حق الظلم أن يكون قبيحًا. ويقبح الضرر لأنه عبث وإن لم يكن ظلمًا. فإذا ما حسن الضرر يخرج عن كونه ظلمًا أو عبثًا. وقد يحسن للنفع. قد يكون النفع دون المضرة أو مساويًا لها أو زائدًا عليها بشبهة، أو زائدًا عليها بلا شبهة. وكذلك لا يقبح الألم لأنه ضرر بل قد يحسن لدفع ضررٍ أعظم منه. والعباد يقدرون على الآلام ولا ينفرون منها بل يقبلونها عن طيب خاطر ما دام فيها نفعٌ أعظم وخير أقصى.١ ولا يوجد من ينكر الآلام ولكن يقع الخلاف في كيفية إثباتها وعلى أي مستوًى. هل هي آلام عن استحقاق أو عن عوض؟ هل هي آلام للأطفال والبهائم أم آلام للبشر فحسب؟ ولا يمكن الاحتجاج بالآلام على نفي الصانع بحجة أنه لو كان للعالم صانعٌ حكيم لما آلم من لا ذنب له لأن الآلام لا تكون إلا عن استحقاق أو عوض دفاعًا عن وجود الصانع وحكمته.٢ ولا يمكن قبول الآلام بلا استحقاق أو عوض؛ لأنها مستحَقة من فاعلها وهو الله، كما هو الحال في عقيدة الجبر لأن الآلام نتيجة للحرية والعقل، تتولد منهما، وتوجد في أصل العدل بعد أن انبثق من أصل التوحيد.٣
والآلام إنسانيةٌ خالصة تعبر عن نتيجة الفعل وبذل الجهد وليس شرًّا كونيًّا أو كارثةً طبيعيةً مستقلةً عن فعل الإنسان المتعين، حريةً وعقلًا، إرادةً وإدراكًا. إن إثبات وجودٍ موضوعي للشر والخير معًا وقوع في ثنائيةٍ كونية ونقل للعالم الشعوري إلى العالم الطبيعي كما هو الحال في النظرية الكونية للبشر. وقد يبلغ حد التشخيص إلى اعتبار الآلام هي النور في مقابل الظلمة؛ مما يكشف عن الجانب الإنساني الذي يظهر في الصورة الفنية، ويؤدي إلى القول بفاعلَين متساويَين في القوة؛ وبالتالي إلى الوقوع في الثنائية فتنتهي الوحدانية. الآلام الكونية سوداوية وإثبات للشر الأنطولوجي في نسيج الكون، واقفًا للحرية بالمرصاد ومنازعًا طبيعة الإنسان نحو الخير، وبراءة الأشياء وطهارة النفس. ولا يعني إثبات الحسن والقبح كصفتَين ذاتيتَين للأفعال أي إثبات للآلام الكونية؛ فالقبح ليس في الكون والظلم ليس في الطبيعة بل القبح في الأفعال الإنسانية، وفي كيفية ممارسة الحرية وإعمال العقل. قبح الآلام لنفور الطبع منها وكراهة النفس لها إن لم تكن عن استحقاق أو عن عوض.٤ ليست الآلام فعلًا للطبيعة في مقابل فعل الله بل نتيجة لأفعال الإنسان الحرة العاقلة.٥ يمكن التحقق من الآلام بالإحساس أو الإدراك. ولا يعني ذلك مجرد انطباعاتٍ حسيةٍ نابعة من الاجتماع والافتراق للجزئيات العضوية بل إدراك وجودي يهز المشاعر. والآلام أيضًا معاني يدركها العقل ولكنها ليست معاني مجردة، بل معانٍ قائمة بالنفس تهز الوجدان وتبعث على الفرح إذا كان إيلام الغير عن استحقاق أو على الحزن إن كان عن عوض. ليس الإدراك ذاتيًّا يختلف من فرد إلى فرد بل هو إدراكٌ عامٌّ موضوعي يعبر عن الطبع، نفوره واشمئزازه، استحسانه واستهجانه. فالعادة والطبع والإحساس البديهي، كل ذلك يثبت الآلام نتيجة للأفعال الإنسانية الحرة العاقلة. مستوى تحليل الآلام إذن أهم من تحليل الآلام ذاتها. فالألم ليس ظاهرةً ماديةً كونيةً مستقلة عن فعل الإنسان الحر العاقل، وليس مجرد معنًى عقلي مجرد لا يهز المشاعر والوجدان بل هو إدراك نفس وفهم معنًى ورؤية واقع واستبصار تاريخ.٦

(١) هل هناك آلام بلا استحقاق؟

ليست المسألة قدرة الله على فعل الآلام. فالموضوع ليس القدرة كصفة للذات في أصل التوحيد بل هي الآلام عن استحقاق أو غير استحقاق كموضوع في أصل العدل. صحيح أن الله فاعل كل شيء وقادر على كل شيء في أصل التوحيد، ولكن في أصل العدل تبرز الآلام كشر في العالم، والله منزَّه عن الشرور والقبائح. إن تبرير الشر في العالم بمجرد خضوع الإنسان لقدرةٍ مشخصة هو تخلٍّ عن مآسي الإنسان وإخضاعه لقوى الشر والعدوان. ولا تقع الآلام ابتداءً من واقع التكليف؛ فالتكليف نعمة قبل أن يكون نقمة، وفرح قبل أن يكون حزنًا، وسرور قبل أن يكون غمًّا، وانطلاق قبل أن يكون همًّا.٧ لذلك تكون الآلام للاستحقاق أو للموعظة. للفعل الأوَّل كنتيجة له أو للفعل الثاني كمانع منه. وتحدث الآلام بالرضا والموافقة طبقًا للعقل والفهم. هي تجربة بديهية لتحمل المشاق جلبًا لمنافع وخير أعظم. لذلك كان حسن التكليف منوطًا بالثواب،٨ ويكون الاستحقاق في الدنيا حاضرًا ومستقبلًا، في حياة الإنسان المباشرة أو في امتدادها عند الآخرين.٩ ويكفي أن يكون الاستحقاق في هذه الدنيا حاضرًا أو مستقبلًا دون تفضيل في أنواع الآلام وكيفية حدوثها. وأن حدوث الآلام عن طريق «تناسخ الأرواح» مجرد صورةٍ فنية على أن الحياة امتحان وابتلاء وتكليف، وأن الحياة مستمرة إلى الأبد في دوراتٍ متعاقبة لا فرق بين حياة الإنسان في الحاضر وفي المستقبل، بين عشيرته الأقربين وفي الحضارة والتاريخ. كما تكشف عن أن الثواب والعقاب نتيجة للأفعال وأن الاستحقاق هو قانون العدل، وأن الحياة قيمةٌ واحدة لا فرق بين الإنسان والحيوان إلا تفاوت المراتب في الحسِّ والعقل والوعي.١٠ وقد تكون الآلام موعظة وعبرة. ولكن يظل الإشكال: عظة وعبرة لمن؛ للذات أو للآخر؟ فإن كان للذات فهذا هو التعلم عن طريق المحاولة والخطأ فالحياة امتحان، وإن كان للآخر فلماذا تكون آلام البعض عظة للآخرين فيستفيد الآخر على حساب الذات؟ يمكن ذلك ضمن تجارب البشر الجماعية التي يكون الإنسان جزءًا منها وليس مجرد متفرج على مآسي الآخرين. المهم أن تكون العبرة للبشر، للذات أو للآخر، وليس تبريرًا للآلام في العالم دفاعًا عن إرادةٍ مشخصة ضد وجود الإنسان وحياته وحقه في أن يؤسسها على الحرية والعقل.١١

