ثالثًا: أفعال الشعور الخارجية

بعد أن تتحقق أفعال الشعور الداخلية وخلق الإنسان لها إثباتًا لحرية الأفعال، تقوى الشخصية وتتوحد وتصبح قادرة على الانطاق من الداخل إلى الخارج، وتتحول أفعال الشعور من أفعالٍ عكسيةٍ منطويةٍ باطنية إلى أفعال مباشرةٍ ممتدةٍ خارجية. وتصبح أفعال «القلب» أفعال «الجوارح». ويتحول الشعور الخالص إلى بدن وجسم، وتتحول الحركة الداخلية إلى حركة خارجية. يصبح الشعور الخالص شعورًا بالعالم؛ وبالتالي تتحقق أفعال الشعور ليس داخل الشعور فقط بل أيضًا خارج الشعور في العالم. وبلغة القدماء يتم الانتقال من العقيدة إلى الشريعة، ومن الإيمان إلى العمل، ومن الإرادة إلى القدرة. وتظهر النظريات الثلاث نفسها التي ظهرت من قبلُ في وصف أفعال الشعور الداخلية، ونظريات الجبر والكسب وخلق الإنسان لأفعاله. يُسَمَّى الجبر عقيدة لأنه أقرب إلى العقائد منه إلى النظريات الفلسفية، حكم مسبق أو انفعال وضيق ليس له سندٌ عقليٌ واضح أو تشهد له تجربة الوجدان، بل مجرد خطابة مكبوتة إلى الداخل. والكسب نظرية لأنها أقرب إلى النظريات الفلسفية المبنية نظريًّا عن طريق الجدل. أمَّا خلق الإنسان لأفعاله فهي ليست عقيدة ولا نظرية، بل تجربةٌ واقعية يشهد بها الوجدان، ووضوح نظري يشهد به العقل، وشرط تكليفي للأفعال؛ وبالتالي فهي أقرب إلى البرهان.

(١) عقيدة الجبر

هل أفعال الشعور الخارجية جبرية؟ هنا تظهر عقيدة الجبر للإجابة بالإيجاب. وعقيدة الجبر لا توجد عند فرقة كلامية بعينها تُسَمَّى المجبرة بقدر ما هي منتشرة وعامة لدى عديد من الفِرَق، يجمعها القول بالجبر بالرغم من اختلاف الدوافع والبواعث والأسباب وبالرغم من اختلاف الحجج والأسس النظرية وبالرغم من تباين النتائج والآثار على السلوك الفردي والاجتماعي.١

(١-١) دوافع الجبر

تختلف دوافع القول بالجبر بين نفي الصفات أو إثباتها دفاعًا عن التنزيه أو التشبيه أو بين التأليه دفاعًا عن التجسيم؛ فالإيغال في التوحيد بصرف النظر عن كيفية تصوره يبعد عن العدل، وكأن الإيغال في التفكير في الله يبعد عن التفكير في الإنسان، وكلما زاد الإنسان اغترابًا في التوحيد وابتعادًا عن العالم فإنه يزداد ابتعادًا عن العدل وخروجًا عن العالم. كما تختلف دوافع الجبر بين التصلُّب والتشدد والتعصب بناءً على موقفٍ أصليٍّ مبدئي تمسكًا بالحق الشرعي وبالمقاومة الفعلية العلنية الخارجية وبين الاستسلام والإرجاء واللامبالاة والفتور طاعةً للسلطان وقبولًا للنظام القائم. فبالرغم من اختلاف المواقف العملية للفرق ومواقعها من السلطة إلا أنها قد تشترك أيضًا في عقيدة الجبر، إمَّا للمقاومة والشهادة أو للخنوع والاستسلام والرضا بالقضاء والقدر.٢
وقد ظهر من قبلُ أن إثبات الصفات يؤدي عادةً إلى إلغاء الحرية الإنسانية، وأن إنكار الصفات يؤدي إلى إثبات الحرية الإنسانية. وكان غريبًا أن يخرق هذا النسق، بأن أول من قال بالجبر هو من قال في الوقت نفسه بنفي الصفات وبنفي الحرية في آنٍ واحد، ومِنْ ثَمَّ ينكسر القانون الأوَّل. والحقيقة أنه يمكن فهم هذه الحالة الفريدة مرةً ثانية بناءً على قانون ثانٍ، وهو إثبات الذات ونفي الصفات. إذا طبق في التوحيد على الله ثبتت الذات المؤلهة دون صفاتها، وإذا طبق في العدل على الإنسان ثبتت الذات دون صفاتها لما كانت الحرية صفة. وإذا صح هذا القانون نظرًا فإن حالة الإنسان لا تكون مماثلة لحالة المؤلَّه. إذا كانت صفات الذات المؤلهة صفات له، فإن الحرية الإنسانية ليست صفةً خارجية للإنسان يمكن إثباتها أو نفيها، بل تكون هي الإنسان ذاته. ومِنْ ثَمَّ لا يؤدي هذا القانون الثاني، إثبات الذات ونفي الصفات إلى نفي الحرية الإنسانية بالضرورة لأن الحرية ليست صفة للإنسان، بل هي ذاته وجوهره ووجوده.٣
ويعني الجبر الناشئ عن نفي الصفات، ما دامت الحرية صفة للمؤلَّه، أن المؤلَّه هو خالق كل شيء بما فيه أفعال الإنسان، ما دامت مخلوقة.٤ بل إن تعبير «خلق أفعال العباد» تعبيرٌ جبريٌّ محض إذا كان القصد خلق الله لأفعال العباد وليس خلق العباد لأفعالهم بأنفسهم؛ ومِنْ ثَمَّ لا تنسب أفعال الإنسان إليه إلا عن طريق المجاز.٥ ويعني الجبر أيضًا أن الإنسان ليس له قدرة أو استطاعة أو كسب، بل يكون مضطرًّا إلى أفعاله، وهذه هي الجبرية الخالصة.٦
وقد يثبت الجبر بإثبات الصفات، ونتيجة له، خاصةً صفتَي العلم والقدرة، العلم الشامل والإرادة المطلقة. لا يحدث شيء في العالم إلا مقدرًا من قبلُ في علم المؤلَّه وسبق إرادته. إثبات الصفات للذات المشخصة يثبتها أفعالًا في العالم. وإن من حق الذات المشخص المؤلَّه أن تكون له الأولوية على ما عداه من ذوات وأفعال. والحقيقة أن إثبات الجبر نتيجة لإثبات الصفات إنما ينتج عن موقفٍ مغترب من العالم وتقوى مزيفة تنمُّ عن عجز وخنوع واستسلام ورضا، والقناعة بالوهم باسم التقوى والإيمان والمزايدة العاجزة فيه؛ فيتم إيثار أفعال التأليه على أفعال الإنسان. ومن أجل التخفي وراء عواطف التأليه ومن تحت قناع الإيمان، تتم التضحية بأفعال الإنسان، فلا يكون للإنسان قدرة أو استطاعة أو تأثير.٧ وقد تم التركيز على ذلك في العقائد المتأخرة، خاصةً نفي تأثير الإنسان ونفي قوانين الطبيعة المستقلة إثباتًا للصفات، خاصةً القدرة والإرادة، تأكيدًا لأوضاع العصر وقوى القهر وسلبًا لقوى الإنسان وهدمًا لقوانين الطبيعة.٨ والسؤال للمتكلم المتقدِّم والمتأخر عمن يدافع؟ عن الله أم عن الإنسان؟ من الذي تهدد حريته وأفعاله، الله أم الإنسان؟ وقد بلغت المزايدة أن جُعل الله مريدًا لكل شيء كما أنه مريد لذاته ومراد من غيره. وهل الله موضوع؟ هل الله موضوع لإرادة الإنسان ومتعلق بها؟ وهكذا يسلب من الإنسان أخصُّ خصائصه وهو خلق الأفعال ومسئوليته عنها بدون ثمن إلا إثبات عواطف التأليه والتأكيد على الإجلال والتعظيم تعبيرًا عن انتصار جماعة السلطة وتحدثها بلغة المنتصر؛ لغة السيطرة والقوة والعظمة والجلال. وما الحكمة في جعل الإنسان غير خالق لأفعاله إلا الرغبة في السيطرة عليه وإملاء إرادة خارجية عنه.٩ وكثيرًا مما يُقال تحصيل حاصل. فمن مِنَّا لا يقول بذلك اعترافًا بالحق النظري؟ ولكن يستعمل أحيانًا للإرهاب ومنعًا للاعتراض وطلبًا للتسليم وتفريغًا للثورة وقضاءً على التمرد.
وكما ينشأ الجبر بنفي الصفات في التوحيد، ثم نقل القانون إلى الإنسان بالمماثلة، ونفي الحرية باعتبارها صفة للإنسان، أو بإثبات الصفات، خاصةً العلم والقدرة والإرادة على نحوٍ مطلق، بحيث لا يحدث في العالم شيء، بما في ذلك أفعال الإنسان، خارجها دون علم أو بتدبير وتدخل منها. ينشأ الجبر أيضًا من التأليه؛ تأليه الإنسان أو تأليه الإمام. فإذا ما تحوَّل الإمام إلى إله وجبت له الطاعة المطلقة؛ لأنه يعلم كل شيء ويقدر كل شيء، ويطلع على خصائص العباد ويقرر أعمال الناس. وفي أساطير الخلق في التأليه يقرر الإمام المؤلَّه أفعال العباد من قبلُ، ويقوم المؤلَّه بالوظائف الإلهية في خلق كل شيء وتقديره مسبقًا.١٠ وكما ينشأ الجبر من التأليه في التوحيد ينشأ أيضًا عن التشبيه. فاعتبار المؤلَّه جسمًا، أي طبيعة، يجعله هو المسيطر على أفعال العباد باعتبارها أحد مظاهر الطبيعة.١١ ويظهر الجبر أيضًا حتى عند الإمامية المعتدلة فما دام الإمام قد أعطى أكثر مما يعطي أي إنسان فإنه تكون له السيطرة على أفعال الآخرين.١٢ وكما يكون الاضطهاد سببًا في التأليه فإنه يكون سببًا للجبر. ولكن قد يظهر الجبر في صورة تحرُّرٍ ضروري؛ فالمجتمع المضطهد يبغي التحرر ورفع الظلم فيؤمن بالنصر الضروري وبالتحرر الواجب وبالخلاص كحتميةٍ تاريخية. فهو جبرٌ تاريخي مماثل لتحررٍ جبري. ولكن هذا التحرر سرعان ما يتحول إلى جبر لأنه يتم عن طريق الولاء المطلق والطاعة غير المشروطة للإمام المؤلَّه. فالشيعة على اختلاف أصنافها غالية أو متوسطة أو معتدلة، من أنصار التأليه أو التجسيم أو التشبيه؛ تثبت القدرة وتنفي أن يكون فعل الإيمان فعل حر بإرادة الإنسان؛ فأفعال الجوارح وأفعال القلوب كلاهما من تقدير المؤلَّه المعبود.١٣ وتصبح أفعال الشعور الداخلية أفعالًا مجبرة إذ تحوَّلت إلى عملياتٍ كونية وليست أفعالًا فرديةً وكأن حتمية قوانين الأفلاك ومساراتها شاملة لأفعال البشر واختيارات الأفراد.
وقد ينشأ القول بالجبر في صورة القول بالقدر وإثبات علم الله الشامل وإرادته المطلقة على أفعال العباد، أفعال الجوارح وأفعال القلوب، من التعصب للإيمان ورفض كل حاجةٍ عقلية فيه. وينتج عن ذلك أن القرار المتخَذ أو الفعل المتحقق لا يكون فقط قرارًا أو فعلًا ناتجًا عن أعمال الفكر أو شحذ الإرادة بل هو قرار أو فعل صادر عن علمٍ أعظم وإرادةٍ أشمل. وهنا يلتقي الضدان الجبر عن طريق الاستسلام المؤقت لحين ظهور الإمام، والجبر عن طريق الثورة والتمرد الفوري ومحاجة الإمام رأيًا برأي، يلتقي السر والعلن، الخفاء والظهور.١٤ والحقيقة أن الجبر هذه المرة مجرد لغة واصطلاح ووسيلة تعبير وطريقة في الحديث، ولا يفيد تصورًا أو عقيدة كما هو الحال في الدوافع السابقة. كما أنه تعبير عن تقوى حقيقية وطهارةٍ دينية وإخلاص وليس عن تقوى زائفة أو مزايدة في الإيمان. وظيفته استدعاء الإرادة الإلهية على الأعداء وبأن الله قاهر الظلم ومنصب العدل وثقة بالنصر. وهو أقرب إلى إجماع الأمة كما يتضح ذلك في الدين الشعبي؛ إذ إن الجبر بهذا المعنى هو العقيدة السائدة عند الجمهور والتصور الشائع والغالب على إيمان العوام دون جهادٍ موازٍ أو عملٍ مقارن؛ ومِنْ ثَمَّ يضر أكثر مما ينفع، ويؤدي في النهاية إلى التواكل والسلبية واللامبالاة، وقد يكون مقرونًا بالعمل عند بعض الخواص بناءً على الحتمية التاريخية.
لذلك قد ينشأ الجبر من الطرف المقابل للتعصب في الاعتقاد، أي من اللامبالاة عن إصدار أي حكم على الإيمان أو على العمل. ولماذا الحكم وقد تم كل شيء، ولا يمكن تغيير ما وقع، وليس أمام الإنسان إلا إرجاء الحكم إلى حين؟ وما دامت المراجعة قد غابت والمساءلة قد انعدمت ففيم المسئولية؟ ولماذا الحرية؟ وفيم خلق الإنسان لأفعاله ما دام كل شيء مؤجلًا إلى يوم الحساب؟١٥ وهو الوجه الآخر للجبر في الدين الشعبي عند العوام في حالات السكينة والهدوء باستثناء فورات الغضب وحركات التمرد والعصيان والانتفاضات الشعبية. الجبر هنا عقيدة السلطة تعززها للسيطرة على الجماهير، وعقيدة الجماهير تعبر بها عن عجزها، وتؤجِّل بها صراعًا مع السلطة، وتزيح بها المسئولية عن كاهلها، وتلقيها على غيرها دون انتظار للخلاص.

(١-٢) عقائد الجبر

ويتضمن الجبر عدة عقائد، في مقدمتها القضاء والقدر، ثم خلق الله للخير والشر، ثم الإشقاء والإسعاد، ثم التوفيق والخذلان. وإذا كانت عقيدة القضاء والقدر ضمن خلق الأفعال فإن باقي العقائد على حافتَي خلق الأفعال والحسن والقبح العقليين. وقد ارتبطت العقيدة الأم وهو الجبر برأس عقائده وهو الإيمان بالقضاء والقدر حتى أصبحت العقيدتان، الأصلية والفرعية، متلازمتين. فالقول بالجبر هو إثبات للقضاء والقدر وإثبات القضاء والقدر هو قول بالجبر.١٦ وأصبح كل نافٍ للقدر قَدَريًّا مع أن المثبت له هو أولى بالتسمية.١٧
  • (١)
    القضاء والقدر. وتعني عقيدة القضاء والقدر أن كل ما يحدث في العالم مكتوب من قبلُ ومُسطَّر على صفحة الكون. يحدث بالضرورة بصرف النظر عن إرادة الإنسان. والفعل الإنساني ما هو إلا منفذ له بالضرورة. ولا تُقلِّل التفرقة بين الوصف والحكم شيئًا من الجبر، فالوصف علم، والعلم الإلهي كامل، ومن كمال العلم وقوعه كالمعلوم وإلا كان علمًا إنسانيًّا خالصًا تكون فيه الفجوة بين العلم والواقع حادثة. لا يهم إذن إذا كان المكتوب وصفًا أو حكمًا، فالحكم وصف والوصف حكم، والعلوم الوصفية علوم حكمية. و«اللوح المحفوظ» صورةٌ فنية للتدوين والتسجيل، والعلم المحفوظ دون جهل أو نسيان وإلا كان أمرًا سمعيًّا خالصًا يدخل في السمعيات ويخرج عن العقليات طبقًا لبناء العلم. وخلق الأفعال، والحسن والقبح العقليان أي موضوعا العدل مع التوحيد من العقليات.١٨
    والقضاء والقدر متلازمان، الأوَّل هو الأساس والثاني هو البناء. الأوَّل هو الخطة والثاني تحقيقها. الأوَّل هو الممكنات (اللوح) والثاني التحقيقات في الأعيان. الأوَّل هو الإجمال والثاني هو التفصيل. وهو ما يقابل عند الإنسان علاقة النظر بالعمل أو العام بالخاص أو الكل بالجزء أو الممكن بالواقع أي إنها علاقة إنسانية صرفة تكشف عن بنية الفعل الإنساني.١٩ وإذا كانت عقيدة قال بها جميع الأنبياء فقد كان ذلك طبيعيًّا في مراحل الوحي السابقة قبل أن تكتمل تربية الجنس البشري حتى يستقلَّ عقل الإنسان وإرادته أمام نظام الطبيعة الثابت.٢٠
    وقد تخفُّ حدة الإلزام والجبر في المعنى ويصبح القضاء والقدر مجرد إعلام وإخبار وتبيين وبيان. فهو يشير إلى النظر لا إلى العمل، وإلى العلم لا إلى الإرادة، وإلى نظام الكون لا إلى حرية الإنسان. فالقضاء هنا معناه الحكم أو الأمر أو الخبر وليس الإجبار والإقهار والتأثير. قد يكون معناه الترتيب والنظام، أي ارتباط سلسلة الحوادث فيما بينها بالعلة والمعلول، وهي الحتمية الطبيعة أساس العلم وليس جبر الأفعال أساس المسئولية الخلقية. هناك الخلق والتقدير على مستوى الكون والطبيعة، ولكن هناك أيضًا حريةٌ تامة وخلقٌ إنساني في الطبيعة وتغير لأشكالها وصورها ومسارها، خاصةً فيما يتعلق بالنظم الاجتماعية. التبيين والإعلام مجرد كشف العلم، وهذا لا يعرف مسبقًا؛ فالعلم بعدي إلا من خطةٍ إنسانية يضعها الإنسان لينفذها ويُعدُّ لها ثم ينفذها بالفعل فتكون قبليةً بعدية، استنباطيةً استقرائية معًا مثل الوحي بدليل النسخ وتطور النبوة. وقد يكون الإلزام نفسه إلزامًا داخليًّا باطنيًّا صرفًا أو إلزامًا عقليًّا مبدئيًّا أو إلزامًا أخلاقيًّا وليس بالضرورة إلزامًا خارجيًّا، وهو ما يعرف الآن بلغتنا المعاصرة باسم «الجبر الذاتي».٢١
    وكما أن القول بالجبر كان نتيجةً طبيعية لإثبات الصفات، فإن عقيدة القضاء والقدر نتيجةٌ طبيعية لإثبات الإرادة والقدرة كصفتَين لله، فالله مريد لجميع الكائنات، وقادر على كل شيء. ويصل الأمر إلى اعتبار القضاء والقدر صفاته في الأزل.٢٢ ويقول إذا كانا من صفات الذات وتخفُّ الحدة إذا كانا من صفات الفعل؛ فصفات الذات أقوى لأنها ترتبط بالأزل، وصفات الفعل أقل لأنها أقرب إلى الحدوث. وقد تنشأ حلولٌ متوسطة فيكون القضاء قديمًا والقدر حادثًا، وهو أقرب إلى العقل، وصلة القضاء بالقدر كصلة بين العام والخاص، أو يكون القضاء حادثًا والقدر قديمًا وهو ما يعارض طبيعة الصلة بين الكل والجزء، وبين الممكن والواقع.٢٣
    وفي العقائد المتأخرة ضاع موضوع خلق الأفعال كليةً في التوحيد، ثم أصبح معنى التوحيد المعبر عنه في «لا إله إلا الله» هو الإيمان بالقضاء والقدر الذي أصبح هو الموضوع البديل لخلق الأفعال وللتوحيد على السواء. ثم اقترب من التصوف وتوحد به وأصبح الموحد هو الصوفي الذي يؤمن بالقضاء والقدر. لم يصبح الإيمان بالقضاء والقدر فقط إحدى عقائد الجبر وأحد الحلول للفعل الإنساني بل أصبح إيمانًا أعمى مكتفيًا بذاته وانتهى موضوع الأفعال الأوَّل. وبالتالي أصبحت شهادة «لا إله إلا الله» وهي شعار الرفض والتحرر المعبر عن فعلي النفي والإثبات شعار الإيمان بالقضاء والقدر طبقًا لعقيدة الاستغناء والافتقار؛ استغناء الله عن كل ما سواه وافتقار كل ما عداه إليه. وبالتالي أصبحت عقيدة القضاء والقدر هي كل التوحيد والعدل.٢٤
    والعجيب أنه حتى بعض الحركات الإصلاحية تثبت القضاء والقدر وتُكفِّر كل من لا يؤمن به. بل إن القضاء والقدر يحطَّان على الإنسان بسلطة النصوص دون أي عرضٍ عقلي أو تحليل لسلوك الإنسان. ثم يتحد القضاء والقدر مع الصبر عند الصوفية ويتم الإصلاح عن طريق الصبر على أقدار الله، بل إن كل من لم يسع إلى الأقدار سعت هي إليه، وكل من سعى إلى الأقدار، لم تسع هي إليه وكأن الإنسان وجود من أجل قدره. فالحوادث تقع في الكون بفعل الأقدار لا بفعل الإنسان، وإذا سعى الإنسان باختياره الحر وإدراكه العقلي وتمييزه بين الحسن والقبيح لم يتم أي فعل ولم يتحقق شيء.٢٥
    ولكن بعض الحركات الإصلاحية الأخرى أعادت النظر في عقيدة القضاء والقدر، والتفرقة بينها وبين مذهب الجبرية، وإعادة تفسير القضاء والقدر على أنه جبر ذاتي لا ينفي الفعل، بل يبعث على الإقدام، ويمنع من الإحجام والتردد؛ فالاعتقاد بالقضاء له أساس وجداني، ويقوم على العلة والمعلول والإيمان بالأسباب، يبعث على شجاعة الأفراد ضد التوكل والبطالة والكسل، وله سند من التاريخ؛ إذ به تقدمت الأمم ونهضت الشعوب وكأنه ضمن قوانين التاريخ وسنن الأمم في الكون.٢٦ وقد لاحظ بعض المحدثين في العقائد المتأخرة ذلك أيضًا وحاولوا التوفيق بين عقيدة القضاء والقدر والدعوة إلى العمل.٢٧ كما حاولت حركةٌ إصلاحيةٌ ثالثة النهي عن الخوض في القدر، والتأكيد على أن علم الله بعمل الإنسان الاختياري ليس ملزمًا؛ وبالتالي الانتقال خطوة من الأشعرية إلى الاعتزال.٢٨ كما حاولت حركةٌ إصلاحيةٌ رابعة نفي العقيدة كليةً على نحو أشعري دون نقد للعقيدة وتفنيد لحججها وبيان لمخاطرها وكشف عن أخطائها.٢٩ وكأنه يصعب الدعوة إلى العمل والحرية وعقيدة القضاء والقدر ما زالت راسخة في التراث، وإحدى مكونات الدين الشعبي وموجهًا لسلوك الجماهير.
    ومن العقيدة الأم، القضاء والقدر، تنبع عدة عقائد أخرى في مقدمتها مسئولية الله عن الخير والشر والحسن والقبح وكل ما يحدث في العالم من نفع أو ضر للإنسان لما كان الله خالق كل شيء، والخير والشر والحسن والقبح والنفع والضر أشياءُ مخلوقة. وإذا كان من المعقول أن يصدر الخير عن الخير فكيف يصدر الشر عن الخير؟ وأين مسئولية الإنسان في الاختيار وفي التمييز بين الحسن والقبيح؟ يثبت القضاء والقدر إذن بخيره وشره دون حتى التساؤل كيف يكون المؤلَّه المعظم خالقًا للشر؛ وبالتالي يضيع التنزيه في زحمة إثبات خلق الله الشامل لكل شيء.٣٠ وقد ظهر ذلك بوضوح عند الفلاسفة في قولهم بالقضاء والقدر على مستوى الكون؛ فالنظام في الوجود أو في العالم متوجِّه إلى الخير لأنه صادر عن الخير، وتلك هي العناية الأزلية والإرادة السرمدية؛ فكان الخير داخلًا في القضاء الإلهي دخولًا بالذات لا بالعرض. ولما كان الله هو العالم عند الفلاسفة أصبحت مسئولية الله عن الشر عند الأشاعرة مسئولية الكون كله. والشر المطلق لا وجود له، وكذلك الشر بالذات لا وجود له إلا في اللفظ أو الذهن وليس في الوجود. وهو داخل في القضاء الإلهي بالعرض لا بالذات. والخير المطلق فهو في الطباع والخلقة، أمَّا الخير الممزوج بالشر، فالتساوي بينهما لا وجود له، وغلبة الشر على الخير أيضًا لا وجود لها. والموجود فقط هو الخير الغالب، وهو رنة تفاؤل لتجعل الفطرة خيِّرة بطبعها، وتنكر وجود الشر الوجودي؛ فالشر بالذات هو العدم.٣١ أمَّا الجهل والعجز والتشويه والوجع والألم والمرض والظلم والسرقة فكلها مظاهر نقص أي أوضاعٌ اجتماعية يمكن تغييرها، أعراض طارئة وليست جواهر ثابتة.
  • (٢)
    الإشقاء والإسعاد. وتنتج عن القضاء والقدر عقيدةٌ أخرى تماثله قوةً وانتشارًا، وهو موضوع الإسعاد والإشقاء، وهو التعبير عن القضاء والقدر على مستوى الحياة الفردية والاجتماعية. هي الصورة الغالبة في العقائد المتأخرة نظرًا لانتشارها في الدين الشعبي، وأثرها في الحياة الاجتماعية، والترويج لها سياسيًّا لدى النظم القائمة ومن خلال أجهزة الإعلام والمؤسسات الدينية. وأهمية مثل هذه العقائد المتأخرة أنها تكشف عن الوضع الحالي للأمة، بنائها النفسي ووضعها الاجتماعي. فالسعادة والشقاوة أزليَّان، مقدَّران من قبلُ، لا يتغيران ولا يتبدَّلان. «السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقى في بطن أمه!» وبالتالي استحال تغيير الأوضاع الاجتماعية، استحال أن يصبح الشقي سعيدًا أو السعيد شقيًّا، نظامًا كونيًّا أبديًّا لا يتغير. والسعادة في الإيمان والشقاء في الكفر وليس في رحابة العيش وبحبوحة الدنيا. ولما كان الفقراء من المؤمنين فهم السعداء، والأغنياء من الكافرين فهم الأشقياء. يسعد الفقراء بفقرهم ويشقى الأغنياء بغناهم! يسعد المظلومون بظلم الظالمين لهم، ويشقى الظالمون بظلمهم للمظلومين! والعبرة بالخواتيم وليس بالفواتح، العبرة بالمآل وليس بالحال. لا يهم إن عاش الشقي شقيًّا بل يهمه أن يموت سعيدًا، ولا يهم إن عاش السعيد سعيدًا يكفيه أنه يموت شقيًّا! وتخاف العامة من الخاتمة وتستعد لها كما تخاف الخاصة من السابقة وتخطط لها. تحرص العامة على آخرتها حرص الخاصة على دنياها. وتكاد تجمع العقائد المتأخرة على ذلك، والخلاف بينها لفظي لأنها تعبر عن أوضاعٍ نفسية واجتماعيةٍ شائعة وعامة في الأمة.٣٢
    والإشقاء والإسعاد صفات تتعلق بالحياة الإنسانية لا مهرب منها، بالرغم من أنها الأقل سطوةً من صفات الذات والأكثر حدوثًا وتغييرًا واتصالًا بأفعال العباد؛ فهي خلقٌ أبدي من الله في الإنسان، ليس فقط خلق القدرة على الكفر والإيمان بل خلق الكفر والإيمان؛ فلا يبقى للعبد أي دور فيما يحدث له من سعادة أو شقاء. فإذا كانت الصفات قديمة فالإسعاد والإشقاء قديمان بقدمهما لارتباطهما بالتكوين، والتكوين صفة ذات. الإسعاد والإشقاء إذن أوضاعٌ كونية كالخلق، في العلم الإلهي وفي الفعل الإلهي وفي الكون وفي الوجود الإنساني، أي في الأسس النظرية الكونية.٣٣ والسعادة والشقاء ليسا في الإيمان والكفر وحدهما بل في العمل الصالح أو الطالح؛ فالإيمان أو الكفر يمثلان النظر وحده دون العمل. والعمل الصالح أكثر اتساعًا وامتدادًا وانتشارًا من العمل الشعائري الذي يعبر عن التقوى الباطنية أو الحياة الأخلاقية الضامرة. والإيمان والعمل اختياران وإن كانا ضمن العلم الإلهي السرمدي الذي يتحقق بتحقق الأفعال.
    ومن الإسعاد والإشقاء تنبثق أمور الخذلان والإضلال، والتوفيق والهداية، وكأن العقائد المستقاة من عقيدة القضاء والقدر التي هي لبُّ عقيدة الجبر تتغلغل في أفعال الشعور الداخلية تغلغلها في أفعال الشعور الخارجية، وربما أيضًا في أفعال الطبيعة والمجتمع والتاريخ. وهي كلها مجرد إحساسات وعواطف وانفعالات، أي أوهام وتخيلات وتمنيات، ولا شأن لها بصفة التكوين. إنما تقوم على الجهل بالأسباب وبالأوضاع النفسية والاجتماعية للأفراد والجماعات. إن القول بأن الله هو الموفق للإيمان والعمل الصالح أو هو الخاذل للكافر وليس قدرة العبد إنما يعني عند العامة مجرد قانونٍ كوني عام أشمل من سلوك الأفراد، ويعني عند الخاصة مجرد مأثورٍ شعبي يعبر عن الدين الشعبي، ولا ينفي في الواقع حقيقة اختيار الإنسان.٣٤ ويتم ذلك عن طريق صدق الوعد وليس عن طريق الحق المكتسب، وحتى يكون الوعد صادقًا في حياة البشر. إن الوعود تخلف، وصدق الوعد الإلهي قلب لخلف الوعد البشري وتعويض عنه.