(٢) هل هناك آلام بلا عوض؟

فإذا لم تكن الآلام عن استحقاق فإنها تكون ضرورة بالعوض. فالله لا يتفضل بالآلام ولا يبدأ الشر. الآلام نتيجة للأفعال وليست مقدمة لها. ولماذا لا يجوز العوض على مالك كل شيء؟ بل إن ذلك أوفى للعوض. فالمالك لكل شيء قادر على البذل والاستبدال في ملكه. وهل مالك كل شيء حر التصرف في ملكه دون قانون؟ وهل من سمات الملك الإضرار بالمملوك أم نفعه؟ إن وجوب العوض في العالم ليس تقييدًا للقدرة المشخصة بقدر ما هو فهم للعالم وإحكام لوقائعه، بل إن الشريعة نفسها تقوم على العوض. فالتائب الذي أقيم عليه الحد له عوض عند الله إن لم يكن له عوض عند الإمام. وعلى هذا النحو يتصل التوحيد بالفقه، والعقيدة بالشريعة، وتعود إلى علم الأصول وحدته، أصول الدين وأصول الفقه. ولا يرجع العوض إلى التفضل ابتداءً، بل إلى معنًى وحكمة، وهو رضاء النفس وثقتها بالفعل وتصديقها لقوانين العدل والاستحقاق. فكما لا تقع الآلام ابتداءً فكذلك لا تقع الأعواض ابتداءً.١٢ ولا تفعل الآلام من أجل العوض ابتداءً لأن الآلام نتيجة الفعل والجهد وليس وسيلة للحصول على العوض. وإلا كان الإنسان كمن يسبب الألم لنفسه أو يقطع أصبعه أو يده ابتداءً بلا مبرر كي يحصل على العوض. فالآلام نتيجة الأفعال والتعويض عنها تأكيد على الأفعال. فكل شيء له معنى ولا يوجد عوض كمجرد تعويضٍ قانونيٍّ صوري عن خسارةٍ مادية بلا فعل أو جهد.١٣ لا يعني التعويض تبادل منافع أو إيجاد ميزان بين مكسب وخسارة، بل يعني التخلي عن لذة في سبيل سعادة أو عن نفع أقل في سبيل نفعٍ أكثر. لا يعني العوض مساواةً كمية بين مقدار الألم ومقدار العوض من حاسبٍ ماهر يملك كل شيء ويقدر على كل شيء، بل العوض هو النتيجة الإيجابية للألم إمَّا لبذل الجهد من جديد أو لتعميق الوعي أو لمعرفة الأخطار أو لكسب الزمان.١٤
يثبت العوض إذن عن الآلام إن غاب الاستحقاق حتى يستطيع الإنسان أن يعيش في عالم يحكمه القانون ويدركه العقل دفاعًا عن حقوقه ضد مظاهر الظلم والطغيان. تقع الآلام إمَّا للنفس أو للغير. وتكون حسنة إذا كانت عن استحقاق أو عوض، وقبيحة إن لم تكن عن استحقاق أو عوض. في الحالة الأولى يكون العدل، وفي الثانية يكون الظلم.١٥ يصح الألم للنفع وإلا وجب العوض. وتصح الآلام استحقاقًا أو امتحانًا، الأولى للعقوبة والثانية لتقوية النفس وشحذ العزيمة.١٦ وقد يقع العوض من الله إلى الإنسان إذا ما ابتدأ بالآلام؛ فيحدث العوض في الحال أو في المآل، في الدنيا وفي الآخرة، انتصافًا للمظلوم من الظالم.١٧ وقد يقع العوض من الإنسان إلى الإنسان في الحال أو في المآل، فتجب عليه الكفارة والدية. وذلك يدل على أن مفهوم العوض فقهيٌّ خالص، أي إنسانيٌّ صرف، يفرض نفسه على العقيدة وكأن أصول الفقه هو أساس أصول الدين، وكأن الشريعة تفرض نفسها على العقيدة، وكأن العمل يفرض نفسه على النظر.١٨ يكون العوض إذن جزاء عن ألم سببه الله للإنسان أو يكون العوض جزاء ألم سببه الإنسان للإنسان، وذلك بأخذ حسنات منه، فإن لم تكن له حسنات فترفع منه السيئات بما يوازي الحسنات. وقد يثير هذا العوض عدة إشكالات، منها: هل يكون العوض في الدنيا أم في «الآخرة»؟ وتسهل الإجابة عليه بأن العوض يكون في الدنيا لأن الآخرة لم تثبت بعدُ لأنها من السمعيات، وما زلنا في العقليات في أصلَي التوحيد والعدل. ولكن استباقًا يمكن في «الآخرة» قياسًا للغائب على الشاهد. ومنها أيضًا أن العوض لا يحبط بالذنوب كالثواب لأنه عوض عن آلام إلا في الحساب الكلي بناءً على رغبة الإنسان في التنازل عنه في «الآخرة». ومنها أن العوض لاحق للآلام وليس سابقًا عليها؛ فلا يعطى ابتداءً. لا يؤلم الإنسان ليعوض بل يحدث الألم لا عن قصد كنتيجةٍ طبيعية للفعل القصدي.١٩ وقد يتفضل حساب العوض كمًّا طبقًا للزمان، أي مدة الألم وشدته ونوعه. فالعوض المنقطع هو العوض المرئي المباشر نتيجة للجهد، في مقابل العوض الدائم الذي ينتج عن مصير حياة بأسرها. ويدل على ذلك النظر إلى العوض في الشاهد.٢٠ وقد يكون العوض على أبعاض الأجسام مثل اليد والرجل بين المؤمن والكافر.٢١ وقد يصبح العوض ماديًّا صرفًا وليس معنويًّا فحسب، في الأشياء وليس في الأفعال، ويتحول الأمر كله إلى فقه، ويتحول العوض إلى تعويض، وله مدة إمَّا انتظارًا أو فوريًّا وكأنه تعويضٌ قانوني عن أضرار في حادثة طريق.٢٢ وهو تصورٌ قانوني للعدل، حسابي كمي لا مكان فيه للأعذار أو العفو، مجرد علاقة بين طرفَين، ما يجب عليه التعويض وما يجب له التعويض، علاقة بين المكلِّف والمكلَّف وكيفية إيصال العوض ومقداره.٢٣ صحيح أن العوض يعني انتصار الخير في النهاية، وتطابق نتائج الأفعال مع مقدماتها، وأنه لا مكان للظلم في العالم، وأن البريء المظلوم ينال براءته، والظالم المذنب ينال عقوبته. إنما المهم أن يأتي التعويض من داخل الفعل وبنيته وتكوينه في الفرد وفي الجماعة وفي التاريخ وليس من خارجه تشخيصًا له واعتمادًا على قدرةٍ مشخصة أكبر خارج التاريخ. والمهم أيضًا ألا ينتهي العوض كما هو الحال في الصلاح والأصلح واللطف والألطاف إلى قبول الآلام وتبرير الشر على أمل العوض في الحال أو في المآل ويطول الانتظار، وعمر الإنسان في النهاية أقصر بكثير من عمر التاريخ، فيموت حسرةً مع إيمانٍ قوي بعدالة السماء التي لم تتحقق بعدُ في حياته على الأرض.

(٣) هل يمكن إيلام الأطفال؟

ليس الموضوع هو إثبات قدرة الله، فالله قادر على كل شيء، ولكن الموضوع هو العدل، أي مصالح العباد ضد الظلم والجور والفساد. فقد انبثق العدل من التوحيد وخرج الإنسان المتعين من الإنسان الكامل. وحتى لو كان الأمر يتعلق بقدرة الله، فهل تثبت ابتداءً من إيلام الأطفال وهم لا يقدرون على شيء؟ وهل يتساوى الطرفان: الله والطفل؟٢٤ وإثبات آلام الأطفال موضوع لعلوم الجسم أو علم النفس أو التربية وليس موضوعًا لاهوتيًّا تأمليًّا إذا كان المقصود إثبات الآلام على المستوى الطبيعي النفسي الجسمي. وحتى في هذا المستوى، لا يخلو الأمر من إسقاط الإنسان وإحساسه بالألم على الأطفال. فالإسقاط قائم سواء على المستوى اللاهوتي أو على المستوى الطبيعي، وكأن الآلام لا يمكن أن تدرَك إلا على المستوى الإنساني. بل ويتدخل المستوى اللاهوتي في المستوى الطبيعي حتى لا تكون الآلام بفعل الخلقة والطبع وتقوم على الأسباب والمسببات.٢٥ وقد يكون نفي الآلام رد فعل طبيعي لإثبات العدل. فالأطفال لا تتألم لأن الألم عقاب، وعقاب الأطفال ظلم ما داموا ليسوا مكلفين. التكليف مشروط بالعقل والبلوغ، والأطفال والمجانين دون ذلك، بل قد تتحول آلام الأطفال إلى لذات من فرط العدل.٢٦ والحقيقة أنه لا يجوز إيلام الأطفال؛ فهم تحت سن البلوغ، والبلوغ شرط التكليف. فكيف يحاسب الطفل وهو لم يصل بعدُ إلى مرحلة البلوغ؟ كيف يكون مسئولًا عن نفسه وعن غيره وهو ما زال دون حرية الاختيار؟ إن الآلام لا تكون إلا عن استحقاق، والأطفال لا يستحقون الآلام لأنها نتيجة الأفعال الحرة العاقلة، وأفعال الأطفال ليست كذلك. ولا فرق في ذلك بين أطفال المؤمنين وأطفال الكافرين. وأين تكافؤ الفرص والمساواة في العدل بين طفل المؤمن وطفل الكافر حين يُثاب الأوَّل بطاعة آبائه ويُعاقَب الثاني بعصيان آبائه؟ أليس ذلك ضد المسئولية الفردية والتكليف الفردي؟ وماذا لو قال طفل الكافر كما هو الحال في قصة الإخوة الثلاثة لو كنت عشت لكنت قد آمنت. وما الضامن إذا ما عاش طفل المؤمن ألا يكفر؟٢٧
لا يؤخذ الطفل إذن بجريرة أبيه: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٨١: ٨-٩). وكيف يمكن إيلام الأطفال موعظةً لآبائهم؟ ولماذا يتألم الأطفال ويتعظ الآباء؟ وهل موعظة الآباء لا بد أن تكون على حساب أطفالهم؟ وهل يتعظ الآباء بعذاب أطفالهم أم يتألمون لآلامهم، ويكفرون إذا كانت آلامهم بغير جريرة أو ذنب؟٢٨ وكيف تكون آلام الأطفال عبرة للبالغين؟ هم يتألمون وغيرهم يعتبرون! وهل يكون الطفل عبرة للبالغ ولا يكون البالغ عبرة للبالغ؟ وكيف يتوب الأطفال وكيف يتألمون ليُثاب الآباء؟ وكيف يوضع الأطفال في النار وكأن الله يفرح بآلامهم؟ ويتحول المطلق إلى صادي كبير ينعم بعذاب الآخرين، أو إلى متسلِّط قاهر يفعل بلا قانون باسم السلطة المطلقة، تفعل الشرور في العالم، ونجد في ذلك حكمة بالغة!٢٩ مع أن صورة الأطفال في الآداب الشعبية نموذج البراءة والصدق والطهارة والخير الفطري. وتلك أيضًا صورتهم في النقل أنهم مع الأنبياء في الجنة. وقد كان الأنبياء يحبون الأطفال، يلعبون معهم، ويرون فيهم الإيمان الطبيعي. بل إن علاقة الله بالإنسان تصور دائمًا على أنها علاقة الأم بطفلها، علاقة حنان وعطف ورعاية وحب. وطالما افتدى الآباء أطفالهم منعًا لهم من الإيلام والإيذاء. فالأطفال كلهم في الجنة، لا فرق بين أطفال المؤمنين وأطفال المشركين.٣٠ وإذا ما تألم الأطفال يجب لهم العوض. ولكن مهما كان من عوض، هل يجازي العوض عن الآلام؟ وأيهما أفضل: آلام بعوض أو لا آلام على الإطلاق؟٣١ وكيف تكون روح الأطفال عقابًا لأرواح الكبار إذا ما تناسخت الأرواح؟ إنه لنعيم أن تتحول روح الظالم إلى روح طفل، فلربما أدرك براءة الأطفال.٣٢

(٤) هل يجوز إيلام البهائم؟

ولما كان الإيلام واقعًا على كل كائن حي لنفور الطبع منه، فإن الإيلام يمتد من الإنسان بالغًا كان أم طفلًا إلى الحيوان. وكما صعب تحديد إيلام الأطفال دون إسقاطٍ إنساني، فالأصعب تحديد إيلام الحيوان دون إسقاطٍ إنساني كذلك. والمواقف واحدة. فكما يجوز إيلام الأطفال بلا استحقاق أو عوض لأن الله مالك كل شيء ولا يجب عليه شيء، فالأَولى جواز إيلام الحيوان بلا استحقاق أو عوض لنفس السبب.٣٣ ولا توجد أعواض ابتداءً عن كون الحيوان حيوانًا وعدم كونه إنسانًا؛ لأن الأعواض نتيجة للآلام وليست سابقة عليها. وإن اعتراض الحيوان على وضعه كحيوان وتفضيل وضع الإنسان يفترض وعيًا وعقلًا وحريةً، وهو ما لا يتوافر في الحيوان. ولما كان الإسقاط الإنساني هو أساس الإدراك، فيستحيل إيلام الحيوان بلا استحقاق أو عوض بصرف النظر عن كمال العقل وشرط التكليف.٣٤ وهي نظرةٌ إنسانيةٌ عادلة تسقط على الحيوان وتفيد الرفق بالحيوان، وهو توجُّه شرعي. وقد يبلغ تقديس الحياة والرسالة والعدل إلى درجة اعتبار كل شيء حي حتى الجماد وكأنه مكلف يستحق الثواب والعقاب.٣٥ ومع ذلك يظل التكليف إنسانيًّا خالصًا، مشروطًا بالحرية والعقل. بل يكون كل شيء في الطبيعة بما في ذلك الحيوان مسخَّرًا للإنسان؛ لذلك جاز ذبح الحيوان وركوبه كما أباحت الشريعة. وإدراكًا لهذا الإسقاط وتفاديًا له قد يثبت الإيلام دون حسن أو قبح مثل آلام الدواء والعلاج بالرغم من كون ذلك نافعًا، وبالتالي يكون حسنًا.٣٦
ويثير تعويض البهائم عن الآلام عدة مسائل عن كيفية العوض ومدته. هل يتم ذلك في الحال أم في المآل، في الدنيا أم في «الآخرة»؟ وهل يتم العوض عن طريق اقتصاص الحيوان بعضه من البعض الآخر؟ وهل يدوم عوضها أم ينقطع؟٣٧ وهنا تبرز نظرية التناسخ من جديد لجعل العوض في هذه الدنيا إيثارًا لعقاب الحال على عقاب المآل، وتنفيذًا للاستحقاق والعوض في التاريخ.٣٨
١  اللطف، ص٢٧١–٣٦٥. العدل يُراد به الفعل أو الفاعل وهو توفير حق الغير واستيفاء الحق منه. كل فعل يفعله الفاعل لينتفع به الغير أو ليضره. ومنه الاصطلاح أن أفعاله كلها حسنة وأنه لا يفعل القبيح ولا يخلُّ به بما هو واجب عليه (الشرح، ص١٣١-١٣٢).