(١-٣) حجج الجبر

ما أكثر الحجج النقلية التي يمكن لأي مذهب أو عقيدة أن يجدها تأييدًا له وتأسيسًا لنفسه عليها. وكلها ظنية نظرًا لارتباطها بأسباب النزول وبالناسخ والمنسوخ وبقواعد اللغة وبأصول التفسير على ما هو معروف في نظرية العلم. والغالب عليها رواياتٌ أسطورية يتضح فيها الخيال الشعبي مع أن غاية الحديث عمليةٌ صرفة في بيان المجمل أو تفصيل أوجه السلوك. كما أن حجة الإجماع أو الصحابة أو السلف أو الصوفية إنما هي حجة سلطة، سلطة الجماعة التي تحظى باحترام وتقدير في الوعي الشعبي. وهي في النهاية حجة سلطة وليست شاهد حس أو دليل عقل أو شهادة وجدان.٣٥
ولكن الأهم هي الحجج العقلية التي يمكن التحقق منها ومراجعتها ومقابلتها بالحجج واستعمال البرهان. ويقوم الجبر على أسسٍ عقليةٍ واهية يقوم معظمها على استحالة الضد. وهي معظمها أسس لا تُثبت شيئًا إيجابيًّا بقدر ما تثبت استحالة الضد؛ فهي تقوم على برهان الخلف أي إبطال النقيض لإثبات الشيء مثل:
  • (١)
    التوهم بأن إثبات الفعل الإنساني في المستقبل أو المشترك مع فعل المؤلَّه المشخص يؤدي إلى الشركة، والشركة تؤدي إلى الشرك؛ لأنه لا فاعل في الحقيقة إلا المؤلَّه المشخص.٣٦ والحقيقة أن اعتبار الفعل الإنساني مزاحمة ومشاركة للفعل الإلهي رفعةً من شأن الإنسان وحطةً من شأن الله وكأن الإنسان والله أصبحا طرفَين متماثلَين، نِدَّين متعادلَين يتنازعان فعلًا واحدًا وهو ما يعارض التنزيه. وليس حطة في الله أو انتزاعًا لحقه أن يكون الإنسان هو الفاعل الحق ما دام الله خالق كل شيء ومالك كل شيء. وليس عظمة لله أن ينازع اللهُ الإنسانَ فعله ويسلبه إياه ويغتصبه منه. إن هذه الحجة ليست فقط رفضًا للحرية، بل أيضًا رفض للكسب لأن الكسب يعني المشاركة بين الله والإنسان في فعلٍ واحد. كما تقوم الحجة على المصادرة على المطلوب لأنها تقوم على مسلَّمة سابقة وهي أنه لا فاعل حق إلا الله وهو المطلوب إثباته. وقد أعاد علم الكلام المتأخر تحقيق الكلام المتقدم وانتقد خطابيته وزاد من أحكامه العقلية تحت تأثير الفلسفة التي أعطته دفعةً جديدة نحو العقلانية وأعادت صياغة الحجة نفسها في شعبٍ ثلاث. الأولى استحالة مقدور بين قادرين نفيًا للشركة. ولكن حتى في هذه الصياغة، لماذا يُضحَّى بقدرة الإنسان كي تثبت قدرة الله ولا تثبت قدرة الإنسان وهو الأقرب لبداهة الحس وواقع المشاهدة؟ والثانية استحالة جواز التأثير في الفعل وإلا جاز التأثير في الوجود. والحقيقة أن القدرة الحادثة وهي قدرة الإنسان ليس القصد منها إيجاد الأشياء بل توجيهها وإعادة نظامها. وليس هدفها تغيير الطبائع بل صورها، أو تبديل الجواهر بل أعراضها. وتوجيهها إلى الطبائع والجواهر مجرد مزايدة من أنصار الجبر على الإيمان. فما من أحد قادر على خلق الأشياء وإن أمكنه إبداع صورها. والثالثة قدرة الباري على جنس ما أقدر عليه عباده. ومن الطبيعي أن يكون الله قادرًا على جنس أفعال العباد. ولكن هناك فرق بين القدرة على الجنس والقدرة على الفعل الفردي؛ فالقدرة الصورية كلما كانت عامة وشاملة فإنها لا تتحقق بالفعل في الأفعال الفردية التي تتحقق بقدرة العباد. هذا بالإضافة إلى أنها مزايدة الكل على الجزء لا ينتج منها لا تنزيه لله ولا اعتزاز بالإنسان. وفي النهاية ليس المطلوب هو إعلان التحدي والمبارزة بين الله والإنسان، أيهما أقدر على تسيير الحوادث وإيجاد الكائنات؛ فالإنسان لا يدعي أنه خالق العالم أو موجده، بل هو مؤثر في مساره، وموجِّه لنظمه الاجتماعية.٣٧
  • (٢)
    إن وقوع أفعال دون العلم بها كليًّا أو جزئيًّا لا يعني تدخل إرادةٍ خارجية في الفعل تقرر العلم به أو تحقيقه، بل يعني أن الإنسان كثيرًا ما يفعل دون وضوحٍ نظريٍّ كافٍ لأساس الفعل وغايته. صحيح أن الفعل الأمثل هو ما قام على أساسٍ عقليٍّ واضح وكافٍ له غاية وهدف، والفعل القائم على استبصار كل العوامل التي في ميدان الفعل حتى يتحقق الفعل بنجاح تام. ولكن هذه الإحاطة النظرية الشاملة بجميع العوامل المتداخلة في ميدان الفعل قد تكون نسبية أو مستحيلة، فيتأتَّى الفعل نسبيًّا أيضًا بقدر المعلومات التي لدى الإنسان عن الموقف. ولكن بمجرد بدء الفعل يزيد الإنسان من معلوماته، بل ويُغيِّرها طبقًا للواقع الجديد غير المعروف أو يحدث علمًا في التو واللحظة. وهذا موقفٌ سلوكيٌّ خالص لا يشير إلى تدخل أية إرادة خارجية عالمة بالموقف كله من قبلُ ومقررة له.٣٨
    ويجوز إتيان الفعل بأساسٍ نظري عام دون الإحاطة بجميع التفاصيل؛ فذلك لا يقدح في صحة الفعل أو في يقين النظر، خاصةً ولو كانت تلك التفاصيل غير دالة أو مستحيلة أو خيالية مثل العلم بالسكنات المتخللة للحركات البطيئة! وكأنها حجة زينون في إبطال الحركة تستخدم هنا لإثبات الجهل! وكأن الفعل لا يحدث كواقعٍ حيوي لا يتجزأ إلى حركاتٍ ساكنة.٣٩ يحدث الفعل في الحقيقة على علمٍ حاصل بقدر الإمكان؛ إذ يصعب أو قد يستحيل الإلمام نظريًّا بجميع العوامل الداخلة في ميدان الفعل لاحتمال تدخل الجديد باستمرار. ولكن اعتمادًا على سرعة البديهة وأخذ القرار، واعتمادًا على القدرة على التكيف في إتيان الفعل يمكن التغلب على عدم المعرفة بالتفاصيل. والتفاصيل هي الدالة على الفعل المؤثرة فيه لا التفاصيل غير الدالة التي لا تؤثر في سريان الفعل. ولما كان الفعل يتحدَّد أساسًا بالأفكار والبواعث والغايات وطبيعة الموقف، فإن ما سوى ذلك تفاصيل غير دالة مثل تركيب اليد أو لونها أو عدد شعيرات جلدها!

    والفعل غير المقصود وغير المروي هو الفعل الأمثل. وأفعال المصادفة والحظ ليست أفعالًا تقوم على علمٍ مسبق. وأفعال المصادفة لا تثبت إرادةً خارجية، بل لا تثبت إلا المصادفة. وحتى لو كانت كذلك فكيف تكون أفعال عدم التروِّي والمصادفة دليلًا على المؤلَّه المعبود؟

  • (٣)
    ولا يعني العلم الشامل كصفة للمؤلَّه إثباتًا للجبر بأي حال؛ فبالإضافة إلى أن ذاته تشخيص لعواطف التعظيم والإجلال وليس له وجودٌ واقعي في العالم، فإن وجود علم شامل لا يعني بالضرورة وقوعه. هناك فرق بين العلم والإرادة، بين النظر والعمل. ولكن قد يقال إن من صفات العلم الكامل تحقيقه، وإن التمييز بين العلم والإرادة أو بين النظر والعمل أو بين الممكن والواقع أو بين الماهية والوجود لا يحدث إلا في الإنسان. ففي هذه الحالة لا مفر من الوقوع في التشخيص.٤٠
    والإخبار عن شيء في الوحي بأنه سيقع أو لن يقع لا يعني إثبات أي جبر على الحوادث؛ فهذا علم مسبق معطى للإنسان كي يقيم حياته ويحقق غايته على أساسٍ نظريٍّ يقيني. فالوحي يعطي النظرية مسبقًا حتى يكون الجهد كله للعمل. الإخبار عن شيء لا يعني حدوث الشيء، بل يعني يقينًا نظريًّا مسبقًا على الإنسان أن يحققه بفعله. إن معرفة الاشتراكي المسبقة بانتصار الطبقة العاملة لا تعني تدخل أية إرادةٍ خارجية تنصر الطبقة العاملة، بل تعني إعطاء اليقين النظري اللازم حتى تقوم الطبقة العاملة بفعل الانتصار. إن إخبار الوحي بأن أمةً ما هي خير أمة أُخرجت للناس لا تعني أن هذه الأمة قد أصبحت كذلك بالفعل، بل تعني كشف إمكانيةٍ خالصة تتحول إلى حقيقة بفعل هذه الأمة وتحقيق شرطها.٤١
  • (٤)
    ولا يعني وجود إرادةٍ شاملةٍ مطلقة إلغاء الحرية الإنسانية، فهذه الإرادة معلقة بذات هو في الحقيقة تشخيص لعواطف التأليه التي هي في حقيقتها عواطف تعظيم وإجلال، إمَّا كتعويضٍ نفسي عن هزيمة أو كائنات سلطة في مجتمعٍ منتصر. ولو قيل إن إرادة المؤلَّه إرادة في ذاته، ولا تعني وقوع إرادته بالضرورة على نحوٍ إنساني لم تعد الإرادة على مستوى الكمال. فالإرادة الكاملة هي الإرادة في الذات وفي الغير على السواء. والإرادة في الذات دون الغير إرادةٌ ناقصة. وكيف يمكن تصور إرادةٍ نظرية دون إرادةٍ عملية؟ الإرادة الشاملة مثل العلم الشامل، كلاهما حقٌّ نظري لله لا ينفيان واقع الإنسان العملي كإنسانٍ عامل ومريد.٤٢
  • (٥)
    والأفعال اللاإرادية ووقوعها لا تثبت تدخل أية إرادة خارجية في سير الحوادث، بل هي أفعالٌ متوقعة من الإنسان. وكثيرًا ما وقعت أفعال دون قصد، وكثيرًا ما رمى الإنسان إلى فعل شيء فحدث شيءٌ آخر. وذلك يثبت فقط أنه لا توجد صلة حتمية بين الفعل والقصد، وذلك لأن الإنسان حر حتى في داخل فعله، وأنه يصعب التنبؤ بمسار الفعل وغايته حتى لو أعدت العدة كاملة له. وكثيرًا ما رمى العلماء إلى اكتشاف شيء فاكتشفوا غيره وهم بصدد البحث.٤٣ بل إن الفرق بين الأفعال الاختيارية وغير الاختيارية يثبت الحرية بدليل الفعل الاختياري ولا يثبت الجبر بدليل الفعل اللااختياري؛ فالفعل غير الاختياري قد يعبر عن طبيعة الإنسان ورسالته ودعوته، أو قد يعبر عن الدافع الأقوى وهو غير شعوري لا يظهر فيه الاختيار صراحة. ولكن وجود الفعل غير الاختياري لا يثبت عدم القدرة بل يثبت فقدم عدم تأثيرها.٤٤ وقد تكون الأفعال اللاإرادية في حقيقة أمرها أفعالًا إرادية من نوعٍ آخر وعلى مستوًى أعلى وأعمق في الشعور. فالمجاهد يستطيع إراديًّا أن ينتصر على آخر، ولكنه يستطيع أيضًا الانتصار على عشرة أمثاله أو عشرين، طبقًا للباعث والغاية. فاللاإرادي هنا إرادي يعبر عن طبيعة الإنسان وعن مدى إحساسه بالحياة وتمثله لدعوته وتحقيقه لرسالته. ولكن يظل الفعل الأمثل هو الفعل الإرادي. فإذا حدثت أشياء غير متوقَّعة فإنه يمكن احتواؤها بإرادةٍ جديدة وبتغيير خطط السلوك. هناك ظروف اجتماعية تحدد من عمل الإرادة، فالإرادة ليست خالصة، بل تعمل في موقف. والأشياء غير المتوقَّعة والموقف ليسا هما المعبود وإلا كانا مجرد تعبيرٍ انفعاليٍّ عاطفي عن تغير الموقف.
    ويقوم إثبات الجبر على نفي الصلة الضرورية بين العلة والمعلول، إذا وُجدت الإرادة حدث الفعل وإذا عُدمت الإرادة عُدم الفعل. فقد يحدث فعل بلا إرادة، وقد توجد إرادة ولا يحدث فعل، وهذا نفي للعلم وللفعل معًا. فالعلم يقوم على الارتباط الضروري بين العلة والمعلول. والفعل يقوم على استقلال العلة عن أي شيءٍ آخر سوى الإنسان وأنه هو المحقق للفعل. ونفي ضرورة العلم يفسح المجال للأسطورة والقضاء على الفعل يفسح المجال للطغيان الذي يجمع كل الأفعال في فعلٍ واحد هو فعل الطاغية.٤٥
  • (٦)
    وعدم القدرة على الإتيان بالضد لا يثبت وجود قدرةٍ خارجيةٍ قادرة على الإتيان به. فالسلوك الإنساني سلوكٌ موجَّه قائم على فكرةٍ واضحة، ومدفوع بباعثٍ واحد، ويرمي إلى تحقيق غاية. فالإتيان بالضد مستحيل عمليًّا ونفسيًّا وفكريًّا. فالعادل، إيمانًا بأن العدل قيمة وباعث وغاية لا يقدر على الظلم، والصادق لا يقدر على الكذب، والأمين لا يقدر على الخيانة. السلوك الإنساني سلوكٌ موجَّه يسير في خطٍّ واحد ولا يرجع إلى الوراء.٤٦ إن افتراض القدرة على الضد افتراضٌ صوريٌّ محض يقوم به المشاهد المحايد الخارج عن الفعل وكأن السلوك الإنساني سلوكٌ آلي يحدث في أي اتجاهٍ ممكن، ويتغير من اتجاه إلى آخر ما دام الفعل حرًّا. لا يعني الفعل الحر، الفعل بلا غاية ولا باعث ولا فكرة، أي الفعل الذي يسير في كل اتجاه فهذه حرية اللامبالاة، وهي حريةٌ افتراضيةٌ صوريةٌ خالصة وأقرب إلى غياب الحرية، الفعل الحر هو الفعل الهادف الملتزم القائم على باعث. إن افتراض وجود قدرةٍ أخرى أعظم قدرة على خلق الضد افتراضٌ صوريٌّ خالص يقوم على إثبات عواطف التأليه والتعظيم وعلى المزايدة في الإيمان، ولا يثبت شيئًا في الواقع. وهناك فرق بين السلوك الموجَّه كنتيجة للجبر وبين السلوك الموجه كنتيجة للجبر الذاتي؛ ففي الجبر يستحيل على الإنسان أن يكون قادرًا على الترك أو على فعل الضد، لا لأن فعله مرهون بفكرة أو باعث أو غاية، بل لأنه مسيَّر بقدرةٍ خارجية لا محيد عنها، وعادةً ما يحدث الفعل في حدود الطاقة البشرية ولا يتعداها. وإعادة شجرة مقطوعة أو حمل رجل بعد الأخرى خارج عن حدود الطاقة، ولا يثبت عجز الإنسان على الإتيان بالضد. فهذا الافتراض قائم إذن على استحالةٍ عملية؛ ولذلك فهو افتراضٌ صوريٌّ خالص لا يثبت شيئًا فوق الطاقة، ولا يقضي على الفعل في حدود الطاقة.
  • (٧)
    ولا يعني خلق الأفعال خلق الشيء، بل تأدية الشيء والإتيان بفعل. لا يعني خلق الأفعال خلق ميدان الفعل، بل تحقيق الفعل فيه. لا يعني الخلق المادي للشيء بل الخلق المعنوي للفعل الذي هو مجرد تحقيقه في موقف. فالشاعر خالق للقصيدة وليس خالقًا للورق أو الصوت أو الحروف أو الكلمات، والمحرِّر خالق للتحرر وليس خالقًا للوطن المحرَّر. يمكن إذن الإتيان بالفعل الحر في عالمٍ غير مخلوق فيه. إن الفعل لا يَخلق من العدم الوجود، بل هو فعل يحدث في الوجود ويهدف إلى تغيير بناء الواقع. هو فعل تغيير شيء موجود من وضع إلى وضع وليس فعل خلق من عدم.٤٧ لقد أصبح موضوع الحرية، ابتداءً من القرن السادس بعد ظهور الفلسفة وكأنها الخطر الداخلي على التوحيد بعد درء الأخطار الخارجية، أخطار التأليه والتجسيم والتشبيه؛ أصبح موضوعًا للإلهيات والطبيعيات وليس موضوعًا للإنسانيات، أي حرية الاختيار كأساس للتكليف. وأصبحت مسألة الحرية في الخلق والإيجاد موضوعًا طبيعيًّا وليس موضوعًا إنسانيًّا. ولكن ظل الله في كلتا الحالتين هو الطرف المقابل لفعل الإنسان الخارجي في العالم وفي الطبيعة. فإذا كانت الإرادة هي التي تهدد حرية أفعال الشعور الداخلية، فإن القدرة هي التي تهدد حرية أفعال الشعور الخارجية. الإرادة في صلة مع أفعال القلوب والقدرة في صلة مع أفعال الجوارح. الإرادة في علاقة الله بالإنسان، والقدرة في علاقة الإنسان مع الطبيعة. القدرة القديمة وحدها هي القادرة على إحداث الأجسام؛ فالحادث لا يصدر من حادث؛ لذلك ارتبط الموضوع بحدوث العالم. والتفرقة بين الحركة الإرادية والحركة اللاإرادية لا تثبت القدرة القديمة بدليل الحركة اللاإرادية دون الحادثة بدليل الحركة الإرادية؛ مما يدل على أن كل مذهب يأخذ من التجربة ما يتفق معه ومع مسلماته وأحكامه المسبقة.٤٨
  • (٨)
    وحدوث الترجيح بين البواعث لا يعني تدخل إرادةٍ خارجية أحدثت هذا الترجيح، خاصةً لو كان المرجَّح يحتاج إلى مرجِّح، وهذا إلى ثالث. وما دام لا يمكن التسلسل إلى ما لا نهاية، فيجب الانتهاء عند المؤلَّه المشخص. فبالإضافة إلى أن هذا تفكيرٌ دائري، أي أنه مجرد عاطفة أو انفعال سابق على التفكير، يظهر التفكير فيه على أنه مجرد حركة للرجوع إلى الوراء. والتفكير العلمي في مساره تفكير إلى الأمام وإلى الكشف عن المجهول. وإن احتياج الفعل إلى مرجِّح كي يحدث لا يعني حدوث هذا المرجح من الخارج، بل يتم بمقارنة البواعث أيهما أقوى ثم اتِّباع الباعث الأقوى أو بمقارنة غاية كل فعل مع غاية الآخر ومعرفة أيهما أكثر قيمةً وثباتًا أو بالرجوع إلى المصلحة العامة التي ينتهي إليها التسلسل، وهذا كله لا يحدث بطريقةٍ صورية. لا يحدث بأن يجد الإنسان نفسه محايدًا بين فعلَين منتظرًا لمرجح يوجهه نحو الأوَّل أو نحو الثاني، بل يتبع الإنسان طبيعته وتكوينه ودعوته وغايته. الاختيار بين فعلين في الحقيقة ليس اختيارًا حسابيًّا، بل هو اختيارٌ قائم على الباعث الأقوى في الحياة.٤٩

(١-٤) نقد الجبر

الحقيقة أنه يصعب التفرقة بين الأسس والنتائج والمخاطر والأخطاء للجبر، سواء في أفعال الشعور الداخلية أو في أفعال الشعور الخارجية؛ فهي كلها متداخلة فيما بينها؛ فالأسس هي الحجج، والنتائج هي المخاطر، والأخطاء هي تفنيد الحجج. لذلك وضع الكل تحت موضوع واحد وهو «نقد» الجبر.

والأسس العقلية التي يقوم عليها الجبر أسس ضعيفة بدليل تفنيد أصحاب الكسب لها مع أن الكسب والجبر يعتمدان على الأسس العقلية نفسها، ومنها تشخيص عواطف التأليه وإثبات قدرةٍ خارجية تتدخل في فعل الإنسان وإنكار استقلال الإنسان في فعله. وكذلك بدليل تفنيد أنصار خلق الأفعال له وهو تفنيد موجَّه أيضًا لنظرية الكسب لاشتراكها في الأسس العقلية نفسها التي يقوم عليها الجبر. مع أنه في عقيدة القضاء والقدر يضيع الكسب ولا يمكن القول بهما معًا؛ فهما بمثابة الإخوة الأعداء. ويمكن نقد هذه الأسس على النحو التالي:
  • (١)
    إثبات ذات مشخَّصٍ مؤلَّه قادر قدرةً مطلقة وعالمٍ علمًا شاملًا يبطل كونه حكيمًا صادقًا. وتصبح أوصافه سفيهًا ظالمًا كاذبًا لأنه يفعل الظلم ويجبر الإنسان على أفعاله ويحاسبه، يسلبه حريته ويكلفه.٥٠ وهو في الحقيقة تشخيص عواطف التأليه ثم تصور وجود شخصٍ مؤلَّه له قدرةٌ شاملة وعلمٌ محيط يتدخل في حوادث الكون ويتحكم في مصائر البشر ويوجِّه أفعال الإنسان كحقٍّ مطلق وكواقعٍ مثبت. يستطيع أن يفعل أي شيء أراده الإنسان أم لم يرده، يستطيع أن يمنع أي شيء من الوقوع أراد الإنسان حدوثه أم لم يرده، يستطيع أن يعدم الإنسان ذاته بعد وجوده وأن يوجده بعد عدمه. لا يبقى أمام سلطاته قانونٌ ثابت، ولا عالمٌ قائم. كل شيء يخضع لإرادته ومشيئته. يستطيع أن يجعل الثلج نارًا، والنار ثلجًا، أو أن يقلب الحجر ذهبًا والعصا ثُعبانًا، وأن يطلق الأشياء في الهواء دون أن تقع، وأن يوقف السهم في الجو دون أن يصيب، وأن يعاقب المحسن ويثيب المسيء، لا رادَّ لحكمه ولا رافع لقضائه. ما دامت هذه هي البداية فيستحيل إثبات فعل الإنسان الحر وإرادته المستقلة لأن البداية بداية نظرية وليست أمرًا واقعًا. وهي مقدمة تشمل الموقف والنتيجة معًا ولا يمكن بعدها إثبات شيء لأنها تتعلق بالشرعية الأولية والحق النظري الأوَّل. هي بداية تحتوي على حلٍّ مسبق هو إلغاء وجود الإنسان المستقل وفعله الحر. وبالتالي فالجبر ليس وصفًا للفعل الإنساني بقدر ما هو قرار مسبق مبني على شرعيةٍ أولية هي في الوقت نفسه أساسٍ كوني. وقد فرَّق الفقهاء من قبل بين إرادة التكوين وإرادة التشريع، الأولى كونية لا مردَّ لها، والثانية تشريعية تعطي الأمر ولا توجبه، وتفسح المجال أمام الإنسان للفعل الحر والإرادة المستقلة.

    حينئذٍ يكون السؤال: ماذا يبقى من الإنسان لو عدم وجوده؟ ماذا يبقى منه لو قضى على فعله؟ ماذا يبقى منه لو سلبت حريته؟ ولحساب من؟ ولما كُنَّا نعلم من التوحيد أن عواطف التأليه هي في أساسها عواطف تنشأ في ظروفٍ اجتماعيةٍ معينة؛ إذ ينشأ التأليه والتجسيم في مجتمع مضطهد على درجات مختلفة من الاضطهاد، كما ينشأ التنزيه والتشبيه في مجتمعٍ منتصر بصورتَين مختلفتَين: الأولى تثبت البؤرة المركزية المتعالية، والثانية تثبت سيطرتها على الواقع بالفعل، كذلك فإن إثبات الجبر يؤدي إلى إثبات السلطة في المجتمع المنتصر وإقامتها على الشرعية الأولى. ومع ذلك، وكما يحدث في المجتمعات المضطهدة، يتحول الجبر الإلهي الكوني إلى جبرٍ ذاتيٍّ باطني، أي حتمية تحقيق الإنسان لرسالته في الحياة، وضرورة تحقيق عالم الفضيلة كتعبير عن كمال الطبيعة، ويتحول إلى عملية تحرر للإنسان وللكون معًا.

  • (٢)
    يتم تصور التأليه على أنه بقدر ما يعطي المشخَّص المؤلَّه من قدرةٍ مطلقة يسلب من الإنسان قدرته، وبقدر ما يكون المشخَّص المؤلَّه حرًّا تلغى من الإنسان حريته؛ فالعلاقة بين المؤله المشخص وبين الإنسان علاقةٌ عكسية وليست طردية. بقدر ما يعطى الأوَّل يؤخذ من الثاني، وبقدر ما يؤخذ من الأوَّل يعطى الثاني. وهي علاقة تضارب وصراع تكشف عن مزاحمة بين الله والإنسان، وكأن العالم لا يكون فيه إلا بطلٌ واحد. وهذا تصورٌ خاطئ لأنه لا يوجد مؤلَّه مشخَّص في الواقع واقف للإنسان بالمرصاد. كلما أراد الإنسان أن يكون حرًّا سلبت منه حريته. ولا يأتي الإنسان بفعل حر إلا في غفلة عن المؤله أو بمرجحٍ زائد منه.٥١ والحقيقة أن العلاقة بين عواطف التأليه باعتبارها أثمن ما لدى الإنسان، والفعل وهو واقع الإنسان؛ علاقةٌ طردية؛ إذ تتحول هذه العواطف إلى أصلها كبواعث على الفعل من داخل الشعور وليست إسقاطات على الطبيعة خارج الشعور وخارج الفعل وضده. ليس للكمال وجودٌ خارجي بل هو باعثٌ إنساني نحو الكمال. ليست الإرادة الشاملة صفة لذات مشخص، بل هي إرادةٌ إنسانية تبغي أوسع نطاق لها وأكبر تأثير. ليس العلم أيضًا صفةً مطلقة لذات مشخص، بل هو دافعٌ إنساني نحو العلم يعطي الأساس النظري للفعل. ويكون السؤال: لمصلحة من تُصوَّر هذه العلاقة العكسية بين الإنسان وقيمه؟ وكيف تثبت القيمة بذاتها إذا سلبت إرادة الإنسان؟ وفي أية قيمة تعمل إرادة الإنسان لو أصبحت القيمة خاوية غير قابلة للتحقيق؟ ولماذا لا تكون العلاقة طردية، بقدر إثبات حرية الإنسان تثبت فاعلية القيمة، وبقدر ما تضمحلُّ فاعلية القيمة تضمر حرية الإنسان؟ في الجبر الذاتي وحده تكون العلاقة طردية. كلما أحسَّ الإنسان بدعوته، وهي القيمة، ازدادت حريته، وكلما ضعف إحساس الإنسان بدعوته قلَّت حريته وطواه الجبر.
  • (٣)
    وكما يتم تدمير فعل الإنسان وإرادته المستقلة كذلك يتم تدمير قوانين الطبيعة الثابتة، خاصةً ابتداءً من القرن السادس بعد ظهور الفلسفة وكأنها الخطر الداخلي بعد درء الأخطار الخارجية من التأليه والتجسيم والتشبيه. والحقيقة أن الحوادث الخارقة للطبيعة التي يظن على أنها دليل على وجود إرادة خارجية هي إرادة الذات المشخص المؤلَّه التي تتدخل في الطبيعة هي في الحقيقة حوادث طبيعية نجهل عللها.٥٢ فكل ما يظن أنه يحدث من خارج الطبيعة هو في الحقيقة يحدث من داخل الطبيعة، وبتقدم العلم يمكن معرفة القانون الذي تجري طبقًا له هذه الحوادث. وإن تقدم العلم مشروط بنقل النظرة العلمية من التفسير الخارجي إلى التفسير الداخلي، ومن الفهم بالقوى الخارجية إلى الفهم بالقانون الداخلي. وقد تكون الحادثة الخارقة للطبيعة إدراكًا خاطئًا سببه مؤثرٌ انفعاليٌّ حاد. فالإدراك الحسن مرتبط بدرجة الشعور الانفعالي كما يرى العطشان الماء سرابًا، والجوعانُ الحذاءَ دجاجةً، وكما يشعر المصاب بزلزال في الأرض وبانفتاح القبور وبدكِّ الجبال كما هو معروف في مشاهد الصلب في الأناجيل الأربعة. وعادةً ما تقع أمثال هذه الحوادث في لحظات يكون الشعور فيها في حالة صدمة وفقدان توازن تمنع من الإدراك الحسي السليم. وقد تكون هذه الحوادث الخارقة للطبيعة مجرد صورٍ فنية لا تتعدى حدود اللغة، تعبر عن قدرةٍ مطلقة من أجل إعادة بناء اعتقاد الناس والإيحاء لهم بأن هناك حقًّا مطلقًا وعلمًا شاملًا وإرادةً لا غالب لها؛ مما يعطي لهم ثقة بالنفس، ومما يجعلهم قادرين على العمل أكثر مما لو أوحى إليهم بأن هذا العالم هو عالم الثبات المطلق الذي لا يتغير. المقصود من المعجزة كصورةٍ فنية هو أن الطبيعة ميدان عمل ومجال تحقق للإرادة، وأنها طيعة لا عاصية، تقبل كل فعل. وفي الجبر تؤدي هذه الصورة الفنية إلى غرضٍ عكسي وهو اعتبار أن كل شيء في الطبيعة خاضع لسلطةٍ مطلقة وإرادةٍ شاملة لها؛ فتحولت من دافع على الفعل إلى مانع من الفعل، ومن باعث على الإرادة إلى نافٍ للإرادة. فلو انتقلنا إلى الميدان الاجتماعي قامت الصورة الفنية في الخيال الشعبي ومن خلال أجهزة الإعلام والمؤسسات الدينية بدورٍ مؤيد للسلطة في قضائها على كل معارضة. وإن حدث بعض ما يُسَمَّى بالمعجزات فإنه قد حدث في لحظات تاريخية معينة كتغيرٍ مفاجئ في ظواهر الطبيعة وتبديل لقوانينها، وذلك في نشأة الكون الأولى. ولكن بعد أن بردت الأرض واستقر نظام الكون انتهت المعجزات، وأصبح الإنسان قادرًا بعقله الكامل وبفعله المستقل على فهم العالم والسيطرة عليه.
  • (٤)
    ويؤدي الجبر إلى عكس ما يقصد إليه. فلو كان المقصود إثبات أحقية المشخص المؤله على الكون فإنه يؤدي في النهاية إلى إثباته متحولًا زائلًا متأرجحًا بين الوجود والعدم. ما دام الفعل له، والفعل المباشر منه، فإنه يرتبط بالأشياء والأفعال، يوجد حيث توجد، ويعدم حيث تعدم. حينئذٍ يتحول من القبلية الشرعية إلى البعدية العملية وينتقل من المطلق إلى النسبي، ومن الفعل إلى الانفعال، يكون محلًّا للحوادث وينقلب من النقيض إلى النقيض، ومن المسيطِر إلى المسيطَر عليه، من الحاكم إلى المحكوم، من القاهر إلى المقهور. يصبح هو والتاريخ شيئًا واحدًا مثل الكرامية أو مثل آلهة اليونان تدخل حلبة الصراع في معارك البشر.٥٣ وإذا كان المقصود من الجبر إثبات القدرة الشاملة والعلم المطلق وجميع صفات العظمة والكمال، فإن هذا القصد يتحول إلى نقيضه؛ فيثبت المؤلَّه حالًّا في الأشياء، فاعلًا فيها، قريبًا منها. ويصبح حادثًا محدودًا نسبيًّا خاضعًا لفعل الإنسان.٥٤ ففي الجبر لا الله أثبت نفسه منزَّها ولا الإنسان أثبت نفسه فاعلًا؛ وبالتالي يضيع التوحيد والعدل، ركنا العقليات ولُب العقيدة.
  • (٥)
    ومما ينقص في التنزيه انتهاء الجبر، وهو بصدد حل توهم مشكلة الحق الإلهي المطلق ونيل الإنسان منها، إلى خلق مشكلةٍ أعظم، وهو اعتبار الله مسئولًا عن الشر والقبح وكل آثام العالم وأوجاع الناس ومآسي البشر؛ فهو خالق كل شيء وفاعله. وأمرنا بفعل القبيح من ظلم وجور وكذب. وكيف يكون الخير مطلقًا وهو مسئول عن الشر في العالم؟ وكيف يصدر الشر عن الخير؟ لذلك أصبح موضوع تبرئة الله عن الشر أكثر إلحاحًا في الجبر والكسب منه في الاختيار، بالرغم من أن الحسن والقبح العقليَّين نظرية مقارنة للاختيار.٥٥
    وفي مقابل ذلك ينزع الجبر من الإنسان مسئوليته عن أفعال الشعور الداخلية من علم وجهل وظن واعتقاد، وهي أساس أفعال الشعور الخارجية، كما يسلبه مسئوليته عن أفعال الشعور الخارجية من عدل وظلم وحق وباطل، وقهر وتحرر، وفقر وغنى.٥٦ الجبر نفاق واحتجاج ومحاجَّة، وتهرُّب من الفعل والواجب بحجة الجبر؛ فالجبر نفي للحق وتهرب من المسئولية وتذرُّع بالقضاء والقدر، العقيدة الأولى في الجبر.٥٧
  • (٦)
    ويؤدي الجبر إلى قبح بعثة الرسل وعدم فائدتها وإبطال الغاية منها؛ فما دام الإنسان مجبرًا على أفعاله، ففيم التنبيه والتبليغ؟ وفيم إرسال الأنبياء والرسل؟ وفيم إرسال رسولٍ صادق؟ وكيف يمكن حينئذٍ التمييز بين الرسول و«إبليس»؟٥٨ كما يؤدي الجبر إلى إسقاط الشرائع وإلغاء التكاليف وعدم الالتزام بأي قانون ما دام الإنسان مجبرًا على أفعاله. وهو ما حدث بالنسبة للصوفية ونقد الفقهاء لهم.٥٩ كما يؤدي على الأقل إلى قبح التكاليف ومنع القدرة. فما دام الإنسان مجبرًا ولا قدرةَ له على إتيان أي فعل، ففيم التكليف الذي يتطلب القدرة على الإتيان به؟ كما يؤدي إلى قبح كل فعل بل وإلى استحالته ما دام الفعل يتطلب القدرة عليه. فالإنسان لو لم يكن مختارًا لقبح تكليفه، والتكليف ليس تحصيل حاصل؛ فالإنسان قادر على الفعل ولا شيء مقررًا عليه إلا في حساب عام للكون ومسار التاريخ وقانون حركة المجتمعات والشعوب. فلا يتم فعل إلا بوعي الأفراد وحركة الجماهير، وبقيادة رشيدة وبفكرٍ عملي وبقانون تاريخ. ولا يقال إن التكليف مجرد داعية إلى الفعل الذي يخلقه الذات المشخص؛ لأن التكليف سيظل في هذه الحالة فائضًا لا لزوم له ما دام الفعل مخلوقًا من الله.٦٠ كما ينتهي الجبر إلى قبح الأمر والنهي، فما دام الإنسان مجبرًا على أفعاله ففيمَ التوجيه نحو الفعل أو نحو عدم الفعل؟ فالأمر والنهي لا يوجهان إلا إلى القادر على الفعل.٦١ وفي نفس الوقت لا يُجوِّز الجبر تكليف ما لا يُطاق ما دام الإنسان ليس هو الفاعل، وما دام الفعل ليس مرتبطًا بحدود الطاقة الإنسانية.٦٢ وينتهي الجبر إلى إبطال النعمة أو الدعاء والشكر على التوفيق دون الخذلان. فما دام الإنسان مجبرًا على أفعاله فإن لن يسأل التوفيق، ولن يسعى إلى الفعل، ولن يطلب الهداية، ولن يشكر إذا ما تحقق ما سأل وطلب ورجا.٦٣ كما يؤدي إلى إبطال استحقاق المدح والذم؛ فالمجبر على أفعاله لا يستحق المدح أو اللوم لأنه لم يُحدِث شيئًا بفعله بل أحدثه غيره فيه. ولا يستحق الإنسان اللوم أو الثناء إلا إذا كان مسئولًا عن فعله قادرًا عليه. ولا يقال إن المدح والذم باعتبار المحلية لا باعتبار الفاعلية لأن المحال أفعال.٦٤ وأخيرًا يؤدي الجبر إلى إبطال الثواب والعقاب على الأفعال. يحيلهما الجبر لعدم مسئولية الإنسان على الأفعال، ومِنْ ثَمَّ إبطال الوعد والوعيد. ولا يقال إن الثواب والعقاب مجرد عادة، فالعاديات حوادثُ طبيعيةٌ لا دخل لفعل الإنسان فيها. أمَّا الأفعال فهي تتأتى بفعل الحرية. ليست الأفعال إلا مجرد علامة على الثواب دون أن تكون هي المقررة للثواب والعقاب. ليس للعلامة أية دلالةٍ خاصة لأنها يمكن أن تكون فعلًا بل أي شيء آخر. العلامة إنكار للفعل كما أن الفعل المجازي إنكار له. الفعل حقيقة واعتباره مجازًا هو فقط تغيير في لفظ الجبر.٦٥
  • (٧)
    وفي تفنيد الجبر توجه إليه الحجج التي يعتمد عليها الكسب لإثبات الحرية وهي التفرقة بين حركة المرتعد والحركة الاختيارية لإثبات أولوية الحركة اللاإرادية وهي حركة المرتعش على الحركة الإرادية وهي حركة المختار. وهي حجة ذات شقَّين إمَّا تثبت الجبر نظرًا للحركة اللاإرادية أو تثبت الكسب نظرًا للحركة الإرادية. ومع ذلك لا تميز عقيدة الجبر بين المستويات بين المضطر والمكتسب والمختار، بين الملجأ وما ليس بملجأ ووضع الأفعال كلها في قالبٍ واحد وهو الاضطرار ثم الاضطرار من الخارج وليس من الداخل. وهناك فرق في السلوك. يحدث المضطر إمَّا لعجز به أو فيه أو لصعوبة الإتيان بفعل في موقف لا يسمح بتحقيقه، وهو اضطراري يمكن معرفة علَّته. إذا زالت العلة زال المعلول. ويحدث المكتسب بالممارسة وبتكرار الفعل بالتربية داخل الجماعة الداعية. ويحدث المختار طبقًا للباعث الأقوى نتيجة لاختلاف القيم بين الشدة والضعف في التمثل. يؤدي الجبر إذن إلى إلغاء المستويات وعدم التمييز بين الأفعال وإثبات أن العالم واحد والفعل واحد وبالتالي يمحى الفَرق بين الله والإنسان، بين إرادة الله وإرادة الإنسان، بين قدرة الله وقدرة الإنسان، وجعل الله على مستوى الإنسان، والإنسان على مستوى الله في حين أن العقيدة والشريعة كلتيهما تقومان على التمييز بين المستويات.٦٦ في حين تثبت حرية الاختيار عندما تتم التفرقة بين المستويات، ويُقضى عليها بإرجاعها كلها إلى مستوًى واحد.٦٧ لذلك يخلط الجبر بين فعلَين فعل التأليه وفعل الإنسان. فعل التأليه واجب نظرًا طبقًا لعواطف التأليه، وفعل الإنسان واجب نظرًا وعملًا. كما يعطي الأولوية لفعل التأليه على فعل الإنسان. وفعل التأليه هنا يعني الموقف الذي يمارس الإنسان فيه حريته، ثم ينكر فعل الإنسان ويثبت فعل التأليه وكأن الإنسان يضحى بحقِّه كليةً في سبيل الإحساس بالغموض والتوهُّمات المستقبلية. ثم تفسير الأفعال وكل مظاهر الطبيعة بالعلة الأولى دون العلل الثانية؛ وبالتالي تنتهي حرية الإنسان كما يقضي على العلم. وبالرجوع إلى الفعل الإنساني وتحليل السلوك البشري يمكن اكتشاف أن الفعل الإنساني الحر ليس هو الفعل العقلي وحده بل فعل الشعور.٦٨ وكل إنكار لذلك إنما هو توهمات وأخطاء في استعمال الألفاظ مثل الجواز والصحة والتوهم. فالجواز قد يفيد الشك إذا كان المقصود به الفعل الإنساني، وقد يعني الصحة إذا كان المقصود به فعل التأليه؛ فكل لفظ يحتمل معنيَين يصح أحدهما على فعل الإنسان والآخر على فعل التأليه.٦٩
  • (٨)
    ويقوم الجبر على إبطال العادات والعرف والمألوف. يفنده الإحساس بالحرية والشعور البديهي بالمسئولية، وما هو أساس للحياة الخاصة والعامة. فحدوث الحرية بالفعل في الواقع أكبر دليل على وجودها. وما الحاجة إلى إثبات شيء هو موجود بالفعل؟ كما أن الجبر إبطال لحكم العقل واعتماد على اللامعقول، ومنع السؤال والتساؤل والفهم، والاعتماد على السلطة والطاغوت والأسطورة.٧٠ مع الجبر تستحيل المعرفة؛ وماذا تجدي المعرفة ما دام العقل لا يتم بأساسٍ نظري عن وعي وتدبر؟ وما الحاجة إلى العقل والبحث والنظر والإنسان مفعول فيه؟٧١ والجبر شهادة زور؛ لأنه دفاع عن الذي يحتج بالجبر ويُنكر شهادة الحسِّ والوجدان، ويقول غير ما يشعر به.٧٢ ويتجاوز الجبر حدود المعرفة الإنسانية، بداهة العقل والحس وشهادة الوجدان، فيمتد إلى العالم الآخر؛ وبالتالي يقع في خطأٍ مزدوج، الجبر في الدنيا والجبر في كل العوالم الممكنة الأخرى في الحياة أو بعد الموت. فالجبر في هذا العالم لا يؤيده عقل أو تجربة أو حياة. والجبر في العوالم الأخرى هو استمرار للجبر في هذا العالم حتى ولو كان في عالمٍ أفضل يجد فيه الإنسان تعويضًا عن عالم البؤس والحرمان، في عالم من النعيم والاكتفاء، ومن عالم الظلم والقسوة إلى عالم العدل والرحمة؛ فهو عالمٌ نفسيٌّ مسقطٌ مشخص يعبر عن حرمان الإنسان وضيقه بالظلم ورغبته في التعويض وأمله في الخلاص. وكل القوانين التي يتصورها الإنسان تحكم هذا العالم الآخر هي قوانين بالتمني.٧٣ إن الحرية تثبت في هذا العالم، وإثباتها أو إنكارها في عالمٍ آخر لا يزيد ولا ينقص من ثبوت الحرية في هذا العالم بل يكون مجرد تشويش عليها وإفساح مجال للجبر الأخروي. وما فائدة إنكار الحرية في عالمٍ آخر ما دام التكليف قد انتهى بانتهاء الحياة؟ حتى ولو أمكن تصوُّر حياةٍ أخروية كيف يمكن تصورها بلا حرية؟ وكيف ينعم الناس عندما لا يكونون قادرين بل عندما يكونون مضطرين حتى إلى النعيم الأبدي؟ حتى الجزاء لا يكون جزاءً إلا إذا كان نتيجة فعلٍ حر، ويكون الفعل حرًّا دون عصمة. فالعصمة أيضًا جبر؛ لأن الإنسان لا يقدر على فعل الخطأ. والجبر في النعيم الأخروي عذاب النسبة للحرية في العذاب الدنيوي.٧٤ يبدو أن الاستحقاق كواجبٍ عقلي جعل المثاب مضطرًّا إلى الثواب، والمعاقَب مضطرًّا إلى العقاب، وهو اضطرار القانون. والحقيقة أن العالم الآخر ليس عالم فعل بل عالم ثواب، ليس عالم امتحان واختبار بل عالم يتم فيه حصر النتائج. ففي هذا العالم يتم الكشف فيه عن حصيلة الفعل بعد أن يكون قد تم كل فعل.
  • (٩)
    ويبطل الجبر تعلق الفعل بالإنسان ووقوعه حسب دواعيه، وإلغاء البواعث على الفعل ومسئولية الإنسان عنه، بل القضاء كليةً على الإنسان الفاعل الحر القاصد المحقق. فالجبر تسوية للإنسان بظواهر الطبيعة وتحويله إلى آلة تحقق مقاصد الغير.٧٥ يؤدي الجبر إلى نفي حرية الإنسان وقدراته وبواعثه ودواعيه وصوارفه، وأهدافه ومقاصده وغاياته، وتخطيطه وتعلمه وتجاربه، وأخطائه ونجاحه وفشله، وسلبه حياته ووجوده، وفعله ورسالته وكل شيء، وإبداعه وخلقه وفنه وشعره، وجهاده ونضاله. وإذا كان كل فعل حكمه قضاؤه، وأفعاله ليست معللة بغاية أو سبب فإنها تصبح غير مفهومة ولا قصد لها ولا غاية ولا سبب، وهي الأفعال العشوائية المتناقضة التي تقوم على العبث والسخف واللامعنى والتناقض. ويؤدي الجبر إلى القول بالطبع وأن كل إنسان يفعل ما هو مطبوع عليه، وجوهر الطبع هنا هو الجبر في حين أنه إذا كان الطبع هو الطبيعة فإن الطبيعة حرة.٧٦ وينفي الجبر التولد في الطبيعة واستمرار القدرة لنفيه القدرة أصلًا؛ وبالتالي ترك العالم وتوقف الفعل فيه.٧٧
  • (١٠)
    ويؤدي الجبر في عقيدته الأم، القضاء والقدر إلى الرضا والاستكانة وقبول الخير دون زيادة، والشر دون نقصان. يصبح الرزق معدًّا من قبلُ، لا تغيير في وضع الإنسان ولا تبديل. يتم الرضا بالشر وقبوله وإيجاد العلل له كالامتحان والاختيار فالمؤمن المصاب، وينتهي الإنسان إلى تبرير الشر وتعقيله ثم قبوله والرضا به.٧٨ وبعد أن يتحول الجبر إلى موروث في الدين الشعبي تظهر سلبياته العملية ويختفي الحق الإلهي النظري الذي كان الدافع على صياغته. يصبح الجبر السبب الرئيسي في استكانة الشعوب ومنعها من الثورة والغضب والتمرد والمعارضة والدفاع عن الحقوق فتنتهي إلى الاستسلام والرضا، وقبول الأمر الواقع، وما به من فقر وجهل وتخلف وقهر، ما دامت الشرور والآثام واقعة حتمًا، لا يمكن تغييرها إلى نفع وصلاح. ويكون ذلك في الماضي والحاضر والمستقبل، في كل الزمان؛ ومن ثَمَّ تنعدم الثورة في الحاضر ولا يُعدُّ لها في المستقبل وتدان في الماضي، ويغيب النموذج التاريخي فيصبح الإنسان خارج الزمان والمكان وخارج التاريخ. معنى الرضا بالقضاء والقدر هو عدم الاعتراض على حكم الله السابق وإرادته الأزلية. وما أسهل بعد ذلك أن يأتي الحاكم ممثلًا لإرادة الله ويطالب الناس بالتسليم والرضا والقبول فيمتنعون عن الاعتراض. وكأن الإنسان في مواجهة حاكمٍ قاهر وسلطانٍ جائر تجُبُّ مشيئته وإرادته مشيئة المحكوم وإرادته؛ وبالتالي يؤدي تبرير الشر على أنه خير، وتحريم السخط على أنه رضا إلى عدم الثورة على الظلم، ونهاية الغضب من القلوب، والثورة في الشعوب.٧٩

(٢) نظرية الكسب

مع أن الكسب هو النظرية الثالثة تاريخيًّا بعد الجبر وخلق الأفعال، يحاول الجمع بينهما على التوسط، إلا أنه هو الخطوة الثانية لأفعال الشعور الخارجية كما كان الحال في أفعال الشعور الداخلية في الحلول المتوسطة لأنه يحاول الخروج من الجبر والاقتراب من خلق الأفعال بصرف النظر عن مدى نجاح المحاولة. والقول به اتجاه عام لا يميز طائفة عن أخرى وإن كان أصبح ممثلًا لكبراها ومميزًا لها، وبالتالي أصبح مرادفًا لعقائد الجمهور، وعقيدة رسمية للدولة.٨٠ وقد ظهر الكسب في العقائد المتأخرة وكأنه النظرية التاريخية الدائمة والنظرية الدينية الشرعية التي لا يستطيع أحد الخروج عليها، طبقًا لعقائد أهل السنة، استسهالًا للأمر؛ فالعقائد المتأخرة عندما غاب عنها الأساس النظري لم يبقَ منها إلا هذه النظرية التي تخاطب الإيمان ويسهل عرضها بالعقل،٨١ أو تملقًا للجماهير لأنها تزايد على الإيمان مثل الجبر أو دفاعًا عن السلطة ما دامت الأولوية للقدرة ليست للإنسان، وما دام الإنسان مازال تابعًا للإرادة الخارجية. والنظرية بالنسبة إلى الجمهور تعطي له الحسنَيين معًا، الله وذاته، وتجعل الله عمادًا لذاته وأساسًا لها، ومِنْ ثَمَّ يجد له مستقرًّا ومتاعًا، ويركن إلى ركنٍ أمين.

(٢-١) تعريف الكسب

هل نظرية الكسب منفصلة عن عقيدة الجبر؟ إن الكسب في الحقيقة لا يختلف عن الجبر، وهو يوضع في كثير من الأحيان معه.٨٢ يعتمد على التحليلات نفسها التي يعتمد عليها الجبر؛ فإثبات أحدهما يسهل إثبات الآخر، ونقد أحدهما يسهل نقد الآخر. وتتوقف كثير من تحليلات الكسب عند إثبات خلق المعبود للأفعال دون اعتناء بإثبات الكسب وكأن إثبات خلق الأفعال للمعبود وإثبات الكسب للإنسان شيءٌ واحد مما يدل على أن الكسب مجرد تنوُّعٍ صغير داخل الجبر. يبدأ الكسب بمسلَّمات الجبر وبقضيته الأولى وهو لا خالق إلا الله ولا فاعل إلا الله، سواء كان من أكساب العباد أو من غير أكسابهم وكأن الأمر مجرد تغيير لفظ بلفظ أو إعطاء الإنسان الفتات إيهامًا وخداعًا.٨٣ بل إن لفظة الكسب قد لا تعني شيئًا على الإطلاق إنما أريد بها التمويه على الجمهور أنها تفيد شيئًا غير الجبر وهي في الحقيقة لا تفيد إلا الجبر.٨٤ الكسب اسم بلا مسمى، لفظ بلا معنى، كلمة تشير إلى لا شيء، وتكشف عن مجرد الرغبة في إثبات الجبر بطريقةٍ ملتوية توحي بأنها لا تنفي خَلْق الإنسان لأفعاله وإثبات مسئوليته عنها. فهو مجرد وسيلة للقيام بتفكيرٍ مقنع يكشف عن موقف نفاق على عكس خلق الأفعال كموقفٍ عقليٍّ صريح.٨٥ كذلك يمكن استعمال حجج الجبر تأييدًا للكسب، وحجج الكسب تأييدًا للجبر. كما يمكن تفنيد حججهما معًا بالطريقة نفسها؛ نظرًا لتداخل النظريتَين.
والحقيقة أن الكسب نظرية في الجبر لأن كليهما ينفي استقلال قدرة العبد وتأثيرها في العالم أو أنها تؤثر بفضل سببٍ أعلى، وتسلسل الأسباب إلى أن يصل إلى السبب الأوَّل؛ لذلك يقوم تصور العالم عند الفلاسفة أيضًا على الجبر نظرًا لرفض واجب الوجود المشاركة في أفعاله؛ ومِنْ ثَمَّ استبعاد الحرية الإنسانية. توضع إذن نظريات الفلاسفة في الصدور والثنوية في ثنائية النور والظلمة والمنجِّمين في الأفلاك مع الجبر. ويكون الجبر هنا علاقة بالكون أكثر منه علاقة بالسلوك الإنساني.٨٦ لا يقوم الكسب على القدرة المؤثرة أو على الإيجاد؛ لذلك يكون أقرب إلى الجبر منه إلى الاختيار لأنه معلق على شرط لا دخل لحرية الاختيار فيه وهي القدرة التي توجد في الإنسان إلا إذا كانت هذه القدرة نابعة من باطنه: القفز على العمل، رؤية للغاية وقد تحققت بالفعل، استعداد للتضحية والتوتر في اللحظة، الخلق المستمر الناشئ عنها. وكأن الكسب كان مجرد وسيلة للهروب من المشكلة لما كان الله هو الخالق والعبد هو الفاعل. وقد اقترن في العقائد المتأخرة بالجبر وكأن الكسب أحد نتائجه أو أحد فروعه أو أحد تطبيقاته. ربما كان الكسب في البداية؛ نظرًا لقوة خلق الأفعال وحرية الاختيار، يعترف بتأثير القدرة. أمَّا الكسب في العقائد المتأخرة فإنه يقوم على القدرة غير المؤثرة وبالتالي لم يعد هناك فرق بينه وبين الجبر. قد يكون الفرَق بين الجبر والكسب أن الجبر لا يُثبت قدرة على الإطلاق في حين أن الكسب المتقدم كان يُثبت للقدرة أثرًا. أمَّا الكسب المتأخر فهو أقرب إلى الجبر المتوسط فيثبت قدرة للإنسان ولكنها غير مؤثرة.٨٧
والحقيقة أنه لا وسط بين الجبر والحرية. الكسب نفسه صورةٌ أخرى من صور الجبر، أقل عقلانية وأضعف نظرًا.٨٨ ومع ذلك يظل للجبر ميزة هي وضوحه النظري؛ فالمعبود خالق أفعال الإنسان. أمَّا الكسب فإنه وإن كان يشارك الجبر إلا أنه يحاول الخروج منه فلا يستطيع. ويظل يدور حول الألفاظ والأسماء دون معانٍ أو مسميات حتى لقد أصبح الكسب مثالًا للغموض والصعوبة وعدم الوضوح فقيل: «أصعب من الكسب».٨٩ الكسب لا يختلف عن الجبر في أي حال، بل إنه خرج من الجبر ليكون أكثر اتفاقًا مع العقل ولكي يكون هناك أساس للتكليف والمدح والذم ثم صار الكسب أكثر تعارضًا مع العقل. وأصبح الجبر القديم بالنسبة إلى الكسب أكثر اتفاقًا مع العقل لأنه على الأقل أوضح وأصرح.٩٠
وكثيرًا ما يثبت الكسب بطريقة إثبات الطرفين دون أية محاولة لبيان الأساس العقلي للجمع بينهما.٩١ وقد يثبت الكسب بإثبات طرفَي النقيض دون أي أساسٍ نظري أو تحليلٍ عقلي لوجه الجمع وكأن الأمر واضح بذاته. وهذا أكثر أمانة لأن أية محاولة نظرية يسهل تفنيدها عقلًا وواقعًا، حسًّا ووجدانًا، فيترك الأمر تعبيرًا عن مقتضيين، إثبات حق المؤلَّه المشخَّص وإثبات حق الإنسان. ولما كان الكسب لا يعني إلا الجبر فإنه ينتهي إلى إثبات حق المؤلَّه المشخَّص دون حق الإنسان.٩٢ والجمع بين الجبر والاختيار بصورةٍ مجرَّدةٍ خالصة وعلى أساسٍ منطقي لا يحكم على الفعل بشيء مثل جواز وقوع حكمَين مختلفَين على شيءٍ واحد من وجهين مختلفَين. فهذا منطق الجهة الذي لا يفيد في الحكم على الفعل ووصف نشأته وتمامه. فالفعل في الواقع لا يكون إلا فعلًا من قادرٍ واحد، ولا يكون له إلا قصدٌ واحد وغايةٌ واحدة ومحلٌّ واحد.٩٣
والكسب وسيلة لجعل مقدور لقادرَين، والبرهان على ذلك الفرق بين الحركة الإرادية وحركة المرتعش؛ الأولى تثبت الإرادة والفعل والقدرة، والثانية تثبت الجبر مع أنها حركةٌ عضوية خالصة طبقًا لقوانين الطبيعة الحية، ولا تثبت أية قدرةٍ خارجية.٩٤ ويستحيل إثبات مقدور لقادرَين؛ فالمقدور واحد، والقدرة واحدة، والقادر واحد. ولما كان الإنسان بالتجربة يشعر أنه القادر فهو خالق أفعاله. لا يمكن في هذه الحالة أن يكون القادر هو الله لأنه الخالق؛ لأن هذا استدلال وليس تجربة، حقٌّ كلي وليس فعلًا جزئيًّا. إن إثبات جواز مقدورٍ واحد لقادرَين على البدل محاولة لإعطاء الطرفين حقهما، حق الذات المشخص وحق الإنسان الحر. ولكنها تؤدي إلى مشاكلَ أعظم مثل مساواة الإنسان بالله، وهو ضد عواطف التأليه، وجعله قادرًا على ما يقدر عليه، وهو أيضًا ضد تمييز الإرادة المطلقة.٩٥ فإن ثبتا حكمًا لوجَهين يكون السؤال: من أي موقف يصدر الحكم، من الله أم من الإنسان؟ ولما كان المتكلم إنسانًا، فإنه لا يستطيع أن يصدر حكمه إلا بناء على الموقف الإنساني فيرى نفسه قادرًا.٩٦
ويحاول الكسب أن يكون وسطًا بين الإيجاد والخلق، ولكن يظل كل وسط أقرب إلى طرف منه إلى الطرف الآخر، ويظل الكسب أقرب إلى الإيجاد منه إلى الخلق.٩٧ وهناك فرق بين الخلق والكسب؛ فالخلق موجود بإيجاد الموجِد يلزمه حكم وشرط. الحكم هو ألا يتغير الموجد بالإيجاد فيكسبه صفة ولا يكتسب عنه صفة، والشرط أن يكون عالمًا به من كل وجه. أمَّا الكسب فهو المقدور بالقدرة الحادثة ويلزمه أيضًا حكم وشرط. الحكم أن يتغير المكتسب بالكسب فيكسبه صفة ويكتسب عنه صفة، والشرط أن يكون عالمًا ببعض وجوه الفعل. ويبدو أن الكسب هو جمع لعدة أفكار دون رباط عقلي أو اتساق. وهي صفة كل الأفكار الوسطية لإرضاء جميع الأطراف. وقد اختلف في تعريفها وفي عرضها. يحاول الكل الاقتراب منها ووصف كيفية الجمع بين هذه الأطراف المتعارضة. يقوم الكسب أحيانًا على أمور أربعة: إرادة سابقة، وقدرة، وفعل، ورابطة بينهما. فالكسب هو فعل القدرة الحادثة أو فعل الإرادة الحادثة. وما يهم في هذا التعريف أن يكون الفعل حادثًا مخلوقًا، أي تابعًا لقدرة أو إرادةٍ أخرى. وهذا يعني وقوع المقدور دون انفراد بالقادرية؛ فالكسب لا تأثير فيه لقدرة الإنسان.٩٨ لذلك ينفي الكسب عن نفسه المشاركة؛ مشاركة الإنسان للمؤلَّه المشخص في أي فعل من الأفعال؛ لأنه لا فعل له، والفعل كله للمؤلَّه المشخص.٩٩
ونظرًا لصعوبة وجود أي أساسٍ عقلي لنظرية وسط تجمع بين الجبر والحرية، رغبةً في إثبات الطرفَين واقتضاءً لكلا المطلبَين؛ حرية الإنسان وحق المؤلَّه المشخص، يثبت الكسب ويتوقف عن الحكم فيه لعدم الوقوع في الاضطراب العقلي والخلخلة النظرية. ويجوز التوقف عن الحكم في المسائل الموضوعة وضعًا خاطئًا حتى لا يدخل العقل في متاهات لأسئلةٍ خاطئة وشباكها. ولكنه في هذه الحالة يكون رفضًا للمسألة ذاتها دون إثباتها ورفض الدخول في الأساس العقلي للإثبات. التوقف عن الحكم العلمي هو رفض السؤال والجواب معًا لا إثبات الإجابة ورفض البرهنة عليها؛ لأنه يكون قبولًا بلا برهان.١٠٠
وأحيانًا تتحول عواطف التعظيم إلى النقيض. فإذا كانت الغاية من القول بالكسب إعطاء المؤلَّه المشخَّص فعله والإنسان حريته، فإنه ينتهي إلى جعل المؤله المشخص كالحاوي أو اللاعب يظهر شيئًا ويخفي أشياء، يبيح بسر ويكتم آخر، وبالتالي ينتهي التوسط إلى سرٍّ مغلق مستحكم.١٠١
ونظرًا لصعوبة إيجاد حلٍّ وسط بين الجبر والحرية عقلًا، فإنه يتم التوحيد بينهما بالإيمان. والإيمان ليس برهانًا ما لم يكن إيمانًا نظريًّا؛ فالعقل أساس الوحي. واللجوء إلى الإيمان تملُّق للعوام ومحو للفكر وإثبات للغموض. والعجيب أن يكون هذا موقف بعض حركات الإصلاح! وكيف يحدث إصلاح على أساس الإيمان دون العقل، والتقليد دون الفهم، خاصةً لو كان الملجأ في النهاية هو التصوف الذي به يستطيع الإنسان هتك الأسرار ورفع الحجاب! صحيح أن العقل قد تتغلف بديهته، وقد لا يعطي معاني بقدر ما يستخدم الألفاظ. ومع ذلك فالبديهة ممكنة والعبارة الواضحة جائزة. ليس العقل هبةً معطاة، بل إمكانية عقل تمارس بالنظر. ويمكن إثبات الحرية للجمهور إثباتًا عمليًّا دون التقيد بالضرورة بالأساس النظري وتحليل الخبرات، حرية الدفاع عن الحق، وحرية تقرير المصير، وحرية الحصول على الخبز. فهذا يمنع من التقليد لأن التقليد في ذاته محو لحرية الفكر والحركة.١٠٢
ومع ذلك فالكسب في اللغة هو كل فعل يُستجلَب به نفع أو يندفع به ضرر، أي إنه لفظ يصف حياة الإنسان العملية فيما يتعلق بالمصالح العامة وبوسائل العيش. أمَّا الكسب الاصطلاحي فلا معنى له، ولو كان له معنًى مخالفٌ للمعنى اللغوي لاصطلح عليه؛ فالكسب الأشعري ليس تصورًا وليس مشتقًّا من المعنى اللغوي بل مجرد لفظ لا يدل على شيء إمَّا لغةً أو اصطلاحًا.١٠٣
الكسب الأشعري في ذاته غير معقول وليس له أي أساسٍ نظري؛ لذلك لا يمكن حده لأن الشيء يُعقَل أوَّلًا ثم يُحَد ثانيًا. ولا يقال إن إنسانًا بعينه لم يعقله لأنه لم يعقله أي أحد على اختلاف المذاهب والفِرَق وطول الجد وقِدَم العهد. ولا يقال إنه عُقِل ولكنه لم يعبر عنه؛ فهذه وسيلة الضعيف الذي لم يعقل شيئًا ويتحجج بصعوبة اللغة. وما أسهل التعبير عن الفكر الواضح بلغةٍ واضحة. إنما تدل عدم القدرة على التعبير على أن الشيء المراد التعبير عنه إن هو إلا مجرد عاطفة أو انفعال.١٠٤ إن أقصى ما يمكن معرفته من الكسب هو أنه لا يمكن معرفته إلا بالإضافة، أي بإضافة الفعل إمَّا إلى المؤلَّه المشخَّص وإمَّا إلى الإنسان، في حين أن الشيء يجب أن يعرف في نفسه أولًا قبل أن يعرف بالنسبة إلى غيره. وهذا مستحيل بالنسبة إلى الكسب؛ لأنه غير معقول في ذاته.١٠٥ واعتبار القدرة مخلوقة لا يعطي أي أساسٍ عقلي؛ لأن السؤال ليس نشأة القدرة ومصدرها، فذلك سؤالٌ عام عن مصدر كل شيء بما في ذلك الإنسان، بل عن أثر القدرة وفعلها.١٠٦ واعتبار أصل الفعل من المؤلَّه المشخص ونوع الفعل من الإنسان؛ لا يجعل الكسب أكثر وضوحًا في معنى الأصل إذا كان هو القدرة فقد عاد إلى الجبر. وماذا يبقى للعبد من الفعل إن لم يكن صاحب القدرة عليه؟١٠٧

ومع ذلك فقد قيلت عدة تحديدات للكسب لا تفيد شيئًا، يرفضها العقل والحسُّ، وتُناقضها التجربة والمشاهدة. قيل مثلًا في تعريف الكسب.