٢  هذا هو موقف الدهرية (الأصول، ص٢٤٠-٢٤١). لو كان لهذا العالم صانعٌ حكيم لا يحسن منه خلق هذه السباع الضارية الخبيثة والصور القبيحة المستنكرة، وفي علمنا بوجود هذه الأشياء دليل على أنه لا صانع لها (الشرح، ص٥٠٥–٥٠٧؛ اللطف، ص٢٢٧).
٣  الآلام يعتبر حسنها وقبحها بحال فاعلها. فإن كان فاعلها القديم يحسن منه سواء كان ظلمًا أو اعتبارًا، وإن كان فاعلها الواحد مِنَّا لا يحسن. واعتلُّوا لذلك بأنه تعالى مالك، وللمالك أن يفعل في ملكه ما يشاء (الشرح، ص٤٨٣–٤٨٥). والمجبرة تقول إن هذه الصور مع أنها قبيحة حسن من الله خلقها؛ فيجب أن تحسن من سائر القبائح (اللطف، ص٢٨٢، ص٣٠٢-٣٠٣).
٤  فصل في الآلام. اعلم أن للجهل بوجه حسن الآلام وقبحها ضل كثير من الناس، واعتقد بعضهم أن الآلام قبيحة كلها والملاذَّ حسنة كلها، فأثبتوا لذلك فاعلَين لما اعتقدوا أن الفاعل الواحد لا يجوز أن يكون فاعلًا لها جميعًا وهم الثنوية (الشرح، ص٤٨٣). قالت الثنوية إن الآلام كلها قبيحة لنفور طبعها (الشرح، ص٤٨٥). من الناس من ذهب في الآلام والغموم إلى أنهما يقبحان لذاتهما ونفسهما وأنه محال وجودهما إلا قبيحين. وهذه طريقة الثنوية، ومن نحا نحوها (اللطف، ص٢٢٦)، في أن الألم لا يقبح من حيث كان ألمًا كما يحكى عن الثنوية (اللطف، ص٣٥٥، ص٢٧٩–٢٩٢). من صار من الثنوية إلى أن الآلام والأوجاع والغموم منسوبة إلى الظلمة من دون النور (النهاية، ص٤١٠؛ اللطف، ص٢٩٢، ص٣٠١، ص٣٣٦، ص٣٦٦).
٥  هذا هو موقف معمر والجاحظ. الآلام فعل الطبيعة لا فعل الله (الفصل، ج٣، ص٨٨-٨٩).
٦  الألم ليس وهمًا بل موجود بالفعل يشعر به كل فرد ومِنْ ثَمَّ فإن إيلام النفس مضاد للطبيعة وإيلام الغير إلحاق ضرر به إلا إذا كان عن استحقاق أو عوض. يتقبل الإنسان الألم عن طيبة خاطر في سبيل خيرٍ أعظمَ أو لو كان ألم الخصم مساويًا. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ (٣: ١٤٠)، الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ (٣: ١٧٢).
٧  يثبت الأشاعرة الله فاعلًا للآلام؛ إذ يصح منه تعالى أن يفعل الآلام وأنها قد تحدث من فعله توليدًا أو مبتدأ نفس الفعل أو جنس الفعل. فالآلام لا تقع من الله على وجه تقبح عليه. ويشترك مع الأشاعرة القاضي عبد الجبار (اللطف، ص٣٦٦–٣٦٨). الآلام على مذهب الأشعري لا تقع مقدورة لغير الله. وإذا وقعت كان حكمها الحسن سواء وقعت ابتداءً أو وقعت جزاءً من غير تقدير سبق استحقاق عليها ولا تقدير جلب نفع ولا دفع ضرر أعظم منها، بل المالك متصرف في ملكه كما يشاء سواء كان المملوك بريًّا أو لم يكن بريًّا (النهاية، ص٤١٠). هو مالك يفعل ما يشاء! (اللطف، ص٣٩٧). والتكليف عند الأشاعرة إنما يحسن ممن لو ابتدأ بالألم لحسن منه، ومن قبح منه الابتداء بالألم من غير استحقاق فليس له تكليف غيره شيئًا إلا أن يكون الله قد أمر بتكليف غيره (الأصول، ص٢٠٩). الآلام والملذات لا تقع مقدورة لغير الله. فإذا وقعت من فعل الله فهي منه حسن سواء وقعت ابتداءً أو حدثت منه فسميت جزاءً. ولا حاجة عند أهل الحق في تقديرها حسنة إلى تقدير سبق استحقاق عليه أو استيجاز التزام أعواض عليها أو روح أو دفع ضر موفين عليها، بل ما وقع منهما، فهو من الله حسن لا يعترض عليه في حكمه. واضطربت الآراء على من يلتزم تفويض الأمور إلى الله (الإرشاد، ص٢٧٣).
٨  وهذا هو موقف جمهور المعتزلة. فيبطل القاضي عبد الجبار القول بأن الأمراض والأسقام في دار الدنيا إنما يفعلها الله للاستحقاق بل قد تحدث للنفع (اللطف، ص٤٣٥–٤٥٥). اختلفت المعتزلة في اللذة والألم. منهم من جوَّز وقوع الألم تقوم اللذة في الصلاح مقامه، ومنهم من منع ذلك (مقالات، ج١، ص٢٨٨-٢٨٩). عند المعتزلة حسن التكليف منوط للتعرض للثواب. وأنكروا ابتداء الله بالآلام (الأصول، ص٢٠٩). ليأتي المكلف به أمر به فيثيبه عليه ويعوضه عما فات عليه. ويكون الْتذاذ المكلف بالثواب والعوض المترتبَين على فعله أكثر من الْتذاذه بنفس التفضل والكرم (النهاية، ص٤٠٣-٤٠٤). النفع والضرر للاستحقاق (الشرح، ص٤٩٤). يحسن في عادات الناس العقلاء التزام المشقات لتوقع منافعَ زائدة (الإرشاد، ص٢٧٧-٢٧٨؛ الغاية، ص٢٢٥؛ الشرح، ص٤٩١-٤٩٢؛ اللطف، ص٢٢٧–٢٢٩). في أنه لا يحسن منه تعالى أن يفعل الألم لدفع ضرر أعظم منه أو للظن وإنما يفعله للنفع أو للاستحقاق (اللطف، ص٣٦٩–٣٧٦). في أنه يحسن منه فعل الآلام للنفع كما يحسن للاستحقاق (اللطف، ص٣٧٧–٣٨٠). في أن الضرر قد يحسن لكونه مستحقًّا ويخرج بذلك من كونه ظلمًا (اللطف، ص٣٤٤–٣٤٧؛ الشرح، ص٤٨٦-٤٨٧). استقباح الآلام من غير سبق جناية مما يأباه العقل. وإذا اضطر إليه رام الخلاص منه فدل على قبحه (النهاية، ص٤١٠-٤١١؛ الشرح، ص٤٨٩). ما اتفقت عليه الفئتان على وجوبه (معتزلة البصرة وبغداد) الثواب على مشاق التكاليف والأعواض عن الآلام غير المستحقة (الإرشاد، ص٢٨٨؛ الغاية، ص٢٣١). الابتداء بالآلام من غير عوض قبيح ولا يحسن أيضًا التعويض عليه مع القدرة على التفضيل بأمثال العوض (الإرشاد، ص٢٧٩-٢٨٠؛ اللطف، ص٣٠٢، ص٣٣٠، ص٣٥٨).