  • (١)
    «ما حله مع القدرة عليه». وهو لا يفيد شيئًا ولا يعني شيئًا. وإن عنى شيئًا فإنه لا بد أن يؤدي إمَّا إلى الجبر وإمَّا إلى الحرية. فإن أدى إلى الحرية تثبت الفاعلية والقدرة والتأثير والاختيار.١٠٨
  • (٢)
    «ما وقع بقدرةِ محدِثه». لأن ما وقع بقدرةِ محدِثه قد يقع إمَّا اختيارًا وإمَّا كسبًا، ولا يعني وقوعه كسبًا بالضرورة. ولما كان الكسب مجهولًا فإنه لا بد وأن يقع اختيارًا. وهذا التعريف يثبت القدرة ولا ينفيها. فضلًا عن أنه يقتضي أن يكون للفاعل قدرة وتأثير. وما دام للإنسان قدرة وتأثير فإنه يكون صاحب فعله. وإن كان الكسب لنا ومتعلقًا بغيرنا فكذلك القدرة، وهذا يثبت القدرة ولا ينفيها.١٠٩
  • (٣)
    «ما وقع باختيار الفاعل». وهذا إثبات للفعل القصدي وللحرية لا نفيًا. واقتضى أن فعل الساهي لا يكون كسبًا ولا يدل على تدخل أية إرادة داخلية فيه لأنه فعل سقط عنه الاختيار وغاب منه القصد. ويكون الفعل المتولد الناتج عن الفعل الأوَّل فعلًا للإنسان؛ لأنه وقع باختياره وليس بتدخل قدرةٍ خارجية سببت وقوعه أو منعت من وقوعه. وهذا تعريف يوهم بأن الاختيار يتعلق بالفاعل في حين أن الكسب لا يتعلق بالفاعل. وكيف يتعلق بالفاعل ولا فاعل في الشاهد يدل على الكسب؟١١٠
  • (٤)
    «التفرقة بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية»، وهذا ليس تعريفًا بقدر ما هو وصف واقعة، أي إنه يشير إلى سلوك ولا يعطي معنًى عقليًّا. والسلوك الاختياري واقع، والاضطراري واقع. والسلوك الاضطراري له مسبباته وهي الموانع التي تمنع الفعل من أن يقع اختيارًا. والموانع إمَّا بدنية أو نفسية أو اجتماعية. والتفرقة بين الحركتين لا تثبت إلا في الاختيار، ولا تثبت في الكسب، ولا تثبت شيئًا في الكسب لأن كليهما بفعلٍ خارجي سواء في الفعل المباشر أو في الفعل المتولد؛ فالتفرقة لا تثبت شيئًا في الكسب بل لا تثبت إلا حدوث الأفعال بقدرة الإنسان.١١١
  • (٥)
    «وقوع هذه الحركات المختلفة المتباينة سواء أفعال الجوارح أم أفعال القلوب»، ولا يثبت هذا التعريف أكثر من حدوث الأفعال لا كسبها، وحدوث الأفعال واقع بالقصد والإرادة وتباينها تباين القصد والإرادة، وأجزاء الفعل لا تكتسب، فالفعل تحقيق للقصد، والقصد باعث على الفعل.١١٢

(٢-٢) حجج الكسب

ويعتمد الكسب على عدة حجج كلها خاطئة. وكلها تثبت أن الإنسان ليس صاحب أفعاله، وأن هناك قوةً أخرى مسيطرة عليها، فهي حجج تشكك في قدرات الإنسان على الفعل وتجعله مجرد مستقبل لقدرةٍ أخرى تتحكم في أفعال وهي صاحبتها. مهمة هذه الحجج إثبات عجز الإنسان وزحزحته عن مكانه وانتزاع مسئوليته منه؛ فهي حجج لتدمير الإنسان والقضاء على أفعاله مثل:
  • (١)
    الفعل اللاإرادي أو اللاقصدي.١١٣ إن وقوع الأفعال بخلاف القصد ليس دليلًا على تدخل إرادةٍ خارجية، وأن الإنسان ليس هو الفاعل، فكثيرًا ما قصد الإنسان إلى فعل شيء وحدث فعلٌ آخر مخالف لقصده. وهذه هي طبيعة الفعل الحر وليس فعل الجبر أو الكسب. قد يرجع وقوع الفعل على خلاف القصد إلى عدم المعرفة بالفعل وغايته، فيقصد بالفعل إلى غايةٍ أخرى كمن يجهل أن الكفر قبيح وأن الإيمان حسن ويريد أن يسعد بالكفر وأن يمرض بالإيمان. والفعل غير المروي لا يدل على وقوع الفعل من فاعله، بل على وقوع فعل غير مقصود، سواء كان ذلك في الأفعال الداخلية أم الخارجية. وهل الإنسان لا يفعل إلا وهو في غفلة أو سهو أو عن غير قصد أو جهل وإن كان كل ذلك دليلًا على وجود فاعلٍ قاصدٍ عالم قادر مخترع لها، وكأن أفعال الإنسان لا تحدث إلا عن فوضى وعبثية، وأن ذلك يثبت وجود فاعل متقن ومنظم وحكيم لها، وكأن إثبات الله لا يتم إلا بتدمير الإنسان؟ ولما كانت الغاية هي البحث في الفعل الإنساني، فإن هذه الغاية يتم تدميرها منذ البداية باكتشاف عناصر في الفعل الإنساني لتثبت أن الإنسان ليس صاحب أفعاله، أي إن الغاية الحقيقية هي الغاية العكسية. ليست الغاية إثبات فعل الإنسان له، بل نزع فعل الإنسان منه. ثم تتحول هذه الأفعال الاستثنائية وتصبح هي القاعدة، وتصبح كل أفعال الإنسان أفعالًا لا قصدية، وتختفي الأفعال القصدية مع أنها هي الأساس والأفعال اللاقصدية هي الاستثناء؛ فالمتكلم واقف للإنسان بالمرصاد، متربص به كي يعصف بإرادته وقدرته وفعله الحر. وهذا الفاعل الآخر الذي يعزو إليه المتكلم أفعال الإنسان ليس إرادة خارجية إنسانية أخرى أو دوافع خوف أو مصلحة أو رغبة أو عقبة، بل يجعله المتكلم أقدر فاعل وأشمل إرادة وهي قدرة الله وإرادته، فينتقل من المتناهي في الصغر إلى المتناهي في الكبر، ويجعل الله داخلًا في كل شيء حتى لو قصد الإنسان أكل خيار فأكل كوز ذرة! أو إذا قصد الإنسان الذهاب إلى العمل فذهب إلى المتجر، وكأن المقاصد لا تتغير ولا تتشابك، وكأن الإنسان ليس مجموعة من المقاصد المتداخلة. وهل تثبت إرادة الله وقدرته من الأفعال اللاقصدية؟ وأيهما أكرم وأشرف، إثبات الله من الطبيعي أم من الشاذ؟ من القاعدة أم من الاستثناء؟ بتأكيد الإنسان أم بتدميره؟ وكيف يثبت الله من الفوضى والعبث والضعف والمرض ولا يثبت من الإحكام والحكمة والقوة والثبات؟ أليس ذلك في نهاية الأمر تبريرًا للشر وإثباتًا للفوضى وتأكيدًا على الضعف والعجز والوهن بدلًا من إثبات ذلك كله نقصًا وعارضًا طارئًا؟ أليس ذلك أقرب إلى التشاؤم منه إلى التفاؤل؟ أليس ذلك سوداوية و«ماسوشية» تقوم على تعذيب النفس وكأن إثبات الكمال لا يتم إلا بعد الإقرار بالنقص، وأن إثبات البراءة لا يتم إلا بعد الاتهام بالخطيئة كما هو الحال في عقائد النصرانية؟
    والحقيقة أن الفعل المروي دليل على حرية الإنسان لا على خلق غيره. لما كان الإنسان حرًّا فإن حريته تتعدى حدود تخطيطه وقصده، ولكن يظل الفعل غير المروي في نطاق الحرية.١١٤ وما الحكمة من تدمير القصد؟ وهل تنتهي كل الأفعال القصدية إلى هراء وعبث؟ وهل كان كل تخطيط إنساني مسبق مصيره إلى الفشل؟ فإذا ما تم فعل قصدي يظل الإصرار قائمًا في نظرية الكسب من أن الإنسان ليس صاحبه وكأن الإنسان مهما فعل فعلًا قصديًّا أو غير قصدي ومهما أوتي من جهد وبذَل من مجهود فإنه لن يكون صاحب فعله في نهاية الأمر؛ يقف له المتكلم الأشعري بالمرصاد لينتزعه منه ويسلبه إياه ويعطيه لغيره. ويكون السؤال لحساب من يعمل المتكلم، لحساب الإنسان أم لحساب غيره؟ وماذا سيكسب نظير هذا السلب؟ أسلطةً دينية ومنصبًا وزاريًّا وترؤسًا على رقاب العباد ينتهي بالثورة العارمة من الجماهير عليه وعلى أصحابه ورؤسائه وعلى السلطة بأكملها تأكيدًا لحرية الإنسان وحرية الشعب، ورفعًا للوصاية، وتحررًا من كل صنوف القهر والتبعية؟ ومع ذلك فالفعل الواقع بخلاف القصد ليس هو الفعل الأمثل كالفعل المروي المقصود. ولكن تعتبر نظرية الكسب أن الفعل غير الفعل غير المروي فعلٌ حقيقي لأنه مخلوق من المؤلَّه المشخَّص. الكسب هنا هدم للعلم والعقل وللدليل وللنظر، وكأن وقوع الفعل من الإنسان حسب العلم ليس ضرورةً عقلية بل مجرد عادة، في حين أن وقوعه من المؤله المشخص بداهة لا تحتاج إلى دليل.١١٥

    وهناك فرق بين أفعال الشعور وأفعال الجوارح، بين أفعال الأعضاء وأفعال الوجود. كلٌّ منها يقع طبقًا للقصد أو على خلاف القصد؛ فكثيرًا ما رمى الإنسان إلى تذكُّر شيء فيتذكر شيئًا آخر أو إلى تخيل شيء فيتخيل شيئًا آخر. وكثيرًا أيضًا ما أراد الإنسان أن يصيب أحدًا فيصيب شخصًا آخر، أو أن يفعل شيئًا حسنًا فيُحدِث شيئًا قبيحًا. وكثيرًا ما قصد الإنسان أن يسير يمنة فيسير يسرة على غير وعي منه. بل إن كثيرًا من أفعال الأعضاء أفعالٌ شرطية وخالصة أو ردود فعل عكسية. وكثيرًا ما كانت أفعال الوجود التي تعبر عن المصير قائمة على تعصُّب وليست على القصد المطلوب. ولا يحتاج الإنسان إلى إثبات فاعلٍ آخر غيره بجدلٍ طويلٍ قائم على أن لكل فعل محدثًا بطريقة الرجوع إلى الوراء. كما لا تحتاج الدواعي إلى إثبات دواعيَ أخرى سببتها وأنشأتها حتى تصل إلى دواعيَ بدون دواعيَ. هذا التفكير عن طريق الرجوع إلى الوراء والانتهاء إلى نقطة بداية لا بداية لها هو في الحقيقة عاطفة تأليه وليس فكرًا عمليًّا؛ لأن الدواعي تنتهي في الجماعة؛ فهي مصدر بواعث الإنسان على الفعل. وفي النهاية ما المطلوب إثباته؟ الجبر أم حرية الإنسان؟ إن كل هذه التجارب الموصوفة لا تعني بالضرورة وجود أية إرادةٍ خارجية، بل تعني أن الإنسان نسيج وحده، وأنه هو حريته التي يظهر فيها القصد وغير القصد، الوعي وغير الوعي. فالإنسان حر أيضًا في حريته، وهو إمكانية فعل تتحقق بتحقق الدعوة، وفي هذا التحقق تأكيد لحريته وتحرُّره من بقايا القهر الاجتماعي.

    والتفرقة في نظرية الكسب بين الفعل الإرادي والفعل اللاإرادي مثل التفرقة بين الكسب والاضطرار أو بين الفعل المروي وغير المروي مع التركيز هذه المرة على دور الإرادة وليس القصد. فالفعل الإرادي هو الفعل الذي تتدخل فيه قدرة الإنسان بالإتيان أو بالمنع، بالزيادة أو بالنقصان، في حين أن الفعل اللاإرادي هو الفعل الشرطي الذي يحدث نتيجة لبناء العضو. فإذا كان الفعل الإرادي يثبت للإنسان القدرة، فإن الفعل اللاإرادي لا يثبت للإنسان الضعف أو تدخل أية قدرة خارجية تحيل الضعف إلى قوة أو تحدث الفعل؛ لأنه فعلٌ عكسيٌّ خالص مرهون ببناء العضو.١١٦ ولماذا الالْتجاء إلى فاعلٍ آخر يفعل أفعال الإنسان مطابقة لقصوده ودواعيه؟ لماذا لا يكون الإنسان نفسه صاحب أفعاله والقائم بها مطابقةً لمقاصده ودواعيه؟ إن التفسير بالإنسان كافٍ، واللجوء إلى علةٍ أخرى بعيدة فائض عن الحاجة. بل إن هذا اللجوء ذاته نقص في تصوُّر المؤلَّه المشخَّص الذي إن أراد أن يخلق فعلًا فإنه ما زال يحتاج إلى خلق دواعي وقصود للتمويه على الإنسان بأنه الفاعل أو يهدم الدواعي والقصود للتشفي من الإنسان والركوب عليه. إن الفعل القصدي أثمن ما لدى الإنسان من فعل، فهو الفاعل المتأمل، فكيف حتى هذا الفعل يكون حادثًا بفاعلٍ آخر؟ وكيف تثبت التفرقة إذن بين الفعل المروي والفعل غير المروي ما دام كلاهما من خلق فاعلٍ آخر؟١١٧ ولماذا تكون الأفعال والدواعي من خلقٍ خارجي؟ الأفعال تتحقق بالإرادة وتثبت من موقف الإنسان من الجماعة. وإن خلق الدواعي من الله في الإنسان يجعل الفعل ضروريًّا ولا محالة واقع.١١٨
    إن إثبات فاعلٍ خارجي يبطل إثبات الصانع القائم على الشاهد، وهو أن لكل فعل فاعلًا، فكيف لا يكون الإنسان فاعلًا لفعله وهو الشاهد؟ وكيف يمكن إثبات الغائب على شاهدٍ غير حاصل؟١١٩ وهل المقصود من الكسب إثبات وجود الله أم حرية الإنسان؟ هل الإنسان مجرد سلم يستخدم لإثبات غيره ثم يرفض هذا السلم بعد ذلك؟ هل هو مجرد آلة للاستخدام؟ هل الإنسان وسيلة أم غاية؟
    ولا يدل نقص العلم بالفعل على أن الفعل حين يحدث قد حدث من فاعلٍ آخر غير الإنسان؛ فكثيرًا ما يبدأ الفعل بمعرفةٍ أولية تكتمل إبان الفعل وأثناء حدوثه. ولا تتأتى المعرفة التفصيلية إلا أثناء تحقيق الفعل. فلا يوجد نظر مسبق على الفعل إلا الأساس العام له. ولكن ضبط النظر لا يحدث إلا أثناء عملية التحقيق ذاتها. وقد استعمل الجبر من قبلُ هذه الحجة لنفي قدرة الإنسان، في حين أنها دليل على إثبات القدرة التي تكشف عن النظر وهي تحقق الفعل.١٢٠ وهذا العلم ليس علمًا آليًّا أو طبيعيًّا بالتكوين المادي للأشياء، بل هو العلم الإنساني المتعلق بالسلوك. ليس الفعل هو التحريك العضلي أو حساب الحركات وما يتخللها من سكنات؛ فهذه مجرد افتراضٍ عقلي ليس لها وجودٌ واقعي. الفعل هو الفعل الحي ومكوناته من بواعث ودوافع وموانع وعقبات، الفعل في موقف. وهناك فرق بين العلم الإنساني المحدَّد والعلم الشامل؛ فالعلم الإنساني بطبيعته ناقص لأنه تابع للتجارب وللمعرفة ولوسائلها، في حين لو افترضنا علمًا شاملًا موجودًا في مصدرٍ معين أو كصفة للمؤلَّه المشخَّص فإنه يكون غير العلم الإنساني. ولا يعني عدم اكتمال العلم الإنساني أنه غير علم أو أنه ناقص أو أنه جهل. وكثيرًا ما يحدث الفعل دون علمٍ كامل بالتفاصيل؛ حيث تترك التفاصيل لسرعة البديهة أو للمواقف الفجائية أو للقدرة على التكيف ساعة الفعل. بل إن طبيعة العلم الإنساني أنه علمٌ شامل، والعلم الشامل هو علم بالكليات. ولو كان الإنسان قادرًا على العلم بالتفاصيل لكان قادرًا على خلق كل شيء. أمَّا أفعال النائم والساهي فهي ليست أفعالًا مثالية، الفعل المثالي هو الفعل المروي المقصود؛ ومِنْ ثَمَّ كانت أفعال النائم والساهي لا تدل على نقص في العلم بتفاصيل الفعل لأنها أساسًا ليست أفعالًا. والعجيب أن تقوم بعض الحركات الإصلاحية على إثبات هذا الفعل غير المروي الذي يحدث على غير قصد الإنسان وكأن الإصلاح يحدث عفويًّا بدون قصد الإنسان، وكأن التغيير ما هو إلا من قبيل المصادفة.١٢١ وما الحكمة في وضع المتكلم الأشعري الإنسان والله عدوَّين يتربص كلٌّ منهما بالآخر؟ أيعطي لطرف ما يسلبه عن الطرف الآخر؟ أليس الأولى أن يكونا متكاملَين متعاونَين متآزرَين، والإنسان خليفة الله في الأرض، والله أحنُّ عليه من حنين الأم على فلذة كبدها؟ ولماذا تحقير الإنسان وتدميره وإعدامه، ونحن بشر، ونحن أولى بالاحترام وبالدفاع؟ ولماذا نكون خصماء لله، إمَّا نحن وإمَّا هو؟ إن إثبات قوةٍ أعظم وسلطان لا يُقهر أعلى من الإنسان وأقدر منه؛ يفسح المجال لقوى الطاغوت للتدخل في إرادة الإنسان وإلغاء حريته ما دام الإنسان كما يُقال ليس حرًّا مطلقًا، وما دام الإنسان مجرد قزمٍ صغير في هذا العالم. يدخل كل طاغية من هذا الباب، ويقع كل قهر بهذه الحجة، وتسود الكآبة على البشر، ويتحولون إلى آلات للتنفيذ تسمع وتطيع، ويتأصل القهر فيهم، ويعيشون في العبودية إلى الأبد.
  • (٢)
    المضطر والمكتسب. يقوم الكسب على افتراض تماثل بين الاضطرار والاكتساب، فكما أن المضطر مخلوق فكذلك المكتسب. وهو تماثل مُفترَض ليس له ما يؤيده. بل إن الاختلاف بينهما أكثر وضوحًا من التماثل.١٢٢ وافتراض التشابه بين الاضطرار والاكتساب يجعل جميع الأفعال اضطرارية أو جميعها اكتسابية. التشابه توحيد يلغي التفرقة والتمييز. ولما كان الاضطرار هو المشبه به والاكتساب هو المشبه، كان إلغاء الفرق في صالح الاضطرار، وأصبح كلاهما من المؤلَّه المشخص على مذهب الكسب. كما أن افتراض التشابه بين الاضطرار والاكتساب يلغي التفرقة بينهما من أن الاضطرار فعل للعضو والاكتساب فعل للإرادة. لا يستطيع الإنسان تغيير أفعال الاضطرار لأنها واقعة ببناء العضو، ولا يستطيع أحد أن يغير من بناء العضو. ويظل اكتساب فعل للعضو فعلًا عضويًّا عن طريق المران. في حين أن أفعال الكسب أفعالٌ إرادية تقوم على بذل الجهد وممارسة الحرية. قد تتحول بعد ذلك إلى أفعالٍ عادية. ولكن العاديات هنا يكون مرجعها إلى حريةٍ أولية نشأت عليها. ويجوز أن يحدث التماثل بين الذوات دون الصفات لأن التماثل في الصفات يلغي التمييز بين الأشياء. فلا فرق بين إنسان وآخر من حيث هو ذات. ولكنْ هناك فرق بين إنسان وآخر من حيث هو سلوك. والحقيقة أن الأفعال تحدث بالنسبة لتصورنا ودواعينا وأحوالنا، ولا يمكن تسميتها بأنها مخلوقة أو مضطرة لأنها تعبير عن هذه المقاصد والدواعي والأحوال. والاضطرار في الحركات الاضطرارية قائم على إثبات محدث في الشاهد، أمَّا الاضطرار في الحركات الاختيارية فقائم على إثبات محدث في الغائب. وهذا لا يجوز لأنه إثبات بلا برهان. والاشتراك في الحدوث لا يقتضي الاشتراك في الحاجة إلى محدِث معين بل إلى محدِث ما غير معين بالدلالة، والدلالة على أن الإنسان هو المحدِث لا غيره.
    ولماذا يكون الاضطرار من الخارج؟ قد يكون الاضطرار من بناء العضو ذاته كما هو في حالة العجز أو القيد. قد يكون في حالة لا تسمح بالفعل من ضغطٍ سياسي أو حياءٍ اجتماعي. وفي كل الحالات، الاضطرار فعل للإنسان. بل إن السيطرة على الإرادة هي في نفسها إرادة، وعدم الفعل هو نوع من الفعل. قد يكون الاضطرار طبيعيًّا كحركات الأفلاك. ولكن هذا الاضطرار أيضًا داخلي لأنه ناشئ عن قوانين الطبيعة التي يدركها العقل من الأشياء. أمَّا الحركات الضرورية للموجودات غير الطبيعية فلا نعلم عنها شيئًا بل هي مجرد افتراضات ناتجة عن عواطف التأليه وتشخيصها في موجودٍ أسمى أو في موجوداتٍ أخرى خاضعة له.١٢٣ صحيح أن أفعال الساهي والنائم أفعالٌ اضطرارية لا إرادية، ولكن وقوعها لا يتم بتدخل إرادةٍ خارجية، بل بفعل الشعور عن أفعال اللاشعور، وإن كانت تتم فيه لأنها لا تتم بالإرادة الواعية. ولا يعني الساهي والنائم أنهما غير قادرَين على الإطلاق، بل هما قادران ولكن في لحظةٍ معينة؛ لحظة غياب الشعور، لا تؤثر في قدرتهما. ولا يعني عدم تأثير القدرة في لحظةٍ معينة إبطال القدرة في كل لحظة. إن الدواعي المقصودة لا تكون مؤثرة بطبيعتها لأن صحة المؤثر في وجود القدرة.١٢٤ ولا خوف من أن يكون العالم فاعلًا ومن أن تكون علة الفاعلية في العالم وليست خارج العالم. فالعلة المباشرة مثل الإرادة الإنسانية علة في العالم.١٢٥ إن افتراض إرادة وقدرة وعلة خارج العالم لهو وقوع في السر والغموض واللامباشرة إيهامًا للعوام بالعظمة والتجلي وإيقاع لها في الصغر والدونية. ولماذا الاكتساب إذن؟ أليس القادر على البعض قادرًا عليها كلها؟ ولماذا الاختيار إذن؟ وهل الفاعل اضطرارًا يكون فاعلًا اضطرارًا على الإطلاق؟
  • (٣)
    اكتساب المهارات. لا يعني اكتساب المهارات بالتعلم تدخل إرادةٍ خارجية في فعل الإنسان تجعله قادرًا على الإتيان بالفعل بدليل يدل على أن الإنسان بالممارسة والتعليم يستطيع أن يكسب فعلًا عندما يتحول الفعل الأوَّل إلى طبيعةٍ ثانية. يقتضي التعليم الاستعداد النفسي والبدني، ولكنه استعدادٌ موجود بالفعل وليس مقذوفًا به من الخارج. فإذا لم يحدث التعليم واكتساب المهارة فإن ذلك لا يعني نفي القدرة. القدرة موجودة ولكن التعلم هو الغائب، ويمكن حدوث التعلم بالممارسة.١٢٦
    ولا يعني وجود شروط للفعل كي يتحقق كالجارحة والحياة أن الفعل متوقِّف على شرط وأن هذا الشرط يتحقق بتدخل إرادةٍ خارجية، أو أن الفعل يتحقق بتجاوز الإرادة الخارجية للشرط، وتحقيقها للفعل دون توسطها بالشرط. فهذا إنكار للفعل وللعلية ومنافٍ للعقل وللمشاهدة. العين شرط فعل الإدراك، ولا إدراك دون عين. الحركة بفعل القدمَين ولا حركة دون متحرك. العلم فعل الشعور ولا علم دونه. ليس الشرط هو الجارحة فحسب، بل هو الجارحة والباعث النفسي والقدرة البدنية وطواعية الواقع للفعل. لا يعني عدم تحقق الفعل أن القدرة حادثة وأنها غير مؤثرة، بل يعني وجود موانعَ موضوعيةٍ بدنية، نفسية أو اجتماعية.١٢٧
    ولماذا يجب أن يكون الفاعل مخالفًا لفعله؟ الأقرب إلى العقل والبداهة والحس أن يكون الفاعل من جنس فعله. يصدر الفعل الإنساني عن إنسان، والحيواني عن حيوان، والجماد عن جماد. أمَّا إثبات الاختلاف بين الفاعل وفعله فهو تفكيرٌ دينيٌّ إلهيٌّ مقلوب، الغرض منه إثبات الاختلاف بين الفاعل والفعل من أجل العثور على المؤلَّه المشخص في العالم وإعطاء كل القوة والقدرة له. فهي وسيلة للحصول على الضائع أو إعطاء مضمون لصورة أو البحث عن وجود لانفعال. وبالحديث يقع التماثل والاختلاف. ولا يجب بالضرورة إذا كان الفعل محدثًا أن يكون صادرًا عن قديم. فقد يرجع الاختلاف إلى صفةٍ راجعة إلى الذات.١٢٨
  • (٤)
    الترجيح. وكما لم يُثبِت الترجيحُ الجبرَ فإنه لا يُثبِت الكسب. فالفعل الضروري لا يمكن تركه لأنه تعبير عن طبيعة وليس فعلًا تجاريًّا. العالم بدون فعل عالم خاوٍ متقلص. الفعل ضروري للعالم ولا يتأتى الترك بأي حال. ومن لا حاجة إلى مرجح يجعل الفعل واقعًا لا متروكًا. يعبر الفعل عن طبيعة الإنسان ورسالته، والإنسان هو طبيعته ورسالته؛ ومِنْ ثَمَّ كان الإنسان هو الفعل. يترك الإنسان فعلًا لا يعبر عن طبيعته. وفي هذه الحالة يكون الترك ممكنًا، ولكن أيضًا يكون معبرًا عن الفعل الحر وهو فعل الترك.١٢٩ فعل الإنسان من خلق الإنسان ومتحقق بقدرته ورويته وقصده لأنه لو كان من فعل الآخر لكان الإنسان مجبرًا على فعله لو وُجد، ومجبرًا على الترك لو لم يوجد، ويكون الإنسان كالجماد تجري عليه الأفعال وهو مستقبل لها موجِّه لمسارها. ولا توجد حرية استواء الطرفين لوجود الباعث. الإنسان باعث وفاعل وقصد وهو المحدث. ووقوع الحدث بالقصد ينفي وجود المحدث لأن المحدث هو القائم بالحدث، والمحدث هو الإنسان المشاهد. الإيجاب هنا ليس إيجابًا خارجيًّا بل هو إيجاب القصد.١٣٠ وحتى إذا احتاج الفعل إلى مرجِّح، فلماذا لا يكون المرجح من الإنسان، ويكون هو الباعث الأقوى حسب شمولية الفكر والقصد والغاية؟ ولماذا يحتاج المرجح إلى مرجح، وهذا إلى ثالث حتى تتسلسل المرجحات إلى ما لا نهاية؟ إن المرجحات كلها ترجع إلى الموقف الإنساني الذي هو مصدر البواعث كلها، وهو مصدرٌ مباشر لا يحتاج إلى تسلسل. ولماذا الانتهاء إلى مرجحٍ مرجوح بنفسه لا يحتاج إلى مرجحٍ آخر إذا كان الموقف الإنساني هو مصدر كل البواعث؟ هنا يكون الخطأ في العقل نفسه الذي تلاشى تحت عواطف التأليه، ثم استخدمته في التعبير عن نفسها بالفكر اللاهوتي القائم على التسلسل والرجوع إلى الوراء لإثبات حلقةٍ أخيرة ليس وراءها حلقاتٌ أخرى؛ ومِنْ ثَمَّ يقضى على الفكر لحساب الانفعال وعلى تحليل الواقع رجوعًا إلى الوراء.

    ويستعمل دليل التمانع لإثبات وحدانية الله في الفعل لإثبات الكسب؛ فهو إذن فكرٌ دينيٌّ إلهيٌّ مقلوب. وإذا جاز هذا الدليل بالنسبة لإثبات مؤلَّه مشخص واحد من عواطف التأليه فإنه لا يجوز بالنسبة لفعل الإنسان لأن الموقف مختلف. فلماذا يوضع الفعل الإنساني وفعل المؤله المشخص على طرفَي نقيض، إذا تحقق أحدهما لم يتحقق الآخر؟ أليس الأولى بالخالق والمخلوق اتفاق مرادهما كما هو أولى بالآلهة؟ وهل يجوز تصوير الفعل الإنساني وفعل الآخر في علاقة تحدٍّ مثل متسابقَين في حلبة سباق؟ وحتى على فرض صلة التعارض: لماذا لا يكون الفعل الإنساني هو المتحقق لأنه هو الفعل المراد والمقصود المروي، وهو الفعل الثابت بالحس والمشاهدة والوجدان، في حين أن الفعل الثاني مجرد افتراض فرضته عواطف التعظيم والإجلال؟ وإذا لم يتحقق فعل الإنسان فإنه لم يتحقق لموانعَ بدنيةٍ أو نفسية أو اجتماعية لا لتحقق فعل الآخر. وهل من عظمة المؤله المشخص أن يتحقق فعله دون فعل الإنسان؟ وأي تعظيم هذا الذي يثبت فيه الفيل أنه مساوٍ للنملة وقادر على الحركة مثلها؟

    وقد يستخدم الترجيح لا لإثبات الكسب بل لإثبات القضاء والقدر كما هو الحال في الجبر. فما دام الترجيح ضروريًّا لا واقعًا فقط يثبت القضاء والقدر. وهذا خاطئ لأن الفعل يتم بقصد الإنسان، ومتى حصل الفعل بقصد الإنسان فإن الإنسان يكون فاعلًا على الحقيقة فحسب، ويكون فعل الإنسان كله له. حتى الموانع والعقبات التي توجد في ميدان الفعل هي كذلك بالنسبة إلى الإنسان. وكل ما قيل عن الترجيح باطل لأن الإنسان بطبيعته باعث ولا تستوي هذه البواعث، ولا توجد لديه حرية استواء الطرفين.١٣١
  • (٥)
    الخلق. يُسَمَّى الإنسان خالقًا، فهو صاحب الفعل الشعوري، وهو مصدر الإبداع الفني. ولماذا لا يكون الإنسان خالقًا وهو في فعله اليومي يبدع ويخلق؟ هناك فرق بين الخلق الطبيعي لجسم الشيء وبين الخلق الإنساني لتكوين الشيء أو بنائه. لا يوجِد الإنسان شيئًا من لا شيء، بل يوجد شيئًا من شيءٍ آخر، تمثالًا من حجر، موسيقى من صوت، أدبًا من حروف، وحزبًا من جماعة، وهذا أيضًا خلق.١٣٢ والخلق لغويًّا لا يعني بالضرورة المعنى الأوَّل وهو الخلق من عدم، بل قد يعني أيضًا المعنى الثاني وهو التقدير؛ ومِنْ ثَمَّ فلا مانع من وصف الإنسان بأنه خالق. يمكن إثبات الخلق، وفي نفس الوقت يمكن القصد به معنيَين مختلفَين. ويكون خطأ لو وصف الإنسان خالقًا بالمعنى الأوَّل. أمَّا إذا كان الخلق يعني تطابق الفعل مع المصلحة فيكون الإنسان أحيانًا خالقًا حتى تكون أفعاله مطابقة للمصلحة. فإن حدث عدم التطابق فذاك من فعل الحرية. أمَّا المؤلَّه المشخص فإن تطابق أفعاله مع المصلحة غنًى خالص أو تبرير لكمال أو تعبيرٌ تطهري، وإلا فكيف يمكن تفسير الشر والظلم في العالم؟١٣٣ إن كثيرًا من العبارات هي مجرد مدح لا تعبر إلا عن عواطف التعظيم والإجلال مثل: «خالق كل شيء»، «قادر على كل شيء»، «عالم بكل شيء»، «مالك لكل شيء». فالأمر كله في الحقيقة في التنزيه، ولكن هذه المرة مع الفعل وليس مع الذات، تمثيلًا لما يحدث في العالم الإنساني لو كان يسمح تحليله بالتنزيه، أو نفيًا لما يحدث في العالم الإنساني وتجاوزًا للمشابهة إلى حد الإطلاق.١٣٤ إن الفعل الإنساني خارج مقولات الشيء والجسم والجوهر والعرض. وهو ليس كالألوان والطعوم والروائح، بل هو فعلٌ إنساني خالص يهدف إلى تغيير البناء الاجتماعي للواقع أو فعلٌ فني خالص يبدع الإنسان فيه ويعبر به عن وجوده في الزمان والمكان لحظة تحقيق رسالته.
  • (٦)
    الخاطر. لا يعني وجود الخاطر في النفس تدخل أية إرادةٍ خارجية في صورة عقل أو وحي أو إلهام من أجل إعطاء الإنسان إمَّا الأساس النظري للفعل أو واقعًا مرويًّا عليه. بل إن هذا الخاطر يكون نتيجة تفكيرٍ إنسانيٍّ سابق في الموضوع، وانشغال الذهن به، وتوقُّد الشعور فيه. هو حصيلة كسب من الإنسان. وتنشأ الخواطر في النفس بطبيعتها، وتشير إلى قدرة الشعور على الخلق والإبداع، وتثبت الحرية ليس فقط في الأفعال الخارجية بل أيضًا في أفعال الشعور.١٣٥
    ولكن هل يلزم خاطران حتى يصح الاختيار؟ الشعور ذاته حرية، والحرية تعني إمكانية الحركة. فإذا كان الخاطر يعني الباعث، فالبواعث تتدافع فيتحقق الفعل طبقًا للدافع الأقوى. وإن كان الخاطر يعني الفكر، فالأفكار تتصارع فيتحقق الفعل طبقًا للفكرة التي تتحول إلى باعثٍ قوي. والشعور بطبيعته يتجاذبه طرفان؛ حركة وسكون، إقدام وإحجام، تقدُّم وتأخُّر، يقظة وغفلة، ازدهار وتقلص، نمو ونكوص، حياة وموت. وهذان الطرفان لا يعرضان إلى الشعور من الخارج ليختار الإنسان عقليًّا بينهما بعد عدد من العمليات الحسابية بأية مقاييسَ ذاتيةٍ أو نفعية، بل حياة الشعور ذاتها تسري بين هذه الأطراف، والحرية هي التي تحدد المسار. ليست الحرية ملكة أو قوة أو عضوًا، بل هي طبيعة بممارستها فرديًّا وجماعيًّا مع الذات ومن خلال الجماعة. قد يحدث الخاطران؛ خاطر الإقدام وخاطر الإحجام. ولكن هذين الخاطرين ينشآن من الموقف الاجتماعي. فما الداعي أن ينشأ خاطر الإقدام من العالم وخاطر الإحجام من الخارج؟ صحيح أن الطبيعة خيرة وفاعلة بطبعها، ولكن خاطر الإحجام قد ينشأ من إغراء في العالم أو من تقلُّص في الطبيعة ونقص في الازدهار. ويكون السؤال: وكيف ينشأ خاطر الإحجام من الخارج والمؤلَّه المشخص خير كله؟ ولماذا يحدث خاطر الإقدام من الخارج وخاطر الإحجام من العالم؟ وهنا تكون الطبيعة فاسدة لأنها لا تقدم على فعل بل تحجم عن كل فعل. ويبقى السؤال: كيف يصدر عن المؤله المشخص، وهو خير كله، الشر في العالم؟ أمَّا إذا كان الخاطران من الخارج، الإقدام والإحجام معًا، فهنا لم يعد يبقى شيء للإنسان، بل إن الإنسان نفسه لم يعد موجودًا. الخاطران من الخارج وما هو إلا آلة. أمَّا الخاطر الذي يأتي بفعلٍ خارجي حتى يعين الإنسان على الإتيان بفعل تكرهه النفس وتعافه فهو إلغاء وضعٍ خاطئ بمثله. فالفعل الذي تكرهه النفس لا يمكن أن يكون أمرًا، فأوامر الوحي كلها طبيعية، تعبر عن طبيعة الذات في حال كمالها. حتى ما يظن أنه صعب على النفس الإتيان به ما أسهله عليها لو توافر الباعث عليه. وعلى فرض أن النفس تأتي بأفعال تعافها وتكرهها، كيف يأتي العون من الخارج؟ كيف يأتي المؤله المشخص ليصحح وضعًا خاطئًا كان من السهل أوَّلًا عدم إيجاده؟ كان من الممكن أن يأمر بفعل تحبه النفس وتميل إليه بدل أن يأمر بفعل تعافه النفس، ثم يخلق الدواعي للعون عليه! قد يحدث أن يأتي الإنسان بفعل مكرهًا عليه، ولكن في هذه الحالة لا يكون فعلًا حرًّا، ولا يعبر عن طبيعته لأنه يفعله رغمًا عنه بلا شوق أو فرح وبلا ارتياح أو حماس. حتى لو أتى الإنسان به فإنه قادر على أن يأتي بفعلٍ حر، وبإرادته المستقلة، وفي هذه الحالة يصبح الإنسان نفسه موضوعًا للإرادة أو مقدورًا للقدرة. إن جعل خاطر الإقدام من النفس بطبعها يمنع كونه بفعل خارجي. ولكن النفس ليست عالمًا قائمًا بذاته، بل هي وجود اجتماعي، وما يجعلها تقدم أو تحجم هو باعثٌ اجتماعي. أمَّا إذا تشخص الخاطران، وأصبح داعي الإحجام شرًّا مشخَّصًا وداعي الإقدام خيرًا مشخَّصًا؛ يصبح الإنسان ألعوبة بين شخصَين، كلٌّ منهما يود أن تكون الغلبة له. وسواء غلب هذا أم ذاك فالإنسان في كلتا الحالتين هو الخاسر لأنه هو الفاقد حريته، المسلوب إرادته، يُفعَل فيه ولا يَفعل؛ لذلك قد ينكر البعض الخاطر كلية. ويكون الإنكار في هذه الحالة إنكارًا للخاطر بفعلٍ خارجي، ويكون الخاطر حينئذٍ هو الباعث النفسي أو الدافع على الفعل الذي ينشأ من موقفٍ نفسي واجتماعي.١٣٦
    إن احتياج الفعل إلى سببٍ مهيج أي إلى باعث لا يعني على الإطلاق حدوث هذا الباعث من إرادة خارجية تتدخل في الفعل الإنساني بإحداثها هذا الباعث، وما على الإنسان إلا التنفيذ الآلي له. فالباعث هو الفعل نفسه كفعلٍ ضمني. وهو الفعل الشعوري أي الوجود الأوَّلي للفعل قبل أن يتحقق. والحقيقة أن الباعث ينشأ في الإنسان كموجودٍ اجتماعي. الإنسان في موقف، والموقف يحتاج إلى تغيير، ومِنْ ثَمَّ ينشأ الباعث على التغيير في الإنسان. الموقف الاجتماعي هو مصدر الباعث. وبمجرد حدوث الباعث في الشعور يتحول إلى طبيعة. الطبيعة هي مجموعة البواعث، والبواعث أبنيةٌ ممكنة للعالم تتحول إلى أبنيةٍ واقعية بالفعل الإنساني.١٣٧ وإذا كان السبب المهيج فكرة، فالفكرة من الوحي ولكنها تحوَّلت إلى طبيعة بمجرد فهم الإنسان لها وظهورها على أنها بناءٌ مثالي لموقف يريد أن يتغير.
  • (٧)
    الابتهال والدعاء والسؤال والشكر. كل ذلك ليس دليلًا على وجود قدرةٍ خارجية يستدعيها الإنسان كي تتدخل في فعله وتعينه على الإتيان به، بل مجرد موقفٍ نفسي يدل على انحراف في السلوك. ففي مجتمعٍ مهزوم تكثر مثل هذه الابتهالات والدعاءات لطلب النصر لعجزه عن الإتيان بالنصر بالفعل. وفي خضمِّ هذه الانفعالات الحادة ينشأ فعلٌ جادٌّ ولكنه منحرف وهو الابتهال والدعاء. وفي اللحظة التي يدرك فيها المهزوم خطة عمل وباعثًا وغايةً يُبطل دعاءه وابتهاله ويحقق ما يريده بفعله الخاص، وهو قادر عليه. الابتهال فعل الضعيف العاجز، ونشاطٌ انفعالي حين يعجز عن الفعل، وإغراق في الأدب والتصوف حين يُطمس العقل ويُزيَّف الوعي.١٣٨ وقد انتشرت الأدعية والتواشيح والابتهالات في عصور التخلف والانحطاط مع الفِرَق الصوفية وبعد تشخيص الوحي في محمد كما تم من قبلُ تشخيص الوعي الخالص في المؤلَّه. وقد يحدث الابتهال أو الدعاء أو السؤال في مجتمعٍ منتصر. وفي هذه الحالة يكون موجَّهًا من العامة إلى السلطة المنتصرة. بدلًا من أن تطلب حقَّها بالفعل تدعو وتبتهل وتتبرَّك بالسلطة كما تفعل بالأولياء. وكثيرًا ما يتحول التضرع والابتهال إلى تملُّق ونفاق وتقرُّب وإذلال للنفس باسم الدعاء،١٣٩ ويكون أقرب إلى الشحاذة أو السؤال، الكَفَّان إلى أعلى للاستجداء، والدموع في العينين للاستعطاف، وحشرجة الصوت وانسداد الأنف من البكاء، وإنما البكاء للنساء! إن الدعاء في لحظات الضعف والعجز وقلة الحيلة لا ينفي قدرة الإنسان، بل يثبت قدرةً أعظم مكمونة في الحاضر كي تتفجر في المستقبل. الدعاء مقدمة الفعل وإعداد له. ولا يتحقق الفعل إلا بعد أن يتحوَّل الدعاء من مجرد الأماني والأحلام إلى التحقق بالفعل حسب القصود والدواعي.١٤٠

    إن وضع الإنسان بين الحركة والسكون، بين الإقدام والإحجام، بين النشاط والخمول، بين اليقظة والغفلة وضعٌ طبيعي. وهما ليستا ملكتَين نفسيتَين بل حالتان وجوديتان تعبران عن موقف الإنسان في العالم وأن وجوده فعل وإمكانية تحقيق. يجد الإنسان نفسه بينهما في شد وجذب يتصارعانه ويهددان وحدته فيتَّجه نحو أحدهما بطبيعته واختياره عندما يتبع الدافع الأقوى وتمييز العقل، لأنهما متماثلان ويظل واحدًا. ويتحدد مصير الإنسان بنوعية هذه الحركة من ذاته دون تدخل أية إرادةٍ خارجية سواء في صالح السكون أو لصالح الحركة. لو تدخلت لصالح الحركة للبعض ولصالح السكون للبعض الآخر يكون تميزًا مسبقًا وجبرًا على الإنسان وتدخل طرف جديد في معركة غير متكافئة الأطراف. وإذا تدخلت لصالح السكون والإحجام ضد حركة وتقدم أحد الأطراف يكون السؤال: كيف يصدر الشر عن الخير، والقبيح عن الحسن خاصة إذا كان الخير والحسن مظهرَين للكمال المطلق، أي صفتَين كاملتَين مطلقتين؟ كيف تتدخل الإرادة الخارجية في حركة الإنسان دون أن تنكر فعله واستقلاله؟ ولا يعني وجود الإنسان بين واقعَين: الإقدام والإحجام، الأمام والخلف، التقدم والتخلف، النهوض والسقوط أية ثنائيةٍ متعارضة قائمة على تطهر جانب وسقوط جانبٍ آخر، تؤدي إلى الكبت أو الشذوذ أو النفاق أو التصوف كما هو الحال في الثنائية الرأسية بين الأعلى والأدنى، بل هي ثنائيةٌ أفقية يوجد فيها الإنسان حسب قوة الباعث فيه ووعيه الفردي والاجتماعي، فهو ساكن أو متحرك، خامل أو يقظ، مصمت أو حي.

    كما لا يدل الشكر على نفي قدرة الشاكر وإثبات قدرة المشكور، بل قد يكون الشكر على تهيئة الفعل وعلى اللطف وحسن المعاملة. هدفه الاعتراف للآخر بفعله وبإعلان أداء واجبه وبحضور المبدأ العام الذي هو أساس سلوك الجميع. الشكر ليس تملقًا ولا مدحًا فلا شكر على واجب. ولا يدل على وجود يد عليا تعطي ويد دنيا تأخذ، بل هو إعلان لمساواة الأطراف جميعًا تحت مبدأٍ عام هو الواجب وإمكانية تحققه بالفعل.١٤١
  • (٨)
    الوحي. إن القول بأن إثبات الحرية يقتضي بالضرورة إثبات العقل والتمييز والحسن والقبح الموضوعيَّين، وهذا يكون بالضرورة ضد الوحي الذي يعطينا صفات الأشياء وأحكام الأفعال، هو قول نصفه حق ونصفه باطل. صحيح أن إثبات الحرية يقتضي بالضرورة إثبات العقل والتمييز ووجود الحسن والقبح صفاتٌ موضوعية في الأشياء، ولكن ذلك لا يعارض الوحي لأن الوحي هو العقل والواقع، هو القدرة على التمييز. وهو قيمٌ موضوعية وصفات في الأشياء. وهي حجة في نهاية الأمر تخرج من موضوع خلق الأفعال إلى موضوع الحسن والقبح، وتحل مسألة بالإحالة إلى مسألة أخرى، وتثبت شيئًا بشيءٍ آخر يحتاج إلى إثبات. فكون الوحي مصدر صفات الأشياء وليس العقل موضوع آخر يحتاج إلى إثبات في مسألةٍ أخرى هي مسألة العقل والنقل أو العقل والسمع أو الحسن والقبح.١٤٢ حتى ولو كان إثبات الحرية يتضمن إثبات العقل وأنه مصدر صفات الأشياء والتمييز بين الحُسن والقبح كأساس للفعل الحر المختار، فما العيب في ذلك؟ هل لأن العقل أساس الفعل الحر المختار يلغي هذا الفعل ويثبت الجبر؟ يبدو أن إثبات الجبر يتضمن بالضرورة إلغاء العقل لأن الجبر في الأفعال والأسرار في الأفهام شيءٌ واحد. إن إثبات حرية الفعل للإنسان لا يعني تغيير صفات الأشياء لأن الحرية قائمة على وجود صفاتٍ موضوعية في الأشياء يدركها العقل تجعل الفعل حسنًا لصفات فيه وقبيحًا لصفات فيه، كما أن الفعل في ذاته حسن وقبيح. إن إنكار الحرية يقتضي بالضرورة إنكار الحسن والقبح كصفتَين في الأفعال يدركهما العقل.١٤٣ لا حرية بلا عقل، ولا عقل بلا حرية. وكل إثبات لأولوية النقل على العقل هو قصد نحو إثبات الجبر وإلغاء الحرية، وكل إثبات للجبر هو قصد نحو إلغاء العقل؛ لذلك قام العدل على ركنَين رئيسيَّين: إثبات الحرية والعقل، إثبات الإنسان الحر والإنسان العاقل.
  • (٩)
    العلم الشامل. إن العلم المطلق الشامل كصفة للوعي الخالص لا يمنع الحرية الإنسانية من الوقوع؛ فالعلم المطلق كصفةٍ مطلقة لموجود كامل كما ظهر في التوحيد تشخيص يقوم به الإنسان في حالة الانفعال الشديد الناتجة عن الكرب والإحساس بالضياع والهزيمة والوقوع تحت الظلم والاضطهاد أو نتيجة لشعور بالزهو والانتصار والرغبة في تأكيد السلطة المطلقة على أساس من الشعور بالرهبة والخوف أمام سلطانٍ مطلق. فالذات المشخص وصفاته المطلقة من فعل الشعور.١٤٤ إن العلم شيء والقدرة شيءٌ آخر. يعلم الإنسان أكثر مما يستطيع أن يقدر، ويقدر أحيانًا أكثر مما يستطيع أن يعلم. لا يوجد تطابقٌ تام بين العلم والقدرة. العلم عام والقدرة خاصة، العلم شامل والقدرة فردية، العلم لا نهائي والقدرة نهائية، العلم نظري والقدرة عملية. لا يمكن إذن الجمع بين العلم والقدرة أساسًا.١٤٥ وعلى فرض إعطاء التوحيد وجودًا واقعيًّا في ذات بصفاتٍ كاملة لا يكون العلم بما يحدث في العالم بالضرورة نفيًا للحرية أو تدخلًا فيها من قبل هذا العلم لأن العلم نظر والإرادة عمل. لا يعني كون أفعال الإنسان معلومة من قبلُ أنها بالضرورة مفروضة عليه لأنه في هذه الحالة ماذا تكون صفة علمٍ مطلق لا يقع بالفعل وغير مطابق للواقع؟ وماذا يكون مصير العلم إن حدث الفعل الإنساني على خلافه ما دام الفعل الإنساني فعلًا حرًّا.١٤٦ وقد كانت هذه الحجة في عقيدة الجبر من قبلُ. فإن اعتراض المجبرة: كيف يمكن فعل شيءٍ مخالف لما هو معلوم ومقدور من قبل قائم على تشخيص عواطف التأليه في علمٍ مطلق حاوٍ لكل شيء، له الأولوية على القدرة الإنسانية في حين أن تحليل السلوك الإنساني يؤدي إلى إثبات القدرة وإنكار أي قدرٍ مسبق إلا قوانين التاريخ التي تعرف بالاستبار وبالخبرات الماضية. يحتوي الوحي على هذه القوانين معطاة من قبلُ، وهو العلم المطلق الواقع بالفعل لا المتوهَّم.١٤٧ ولما كان الفعل الإنساني واقعًا وكان العلم المطلق الشامل صفة مشخصة وقدرًا مسبقًا غير واقع؛ أدى الفعل الإنساني إلى العمل ضد عواطف التأليه، وأصبح إثبات أولوية العلم الشامل كصفةٍ مشخصة على الفعل الإنساني الواقع يعمل ضد الغاية منه وهو إثبات عواطف التأليه وجعل المؤلَّه المشخص صفات على البدل وهو مضاد للكمال. القدرة على خلاف المعلوم تجهيل للعلم المطلق المشخص للمؤله ولا يمكن رفع الإشكال إلا بإثبات القدرة. ولكن وجود الرسالة وإبلاغ الوحي يمنعان من أن تكون القدرة مجبرة من قبل وإلا ففيم كان الوحي وفيم كانت الرسالة؟١٤٨
  • (١٠)
    القدرة. واعتبار كون الإنسان قادرًا ولكن المؤلَّه المشخَّص أقدر منه لا ينفي قدرة الإنسان على الإطلاق؛ فالمؤله المشخص كما ظهر في التوحيد خلق من الشعور الانفعالي وإسقاط منه ورغبته في تثبيت عواطف التعظيم والإجلال عن طريق التشخيص والتجسيم. وهذه العواطف نفسها ناشئة عن موقفٍ نفسي واجتماعي غير سوي، موقف اضطهاد أو موقف تسلط. فتصوره على أنه واقف للإنسان بالمرصاد يتدخل في فعله ليس تفكيرًا بل عودة للانفعال لطمس الفكر. وكون الإنسان قادرًا وغيره أقدر لا ينفي كون الإنسان قادرًا. ولا يوجد أي وجوبٍ عقلي أو حسي ذهني أو واقعي، على أن وجود غير قادر يمنع الإنسان من أن يكون قادرًا. الخلاف فقط في الدرجة وليس في النوع. ومع ذلك قد يكون الإنسان بإمكانياته العقلية والإبداعية أقدر من الظواهر الطبيعية؛ لأنه قادر على السيطرة عليها والتحكم في مسارها من خلال معرفته بقوانينها.١٤٩

    وهذا قياسٌ صوريٌّ خالص وليس قياسًا عليه. هو قياسٌ صوري يبدأ بافتراضات واحتمالات معبرًا عنها بلو كان، فالنتيجة التي تنتج منها نتيجةٌ صوريةٌ خالصة. كذلك مقياس صدقها اتفاقها مع المقدمة الافتراضية ودون أن تثبت شيئًا في الواقع. إن جعل المؤلَّه المشخَّص قادرًا على ما يقدر عليه الإنسان يجعله أيضًا مكتسبًا بالأفعال ما دام الإنسان مكتسبًا لها. وهو ما ينافي عواطف التعظيم والإجلال. وليس هناك من يُقدر الإنسان على فعله إلا قدرته وباعثه وفكره وغايته. فتلك هي العوامل التي تكوِّن فعله. ولو كانت قدرته مستمدة من غيره لما كان قادرًا بذاته أو فاعلًا بذاته، ولما كان صاحب فعله، ولما كان السؤال ذاته قد وضع.

    ويكون السؤال الآن: ما الغاية من الفعل الإنساني؟ إثبات قدرة الإنسان أم إثبات قدرة غيره؟ وأي القدرتَين في خطر إذا نيل منها؟ وإذا كانت قدرة الذات المشخص شاملةً قادرة على كل شيء، فلم الحاجة إلى إثباتها ونفي قدرة الإنسان التي لا تستطيع أن تفعل أمامها شيئًا أو تبقى لحظة واحدة؟ إن عدم قدرة الإنسان على كل شيء لا تعني أن هناك قدرةً أعظم تقدر على ما لا يقدر عليه الإنسان؛ فالقدرة الإنسانية لها مداها وهو مدى الفعل ومدى القدرة. يقدر الإنسان على تغيير بناء الواقع الاجتماعي، ففعله فعلٌ إنسانيٌّ حيوي وليس فعلًا طبيعيًّا. ولا يعني عدم قدرة الإنسان على تحريك الجبال أو إغراق الكون عدم قدرته على الأفعال؛ لأن القدرة لها مستواها ومداها، مستواها هو البناء الاجتماعي ومداها هو الأثر. لا يستطيع الإنسان أن يغير من قوانين الطبيعة، أن يجعل الحر باردًا أو البارد حارًّا أو المؤلم ملذًّا أو الملذ مؤلمًا أو أن يسقط الحجر إلى أعلى أو أن يعيش السمك خارج الماء. إن الطبيعة، سواء كانت الطبيعة الخارجية أم الطبيعة الإنسانية، واحدة لها بناؤها. يمكن تصور المؤلَّه قادرًا على تغيير قوانين الطبيعة وقلب الحجر ذهبًا والعصا ثعبانًا ولكن ذلك تخيُّل وانفعال، وفكر بالتمني، إمَّا تعويضًا عن عجز أمام الطبيعة أو تخويفًا برهبة السلطان. ومع ذلك يستطيع الإنسان من خلال العلم السيطرة على مظاهر الطبيعة وإخضاعها لإرادته. يمكنه حينئذٍ أن يطير في الهواء بالآلة وأن يسير فوق الماء بالآلة وأن ينزل إلى قاع المحيط بالآلة أيضًا طبقًا لقوانين الطبيعة وليس خرقًا لها. يمكنه أن يُهبِط المطر وأن يجعل الحر باردًا والبارد حارًّا بالتبريد والتكثيف. وأن يُحوِّل الحجر ذهبًا بالضغط والعصا ثعبانًا بالكيمياء. فلا حدود لقدرة الإنسان على الطبيعة. ووضع الحدود أمامه إيقاف لتقدم العلم وإحباط مسبق لإرادة الإنسان. أمَّا أفعال الشعور كاللذة والألم فيستطيع الإنسان أن يجعل من المؤلم ملذًّا بفعل التضحية والشهادة، أو أن يجعل من الملذَّ مؤلمًا إذا كان فيه فقدان الذات وضياع الكلمة وأذى الآخرين. يمكن أن يكون لقدرة الإنسان أثر غير محدود بزمانه ومكانه؛ فأثر كبار الفلاسفة والعلماء والفنانين والقادة غير محدود، وما زالت الإنسانية تسير بفعل السابقين وتحت أثرهم. هناك من البشر من أثر في تاريخ الإنسانية إلى الأبد كالأنبياء. حتى على فرض أن أثر القدرة الإنسانية محدود، فذلك لا يعني وجود قدرةٍ أخرى أعظم وأجلَّ وأسمى في مقدارها أن تدكَّ الجبال وتجعل الأرض محيطًا والمحيط أرضًا وأن تُشرق الشمسَ من المغرب وأن تُغربها من المشرق؛ فذاك قلب لقوانين الطبيعة الثابتة وهدم للعلم وإنكار لاطراد العادات وزعزعة لثقة الإنسان بالعالم وبفعله فيه، ولا يكون تعبيرًا إلا عن عاجز يودُّ أن يرى الكون في قبضته بالتمني أو قاهر يود السيطرة على الآخرين بالإرهاب أو الخديعة.١٥٠

    ولا تعني عدم قدرة الإنسان على الإعادة أن الإنسان غير قادر؛ فالفعل الإنساني فعلٌ موجَّه مقصودٌ مسبَّب، له غاية ونهاية. الرجوع إلى الوراء إنكار لغائية الفعل ولقصد الإنسان، والغائية جوهر الحياة، والقصدية أساس الفعل. والتاريخ لا يرجع إلى الوراء، والتراكم الكمي يتحوَّل إلى كيف. الفعل الإنساني بطبيعته فعل لا يتكرر لأنه فعلٌ إنساني أي فعلٌ خلاق. والخلق الفني لا يتكرر؛ لأنه مرهون بلحظة الخلق. الفعل الإنساني بطبيعته فعلٌ جديد، والجدة في الخلق تعبير عن الحرية في الفعل، ولو كان الإنسان مجبرًا لتكررت الأفعال؛ لأنها تحدث بنفس القدرة المخلوقة وعلى نفس المنوال. ولا توجد أية ضرورة على الإنسان حين يأتي بفعله تجعله قادرًا على إعادته من جديد، لا ضرورة عقلية أو حسية، بل توجد ضرورة توجب النقيض. المؤلَّه المشخَّص وحده هو القادر على الإعادة؛ لأنه افتراضٌ نظري، وفكر بالتمني، وتخيُّل حالة لا وجود لها. أمَّا الإنسان فإن ممارسته لفعله واقعة بالفعل. ومع ذلك فبعض الأفعال يمكن إعادتها بالممارسة. وتختلف درجة التكرار حسب مستويات الفعل. لو كان الفعل آليًّا أمكن إعادته كالعامل الذي يقوم بنفس الفعل آلاف المرات إذ تحول الفعل لديه إلى طبيعة ثانية، وإذا لم يحدث التكرار في الفعل الآلي فإنه لا يدل بالضرورة على نقص في القدرة، بل على نقص في التمرين والتعود والممارسة أو على نقص في الآلة. أمَّا الفعل البدني فإنه ممكن تكراره. قد لا يكون نفس الفعل من حيث الحركة الطبيعية ولكنه يكون نفس الفعل من حيث الدلالة. يمكن مثلًا كتابة نفس الحروف آلاف المرات والسير بين نقطتين عشرات المرات، ويكون الفعل في نفس المرة هو نفس الفعل، نفس الحرف أو نفس المسافة. ولكنه قد لا يكون الحرف تمامًا هو نفس الحرف من حيث الرسم، وقد لا تكون الخطوة تمامًا هي نفس الخطوة من حيث المسافة. ولكن هذه الفروق المكانية لا دلالة لها على الفعل ومصدره وهو الإنسان القادر الحر. والإعادة فرع على مبدأ، ومن يثبت الفعل يثبت التولد. الإعادة ممكنة لأن الفعل ممكن أوَّلًا. ومن قدر على الفعل الأوَّل يقدر على الفعل الثاني. وقد استعمل الفكر الديني الإلهي هذا التحليل لإثبات البعث بإثبات الخلق؛ فالقدرة على الخلق تتضمن القدرة على البعث لأن القادر على الفعل أوَّلًا يكون أقدر على إعادته ثانيًا. والقول باستحالة الإعادة مبني على أن العلم لا بد وأن يكون علمًا بالتفاصيل، وهذا غير لازم؛ فالإعادة ممكنة بفعل الممارسة عندما يتحول الفعل الأوَّل إلى طبيعةٍ ثانية. كما تصح الإعادة من المؤله المشخص؛ لأنه عالم بكل شيء وقادر على كل شيء.