٩  ذهب ذاهبون إلى أن أرواحها تعود بالتناسخ إلى أبدانٍ أخرى وينال من اللذة ما يقابل تعبها، وهذا مذهب لا يخفى فساده (الاقتصاد، ص٩٤-١٩٥). الغلاة من التناسخية أنكروا الحشر والآخرة وقالوا لا مزيد على تقلب الأرواح في الأجساد على حكم العقاب أو على حكم الثواب (الإرشاد، ص٢٧٦). الآلام تحسن للاستحقاق على ما ذهب إليه أصحاب التناسخ (اللطف، ص٣٧٩–٣٨١). ويقول الفوطي، من أصحاب التناسخ إن الله لم يعرض عليهم في أول أمرهم التكليف بل سألوه الرفع عن درجاتهم والتفاضل بينهم فأخبرهم بأنهم لا يتصفون بذلك إلا بعد التكليف والامتحان، وأنهم إن كلفوا فعصوا واستحقوا العقاب فأبوا الامتحان (الفِرَق، ص٢٧٦). وعند أبي مسلم الخراساني أيضًا من أصحاب التناسخ خلق الله الأرواح وكلفها. منها من علم أنه يطيعه ومنها من علم أنه يعصيه. والعصاة عصوه ابتداء فلو قبل بالنسخ والمسخ في الأجساد المختلفة على مقادير ذنوبهم (الفِرَق، ص٢٧٦). ويقول أحمد بن أيوب بن بانوش من الفرقة نفسها إن الله خلق الخلق دفعة واحدة. خلق أوَّلًا الأجزاء المقدرة، وهي أجزاءٌ حية عاقلة، سوَّى الله بينها دون تفضيل ثم خيرهم بين الامتحان لأن منزلة الاستحقاق أشرف من منزلة التفضيل وبين التفضيل. منهم من اختار الامتحان في الدنيا فأطاع البعض وعصى البعض. ثم توالوا في أشخاص آخرين وذلك دون تكليف البهائم، ثم تستحق البهائم من الذبح والتسخير وتعاد إلى التكليف ثانية (الفِرَق، ص٢٧٥-٢٧٦).
١٠  وتقول غلاة الرافضة أيضًا بتناسخ الأرواح. فالرب لا يبتدئ بالآلام إلا عن استحقاق سابق، ولا يحسن الإيلام للتعويض عليه ولا لجلب نفع به (الإرشاد، ص٢٧٥). وتقول القرامطة من الروافض إن العذاب هو الأمراض والفقر والآلام والأوصاب وما تتأذى به النفوس. وهذا عندهم الثواب والعقاب على الأعمال (التنبيه، ص٢١). وغلاة الروافض طوائف. منها من يقول: (أ) إن الرب ابتدأ تعليق الأرواح وإن تضمن ذلك إلزام مشقات وآلام. (ب) لم يبتدئ الله بتكليف ولكن فوض الخيرة إلى الأرواح فالتزموا التكليف من تلقاء أنفسهم، منهم من وفى ما التزم وأداه ومنهم من تعداه. (ج) كلف الرب الأرواح من ابتداء الفطرة ما لا مشقة فيه ثم خالف من خالف ووفى من وفى (الإرشاد. ص٢٧٥-٢٧٦؛ التنبيه، ص٢٨٠-٢٨١؛ الأصول، ص٢٤٠-٢٤١).
١١  قال بعض المعتزلة إن الله خلق من يكفر ومن يعلم أنه يخلده في النار ليعظ بذلك الملائكة وحور العين! (الفصل، ج٣، ص٨٥–٨٧). والموعظة لا تكون بخلقٍ واحد بل بكثير (الفصل، ج٣، ص٩٠-٩١). العوض لا يكون زائدًا عن الألم إلا لإعطاء عبرة للآخرين (المواقف، ص٣٣٠).
١٢  وهذا هو موقف الأشاعرة وبعض المعتزلة مثل القاضي عبد الجبار وعباد الصيرفي، وأنه يجوز منه إيلام العباد بغير عوض وجناية (الاقتصاد، ص٨٣). في أنه لا يجب للعبد على الله شيء. وإذا أصابه ألم ومشقة فإنه لا يستحق العوض من الله (المسائل الخمسون، ص٣٧٧-٣٧٨). فصل في الآلام والعوض وأحكامه (الشرح، ص٢٩٩–٦٠٨). وعند عباد الصيرفي الآلام تحس بمحض الاعتبار من غير تقدير تعويض عليها (الإرشاد، ص٢٧٧؛ اللطف، ص٢٢٧). وذلك لحجتين: (أ) أحدنا يستحق ما يستحقه ثوابًا أو عوضًا بفعل نفسه، والإيلام من فعل الله فلا يجوز أن يستحق عليها عوضًا. (ب) لو حسن من الله الإيلام للعوض لحسن مِنَّا (الشرح، ص٤٩٠-٤٩١).
١٣  اختلف الجبائي مع ابنه في فعل الألم للعوض. فقال يجوز ابتداءً لأجل العوض عليه ألم الأطفال. وقال ابنه إنما يحسن ذلك بشرط العوض والاعتبار جميعًا. ومذهب الجبائي يقوم على أصلَين: (أ) التفضل بالأعواض ولكن العوض على ألمٍ متقدم. (ب) العوض مستحَق والتفضل غير مستحق. وقال ابنه يحسن الابتداء بمثل العوض متفضلًا. فبينما قال أبو علي يحسن الألم من الله لمجرد العوض بصفة لا يجوز التفضل ولا الابتداء بمثله فإن أبا هاشم قال إنه لا بد فيه من غرض وهو الاعتبار وهو الصحيح كالتعويض عن الآلام واجب، لأن الله لا يؤلمنا من غير رضانا (الشرح، ص٤٩٢-٤٩٣؛ اللطف، ص٣٨٩-٣٩٠؛ الإرشاد، ص٤٩٠-٤٩١). عند أبي علي الآلام تحسن من الله للأعواض وإن لم يكن فيها مصلحة أو اعتبار (اللطف، ص٢٢٧).
١٤  العوض كل منفعة مستحقة لا على طريق التعظيم والإجلال. ولا يعتبر فيه الحسن وغير ذلك لكن يطرد وينعكس ويشمل ويعم (الشرح، ص٤٩٤).
١٥  هذا هو موقف المعتزلة إذ يوجبون اللطف والعوض والثواب (المحصل، ص١٤٧-١٤٨). أنكروا من الله ابتداء بإيلام لا على شرط ضمان العوض عليه (الأصول، ص٢٠٩). واستدلوا على العوض عن الآلام بأن تركه قبيح لأنه ظلم (شرح الدواني، ص١٩٢-١٩٣؛ النهاية، ص٤١١). يقول القاضي عبد الجبار: في الآلام الحاصلة من جهتنا. ما يفعله الواحد من الآلام لا يخلو إمَّا أن يفعله بنفسه أو بغيره. وإن كان مفعولًا بنفسه فإمَّا أن يكون حسنًا أو قبيحًا. فإن كان قبيحًا لم يستحق عليه العوض أصلًا لا على الله ولا على غيره. وإن كان حسنًا فعلى ضربَين: (أ) ما يستحق عليه العوض. (ب) ما لا يستحق عليه العوض. وإن كان مفعولًا بغيره فإمَّا أن يكون قبيحًا أو حسنًا، وإذا كان قبيحًا فإنه يكون ظلمًا، وإن كان حسنًا فعلى ضربَين: (أ) أن يستحق عليه العوض. (ب) ألا يستحق عليه العوض (الشرح، ص٥٠١-٥٠٢؛ الأصول، ص٢٤٠-٢٤١).
١٦  يعرض القاضي عبد الجبار كثيرًا من مسائل اللطف مثلًا: يصح منه تعالى الألم للنفع وما يتصل بذلك من إثبات العوض (اللطف، ص٣٨٧–٤٠٤). وعند أبي علي الأمراض الواقعة بالكافر إمَّا عقوبة أو محنة. وعند أبي هاشم هي محنة والمطلوب الصبر والرضا (اللطف، ص٤٣١–٤٣٦).
١٧  يحدد القاضي عبد الجبار بعض مسائل العوض من الله مثل: ما يحدثه الله من المضار وإن لم تكن آلامًا وأمراضًا، ما يلزم به العوض على الله من الآلام وإن كانت من فعل غيره، فيما لا يلزم به العوض من الآلام التي تحدث من قبل الله، فيما يجب به العوض على الله من الآلام لأنه وقع بأمره أو إباحته، فإنه بالتمكين من المضرة لم يتضمن الأعواض وأن العوض في الضرر الواقع من العبد عليه دون من كلفة (اللطف، ص٤٣٥–٤٥٤). وكذلك: في أن العوض لا يحيط بالعقاب، في أنه ينتصف للمظلوم في الآخر وأن ذلك واجب في الحكمة، في بيان كيفية الانتصاف الذي يجب للمظلوم من الظالم (اللطف، ص٥٢٤–٥٣١). في أنه تعالى لا يجب أن يكون مريدًا للعوض عند فعل الآلام والأمراض. هل يصح منه تعالى الانتصاف بالتفضل أو لا يصح إلا المستحق، في أن الانتصاف لا يجوز أن يقع بالثواب وإنما يقع بنقل الأعواض لأن من حق الثواب أن يقع على حد التعظيم والتبجيل (اللطف، ص٥٣٨–٥٤٦).
١٨  كما يحدد بعض مسائل العوض الإنساني كالآتي: العوض على ضربَين: (أ) لا يفعل الفعل له. (ب) يحسن إذا فعل لأجله، في وجوب العوض على فاعل الضرر المخصوص في الشاهد، في بيان الوجه الذي يلزم العبد العوضي في فعل الضارب، في بيان الوجوه الذي يلزم العبد عليها العوض وإن لم يكن من فعله (اللطف، ص٤٧٠–٥٠٤).
١٩  العوض عن الآلام: قالوا الألم إن وقع جزاء لما صدر عن العبد من سيئة لم يجب على الله عوضه، وإلا فإن كان الإيلام من الله وجب العوض وإن كان من مكلَّف آخر، فإن كان له حسنات أُخذت من حسناته وأُعطي المجني عليه عوضًا لإيلامه له، وإن لم يكن له حسنات وجب على الله. أمَّا حرق المؤلم عن إيلامه أو تعويضه من عنده بما يوازي إيلامه. وإشكالات ذلك هي: (أ) قالت طائفة جاز أن يكون العوض في الدنيا وقال آخرون بل يجب أن يكون في الآخرة كالثواب. (ب) هل تدوم اللذة المبذولة عوضًا كما يدوم الثواب أو تنقطع؟ (ج) هل يحبط العوض بالذنوب كما يحبط بالثواب؟ (د) هل يجوز إيصال ما يوصل عوضًا للآلام ابتداءً بلا سبق ألم أم لا؟ (ﻫ) على الجواز هل يؤلم بعوضٍ أو يكون ذلك مع إمكان الابتداء مخالفًا للحكمة؟ (و) على المنع هل يؤلم ليعوض عوضًا زائدًا ليكون لطفًا له ولغيره؛ إذ يصير ذلك عبرة له تزجره عن القبيح؟ (المواقف، ص٣٣٠).
٢٠  العوض منقطع غير دائم (الملل، ج١، ص١٢٣-١٢٤). العوض لا يستحق على طريق الدوام عند أبي هاشم وهو الصحيح خلاف ما يقول أبو علي وأبو الهذيل وقوم من البغدادية. ويحكي عن الصاحب الكافي أنه قال يستحق على طريق الدوام (اللطف، ص٣٩٤؛ الشرح، ص٤٩٤–٤٩٦، ص٥٠٨–٥١٩). وللمخالف عدة شبه منها: (أ) القول بانقطاعه يدخل في القول بدوامه. (ب) لو لم يكن العوض دائمًا لكان لا يجوز أن يؤخره إلى الآخرة. (ج) لا بد أن يثبت في الألم الاعتبار والعوض والنفع بالاعتبار مستحق دائمًا وكذلك العوض. (د) لو لم يصح دائمًا لكان يصح توفيره على المستحق دفعةً واحدة (الشرح، ص٤٩٦–٤٩٩). وأيضًا من ضمن الإشكالات السابقة، هل تدوم اللذة المبذولة عوضًا كما يدوم الثواب أو تنقطع؟ (المواقف، ص٣٣٠).
٢١  اختلفوا في الأعضاء المقطوعة. قال الأصحاب وعباد بن سليمان مردودة (مقالات، ج١، ص٢٩١-٢٩٢). واختلفت المعتزلة فيما قطعت يده وهو مؤمن ثم كفر ومن قطعت يده وهو كافر ثم آمن: (أ) يبدل يدًا بأخرى (الكعبي). (ب) يبدل يدًا بعينها أو أبدالها (أبو هاشم، الكرامية، المازني). (ج) توصل، وتعاد أصل البنية (بعض الكرامية) (الأصول، ص٢٦١-٢٦٢).
٢٢  ينكر القاضي عبد الجبار عدة مسائل من هذا النوع منها: في هبة الأعواض والإبراء منها وما يصح ذلك فيه وما لا يصح، في تأخير دفع الأعواض؟ هل تجب الزيادة في العوض أم لا؟ وعند أبي علي تجب الزيادة في حال التأخير كالغرامة! في بيان ما يلزم من العوض بقطع الآجال وإزالة الأملاك، فيما يجب عن الأعواض بقطع النافع والمنفع منها، في ذكر الأملاك التي لا تختص وما يلزم به العوض وما لا يلزم، في وجوب الأعواض في إتلاف ما طريقه الاجتهاد. اختلفوا في الأعضاء المقطوعة من الإنسان، قال أصحابنا إنها في الآخرة مردودة، واختلفت القدرية وقال عباد مثل قولنا! (اللطف، ص٥٣٢–٥٣٧، ص٥٤٧–٥٦٨).
٢٣  الشرح، ص٤٨٥-٤٨٦، ص٥٠٣-٥٠٤؛ اللطف، ص٥٢٠–٥٢٣.
٢٤  وعند الأشاعرة إيلام الأطفال في الدنيا عدل من الله وليس بعقاب لهم على شيء (الأصول، ص٢٦٣-٢٦٤). لا يجب على الله شيء. وما أنعم به فهو فضل منه وما عاقب به فهو عدل منه. ويجب على العبد ما يوجبه الله عليه، ولا يستفاد بمجرد العقول وجوب الشيء بل جميع الأحكام المتعلقة بالتكليف متلقَّاة من قضية الشرع ووجوب السمع (لمع الأدلة، ص١٠٨). إيلام البريء من الأطفال والمجانين فمقدور. ولا يجب على الله الثواب، فالله مالك كل شيء ولا يتصور فيما يملك ظلمًا (الاقتصاد، ص٩٤–٩٠). الله قادر على تعذيب الطفل ولو فعل ذلك كان عدلًا منه (الفِرَق، ص١٥٨، ص٢٠٠). أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء فعل بهم ما أراد (مقالات، ج١، ص٣٢٤). وقد قيل في ذلك شعرًا:
ألم يروا إيلامه الأطفالا
وشبهها فحاذر المحالا
وأوقع الأطفال في الآلام
ونحوها وليس بالكلام
(الجوهرة، ص١٣)
وذلك لأنه لا يجب عليه فعل الصلاح والأصلح (الوسيلة، ص٥٦). الله يؤلم الأطفال في الآخرة، وخلقهم مع علمه بكفرهم، لا يقبح منه شيء أن يعذب المؤمنين ويدخل الكافرين الجنان (اللمع، ص١١٦-١١٧).