    ولا يعني فرض أن قدرة الإنسان مخلوقة معه فهو أيضًا مخلوق؛ أن أفعال الإنسان مخلوقة لأن خلق القدرة لا يستلزم بالضرورة خلق الأفعال. يمكن خلق قدرةٍ قادرةٍ حرة في الإنسان الذي هو محقق قدرته في أفعاله. ولا يعني اعتبار المؤلَّه المشخص مالكًا لكل شيء بما فيه الإنسان وفعله نفيًا لقدرة الإنسان. إن القول بأن المؤله المشخص مالك لكل شيء مجرد عبارة تعبر عن عواطف التعظيم والإجلال. والمعاني والحقائق والوقائع لا تثبت بالعبارات والألفاظ.١٥١ ولا يعني إثبات كون الإنسان قادرًا أنه يسلب الآخر حريته أو يشاركه فيما ليس له، بل إن القادر على أفعاله هو المحقق لها. وهذا أيضًا ينفي بالضرورة أن يشارك آخر في أفعاله إلا من مشاركة الجماعة والعمل المشترك داخل الجماعة أو الحزب.١٥٢ لا يعني اختلاف الألسنة والألوان وجود قدرةٍ مشخصة خارجية جعلت الألوان والألسنة متباينة على هذا النحو؛ فتباين الألوان يرجع إلى درجة بُعد الجماعة البشرية عن الشمس، وتباين الألسنة يرجع إلى اختلاف نشأة اللغة حتى لو كانت لغة الوحي توفيقًا. لقد حدث ذلك مرةً واحدة ولم يتكرر بوجود أول إنسان على الأرض، وهذا الحال ليس حالنا، نحن بقية البشر.١٥٣

    وما المقصود في النهاية، نفي قدرة الإنسان من أجل رفض مشاركة أحد مع المؤلَّه المشخَّص في فعله أم إثبات قدرة الإنسان ورفض مشاركة أي أحد مع الإنسان في فعله؟ ما المطلوب في النهاية؟ إثبات قدرة الإنسان حتى لو كان ذلك بنفي قدرة الغير أم قدرة غيره حتى ولو كان ذلك بنفي قدرة الإنسان؟ حرية الإنسان أم حرية غيره حتى ولو كان ذلك بالقضاء على حرية الإنسان؟ وكيف تثبت إرادة الإنسان وقدرته وفعله وحريته مع قرارٍ مسبق بأنه لا شيء مخلوق له الخيار في أمره في عالم ليس له؟ وإذا كان القرار المسبق هو الحل فلماذا وضع السؤال؟

(٢-٣) القدرة والاستطاعة

تُثبت نظرية الكسب القدرة بإثبات التفرقة بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية. وتُثبت القدرة كواقعة للإنسان كما تثبتها تجربة الفعل الحر. ولكن نظرية الكسب لا تجعل القدرة من نفس الفاعل، بل من مصدرٍ خارجي. وترفض إحالة التفرقة إلى ثبوت الإرادة أو البواعث أو صفة في الجارحة أو بنيةٍ مخصوصة. ولكن ما فائدة إثبات قدرة للإنسان ثم نفي أن الإنسان مصدرها؟ إن ذلك كمن يعطي شيئًا بيد ويأخذه باليد الأخرى. يثبت الكسب الاستطاعة ولكنه لا يجعلها من الإنسان بل من مصدرٍ خارجي.١٥٤
والقدرة في الكسب صفةٌ متميزة عن البدن؛ لأنها من خلق فاعلٍ خارجي. ليس المزاج أو الاستعداد البدني بل صفة توجد في البدن دون أن تكون هي البدن، صفةٌ مخلوقة من الخارج. والحقيقة أن القدر مجموع لاستطاعات البدنية والنفسية والاجتماعية لأن الفعل مرهون بالبدن وبالباعث والموقف الاجتماعي في آنٍ واحد.١٥٥
وقد يُشار إلى القدرة أحيانًا بلفظٍ آخر أخص، وهو الاستطاعة، والاستطاعة مخلوقة في الإنسان من الخارج مثل القدرة. الإنسان مستطيع باستطاعة هي غيره. وهذا يماثل ما يُقال في الفكر الديني الإلهي من إثبات ذات المؤله المشخص وإثبات صفات هي غيره. وهذا غير صحيح. فإذا كان العجز نقيض القدرة فكون الإنسان عاجزًا مرة لا يعني أنه مستطيع باستطاعة غيره بل لآفة في الجارحة أو لضعف في الباعث أو لعدم وجود باعث على الإطلاق أو لتقييد حركته. ولو كان ذلك كله يُسَمَّى الغير يكون الغير مرتبطًا بالبدن أو بالنفس أو بالذهن، وذلك ليس خارجًا عن الإنسان.١٥٦ ولم تعرض عقيدة الجبر لموضوع الاستطاعة؛ لأنها تنكر أن يكون للعبد استطاعة؛ فهو مجبور في أفعال الشعور الداخلية والخارجية.١٥٧
ثم تتصف القدرة أي الاستطاعة، بأهم ما يميز الكسب وهو أنها لا توجد فقط من الخارج إلى الداخل، من الله إلى الإنسان ولكنها توجد أيضًا في لحظة الفعل وساعة وقوعه لا قبله ولا بعده. ما دامت القدرة ليست من الفاعل لا الإرادة ولا من البواعث ولا من العضو فليس لها وجود سابق على الفعل، بل توجد في لحظة مع الفعل.١٥٨ وما دامت القدرة تحصل مع الفعل فإنه لا يجوز الترك؛ ومِنْ ثَمَّ يصبح الفعل ضروري الحصول، ويكون الإنسان مجبرًا على الفعل؛ لذلك كانت القدرة في الجبر أيضًا مع الفعل، أي مقارنة القدرة لمقدورها.١٥٩ الله وحده هو الذي تتقدم فيه القدرة على الفعل وكأنه معتزلي! وكما لا تتقدم القدرة المقدور، فكذلك لا يتقدم العجز المعجوز. العجز قائم بالعاجز ولا يتقدم عليه.١٦٠ والحجة في ذلك أن الاستطاعة عَرَض، والعرض لا يبقى زمانَين. العرض يجيء ويذهب، يوجد ويعدم، وهو ليس كالجوهر، قائم بذاته؛ لذلك توجد القدرة ساعة التكليف لا قبله.١٦١ والحقيقة أن صلة القدرة بالفعل ليست صلة عَرَض بعَرَض. فالقدرة توجد الفعل أو معه عندما يعزم الأمر وتجتمع الطاقة ويبدأ التنفيذ. فالصلة بين القدرة والفعل صلةٌ عضويةٌ حركية، وليست صلة علة بمعلول. وبالتالي يستحيل وجود المعلول بلا علة أو العلة بلا معلول. وقد تكون الاستطاعة مع الفعل بأن يقرر الإنسان بناءً على حريته فعل شيء ثم تنشأ الاستطاعة من قدرة الإنسان على الخلق، ومن حدوث ما لا يمكن التنبؤ به، وهو دليلٌ آخر على الحرية. الأوَّل هو القرار حتى على ضعف الإمكانيات والثاني حدوث استطاعة غير متوقَّعة أثناء إتيان الفعل. فحدوث الاستطاعة مع الفعل قد يكون من فعل الحرية. وحدوث قدرة غير متوقَّعة وقوة غير محسوبة تقوِّي العمل وتعمل على تحقيقه على أكمل وجه.١٦٢ ولماذا تكون الاستطاعة في اللحظة؟ لماذا لا تكون في الزمان؟ لماذا تكون في الحال ولا تكون في الديمومة؟ لماذا لا يكون القادر على شيء في لحظة قادرًا عليه في كل لحظة؟

قد يكون الفعل اللحظي ليس أدل الأفعال على ممارسة الإنسان حريته. الفعل اللحظي قد لا يتكرر وهو الفعل الذي يحدث في ظروف قد تكون عفوية. الفعل الحر هو الفعل الدائم الذي يحدث نتيجة لتدبر ووعي وقدرة على الاستمرار في كل لحظة، لا تنتهي قدرته ولا يتوقف باعثه، ولا تغيب غايته.

وهناك عدة حججٍ أخرى تفصيلية تقدمها الأشاعرة لإثبات وجود الاستطاعة مع الفعل. وهي كلها حججٌ خاطئة، إمَّا من حيث الصورة أي الجدل أو من حيث المضمون أي المعنى أو الشيء. فكثيرًا ما تكون الحجة المقدمة لإثبات أن الاستطاعة مع الفعل هي نفسها المطلوب إثباته، ويكون الفكر كله مصادرة على المطلوب؛ مما يدل على أن الفكر هنا مجرد انفعال يريد إثبات ذاته سواء كمقدمة أو كنتيجة أو أنها محاولة فقط لتفنيد الموقف المعارض، الاستطاعة قبل الفعل، وهو المعروف باسم برهان الخلف.١٦٣
وقد يقال إن امتناع وجود الاستطاعة قبل الفعل هو أنها لو كانت كذلك لزاحمت قدرة المؤلَّه المشخَّص الموجودة قبل الفعل. ولما كانت قدرة الإنسان أقل إجلالًا وعظمةً، فمقدارها ألا توجد إلا في لحظة إتيان الفعل عندما تسمح لها القدرة الأعظم بذلك وتفسح المجال لها. والحقيقة أن هذا التفكير انفعاليٌّ خالص يريد إثبات أولوية قدرة المؤلَّه المشخَّص على قدرة الإنسان وقِدَمها وتقدمها عليها. وكيف تكون هناك قدرتان قديمتان موجودتان ومتساويتان؟ ولما كانت الكفَّتان غير متساويتين بين القدرة الإلهية والقدرة الإنسانية، والإنسان لا يقوى على الوقوف أمام الله، إقلالًا للذات، وإكبارًا للغير لم يكن له استطاعة سابقة على الفعل. والسؤال هو: هل فعل الإنسان مشروط بالقدرة الإلهية أم القدرة الإلهية ذريعة للسيطرة عليه من السلطة السياسية المدنية أو الدينية؟ والحقيقة أن تقدم القدرة الإنسانية لا يعني بالضرورة نفيًا لقدرة الإلهية، بل يعني فقط تقدم القدرة الإنسانية ووجوها كإمكانية تتحقق ساعة القرار بإتيان الفعل.١٦٤
ولا يقال إن القدرة عون على الفعل، وبالتالي فهي مقارنة؛ لأن القدرة ليست عونًا، بل هي تمكين وإرادة. ينشأ العون من تحقق شروط الفعل كالصحة البدنية وصدق الباعث وكمال الغاية وعدم الموانع البدنية أو النفسية أو الاجتماعية. وكيف يتأتى الفعل وقدرته مقارنةً له وليست سابقة عليه، وحساب القدرات السابق على تحقيق الفعل شرط لإتمامه وقرار تحقيقه؟ وقد تكون القدرة المقارنة عمياء إن نشأت وقت الفعل، أكبر من الفعل فتتجاوزه أو أقل منه فلا يتحقق الفعل.١٦٥
إن إثبات الاستطاعة مع الفعل بحجة أن العلة لا تكون إلا مع معلولها لا قبلها غير صحيح؛ لأن العلة تكون موجودة قبل معلولها. والإنسان هو الذي يسبب فقط اتصال العلة بالمعلول. العلة باقية قبل المعلول، كما أن الاستطاعة باقية قبل الفعل. ولا يعني ذلك تقدمها المطلق وبقاءها الأبدي بل هو بقاء مشروط بحياة الإنسان وبقدرته على الفعل، قدرته البدنية والنفسية والذهنية وحضور الباعث ووضوح الفكر والغاية وإمكانية العمل الحركي.١٦٦ فإن قيل: لما كانت الدلالة مقارنة للمدلول، وصحة الفعل دلالة على القدرة كانت القدرة مقارنةً للمقدور، يكون المثل هنا مختلفًا في حالة الكسب؛ فليست كل دلالة مقارنة للمدلول بل قد تكون متقدمة عليه، فدلالة الغمام سابقة على وجود المطر.١٦٧
أمَّا القول بأن القدرة قدرة على شيء، ومِنْ ثَمَّ لزم كونها مع الفعل لا سابقة عليه فإنه يكون إنكارًا للتفرقة بين الممكن والواقع، بين القوة والفعل. صحيح أن القدرة قدرة كل شيء ولكن قد تكون هذه القدرة ممكنة وليست قائمة بالفعل؛ فالقادر على الحركة قادر عليها وإن لم يتحرك، والقادر على الكلام قادر عليه دون أن يتكلم. ولا يتم الفعل فجأةً بناء على قدرةٍ مخلوقة فجأة وإلا كان الإنسان يسير في هذا العالم نطاطًا! وكيف يمكن تصور الفعل الإنساني معدومًا إلا إذا حلَّت فيه القدرة فتجعله موجودًا وكأن الإنسان قطعة من جماد لا تدب الحياة فيه إلا إذا لاحقته القدرة على دفعات كطلقات رصاص!١٦٨ وهناك فرق بين القدرة والباعث؛ فالقدرة سابقة على الفعل ولكن الباعث أو السبب هو الذي يجعل الفعل يتحقق في هذه اللحظة أو في تلك. كما أن الغاية باقية بعد الفعل، يصب فيها الفعل بعد أن يتحقق.١٦٩
والقول بأن الفعل يحتاج عند الصحة إلى أمر يحتاج بدوره عند الوقوع إلى أمرٍ متجدد؛ وبالتالي يحتاج الفعل إلى قدرةٍ متجددة كما هو الحال في الكسب غير صحيح، لا في حالة المشبه به ولا في حالة المشبه؛ فطلب تكرار الأمر عند كل فعل مستحيل عملًا وغير وارد نظرًا. يصدر الأمر مرةً واحدة. وما لم يأتِ أمرٌ آخر بإلغائه أو بأمرٍ آخرَ بديل لظلَّ الأمر الأوَّل سائر المفعول كما هو الحال في الواجبات الشعرية وفي التكليف بوجهٍ عام. وهل يحتاج كل فعلٍ إنساني لكل فرد من أفراد البشر إلى أمرٍ متكرر يصدر لكل فعل ولكل فرد، وكأن العالم هو مجموعة من الأفراد وسلسلة من الأفعال لا رابط بينها، وكأن الاستغراق والكليات لا وجود لها في الحياة الإنسانية. وبالرغم من أن التمثيل واقع في الحياة الإنسانية بدليل اعتماد الحجة عليه إلا أنه يخطئ في الجمع بين أمرين. فالصحة والأمر لا جامع بينهما. وحتى لو صحَّ التمثيل فالمؤله المشخص، وهو الكامل، لا يحتاج إلى إصدار أمرٍ متكرر، فعلمه علمٌ كلي كما يقتضيه كمال العلم بالنسبة للعلم الإنساني الجزئي. ولو احتاج إلى تكرار الأمر لوجب قِدَم الإرادة ومِنْ ثَمَّ قِدَم العالم. وكيف تتعلق الإرادة بالنواهي في حين أن الإرادة لا تتعلق بنفي؟ هذا يدل على أن الأمر الأوَّل لا يحتاج إلى أمرٍ زائدٍ متجدد.١٧٠
ولا تؤدي بالضرورة التفرقة بين الحركة الاضطرارية والحركة الاختيارية إلى أن القدرة قد تفارق الأولى بينما فارقت الثانية. لا تثبت هذه التفرقة مقارنة القدرة وقت إثباتها وتقدمها. وليس إثبات المقارنة بأولى من إثبات المفارقة؛ فكلاهما واقع، وليس لأحدهما حجةٌ زائدة على الآخر. والقول بأنه يستحيل وقوع الفعل عند عدم القدرة؛ وبالتالي يجب الفعل عند وجودهما، فالاستحالة والوجوب طرفا نقيض لا يمكن الجمع بينهما هو خلط بين الصحة والوجوب. فنقيض الاستحالة هو الصحة لا الوجوب. إذا كان الإنسان قادرًا على فعل يصحُّ منه الفعل ولا يوجب بتدخل قدرةٍ خارجية مقارنة للفعل.١٧١ أمَّا القول بأنه لو استحال الفعل بالقدرة في الحال، فإن هذه الاستحالة لا ترجع إلى القدرة لأنها موجودة، ولا إلى المقدور لأنه مقدور، بل لاستحالة المقارنة؛ مما يثبت عدم الارتباط الضروري بين القدرة والمقدور؛ وبالتالي تنتفي القدرة قبل الفعل، وتحلُّ فيه وقت وقوعه. هذا القول يتحدث عن استحالةٍ افتراضية وليس استحالةً واقعة بالفعل. فما دامت القدرة موجودة، وما دام المقدور داخل حدود الطاقة، وامتنعت الموانع فلا استحالة هناك، ولا حاجة إلى قدرة مقارنة تجعل الفعل واقعًا. وإن استحالة الفعل فإمَّا لأنه لا قدرة هناك، أو لعدم وجود باعث أو غاية، أو لوجود مانع بدني أو نفسي أو اجتماعي. ولا تعني الاستحالة في الحال الاستحالة في كل حال؛ بدليل الفعل المتولد. هناك أحكامٌ عقليةٌ عديدة في الاستحالة قد لا تطابق استحالةً فعلية؛ فاستحالة المؤلَّه المشخص على فعل ما لم تزل استحالة تنال من الإطلاق وإن كانت حكمًا. ومع ذلك فلا شيء يحدث بلا سبب. وإن استحال الفعل فهناك سبب للاستحالة وإن لم يكن بالضرورة حكمًا عقليًّا؛ فالأحكام العقلية هي نفسها علل واقعية.١٧٢
والقول بأنه لو جاز الفعل بالقدرة المتقدمة لجاز بالقدرة المعدومة، بل ويجوز في حالة العجز قولٌ مستحيل وافتراضٌ نظريٌّ صوريٌّ صرف؛ لأن الفعل لا يجوز بقدرةٍ معدومة، خاصة إذا كان الفعل الأوَّل. أمَّا الفعل المتولد، فإنه يجوز بقدرةٍ معدومة؛ لأن القدرة في هذه الحالة وإن عُدمت من ناحية البدن والمباشرة، فإنها تظل باقية من حيث المعنى والأثر، والقدرة هي الأثر.١٧٣
فإن قيل: لو جاز أن تكون القدرة متقدمة لمقدورها في وقت لجاز أن تكون متقدمة في أوقاتٍ كثيرة، وهذا يقتضي التكليف والاحترام وعدم استحقاق المدح والذم قيل إن التقدم بأوقاتٍ كثيرة مشروط بحياة الإنسان. فالقادر على الفكر لا تتقدم قدرته حتى ترجع إلى عهد الصبا، والقادر على الحركة لا تتقدم قدرته حتى ترجع إلى المهد. إن القادر على الفعل تتقدم قدرته في الحقيقة في دور حياته المحقِّق لهذا الفعل؛ فالتكليف مشروط بالحياة، واستحقاق الذم والمدح مشروط بتحقيق الأفعال المشروطة بالإنسان الحي.١٧٤ يكفي تقدم القدرة المعينة على الفعل الخاص في موقفٍ معين وليس افتراض أمورٍ نظرية لا وجود لها إلا افتراضًا وكأن الفكر الديني مهمته تبخير الوقائع والقضاء على الأفعال لحساب القِدَم المطلق والبقاء المطلق والتسلسل إلى ما لا نهاية من البداية أو من النهاية.
إن احتياج الفعل إلى القدرة ليس كاحتياجه إلى الآلة حيث تجب فيها المقارنة؛ لأن الآلات تنقسم إلى متقدمة ومقارنة. وليس تمثيل القدرة بالآلة المقارنة أولى من تمثيلها بالآلة المتقدمة.١٧٥ كما أن القول بتقدُّم القدرة لمقدورها يوجب انقطاع الرغبات عن المؤلَّه المشخص، وذلك بخلاف رغبات المسلمين التي لا تنقطع بل تكون ممتدة. حتى المؤله المشخص خلط بين العلة الفاعلة والعلة الغائية. القدرة علةٌ فاعلة. صحيح أن الفعل يتحقق بمجموع عللٍ فاعلة وغائية، ولكن القول بتقدم العلة الفاعلة لا يعني بالضرورة انقطاع العلة الغائية، بل إن العلة الغائية هي المحرك للعلة الفاعلة؛ لما كان الإنسان مجموعة من الغايات تنظمها غايةٌ واحدة. يحدث كل ذلك في حياة الإنسان، وبدون حياة الإنسان لا يكون هناك فعل أو غاية. وإن تخيل حياةٍ مطلقة تمتد فيها الغايات إلى ما لا نهاية مجرد فكر بالتمني، تضحية بالواقع في سبيل الممكن، وقضاء على النسبي في سبيل المطلق.١٧٦
وإن قيل: لو كانت القدرة صالحة للضدين لما كان أحدهما بالوقوع أولى من صاحبه إلا بأمرٍ مخصَّص؛ وبالتالي خلق القدرة للإتيان بأحد الضدَّين دون الآخر كما هو الحال في الكسب هو هذا الأمر المخصص، فإن ذلك القول لا يعني بالضرورة خلق قدرةٍ مقارنة تجعل أحد الضدَّين واقعًا دون الآخر، بل يعني وجود أمرٍ مخصص وهو الباعث على تحقيق أحد الفعلَين. والباعث موجود دون حاجة إلى أمرٍ زائد. تحدث القدرة من الباعث ولا تحتاج إلى شيءٍ آخر توجد به؛ لأنها لا تحدث على سبيل الإيجاد بل على سبيل التأثير.١٧٧ ولا يُقال إن المتعلقات بالأغيار مشتركة في أنها لا تتعلق بالضدين، ولما كانت القدرة متعلقة بالأغيار، فإنها لا تتعلق بالضدين وبالتالي تكون مقارنة للمقدور كما هو الحال في نظرية الكسب؛ وذلك لأن تعلق القدرة بالضدين جائز، ولكن وقوع أحد الضدين دون الآخر لا يتعلق بالقدرة وحدها السابقة على الفعل بل أيضًا بالباعث المصاحب للفعل، وبالغاية التي يهدف إليها الفعل.١٧٨
إن الأفعال المتماثلة والمختلفة والمتضادة، كلٌّ منها محتاج في نظرية الكسب إلى قدرةٍ خاصة، فالقدرة الواحدة في الكسب لا تكون على إرادتَين أو حركتَين أو مثلَين؛ لأن كل قدرة مصاحبة لفعل، وكل فعل يحدث بقدرة. وما دام الإنسان قدر على الفعل مرة فإنه لا يقدر على فعلٍ آخر مشابهًا له ومساويًا إياه إلا بقدرةٍ أخرى. وهكذا يحتاج الإنسان في كل مرة يفعل فيها فعلًا إلى قدرة جديدة. لا توجد الحركتان في لحظةٍ واحدة لأنهما تكونان إمَّا حركةً واحدة أو حركتَين متضادتَين، فإن كانتا حركةً واحدة امتنع التماثل، وإن كانتا متضادتَين وقعت إحداهما دون الأخرى لأن القدرة لا تتعلق بالضدَّين ولا تقعان واحدة تلو الأخرى لأن القدرة لا تبقى في الزمان ولا توجد إلا في اللحظة. تقع حركةٌ واحدة بقدرةٍ واحدة في لحظةٍ واحدة. وتحتاج الحركة الثانية إلى قدرةٍ ثانية في لحظةٍ ثانية. والحقيقة أن هذا التصور كله للتماثل والاختلاف والتضاد في الأفعال على ما تعرضه نظرية الكسب ينافي الحس والمشاهدة والعادة ويضاد التعلم والممارسة التي يتحوَّل فيها الفعل بالتكرار إلى طبيعةٍ ثانية. صحيح أن الجدة في الفعل أكثر إشراقًا وحيوية من الفعل المتكرِّر ولكن هذه الجدة مرتبطة بتجدُّد الباعث نفسه وحضور الغاية ماثلة باستمرار والشوق إلى الفعل الذي يحقق رسالة الإنسان وغايته.١٧٩
وكما لا تقع المتماثلات في الكسب بقدرةٍ واحدة، فالأَولى ألَّا تقع المختلفات وإلا لاستطاع الإنسان بقدرةٍ واحدة أن يفعل كل شيء. وهذا افتراضٌ محضٌ لأن قدرةً واحدة لها مداها، وكل فعل يحتاج إلى قدرةٍ مساوية له حتى يتم الفعل. فلا يمكن رفع حجر بأصبعٍ واحد ولكن يمكن رفعه باليد.١٨٠
وكما أن القدرة الواحدة في الكسب لا تقدر على المتماثلات والمختلفات، فإنه أولى بها ألا تقدر على المتضادات؛ فالقدرة على شيء ليست قدرة على ضده؛ لأن كل قدرة تحتاج إلى قدرةٍ خاصة في وقت الفعل، ولأن القدرة قدرة بشيء ولا بد من تعلُّقها بمقدور، والمقدور لا يكون مقدورَين وإلا كانت هناك قدرة بلا مقدور أو فاعل بلا فعل وهو مُحال. وإذا كانت القدرة مقارنةً للفعل فالمقارنة لا تكون للضدَّين وإلا لاستحال الفعل، ومِنْ ثَمَّ كانت المقارنة لأحد الضدَّين فحسب. والخطأ هنا عدم التفرقة بين الممكن والفعل؛ فهناك قدرةٌ ممكنة وإن لم تكن متعلقة بفعل، فإذا تحققت القدرة تعلقت بفعل. وعندما يتحقق أحد الضدين فمعنى ذلك أنه تحقق طبقًا للباعث الأقوى. وتتحدد قوة الباعث بالفكر والغاية ودرجة التمثل له. أمَّا أفعال النائم والساهي فإنها ليست أفعالًا لأنه ينقصها الرويَّة والتدبر والقصد والغاية. وإذا وقع فعل الإرادة دون الكراهية أو فعل الكراهية دون الإرادة، فلاختلاف الباعث والغاية والفكر أي لاختلاف الأساس النظري للفعل أو إن شئنا لاختلاف القيمة. لا تعني القدرة على الضدَّين القدرة على متناقضَين طبيعيَّين كالسواد والبياض بل القدرة على فعلَين مختلفَين في القيمة من حيث الشرف كالظلم والعدل، أو القهر والتحرر. وهذا هو مناط الحرية، التحرك بين سلم القيم واتِّباع أعلاها أي أوسعها مدًى وأكثرها تحقيقًا لكمال الطبيعة. وإذا كانت القدرة بالضرورة متعلقة بأحد الضدَّين استحالت الحرية.١٨١ لذلك في الجبر أيضًا القدرة غير صالحة للضدين لمقارنة القدرة بأحدهما ضرورةً ووجوبًا. ولا ينفع تجويز البدل في الأفعال لإثبات قدرة الإنسان؛ لأن البدل لا يجوز في الماضي الذي تم، بل في الحاضر المستدرَك أو في المستقبل المنتظَر الذي لم يتم. وما فائدة حرية في الماضي الذي وقع؟ ولماذا يكون أحدهما أولى بالوقوع من الآخر؟ وما المخصص؟ أليس ذلك كله تكليفًا بما لا يُطاق؟١٨٢
ولا تفيد التفرقة بين نوعَين من القدرة البدنية مثل الصحة وسلامة الحواس والأعضاء وبين ارتفاع الموانع النفسية، وهي مجموعة البواعث والأفكار والغايات، فتكون الأولى قادرة على الضدَّين في حين تقدر الثانية على فعلٍ واحد فقط لإثبات الكسب. وذلك لأن تحريك اليد أو تسكينها ليس فعلًا كاملًا، بل هو فعلٌ بدنيٌّ خالص وليس له أية دلالة على السلوك الإنساني، في حين أن الفعل القائم على البواعث والغايات هو الفعل الإنساني الذي يعبر عن طبيعة الإنسان ووجوده. الفعل الحقيقي هو فعل الباعث والغاية، وهو ما زال في هذه التفرقة لا يقدر على فعل الضدين لمقارنة قدرته لأحد الفعلين.١٨٣ ولا يمكن إثبات أن القدرة لا تقدر على الضدين مع الإبقاء على القدرة الممكنة قبل تحقق الفعل ودون حاجة إلى خلق قدرةٍ جديدة للإتيان به؛ فطبيعة الإنسان واحدة، والقادر على تحرير الشعب لا يقدر على استعباده، والقادر على العلم لا يقدر على الجهل. الطبيعة موجِّهة للفعل كما أن الفكر موجِّه للسلوك، وكما أن الطبيعة لا تتغير فكذلك المبادئ لا تتغير، وكما أن الغاية باعث على الفعل، والغاية واحدةٌ ماثلةٌ حاضرة لا تغيب؛ فالفعل كذلك واحد. لا تصبح القدرة قادرة على الضدَّين إلا إذا تغيرت البواعث والمقاصد والأهداف. يستطيع الإنسان بقدرته أن يفعل الشيء ونقيضه باستثناء البواعث والغايات؛ فالقادر على الحركة قادر على السكون، والقادر على الكلام قادر على الصمت، ولكن القدرة البدنية ليست إلا إحدى مكوِّنات الفعل، بالإضافة إلى الباعث والغاية. بل إن عدم وجود الباعث والغاية يصيب الإنسان أحيانًا بالعجز عن الحركة؛ وبالتالي بتراخي القدرة البدنية؛ فالأفعال تتخلَّق بالبواعث والغايات. لو خلقت القدرة في لحظة الفعل كما هو الحال في الكسب بصرف النظر عن البواعث والغايات لحدث فعلان متضادان في وقتٍ واحد. وإذا قيل إن الفعل لا يصلح إلا لذاته دون ضده رجع الكسب إلى الجبر، وأصبح الإنسان يخلق قدرةً خارجية فيه غير قادر إلا على هذا الفعل دون غيره.١٨٤ وفي الكسب أيضًا القدرة على الفعل ليست قدرة على الترك؛ لأن الفعل يحدث بقدرةٍ خارجية تجعل الفعل واقعًا ومهيئًا. ولا يجوز بعد ذلك ألا يحدث الفعل. وهو نوع من الجبر لأن الفعل الحسن هو الفعل الذي يقدر الإنسان فيه على الفعل والترك على السواء مع اعتبار الطبيعة وأنها موجِّهة برسالتها، وهذه هي الحرية الباطنية.١٨٥
ولما كانت القدرة، في نظرية الكسب، مخلوقة في الإنسان من الخارج، فإن الفعل الإنساني لم يعد داخلًا في نطاق القدرة الطبيعية، ومِنْ ثَمَّ يجوز أن يأتي الإنسان بفعل أكثر من طاقته الطبيعية ما دامت القدرة اللازمة لذلك قد خُلقت فيه. يجوز إذن التكليف بما لا يُطاق، وأن تكون الاستطاعة أقل من التكليف. وهذا هدم لأساس التكليف وتقويض لأساس التشريع وقضاء على أساس الاستحقاق بالمدح والذم؛ فقد قام التكليف على أنه لا تكليف بما لا يُطاق. وكل ما يتجاوز حدود الطاقة الإنسانية لا يدخل ضمن الفعل الإنساني. وتكليف ما لا يُطاق بدنيًّا مستحيل. كيف يستطيع الإنسان تحريك جبل بأصبعه أو إمساك القمر بقبضته؟ التكليف بما لا يُطاق لا يجعل هذا العالم أفضل العوالم الممكنة.١٨٦ أمَّا أفعال الشعور مثل الإيمان والعلم والاعتقاد، فإنها أيضًا لا تحدث إلا داخل حدود الطاقة والاستعداد؛ فالقادر على علم شيء لا يقدر على علم كل شيء، ولا يوجد علم مسبق بما سيحدث في المستقبل إلا بطريق التنبؤ، وهو احتمالٌ خالص؛ ومِنْ ثَمَّ التكليف بالرسالة واقع على البشر سواء فهم من حققها أو لم يحققها. صحيح أن الإنسان في موقف، والموقف يعطيه البواعث ولكن ذلك لا يعني أن الموقف والبواعث معًا أكبر من طاقة الإنسان وأنها ضد التكليف بالضرورة. ويمكن للإنسان بحريته تحويل الموقف لصالحه.١٨٧ وماذا يحدث لو خلقت القدرة على فعل شيء ليس الإنسان مستعدًّا له أو قادرًا عليه؟ لو حدث ذلك لفعل الإنسان ضد طبيعته وضد قدرته؛ وبالتالي تضيع حريته الذاتية وتصبح أفعاله مملاة عليه من الخارج وفوق حدود الطاقة.١٨٨ وإذا جاز لأفرادٍ قلائل لحماسهم للرسالة ولشدة الباعث على الفعل القيام بأعمال تكون في حكم العادة خارقة للعادة، كما يحدث ذلك من عباقرة التاريخ وأبطال الشعوب فإن هذه الأفعال تدخل في حدود الطاقة، ولكنها الطاقة الفردية والجماعية المتميزة، وهي ما تُسَمَّى بلغة التشبيه إتيان المعجزات أو القيام بالمستحيلات. ولكن في نظرية الكسب ما دام المؤلَّه المشخَّص هو الفاعل فلم لا يجوز التكليف بما لا يُطاق؟ الله هو الفاعل وهو المكلِّف وما الإنسان إلا قناع وحاشية.
إن شرط حرية الأفعال أن تكون الاستطاعة قبل الفعل وليس معه؛ لأن الفعل في حاجة إلى تخطيط وتدبر مسبق. ليست كل الأفعال بنت التو واللحظة.١٨٩ لذلك قد يثبت الكسب نوعًا ما من الاستطاعة قبل الفعل وهي الاستطاعة البدنية فحسب، سلامة الحواس والصحة واعتدال المزاج وارتفاع الموانع. أمَّا الاستطاعة النفسية فإنها تظل مع الفعل وليدة اللحظة.١٩٠ وباجتماع القدرتَين البدنية والنفسية (الداعية الجازمة) يحدث الفعل. فإن قيل: إن من الاستطاعة ما هو قبل الفعل وما هو في حال الفعل وما هو بعد الفعل، فإن أقصى ما يستطيعه الكسب من إثبات استطاعة قبل الفعل هي الاستطاعة البدنية فحسب دون سواها. الاستطاعة عَرَض يخلقه الله في الحيوان يفعل به الأفعال الاختيارية، وهي علة الفعل عند المعتزلة. وعند الجمهور شرط أداء الفعل لا علة له، صفة يخلقها الله عند قصد اكتساب الفعل بعد سلامة الأسباب والآلات. وحتى في هذه الحالة الضيقة التي لا تتعدى فيها الاستطاعة القدرة البدنية الحالة في البدن قبل إتيان الفعل يكون الكسب قد انتهى إلى أن خلق الله للقدرة على الفعل مشروط بسلامة البدن، وبالتالي النيل من قدرة الله المطلقة. وهنا يبرز سؤال: ألا يقدر الله على خلق القدرة في العاجز والمشلول والمبتور والقعيد؟ هل يجوز إذن تكليف العاجز؟ وهل يؤدي هذا الدفاع النسبي عن الفعل بإثبات مجرد الاستطاعة البدنية السابقة على الفعل إلى النيل من التوحيد بالضرورة؟١٩١