٢٥  عند القاضي عبد الجبار يجوز الألم على الحي لأن الحي منافر بالطبع منه لا لكونه عاقلًا فالألم لا يحتاج إلى كمال العقل (اللطف، ص٣٨٢–٣٨٦). وهو أيضًا رأي الروافض الذي يجمع بين الألم اللاهوتي والألم الجسماني. وهو على ثلاثة أقوال: (أ) الأطفال يتألَّمون في الدنيا بفعل الله بإيجاب الخلقة. (ب) الأطفال يتألمون في الدنيا بفعل الله لا بإيجاب الخلقة ولكن باختراعهم. (ج) الأطفال يتألمون في الدنيا بفعل الله ومنها ما هو بفعل غيره بالاختراع لا بسبب يوجبه (مقالات، ج٢، ص١٢١، ١٢٢).
٢٦  عند بكر ابن أخت عبد الواحد بن يزيد: الأطفال لا يتألمون في المهد، ولو قطعوا وفصلوا. ويجوز أن يكون الله لذَّذهم عندما يضربون ويقطَّعون (مقالات، ج١، ص٣١٧؛ الفِرَق، ص٢١٣؛ اعتقادات، ص٦٩). وهو أيضًا قول عبد الله بن عيسى من الخوارج تلميذ الأول (الفصل، ج٥، ص٣٢-٣٣؛ اللطف، ص٣٨٢–٣٨٦؛ الشرح، ص٤٨٥؛ الإرشاد، ص٢٧٤–٢٧٩).
٢٧  هذا هو موقف المعتزلة؛ فالآلام الحالَّة بالأطفال تحسن لأنها تكون مستحَقة على سوابق أو أن يقضي بها دفع ضرر أهم منها أو أن يجتلب بها نفع مُوفٍ عليها برتبة (الإرشاد، ص٢٧٦). وقد أجمعت المعتزلة على أن الله لا يجوز أن يؤلم الأطفال في الآخرة ولا يجوز أن يعذبهم (مقالات، ج١، ص٢٩٣). وعند بشر أن الله قادر على تعذيب الطفل ولو فعل كان ظالمًا إياه إلا أنه يستحسن ألا يُقال في حقه بل يُقال لو فعل ذلك كان الطفل بالغًا عاقلًا عاصيًا بمعصية ارتكبها مستحقًّا للعقاب (الملل، ج١، ص٩٧). إن الله وإن كان قادرًا على تعذيب الطفل، فلو عذبه لكان بالغًا كافرًا مستحقًّا للعذاب (التعديل والتجوير، ص١٢٨). الآلام لا تحسن إلا مستحقة بما فيها آلام الأطفال، إن الله يقدر على تعذيب الطفل ظالمًا له في تعذيبه، فإنه لو فعل ذلك لكان الطفل بالغًا يستحق العذاب (الفِرَق، ص١٥٨، ص٢٠؛ الملل، ج٢، ص٤٢؛ الملل، ج١، ص٩٦-٩٧).
٢٨  قال البعض: فعل ذلك بالأطفال ليؤجر مذنبًا أو غير مذنب، وكيف يمكن أن يؤذي من لا ذنب له ليؤجر مذنبًا أو غير مذنب؟ (الفصل، ج٣، ص٨٧). الأصل إيلام الأطفال وحكمة ذلك حصول الثواب عليه لأبويهم لأن ذلك من المصائب التي يُثاب عليها (التحفة، ص١٣). وعند بعض المعتزلة يؤلمهم الله عبرةً للبالغين ثم يعوضهم وإلا كان إيلامهم ظلمًا (مقالات، ج١، ص١٩٢).
٢٩  يقول الأشعري إن الله آلمهم في الدنيا بالأمراض والجذام وقطع الأيدي والأرجل. وقيل في الخبر إن الأطفال تؤجج لهم النار يوم القيامة ثم يُقال لهم اقتحموها، فمن اقتحمها أُدخل الجنة ومن لم يقتحمها أدخل النار. وقيل في الأطفال وروي عن النبي أن بني إسماعيل في النار (الإبانة، ص٥٣).
٣٠  عند المعتزلة أطفال ابن آدم أولاد المشركين وأولاد المسلمين في الجنة دون عذاب ولا تقرير تكليف (الفصل، ج٣، ص٩١-٩٢).
٣١  الأعواض النازلة بمن لا يستحق العقوبة من المكلفين أو لغير المكلفين من الأطفال ليست لطفًا عند أبي علي. وعند أبي هاشم لا بد من عوض (اللطف، ص١٠٤-١٠٥). اختلفت المعتزلة في إيلام الأطفال؛ فالبعض يرى أن الله يؤلمهم لا لعلة، ولم يقولوا بعوضهم عن إيلامهم وأنكروا تعذيبهم في الآخرة. وعند أصحاب اللطف آلمهم ليعوضهم وقد يكون الأصلح العوض من غير ألم، أليس عليه أن يفعل الأصلح؟ (مقالات، ج١، ص١٩٢). كما اختلفت المعتزلة حول جواز ابتداء الله الأطفال بمثل العوض من غير ألم على مقالَين بين النفي والإثبات (مقالات، ج١، ص٢٩٣). كما اختلفوا في العوض الذي يستحق الأطفال هل هو عوضٌ دائم أم منقطع؟ (مقالات، ج١، ص٢٩٣).
٣٢  عند أحمد بن حابط البصري والفضل الحربي، وكلاهما من تلاميذ النظام: أرواح الأطفال كانت في أجسام قوة عصاة فعوقبت بأن ركبت في أجساد الأطفال لتؤلَم عقوبة لها (الفصل، ج٣، ص٨٨). وعند المعتزلة وأصحاب التناسخ لا تستحسن الآلام في الطفل إذا كانت عقوبة (اللطف، ص٤٠٦).
٣٣  عند الأشاعرة الله قادر على إيلام الحيوان البريء عن الجنايات ولا يلزم عليه ثواب (الاقتصاد، ص٩٤-٩٥). قالوا أيضًا في تعويض البهائم في الآخرة إن الآلام التي لحقت بالبهائم والأطفال والمجانين عدل من الله وليس واجبًا عليه تعويضها على ما نالها في الدنيا من الآلام، فإن أنعم الله في الآخرة نعمًا كانت فضلًا منه (الأصول، ص٢٤٠؛ الفصل، ج٣، ص٨٩). وعند الأشعري يقوم الله بتسخير الحيوان بعضه لبعض والإنعام على بعضهم دون البعض بلا استحقاق أو عوض (اللمع، ص١١٦-١١٧). ويشارك في ذلك القاضي عبد الجبار في أن عوض الآلام الواقعة من البهائم ومن لا عقل له لا يجب على الله (اللطف، ص٤٧٥–٤٨٨).
٣٤  هذا هو موقف المعتزلة والبراهمة. فإيلام الحيوان بلا استحقاق أو عوض محال لأنه قبيح. كل بقة وبرغوث أوذي بعرك أو صدمة فإن الله يجب أن يحشره ويثيبه عليه بثواب. وإن تعويض البهائم على ما نالها في الدنيا من الآلام واجب على الله في الآخرة، حسن منه إيلامها للعوض المضمون لها في الآخرة، كالطبيب يولد المريض ليوصله بذلك الإيلام إلى نفعٍ أعظمَ منه (الأصول، ص٢٤٠). إنما حسنت آلام البهائم لأن الرب سيعوضها عليها في دار الثواب ما يُربي ويزيد على ما نالها من الآلام. ثم صار معظمها إلى أن العوض الملتزم على الآلام أحطُّ رتبة من الثواب الملتزم على التكليف (الإرشاد، ص٢٧٦). أباح الله أكل الحيوان وذبحه ثم يعوضه على ذلك. وهذا أحسن منه (الفصل، ج٣، ص٨٣-٨٤، ص٨٩). فإن قيل كيف يستحق العوض على السبع مع أنه غير كامل العقل؟ قيل: إن كمال العقل غير معتبر في ذلك لأنه جارٍ مجرى أروش الجنايات (الشرح، ص٥٠٣).
٣٥  عند غلاة الروافض: جملة البهائم مكلَّفة، عالمة بما يجري عليها من الآلام عذابًا وعقابًا ولو لم تعلم ذلك لما كانت الآلام زاجرة لها عن العودة إلى أمثال ما فارقته. وصار بعضهم إلى أن لكل جنس من أجناس الحيوانات نبيًّا منبعثًا إلى آحاد الجنس. وذهب آخرون إلى أنه ليس في الموجودات جماد وأن جملة ما يتخيلها الناس جمادات أحياء ذوات أرواحٍ معينة (الإرشاد، ص٢٧٥). وقد رفض الجويني ذلك، اعتمادًا على الضرورة والعقل (الإرشاد، ص٢٨١-٢٨٢).
٣٦  يثبت الآمدي إيلام الحيوان وينكر حسنه أو قبحه (الغاية، ص٢٤٥).
٣٧  اختلفت المعتزلة في الاقتصاص بين البهائم: (أ) يقتص بعضها من بعض وليس يجوز الاقتصاص بالعقوبة والنار والتخليد في العذاب لأنها غير مكلَّفة. (ب) لا قصاص بينها. (ج) تعويض الله البهيمة لتمكين البهيمية المجني عليها (الجبائي) (مقالات، ج١، ص٢٩٤). واختلفت المعتزلة في عوض البهائم: (أ) يعوضها الله في المعاد تنعم في الجنة وتصور في أحسن الصور ويكون نعيمها دائمًا لا انقطاع له. (ب) يجوز أن يعوضها في دار الدنيا، ويجوز في الموقف ويجوز في الجنة. (ج) يجوز أن تكون الحيَّات والعقارب وأشباهها من الهوام والسباع تعوض في الدنيا أو في الموقف ثم تدخل جهنم فتكون عذابًا على الكافرين والفجار، ولا ينالهم من ألم جهنم شيء كما لا ينال خزنة جهنم شيء (جعفر بن حرب والإسكافي). (د) قد نعلم أن لها عوضًا ولا ندري كيف هو. (ﻫ) تحشر وتبطل (عباد). واختلف الذين قالوا بدوام العوض من المعتزلة: (أ) إن الله يكمل عقولهم حتى يعطوا دوام عوضهم ولا يؤلم بعضهم بعضًا. (ب) بل تكون على حالها في الدنيا (مقالات، ج١، ص٢٩٤؛ الإرشاد، ص٢٧٦). من ضمن الإشكالات التي يثيرها الإيجي: هل تعوض البهائم بما يلحقها من الآلام والمشاق مدة حياتها وتمتاز بها عن أمثالها التي لا تُقاس مثلها أو لا تعوض؟ وإن عوضت فهل ذلك في الجنة؟ وإن كان في الجنة فهل يخلو فيها عقل تعقل به أنه جزاء؟ على أن منهم من أنكر لحوق الألم بالبهائم والصبيان مكابرةً وهربًا من إلزام دخولها الجنة وخلق العقل فيها (المواقف، ص٣٣٠). وينفي المعتزلة التعويض الحسي؛ إذ يقول القاضي عبد الجبار إنه ليس بالضرورة أن تكون في الجنة كل صنوف الأطعمة الشهية على ما ألفنا في الدنيا وأن يخلق الله للبهائم الحشائش والأتبان أو أن يخلق للسباع من اللحوم ما يُغنيها عن افتراس الحيوانات (الشرح، ص٤٩٩–٥٠٣).
٣٨  عند أحمد بن حابط البهائم تتردد في الصور القبيحة وتلقى المكاره في الذبح والتسخير إلى أن تستوفي ما تستحق من عقاب بذنوبها ثم تعاد إلى الحالة الأولى ثم يخبرهم الله ثانيًا في الامتحان (الفِرَق، ص٢٧٥-٢٧٦). وزعم أن جميع أنواع الحيوان محتمل للتكليف. لما كلفهم الله في الدار التي خلقهم فيها شكروه فأطاعه البعض وعصاه البعض، من أطاعه أقره في دار النعيم ومن عصاه أخرجه إلى النار. ومن أطاعه وعصاه أتى به إلى الدنيا في هذه الأجسام الكثيفة وابتلاه بالبأساء والضراء والشدة والرخاء واللذات والآلام في صورٍ مختلفة من صور الناس والطيور والبهائم والسباع والحشرات. من كانت معاصيه أقل كانت صورته في الدنيا أحسن ومن كانت طاعاته أقل كانت صورته أقبح. يتكرر الروح في هذه الدنيا في قوالب وصورة مختلفة وعلى قدر طاعاته وذنوبه تكون درجته بين الإنسانية والبهيمية. يرسل الله رسلًا إلى كل نوع من الحيوانات! (الفِرَق، ص٢٧٤-٢٧٥؛ الملل، ج١، ص٩٢-٩٣؛ الشرح، ص٤٨٥؛ اللطف، ص٢٢٦). ويقول أصحاب التناسخ والبكرية بوحدة الصور أي إن أناسًا كانوا في قالبٍ آخر فعصوا الله فنقلهم إلى هذا القالب وعاقبهم. انظر «نقد المذهب في اللطف» ص٣٨٧؛ الشرح، ص٤٨٧-٤٨٨. وعند أحمد بن حابط البصري والفضل الحربي من تلاميذ النظام أرواح الحيوان كانت في أجسام قوم عصاة فعوقبت بأن ركبت في أجساد الحيوان لتؤلم عقوبة لها (الفصل، ج٣، ص٨٨). الألم على وجه الاستحقاق في الروح دون الشخص. عقاب آدم في الجنة، ويونس في بطن الحوت وعقاب الأنبياء (اللطف، ص٤٠٥–٤٣٠). وأصحاب التناسخ من السمنية تقول إن من أذنب في قالب ناله العقاب على ذلك الذنب في قالبٍ آخر. وكذلك القول في الثواب (الفِرَق، ص٢٧٠-٢٧١). وعند غلاة الروافض تتألم البهائم ومن أرواحها كانت في أجساد وقوالب أحسن من أجساد البهائم وقد اقترفت كبائر واجترمت جرائم فنقلت إلى أجسادٍ أخرى لتتعذب فيها، وإذا استوفت عقابها وتوفر عليها ما استحقته عذابها رُدت إلى حسن بنيته والأرواح والهياكل على رتب (الإرشاد ٢٧٤-٢٧٥؛ النهاية ٤١٠) وإبطال التناسخ في (اللطف، ص٤١٧-٤١٨، ص٤٢٩-٤٣٠، ص٥٥٩؛ الأصول، ص٢٤١).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