(٢-٤) نقد الكسب

بالإضافة إلى تفنيد حجج الكسب السابقة، فإنه يقع في عدة أخطاء، سواء في التوحيد أو في العدل، تنال من حق الله في التنزيه وحق الإنسان في الحرية منها.

  • (١)
    المشاركة أصلًا مستحيلة، مشاركة الله للإنسان في الفعل، ومشاركة الإنسان لله في الفعل لأنه ضد التوحيد، فإذا كان الكسب يرفض الحرية لأنها مشاركة من الإنسان في فعل المشخص المؤله فإن الأولى بالحرية أن ترفض الكسب لأنه مشاركة من المشخص المؤله في فعل الإنسان. المشاركة شرك، ويكون حينئذٍ الجبر أولى بالتوحيد لأنه يوجد في الأفعال، يجعلها كلها مخلوقة من الله دون أن يكون للعبد فيها شيء.١٩٢ والشركة في الكسب تتعدى أن يكون الإنسان مشاركًا في الفعل إلى أن يكون لا فعل له على الإطلاق. ما دام الإنسان قادرًا على الفعل، فالمؤلَّه المشخَّص عليه أقدر لأنه أعظم. وإذا كان الإنسان قادرًا على تحريك شيء فالمؤلَّه المشخص قادر على تحريك الجبال. وإذا كان الإنسان قادرًا على بناء منزلٍ صغير، فالمؤله المشخص قادر على بناء مدينةٍ كبيرة في غمضة عين. وهكذا يتحول الأمر من إثبات قدرة الإنسان إلى إلغائها وإثبات قدرة المؤله المشخص؛ لأنه أعظم وكأن الغاية هي إثبات قدرةٍ عظمى لموجودٍ أعظم وليس إثبات قدرة الإنسان. وذلك فعل عواطف التأليه التي يريد المهزوم تشخيصها تعويضًا لهزيمته، وتشبُّثًا بقدرةٍ عظمى يفتقدها أو عواطف التأليه التي يريد المنتصر إثباتها إمعانًا في إثبات سلطته، ومحوًا لأفعال الآخرين. في حين أن إثبات قدرة الإنسان، والإنسان وحده دون أن يقدر عليها آخر حتى ولو كان المؤله المشخص، أكثر احترامًا للإنسان وأقدر تعبيرًا عن عواطف التأليه على السواء؛ فهي تؤكد فعل الإنسان، وتثبت عظمة التأليه الذي لا يكون من كماله فعل شيء أقل منه، وهو فعل الإنسان. وما أتفه فيل يريد أن يثبت أنه أقدر من النملة على تحريك قشة!١٩٣
    ويدافع الكسب عن نفسه بأنه لا يعني المشاركة. ولا يعني إثبات قدرة الإنسان مشاركة المؤله المشخص في فعله، وكأن إثبات قدرة للإنسان تهمة يجب إبعادها أو ذنب يجب التكفير عنه، وكأن المطلوب إثباته قدرةٍ عظمى فوق قدرة الإنسان؛ لأن قدرة الإنسان هي الطاغية، والقدرة العظمى هي المقهورة! ما دام الإنسان يسعى بالعلل المباشرة إلى تحقيق أفعاله، فكل محاولة لإدخال عنصرٍ ثالث بين الفعل والأثر، أو بين العلة والمعلول ضرب من الأسطورة والغيب والطاغوت. وحتى إذا حدثت العلة دون المعلول أو حدث المعلول دون العلة فذلك لا يعني مشاركة الإنسان في فعله، بل يعني أن هناك علةً أخرى قد دخلت فأحدثت الفعل وهي علة غير متوقَّعة، أو أن العلة التي ظن الإنسان أنها مؤدية إلى الفعل ليست هي العلة المؤثرة؛ ومِنْ ثَمَّ يجب البحث عن العلة الصحيحة للفعل المطلوب. هذا التفاوت بين العلة والمعلول واقع في السلوك البشري، ولا يشير إلى تدخل أية علة من الخارج، بل يشير فقط إلى أن طبيعة الإنسان هي القصد والإرادة والتخطيط والمراجعة والبدء من جديد والتجريب والمحاولة والخطأ والإعادة. وما دامت هناك السنن والإرادات تحدث الأفعال دون ما حاجة إلى عنصرٍ ثالث فوقهما.١٩٤
  • (٢)
    يستحيل أن يكون الإنسان فاعلًا على الحقيقة ومكتسبًا في آنٍ واحد؛ فهذا جمع بين ضدَّين. فإمَّا أن يكون الإنسان صاحب فعله وبالتالي يكون فاعلًا على الحقيقة، وإمَّا أن يكون مكتسبًا وبالتالي يكون فاعلًا بالمجاز.١٩٥ فإذا استوى الفعلان؛ فعل الإنسان وفعل المؤله المشخص، أصبح كلاهما فاعلَين على الحقيقة، وهذا يستحيل أيضًا؛ لأن الفعل لا يكون إلا لقادرٍ واحد. بالإضافة إلى أنه لا مبرر هناك لفاعلَين ما دام الإنسان فاعلًا قادرًا، وما دام المؤله المشخص فاعلًا قادرًا.١٩٦ ومن المستحيل تصور وجهين للفعل، يقع أحدهما بقدرة والآخر بقدرةٍ أخرى؛ فالفعل له وجهٌ واحد من جهة الفاعل. ولما كان الفعل لا يحدث في فراغ بل يحدث في واقع، ويتحقق في موقف، فإن هذا الموقف ليس وجهًا آخر للفعل بل هو ميدان للفعل الذي يحتوي على عواملَ محددة للفعل وموجِّهة له. ولكنها ليست واجهةً أخرى للفعل تستقبل فاعلًا آخر وقدرةً أخرى. الشيء ذو وجهٍ واحد، والفعل ذو وجهٍ واحد لا يتغير ولا يتبدل، لا يتعدد ولا يتكاثر وإلا تميَّع وساب، وتشعَّبت المسئولية واستحال التوجه والقصد.١٩٧ كما أنه يستحيل تصور فاعلٍ واحد بقادرَين؛ لأنه إمَّا أن يحدث الفعل كله بقادرٍ واحد، فما وجه الحاجة إذن إلى القادر الثاني؟ وإمَّا أن يحدث الفاعل بالقادرَين معًا، وفي هذه الحالة ما وجه التمييز بين القادرَين؟ وماذا يكون الحال لو اختلف القادران على إتيان الفعل؟ ولو تحقق الفعل فإنه يتحقق بقادرٍ واحد الذي غلب على القادر الآخر. بل إن هذا هو أساس التوحيد، وهو ما يُستعمَل عادةً في إثباته. فكيف يُستعمل دليل التمانع في الذات والصفات ويرفض في الأفعال؟ كيف يستعمل في التوحيد ويرفض في العدل؟١٩٨ كما أنه من المستحيل تصور فاعلٍ واحد بقدرتَين، قدرة منه وقدرة من خارجه. كل فاعل له قدرة، وقدرته واحدة، وأية قدرة أخرى تدخل في فعله تكون قدرة لفاعلٍ آخر.
  • (٣)
    ينتج الكسب من احتياج المعبود المشخَّص إلى قدرة يخلقها في الإنسان من أجل الكسب. ولماذا لا يفعل الله كل شيء ما دام قادرًا؟ لماذا التمويه على العبد بأن يجعله فاعلًا في الحقيقة وهو ليس إلا فاعلًا بالمجاز؟ إن كان الكسب يرمي إلى التوحيد وإثبات قدرة المؤلَّه المشخص المطلقة، فإنه ينتهي إلى الإقلال منه بإثبات حاجته إلى خلق قدرة يكسب بها الإنسان فعله. وهنا يكون الجبر أكثر اتساقًا مع عواطف التعظيم والإجلال من الكسب. يجعل الكسبُ المؤله المشخص مكتسبًا لأنه يتدخل في فعل الكسب. وما دام قادرًا على كل شيء وقادرًا على الكسب؛ فيكون إذن مكتسبًا، ويكون تعلقه بالفعل على جهة الكسب يجعله مكتسبًا، حتى ولو لم يحتج إلى آلة لأن اسم الفاعل لا يتضمن بالضرورة آلة.١٩٩ وإذا كان الإنسان قادرًا على الكسب، فلماذا لا يكون قادرًا على كسب كل أفعاله؟ لماذا تكون قدرته منتقصة، وثقته بالنفس مزعزَعة، وأنه غير قادر إلا أن يقوم بالأفعال إلى منتصفها؟ وما أسهل بعد ذلك أن يقوم بها إلى الربع ثم لا يقوم بها على الإطلاق اعتمادًا على الكسب وخلق الله أفعاله فيه؛ وبالتالي ينتهي الكسب إلى الجبر المطلق.
  • (٤)
    والكسب لا بد وأن يؤدي بالضرورة إلى الحدوث، لا حدوث القدرة بل حدوث الشيء بفعل قدرة الإنسان. ليس الحدوث هو القدرة أو الإنسان، حدوث من أجل إثبات مُحدَث وهو المؤله المشخص، بل يعني الحدوث إحداث الشيء بقدرة الإنسان.٢٠٠ يثبت الكسب إذن بإثبات قدرةٍ حادثة. ولكن لماذا إلغاء تأثير القدرة لكونها حادثة؟ أليس إثبات قدرة لا أثر لها نفيًا لما أثبت أوَّلًا؟ أهي خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف؟ إقدام ثم إحجام مثل إثبات الصفات بلا كيف في التوحيد بعبارات مثل عين لا كأعيننا وبصر لا كبصرنا ويد لا كأيدينا!٢٠١
    وما دام الفعل يقع بقدرة الإنسان، فلماذا الإصرار على أنها محدثة؟ كما أن هذا وصف لنشأة الشيء المادية أو الفعل وليس مجرد الإتيان بالفعل. لماذا وصف القدرة بعد أن تحدث بوصف ينفيها ويلغيها ويقضي على استقلالها؟٢٠٢ ولا يعني عجز القدرة عن فعل شيء نفي القدرة، بل يعني حدوثها في نطاقها وحدودها. لا تعني القدرة على إحداث شيء القدرة على إحداث كل شيء. تفعل القدرة الإنسانية على مستواها وفي مداها. لا تعني قدرة الإنسان على الحركة أنه قادر على تغيير بناء الشيء أو على إيجاد الشيء من عدم. لا تعني القدرة على السيطرة على ظواهر الطبيعة تغيير قوانين الطبيعة وعلى إحداث ظواهر تحدث على خلافها.٢٠٣ وما دامت القدرة حادثة وليست خالقة، وما دام الفعل لا يتم إلا بقدرةٍ خارجيةٍ أخرى، فلماذا لا يريد الإنسان تحريك الجبال ولا تأتي القدرة الخارجية لخلق الفعل فيه وتهيئة الكسب له؟ لماذا تأتي القدرة الخارجية في بعض أفعال الخاصة بالطاعة والعصيان المدني دون البعض الآخر الخاصة بالطبيعة والكون؟ أليس من شيمة المؤلَّه المشخَّص الكرم والجود واللطف؟ ألا يعطي العون ويهب التوفيق؟ يدل ذلك على أن قدرة الإنسان تؤثر في مداها وحسب الطاقة لا أقل فتعجز ولا أكثر فتتبخر. وما التفرقة بين حالة الفعل وجهة الفعل وصفة الفعل إلا وسيلة لإفساح المجال لإثبات إرادةٍ خارجيةٍ مؤثرة على جهة من جهات الفعل لا على كل الجهات أو في حالة من حالات الفعل لا على كل الحالات، ولكي يلغي كون الإنسان هو المعطي لصفة فعله وجهة حاله أي لنفي استقلال إرادته وفعله.
  • (٥)
    إن إنكار قدرة الإنسان المحدثة لا بد وأن يؤدي بالضرورة إلى إنكار الصانع؛ لأن إثبات الصانع قائم على إثبات الحدوث، ومنها حدوث القدرة. كيف يمكن إذن إثبات قدرة الله ونفي القدرة الحادثة؟ إذا كان حدوث القدرة نفسه نتيجة لحكمٍ مسبق هو وجود قدرةٍ مطلقة هي قدرة القديم، فإن إثبات قدرة القديم يظل افتراضًا في حاجة إلى إثبات.٢٠٤ وإن إثبات قدرة المؤله المشخص قبل الخلق وبدون القدرة الحادثة مجرد إثبات من حيث الشرف والقيمة لا من حيث الواقع؛ لأن عواطف التعظيم والإجلال تفرض صفةً كاملة له. إن تصور المعبود مالكًا لكل شيء وخالقًا كل صورة فكرٍ إلهيٍّ مركزي من مجتمعٍ منتصر، ولكن من مجتمعٍ مهزوم تكون صورة للقهر أو تعويضًا عنه. فما أجمع عليه المؤلهون في مجتمعٍ منتصر أنه مالك لكل شيء قد يُجمع عليه المؤلهون في مجتمع يود الانتصار. إن الإنسان هو القادر على كل شيء.٢٠٥ هناك فرق بين الفكر في موضوعٍ موجود وبين تخيل حالة غير موجودة ولا سبيل إلى معرفتها ثم إصدار أحكامٍ عقلية عليها. كيف يمكن الحديث مثلًا عن حال المؤله المشخص قبل الخلق أو معرفتها؟ إنه ليستحيل التفكير فيها لأن التفكير أصبح ممكنًا بعد الخلق وليس قبله. إن الدليل في حقيقته مصادرة على المطلوب لأنه يبدأ بعواطف التعظيم والإجلال التي تشخص مؤلهًا موجودًا قبل الخلق قادرًا على كل شيء ثم تنتهي بإثبات نفس المشخص المؤله ونفس القدرة وكأن نقطة البداية هي نفسها نقطة الانتهاء، وكأن الغرض نفسه هو المطلوب إثباته، وكأنه لا فرق بين الخيال والواقع، بين الرأس والقدمَين.
  • (٦)
    ولا يعني خلق الفعل إيجاد الشيء من عدم أو إحداثه، بل تغيير بناء الواقع؛ وبالتالي فإن الجبر والكسب معًا يقومان على افتراض خاطر، وهو أن الإنسان إن كان صاحب أفعاله فإنه يكون لها خالقًا ومُحدِثًا. وهذا غير صحيح، فالإنسان لا يخلق العالم بل يعمل فيه، ولا يحدث المجتمع بل يغير بناءه. يعني الخلق هنا الأثر لا الشيء الذي يقع عليه الأثر، الخلق هنا هو الخلق المعنوي لا الخلق المادي، الخلق هنا هو خلق أفعال الشعور لا خلق الأشياء في العالم.٢٠٦ هناك إذن فرق بين خلق الإنسان للشيء وفعله في العالم. الخلق تفسير لنشأة الكون، والإنسان بفعله لا يدَّعي أنه يفسر نشأة الكون، بل يغير فقط البناء الاجتماعي للواقع. وهذا هو معنى تأثير القدرة.٢٠٧ وما دام الأمر لا يتعلق بخلق الشيء من عدم، بل بتغيير بناء الواقع، فإن عدم قدرة الإنسان على إعادة الشيء بعدُ إن لم يكن لا يثبت أنه غير قادر على الفعل. وما دام الفعل الإنساني يتحقق في حدود الطاقة، فإن خلق الشيء أو إعادته ليس مثلًا للفعل المقصود، وهو الفعل الذي يهدف إلى تغيير في البناء الاجتماعي. الفعل المقصود هو الفعل الإنساني لا الفعل الطبيعي.٢٠٨ لا يرجع الفعل الإنساني إلى الوراء، بل يسير في اتجاهٍ واحد لا عن طريق النكوص. النكوص غياب للفعل وليس إحداثًا للفعل. ولكن إذا توافر القصد والداعي فإن الفعل لا ينكص من تلقاء نفسه. وعدم القدرة على النكوص لا تعني استحالة التطور.٢٠٩ تحدث القدرة إذن أثرًا في الوجود بمعنى تغيير في بناء الواقع وليس بمعنى أنها خالقة للوجود أو مُحدِثة له، بل مجرد فاعلة فيه. وهي قدرة من الذات، من فعل الذات في العالم وليس مجرد انتظار فعل في نفسها. ولا يعني فعل القدرة في العالم وتعلقها بالوجود أنها قادرة على خلق الوجود أو إعدامه أو على قلب قوانينه أو عكسها، بل يعني أنها قادرة على تغيير البناء الاجتماعي للواقع. ليس الوجود هو الوجود المادي، بل الوجود الإنساني الاجتماعي. وإذا كانت القدرة تعبر عن طاقة الإنسان ومداها فإن هذه الطاقة تسري في البناء الاجتماعي للواقع لا في الوجود المادي له.٢١٠ والبناء الاجتماعي للواقع هو ما أطلق عليه صفة الوجود. ولما كانت القدرة هي المؤثرة في البناء الاجتماعي للواقع كانت الصفات التي يختلف بها موجود عن آخر متعلِّقة بالقدرة. وإنكار أثر القدرة في الوجود وتعلقها بالصفة هو إنكار للفعل على الإطلاق. وما وجه الصلة بين القدرة ومقدورها إن كانت غير مؤثرة فيه؟ إن إلغاء أثر القدرة في الوجود إن هو إلا وسيلة لإرجاع الأثر إلى قدرةٍ أخرى خارجية هي قدرة المؤله المشخص.٢١١ ولا يوجد ارتباطٌ ضروري بين الوجود والصفة. وإذا وُجد الوجود وُجدت الصفة، وإذا وُجدت الصفة وُجد الوجود؛ لأن الموجود قد يوجد بلا صفةٍ قائمة إذا لم يحدث عليه تأثير من قدرة. ولكن الموجود باقٍ، والواقع قائم تتراءى عليه الصفات وتتبدل.٢١٢ ليست القدرة مجرد إثبات حال، بل إثبات أثرٍ فعلي في الوجود. الحال غير قائم ويتغير باستمرار. بل إن تغييره خاضع لإرادةٍ خارجية إن شاءت حدثت وإن شاءت لم تحدث. بل إن شاءت حدثت ولم يحدث الأثر في الواقع، وإن شاءت لم تحدث وحدث الأثر في الواقع! وكأن الأثر يحدث مباشرةً في الواقع بفعل الإرادة الخارجية، وما قدرة الإنسان إلا واجهة لا حول لها تتستر وراءها قوةٌ أخرى خفية هي الفاعلة الحقيقية.٢١٣ الفعل الحر هو فعل الشعور وحريته في الاعتقاد والحكم، وهو الفعل الذي يحدث تغييرًا في بناء الواقع الاجتماعي. أمَّا أفعال الطبيعة أو الغريزة فليست أفعالًا حرة إلا بقدر تنظيمها والسيطرة عليها، أي بإرجاعها إلى أفعال الإرادة.٢١٤
  • (٧)
    كيف يمكن التوفيق بين المؤله المشخص الكامل وبين حدوث الشر في العالم؟ وإذا كانت القدرة على فعل الشر مخلوقة، فكيف يصدر عن الكمال خلق الإرادة على الشر، ولو كان الشر من كسب الإنسان؟٢١٥ لذلك ارتبط موضوع الحسن والقبح بخلق الأفعال كشقَّين للعدل، كارتباط الذات والصفات كشقين للتوحيد؛ لذلك آثر البعض جعل الشر من العبد والخير من الرب، وآثر التضحية بالذات في سبيل تبرئة الغير كموقفٍ إنسانيٍّ بطولي يبعث على الإعجاب والاحترام! وكيف يمكن التوفيق بين القدرة المخلوقة لإتيان الفعل وبين استحقاق المدح والذم، والثواب والعقاب؟ وإذا كان لهذه القدرة تأثير، فإن تأثيرها ما زال يرجع إلى كونها مخلوقة، ولا يُستحَق مدح أو ذم إلا على فعل حادث بقدرة الإنسان كُلًّا وجزءًا. كيف يمكن التوفيق بينها وبين التكليف وإرسال الرسل والبعثة؟ كيف يمكن التوفيق بينها وبين الحكمة واللطف والكرم وسائر الصفات والأسماء.٢١٦
    إن الحرية هي طبيعة الإنسان، وهي التي تميزه عن غيره من الموجودات، بل إنه يمكن تقسيم الموجودات إلى وجودٍ مصمت ووجودٍ حر، ويكون الإنسان وحده هو الموجود الحر. والوجود ليس حرًّا لأنه مخلوق، بل لأن الحرية هي الوجود الإنساني ذاته بصرف النظر عن أصل الجود المادي. الوجود أساسًا وجود في العالم وليس من العالم أو من خارج العالم.٢١٧ والحرية هي المسئولية الفردية والجماعية عن الفساد والصلاح في العالم بلا ذريعة للتهرب منها أو اتهام للذات وتبرئة للآخر حتى يعم الاستحقاق.٢١٨

(٣) تجربة الحرية

مع أن القول بخلق الإنسان لأفعاله أي بالحرية قد ظهر تاريخيًّا بعد عقيدة الجبر وقبل نظرية الكسب، إلا أنه فكريًّا هو البديل للجبر والكسب على السواء، لما كان الجبر يجمعهما معًا، كانت حرية الأفعال هي الطرف المقابل للجبر والمتربص به، وظلت كذلك حتى بعد ظهور الكسب الذي لم ترَ فيه الحرية إلا صورةً معدلة للجبر.٢١٩ وهي نهاية المطاف في وصف أفعال الشعور الخارجية من عقيدة الجبر إلى نظرية الكسب إلى تجربة الحرية. ولا يقف أمام الشعور فيها أي عائق يمنعه من أن يكون خالق أفعاله مسئولًا عنها حتى يصح الاستحقاق في أصل العدل. ويتأكد إثبات الحرية حتى يتأكد إثبات الذات وحين يستطيع الإنسان التخلص من أنماط الفكر الإلهي، وحين تتقدم الحضارة وتؤدي دورها في التعقيل والتنظير؛ فإثبات الإنسان خالقًا لأفعاله أزهر أنماط التعقيل وأعلى ما وصلت إليه الحضارة من تقدُّم وفعل الزمن. يصبح الإنسان فاعلًا على الحقيقة لا مجرد ستار أو قناع يتخفى وراءه فاعلٌ آخر هو الفاعل على الحقيقة، ولا يكون الإنسان إلا فاعلًا بالمجاز.٢٢٠ وهكذا يبدو أن الحضارة قد مرت بثلاث مراحل في الدورة الأولى لها. أوَّلًا: بداية خروج حرية الأفعال من داخل الفكر التقليدي في إجماع الأمة الأوَّل على أنه لا خالق إلا الله. ثانيًا: استقلال حرية الأفعال عن الفكر التقليدي وبداية الصراع الفكري. ثالثًا: عزل استقلال الأفعال واعتباره خارجًا عن إجماع الأمة وسيادة الأغلبية. وفي بداية الدورة الثانية للحضارة منذ الإصلاح الأخير يخرج خلق الأفعال من جديد من بطن الإجماع تحقيقًا لصالح الأغلبية الصامتة ضد الأغلبية القديمة التي أصبحت على مدى التاريخ الأقلية الحاكمة.

(٣-١) الحرية الإنسانية

الحرية ليست مقولةً طبيعية، بل تعبيرٌ إنساني خالص. وإذا كان هناك جبر في الطبيعة سواء في الطبيعة الحية أو في الطبيعة الصامتة، فإن الإنسان هو ميدان الحرية. وقد يتجاوز الفعل الإنساني الحر القادر جبر الطبيعة ويُخضع الطبيعة له ويسخِّر قوانينها لصالحه ويعدل مسارها طبقًا لغاياته. ويبدو أن الحرية الإنسانية تتضمن الحتمية في الطبيعة، في حين أن الجبر يكون في أفعال البشر وحدها بفعل القضاء والقدر، ويترك أفعال الطبيعة حرة بخرق قوانينها الثابتة وسننها المطردة بفعل تدخل الإرادة الخارجية. ويؤكد ذلك معظم حركات الإصلاح إذا بعثت حرية الأفعال في الإنسان ظهرت الحتمية في قوانين الطبيعة، وإذا ظهرت جبرية الأفعال في الإنسان ظهر اللاتحدد في قوانين الطبيعة. وكانت معظم حركات التجديد والإصلاح التي تحولت بعد ذلك إلى نهضةٍ شاملة دون أن تكبو وتنكص على عقبيها من النمط الأوَّل، حرية في الأفعال وحتمية في الطبيعة.

والأفعال الإنسانية لها جانبان، جانبٌ حر من حيث العقل والتروِّي والقصد والباعث والغاية، وجانبٌ طبيعي من حيث إنها تتحقق في موقف تتشابك فيه أفعالٌ أخرى وتقع فيه موانع وتتصارع فيه إرادات. فأفعال الحيوانات من «تدبير» الحيوانات ذاتها ولكنها ليست أفعالًا لأنها ينقصها الروية والتدبر والعقل والغاية. هي أفعالٌ بدنيةٌ آلية تقوم على بناء العضو وعلى غرائز الكائن الحي: المحافظة على الحياة، التغذي، النمو، التوليد، الحركة … إلخ. لذلك امَّحى التكليف والمسئولية واستحقاق المدح والذم. بل كانت الحيوانات لنفع الإنسان.٢٢١ والفعل الحر يكون حرًّا من جانب الفاعل، أي من الإنسان، ولكنه يكون واجبًا من جانب الطبيعة، لا من ذاته، بل طبقًا لمجرى العادات. يستطيع الإنسان مثلًا أن يعمل على إقامة ثورة بحُريةٍ تامة وبقرارٍ حر وبوعيٍ فردي واجتماعيٍ كامل. فإذا تحقق الفعل وشروطه بوجود البواعث والغايات والأفكار وارتفاع الموانع البدنية والنفسية والاجتماعية، وبتحقيق إمكانيات الثورة وحركيتها المادية من خلال الجماهير؛ تحققت الثورة بالفعل، إلا إذا تدخلت موانع غير متوقَّعة أو ظهر خطأ في حساب الإمكانيات النظرية الأولى أو في نقص الوعي بحركية الثورة وتنظيمها. في هذه الحالة يمكن أخذها في الاعتبار، إمَّا في الحال والتكيف طبقًا للظروف الجديدة، وإمَّا في المستقبل استعدادًا للثورة القادمة. وهذا هو معنى عدم الوجوب في الأفعال من ناحية الطبيعة.
فإذا كان الإنسان حرًّا، فهل يمكن القول بأنه خالق أفعاله؟ هل هناك فرق بين الفعل والخلق؟ حرصًا على الحفاظ على المستويات كل اسم يشير إلى مستويين. الفعل إمَّا إنساني كالحركة أو تغيير البناء الاجتماعي، أو طبيعي كفعل الظواهر الطبيعية. والخلق اسم يشير إلى نفس المستويين أيضًا. هناك الخلق الفني من الإنسان، وهناك خلق الأشياء من عدم حين السؤال عن مصدرها. وسواء قلنا الإنسان فاعل في العالم أو خالق لأفعاله فلا فرق بين القولين لو عنينا المستوى الأوَّل وهو الفعل الشعوري. ولا يجوز وصف الإنسان بالفعل والخلق على المستوى الثاني؛ لأن الإنسان ليس ظاهرةً طبيعية فحسب وليس خالقًا للأشياء من عدم. يوجد الإنسان حرًّا في العالم. وقد يتم فعل الإنسان وخلقه بآلة كما هو الحال في العمل الفني. وقد يقع منه مقدرًا كما هو حال الفنان حين يخلق طبقًا لما في ذهنه وطبقًا لإحساساته ومشاعره.٢٢٢
وكانت حرية الأفعال أحد المواقف الرئيسية للمعارضة السياسية، سواء في الخارج أو في الداخل، العلنية منها أو السرية، دفاعًا عن استقلال الإنسان وإرادته الحرة ورفض تدخل أية إرادةٍ خارجية في مصيره تحدده له، سواء كانت إرادةً إلهيةً مشخصة أو إرادةً سياسيةً قائمة، إرادة الله أم إرادة السلطان، فالسلطة الدينية والسلطة السياسية صنوان.٢٢٣
الفعل الإنساني قائمٌ مستقل، لا يقدر أحد على القضاء عليه. ومن يشكك في حرية الإنسان يصل إلى حد الكفر. وكلما كان الرفض جذريًّا كان إثبات الحرية أساسيًّا. وكلما رغب الإنسان السلوك الأمثل ازدهرت الحرية حتى تصبح حريةً خالصة تبحث عن الكمال الخالص ويصبح كل سلوكٍ نسبيٍّ قائمٍ على تقدير نسبي للأمر الواقع أقربَ إلى الجبر الناشئ من ثقل وتقلص في تمثل الكمال.٢٢٤ حتى المعارضة السرية تثبت الحرية إثباتًا لحق الإنسان في الرفض، ومنها اشتق اسم «الرافضة». الحرية هي سبب الرفض، والرفض فعل من أفعال الحرية. يعني الرفض أن الإنسان قادر على التمييز والحكم والفهم الصحيح والقدرة على رفض السلوك الذي لا يطابق هذا الفهم؛ ومِنْ ثَمَّ ينشأ سلوك غيره حين يتحول السلوك الأوَّل القائم على التقليد إلى جبر بفعل الطاعة.٢٢٥ بل إن بعض الأتقياء من دعاة الأمر الواقع واستتباب النظام والرضا بالقضاء والقدر تثبت الحرية نظريًّا على مضض، ولكن الوقت عصيب، والظرف غير ملائم، والزمان غادر، ومِنْ ثَمَّ يعلنونها سرًّا بالرغم من رفضهم الخروج والاعتزال والرفض واستسلامهم للأمر الواقع وطاعتهم للنظام المستتبِّ. تثبت الحرية إذن في السلوك البسيط كما تقوم به عامة الناس دون إصدار حكمٍ صريح على الأفعال. فالحرية تثبت عند الأقوياء وعند الضعفاء على حدٍّ سواء.٢٢٦
والذين أحق بتسميتهم بالقدرية ليسوا هم أنصار الحرية بل أنصار الجبر؛ إذ تَثبت التسمية من إثبات الشيء أولى من ثبوتها من نفيه، كما تثبت حين يتكرر اللفظ باستمرار عند من يثبته لا عند من لا يذكره أو ينكره.٢٢٧ وذم القدرية واقع لمن يثبت القدر وينكر الحرية لا لمن ينفي القدر ويثبت الحرية. القدر مذهبٌ مذموم لأنه كمذهب المجوس يلحق الشر والظلم وكل مظاهر النقص بالكمال.٢٢٨ وقد يكون كل ما روي في ذم القدرية بهذه التسمية التي لا تصدق على المُسَمَّى بعد أن لقب أنصار الحرية بالقدرية؛ عملًا سياسيًّا خالصًا باستعمال سلاح الألقاب حتى تخمد مقاومة السلطان، وحتى يقتنع الجمهور بأن الحال الحاضر من فعل الله وبقضائه وقدره.٢٢٩ فالمعتزلة لا يعبثون بالشرائع باسم قضاء الله وقدره، ولا يقولون بصدور القبح والشر عن الله، ولا بجواز تكليف ما لا يُطاق، ولا بالجبر في أفعال الشعور الداخلية، ولا بالقضاء والقدر والاحتجاج به على المعاصي، ولا بتأييد حجج إبليس في الغواية، ولا بالكلام في القدر. يفصلون بين القدر والقدرة، ويقولون بالاختيار وبتنزيه الله عن القبائح وبجعل المعرفة شرطًا للفعل الحر. ترى النبوة ممكنة، وتضع الدواعي والمقاصد وراء الأفعال، وتضع قانون الاستحقاق.

(٣-٢) إثبات الحرية

في الحقيقة لا تحتاج الحرية إلى إثبات؛ فهي أمرٌ بديهي يشهد به الحدس والوجدان، ويفضل الإنسان أن يضحي بحياته في سبيل أن يكون حرًّا هو أو شعبه. وهو ما حاولت بعض الحركات الإصلاحية الحديثة إبرازه.٢٣٠ فإن قيل: إذا كانت الحرية موجودة يقينًا وبداهةً، فلم إثباتها؟ قيل هناك من ينفيها ويثبت عقيدة الجبر أو نظرية الكسب. فحجج إثباتها هي في الحقيقة حجج مضادة تجاه خصومها. حجج جدلية لتفنيد حجج الخصم وليست حججًا برهانيةً لإثبات موضوع ليس في حاجة إلى إثبات. فإن قيل: كيف ينظر في شيء ابتداءً وهو غير يقيني؟ قيل: ينظر فيه حتى يتحول إلى يقين. وهذا هو طريق العلم والبرهان. فإن قيل: إن إثبات الحرية يؤدي إلى إثبات فعلٍ حر، ولكن المطلوب هو الفعل الحر المتجدد قيل: الوجود المتجدد للفعل الحر حاصل بالتولد دون أن يؤدي التجدد إلى إنكار للحرية أساسًا كما هو الحال في نظرية الكسب.٢٣١ ومع ذلك، فنظرًا لوجود الاشتباهات التي أثارها الجبر والكسب، يمكن إثبات حرية الأفعال بصياغة براهين عقلية على الطراز القديم ضد الجبر والكسب ودفاعًا عن الحرية. وقد تكون بعض الحجج بينها مشتركة يتم تأويلها مرة لحساب الجبر أو الكسب ثم يُعاد تأويلها لتفنيدهما ولإثبات الحرية. منها:
  • (١)
    التفرقة بين الحركة الاضطرارية والحركة الاختيارية. وهي تفرقة تثبت الحرية بناءً على الحركة الاختيارية، كما أخذ الجبر والكسب نفس التفرقة لنفي الحرية بناءً على الحركة الاضطرارية.٢٣٢ والحقيقة أن وجود الحركة الاضطرارية لا ينفي الحرية؛ فالحريات لحظات أفعال وليست حرية طول الوقت. هناك أفعال تتم بالبدن وبالمران وبالعادة وبالتقليد، هناك أفعال أخرى، أفعال الرؤية والعزم، هي أفعال حرة. بل إن حركة الارتعاش قد تكون انعكاسيةً عضوية صرفة، لا تثبت جبرًا أو كسبًا ولا تنفي حرية. وكثيرًا ما تتجاوز الأفعال الحرة أفعال الجوارح إلى أفعال القلوب أو أفعال الشعور التي هي من أساس الأفعال الإرادية التي تبدو في آخر مراحلها كأفعال للبدن.
  • (٢)
    وجود الباعث أو القصد هو أكبر دليل على أن الإنسان صاحب أفعاله؛ فالفعل تابع للقصد والداعي. ولا يُعقَل وجود الباعث أو القصد أو الداعي ثم يكون الفعل من فعل غيره، وإلا ففيم كان هذا القصد وذلك الداعي؟ إن كل الأفعال المقدورة هي الأفعال القصدية، والأفعال غير المقدورة هي كذلك لأنها ليست قصدية. لا يعني أنها غير مقدورة للإنسان أنها مقدورة لإرادةٍ خارجيةٍ مشخصة؛ فذاك افتراضٌ محض. بل إن قدرة الآلة على ما يقدر عليه الإنسان وإن كانت قدرةً فعلية إلا أنها ليست فعلًا لأنه لا يتوافر فيها القصد إلا من خلال الإنسان الذي صنع الآلة لهذه الغاية، وأفعال الآلة ذاتها خالية من القصد.٢٣٣ ولا يقال إنه حتى لو حدثت الأفعال طبقًا للباعث والداعي والقصد، فإنها تحدث طبقًا لمجرى العادات، لأن مجرى العادات يثبت أن الإنسان صاحب الفعل. وليس معنى اطراد الحرية أنها أصبحت من فعل العادة وأن الأفعال تتحقق بطريقةٍ آلية حسب مجرى الأمور؛ لأن الحرية أحيانًا تخرق سير العادات وتُبطِلها إذا ما تحولت العادة إلى ضغط وقهر، أي إذا ما تحولت ضد الحرية. يثبت الشاهد تعلق الفعل بالإنسان، وهذا هو حكم العادة.٢٣٤ ولا يقال إن في الفعل الحر تتدخل إرادةٌ خارجية مع الباعث والقصد والداعي تجعله ممكنًا لأنها ليست واقعة في الشاهد، ولم تطرأ به العادات.٢٣٥ ولا يقال إن فعل الساهي ليس فعلًا حرًّا لأنه ليس به شرط الفعل وهو الوعي والروية؛ فهذا هو العكس لا الطرد. الفعل الحر هو الفعل الإرادي المروي لا الفعل اللاإرادي.٢٣٦ وجهة تعلق الفعل بالإنسان هي جهة الحدوث. وليس أدل على ذلك من تجارب الإنسان نفسه ومشاهداته لأحواله؛ فالإنسان صاحب فعله يُحدِث أفعاله.٢٣٧ ولا يجوز أن تكون جهة النطق هي الحلول؛ لأن هناك فرقًا بين الأشياء والأفعال. حلول الألوان في الأشياء جائز، أمَّا الحلول في الأفعال فإنه لا يجوز؛ الأفعال صادرة عن البواعث والقصود والدواعي.٢٣٨ وإضافة فعل الإنسان إليه نفي لأن يكون الإنسان صاحب فعله. ولا يعقل أن يضيف الإنسان إليه ما ليس له إلا زهوًا وفخرًا أو احتيالًا ونصبًا، وهذا أيضًا واقع ولكنه ليس عامًّا.٢٣٩ واعتراف الإنسان بأفعاله يدل على أنه صاحبها، خاصةً ولو كان اعترافًا بأفعال يخجل منها ويدينها.٢٤٠ ولما كانت أفعال الإنسان قد تحدث وقد لا تحدث، قد تنجح وتفشل، قد تصيب وتخيب، فإنه لا يمكن إضافتها إلا في الإنسان نفسه، لا يمكن إضافتها إلى أي كمال وإلا كان كمالًا ناقصًا.٢٤١
  • (٣)
    وما دامت الأفعال واقعة بالقصود والدواعي، فإنها تكون صادرة عنها لا طبقًا لإرادةٍ مسبقة على البواعث أو لاحقة عليها، وهذا لا يمنع من الاستبصار في السلوك والتنبؤ بما يقع في المستقبل وإحصاء تجارب الماضي ومعرفة مصير الحوادث وكيفية وقوعها. ولكن كل تنبؤٍ نسبي لأنه يتوقف على درجة العلم إمَّا بتجارب الماضي أو بالقدرة على الاستخلاص والتفسير والفهم للحاضر.٢٤٢ وإثبات الحرية ينفي أية شبهة للقضاء والقدر أو الجبر، أو أي قدرٍ مسبق، بل يعني القضاء إتمام الفعل والفراغ منه أو الإلزام الذاتي أو الإخبار والإعلام.٢٤٣
  • (٤)
    التمييز بين الحسن والقبيح، بين الإحسان والإساءة، بين المدح والذم يدل على أن الإنسان له قدرة على الحكم ومِنْ ثَمَّ على الاختيار. لو كان الإنسان مجبرًا لما لزمت هذه القدرة. وفيمَ التمييز والفعل واقع لا محالة دون حاجة إلى تدبر ووعي وإحكام نظر؟ هذا هو حكم العقل، والعقل لا يشوه نفسه لعلمه بحسن الأفعال وقبحها إن لم يكن في الشرعيات، فعلى الأقل في العقليات.٢٤٤ فتمييز الإنسان بين الحسن والقبح إثبات للحرية واختيار لأحدهما دون الآخر. يثبت العقل الحرية كما تثبت الحرية العقل إذا كانت حريةً عاقلةً قائمة على التمييز.
  • (٥)
    ولا يعقل تكليف بلا قدرة أو أمر بلا إرادة.٢٤٥ يدل حسن الأمر والنهي وغيرهما من الأحكام على أن الإنسان قادر على الفعل وعلى أن يكون فعله موضوعًا للحكم.٢٤٦ وما دام الإنسان مطالبًا بالطاعة فإن الفعل ممكن، وما دام الفعل ممكنًا فإن الإنسان حر.٢٤٧ والأمر هو خطاب لآخر، ولا يكون هناك أمر للنفس بل للآخر. وما دام الآخر موجهًا بالخطاب فهو قادر على الفعل.٢٤٨ والأوامر معلَّلة بعلل، ولا توجد أوامر بلا علل. والقدرة علة الفعل. فلا يمكن إنكار التعليل في الأحكام؛ لأن الأحكام قائمة على التعليل. كما لا يمكن القول بأن هناك علةً واحدة لكل شيء هي سبب كل الأفعال، فذلك انفعال وليس تفكيرًا، إيمان وليس عقلًا، تمنٍّ وليس واقعًا.٢٤٩
  • (٦)
    وإثبات الحرية أدعى إلى إثبات العدل ونفي الظلم في عواطف التأليه. لو لم يكن الإنسان صاحب أفعاله، وكان في الوقت نفسه مكلفًا محاسبًا لكان واقعًا تحت ظلم وجور. الحرية إذن هي المؤدية إلى العدالة في الكون ونفي صفات الظلم والجور عن صفات الكمال؛ لذلك كانت الحرية المبحث الرئيسي في مباحث العدل.٢٥٠ كما أن إثبات الحرية أدعى إلى إثبات عواطف الكمال والإجلال والتعظيم من نفيها. في الحرية يكون الإنسان صاحب فعله، مسئولًا عما يأتي به من قبح أو شر. فلو كان فعله مخلوقًا لكان الخالق هو المسئول عن هذا القبح أو ذاك الشر. وكيف يكون الكمال مسئولًا عن النقص؟ وكيف يصدر النقص عن الكمال؟ إن مدح المؤمن على الإيمان، وذم الكافر على الكفر، ووعد الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية يدل على أن الإنسان صاحب فعله ومسئول عنه. فلا حكم دون استحقاق.٢٥١ وما دام هناك حساب وعقاب، فلا حساب ولا عقاب بلا حرية أو مسئولية.٢٥٢

(٣-٣) الإرادة

إذا ثبتت الحرية يظهر الفعل الإنساني ومكوناته، الإرادة أو الاختيار، الروية، القدرة، الاستطاعة، الزمان، التولد … إلخ، وكلها تقوم على تحليل الفعل الإنساني تحليلًا موضوعيًّا إنسانيًّا بلا أفكارٍ مسبقة ودون فكرٍ إلهي مقلوب. فالإرادة في الفعل الإنساني إرادة اختيار وذلك بفعل الروح؛ فالروح هي الباعث على الاختيار، ولولا أن الروح في بدن لكان الإنسان كله اختيارًا ولكن البدن تحديدًا له.٢٥٣ الإرادة اختيار ولكنها ليست مختارة لأنها لا تختار نفسها. الإيثار هو الاختيار والإرادة. والمراد لا يكون إيثارًا ولا اختيارًا؛ لأنه تعبير عن طبيعة.٢٥٤ الإرادة تعبير عن الذاتية الخالصة والتي لا تكون موضوعًا لنفسها. والإرادة هي الباعث على الفعل، أي إنها ليست قوةً منفصلة تزيد على الباعث بل هي الباعث نفسه في حالة التوتر والانفعال. الإرادة إرادة الحياة أو إرادة القوة أو إرادة النصر لا تزدوج ولا تتزاوج.٢٥٥ ولما كانت الإرادة هي الباعث، والباعث هو النفس، ومِنْ ثَمَّ لا تدعو النفس إلى الإرادة ولا يدعو إليها الخاطر لأنها تعبير عما بالنفس ولا تنتظر الدعوة.٢٥٦ والإرادة هي الضمير لأن الفعل يتضمن في باطنه قيمة وحكمًا خلقيًّا. ولا يهم تعيين محل للضمير في النفس أو في الإرادة أو في الروح؛ فالضمير ليس في محل.٢٥٧ الإرادة خلقية، والفعل خلقي. فإن كانت الأخلاقية هنا تبدأ من الداخل إلا أنها تنتشر إلى الخارج، وإن كانت تبدو فردية إلا أنها جماعية. فإن قيل: هل الإرادة موجبة لمرادها أم أنها ليست كذلك؟ قيل: من حيث المبدأ الإرادة موجبة لمرادها. ولكن المراد موجود في مواقف وبه موانع، وله شروط، وهذا هو تحدي الإرادة.٢٥٨ ولكن في حال الإيجاب هل يقدر الإنسان على فعل المراد؟ هذا سؤالٌ صوريٌّ خالص لأنه إذا ما توفرت الدواعي والبواعث والمقاصد وامَّحت الموانع وتوافرت الشروط، فليس هناك ما يدعو إلى أن تأتي الإرادة بغير المراد وإلا كان عبثًا وتحولًا فجائيًّا لا مبرر له. وليس الأمر مجرد حركة وسكون واختبار عقلي بل هو فعلٌ إنسانيٌّ مصيري.٢٥٩
والفعل الحر هو الفعل المروي المقصود. وتختلف درجات الفعل طبقًا للقصد والروية. الفعل البدني الخالص كالفعل الشرطي ليس فعلًا قصديًّا؛ ومِنْ ثَمَّ ليس فعلًا حرًّا لأنه يفتقد الروية والقصد. وأفعال الساهي والنائم، وإن كانت أفعالًا لا إرادية إلا أنها أفعال غير شعورية يغيب منها القصد والروية، ومِنْ ثَمَّ فهي ليست نموذجًا للفعل الحر. وإذا تم فعلٌ شعوري ولكن عن إكراه وإلجاءٍ فإنه لا يكون أيضًا فعلًا حرًّا لأن الفعل الحر هو الفعل الشعوري القائم على قصد وروية واختيار.٢٦٠ ولما كانت أفعال السهو والنسيان والنوم ليست أفعالًا حرة لا يتوافر فيها القصد والباعث، فلذلك أفعال الاضطرار والإلجاء ليست أفعالًا حرة لوجود موانع الاضطرار، قيد بدني لعضو أو تكبيل الإنسان وسجنه أو وضع السيف على رقبته.٢٦١ لا يتحقق الفعل المروي بطريقةٍ آلية بلا وعي أو قصد لأمر وطاعةٍ عمياءَ وإلا تحوَّل البشر إلى مجرد آلات تُسيِّرها الأوامر. والقصد سابق على الفعل حتى يتم التدبير وتحصل الروية. ولكن قد يحدث في حال الفعل أن يحقق الإنسان فعلًا آخر بقصد متجدد كما هو الحال في الفعل الفجائي، ولكنه فعل عارض وليس هو الفعل الأوَّل.٢٦٢
ليس الفعل الحر فعلًا عفويًّا بل هو الفعل القصدي، وبالقصد الأوَّل. قد يأتي الإنسان بفعل لا يقصده فلا يكون فعلًا، والقصد هو غاية الفعل عندما يتمثلها الشعور. ليس القصد متعاليًا بل هو تغيير للواقع وتطوير للطبيعة كي تصل إلى كمالها. والطاعة التي لا يُراد بها الله ضد الأعمال بالنيات.٢٦٣ وهذا لا ينفي حسن الطوية والمشاعر الإنسانية الطبيعية. ولو كان الفعل قائمًا على القصد مع خلاف في فهم القصد فإن الفعل يكون فعلًا حرًّا. فسواء تم الفعل لذات الفعل أو تحقيقًا لرسالة الذات وتعبيرًا عن طبيعتها أو تغييرًا للواقع أو دفاعًا عن حقوق البشر ودفاعًا عن الإنسانية، فالقصد واحد ولكن يختلف فهمه. والمؤلَّه المشخَّص كما ظهر في التوحيد مجموع الغايات والمقاصد التي يهدف الإنسان إلى تحقيقها، ولكنه لا يحققها بالفعل، إمَّا لعجزه أو لكسله ونفاقه؛ فيُشخِّصها ويتصورها متحققة في عالمٍ آخر خارج هذا العالم ويقف أمامها موقف المتعبِّد المعجب الولهان، الباكي الشكيان. أمَّا إذا تحققت هذه الغايات بالفعل، وكانت الغايات مقاصده، فإن الفعل يكون حرًّا يتوافر فيه القصد والروية وإن لم يكن طاعة للمؤله المشخص، بل كان تحقيقًا للغايات الإنسانية العامة. وهما في الحقيقة الشيء نفسه ولكن على نحوَين مختلفَين؛ الأوَّل رمزيٌ تشخيصيٌّ أسطوري، والثاني عمليٌّ علمي. صورتان مختلفتان ومضمونٌ واحد، لغتان متباينتان وشيءٌ واحد.٢٦٤
والنظر جزء من الروية؛ لأن الروية قصد ونظر. وإعمال الفكر والنظر والبحث عن الحقيقة وتأسيس العلم، كل ذلك بنفسه فعل، حتى وإن لم يحقق غاية. النظر مقدمة للفعل وشرط له. هو الفعل الممكن قبل الفعل المتحقق.٢٦٥ وهنا يبرز سؤال: هل الإنسان قادر على ما لا يخطر بباله؟ فهناك فعلان: الأوَّل: الفعل المروي المختار القائم على أساسٍ عقليٍّ واضح وهو الفعل الأمثل. والثاني: أنه قد يحدث في ساعة تحقيق هذا الفعل أو في ساعةٍ أخرى أن تحدث قوًى غير متوقعة لشدة تمثله للباعث أو لضعف الباعث عند الفعل المعارض، أو يطرأ على ذهن الفاعل فجأة أساس فعلٍ مستقًى من الموقف فيقع فعل ولم يتأمله من قبلُ. هذا الحادث غير المتوقَّع دليل على الحرية وعلى أن الإنسان مجموعة من الإمكانيات، خاصةً إذا كان متميزًا بشعورٍ يقظ، متمثلًا صحة الهدف وواعيًا بإمكانية تحقيقه في هذه اللحظة التاريخية.٢٦٦
وهنا ينشأ السؤال الثاني: هل يحسُّ الإنسان ما لا قدرة فيه؟ هناك أيضًا حالتان: الأولى واعية تعبر عن وجود الإنسان؛ فالوجود محل الإحساس، ولا يمكن الإحساس بشيء غير موجود. الإحساس بالقدرة الموجودة ممكن، ولا يمكن للإنسان أن يشعر بقدرة غير موجودة. ولكن هناك حالة أخرى لا يشعر الإنسان فيها بقدرته الموجودة، حالة صاحب الحق المهضوم الذي يمكنه بالتنظيم والمقاومة الحصول على قدرة تجعله ينال حقه. فهو إمكانية غير مستغَلة، وأغلبية شعبٍ مهضوم الحق قوةٌ كامنة لا تشعر بها الأغلبية، ولا توجد بالفعل إلا بالتنظيم، فهذه قدرة لا يشعر بها أحد.٢٦٧
وهناك حالاتٌ أخرى تكون القدرة موجودة ولكن ينقصها الباعث. فالناكص على عقبَيه يشعر بأن لديه قدرة ولكنه لا يريد استعمالها؛ لعدم توافر الباعث. والعاجز المستجيب لنداء الجهاد يشعر بألم النكوص مع أن القدرة غير متوافرة لديه لوجود المانع، وكذلك السجين. هذه القدرة المفاجئة غير المتوقعة الناتجة من صحة الهدف وقوة الباعث هي ما يُسَمَّى بالتوفيق والسداد والفضل والنعمة والإحسان واللطف. وهي قوةٌ نابعة من الإنسان، ولا تعطى من خارجه بفعل إرادةٍ خارجية لو فعلت حمدت ولو لم تفعل ذُمَّت.٢٦٨ القدرة هي مجرد التعبير عن طاقة الإنسان وقدرته على الفعل. فإذا كانت الإرادة هي فعل الروح في البدن فإن القدرة هي فعل الإنسان من حيث وجودٍ اجتماعي. وتكون الاستطاعة فيما بعدُ هي القدرة اللازمة لفعلٍ معين في لحظةٍ معينة وفي مكان بعينه.٢٦٩ لذلك يجوز أن توجد في الإنسان قوة ولا يُقال هو قوي؛ لأن القوة ليست موضوعًا مجردًا يُثبت أو ينفي، بل إمكانية تحقق في موقف. فالقوة في موقف لا تتوافر فيه الشروط أو بوجود موانع أقوى لا تكون مؤثرة. قد توجد قوةٌ نظرية ولكنها غائبة عمليًّا وليس الأمر دراسةً تحليلية كمية لأجزاء القوة ونسبها.٢٧٠

(٣-٤) القدرة

ظهرت الحرية الإنسانية من قبلُ في بطن القدرة الإلهية في الصفات الثلاث: العلم والقدرة والحياة. وكان إثبات صفة القدرة يؤدي إلى إلغاء الحرية الإنسانية، كما أن إثبات الحرية الإنسانية يؤدي إلى إلغاء القدرة. ظهرت الحرية الإنسانية في مقابل القدرة الإلهية تعلن عن وجودها وتثبت حقها في الفعل الإنساني وإن لم يكن الحق كله. ولم يكن ذلك حِجرًا على الله بل كان إطلاقًا لحرية الإنسان. فالموقف الإنساني يحتم علينا الدفاع عن حرية الإنسان؛ فهي المهدَّدة من كل جانب، وليس الدفاع عن حرية الله؛ فهي المصونة فوق كل اعتبار.٢٧١
القدرة أمرٌ واقع يجده الإنسان من نفسه. وهي ليست موجودة طول الوقت، بل تظهر بوجود الباعث والغاية والفكرة الموجهة.٢٧٢ ليست القدرة القوة البدنية وحدها بل القدرة التي تعبر عن الوجود الإنساني كله؛ هي القدرة على إحداث الفعل الاجتماعي وليست مجرد القدرة على تحريك الأعضاء. وكما أن القدرة ليست قوةً بدنية، فإنها أيضًا ليست ملكةً نفسية أو حاسة، بل تعبير عن طبيعة الإنسان ودعوته في الحياة. هي تعبير عن الوجود والطبيعة أكثر منها تعبيرًا عن قوة الفعل وملكات النفس. القدرة هي الحياة، والحياة هي القدرة. لا تأتي القدرة إلا من حي، والحي لا يكون إلا قادرًا، ليست الحياة هي الحياة العضوية؛ لأن القدرة ليست هي القوة العضلية بل الحياة الفعلية، حياة الخلق والجهد والمقاومة. ليست الحياة هي مجرد الحياة الوظيفية كالتغذي والنمو والتوليد والإحساس والحركة بل هي حياة الوعي والشعور. فإن قيل: هل يكون الإنسان حيًّا مع قدرته؟ قيل: لو كانت الحياة هي الحياة الوظيفية لجاز أن توجد مع عدم القدرة. أمَّا لو كانت الحياة حياة الشعور والوعي والفعل والجهد والغاية، فإنه لا توجد حياة بلا قدرة، بل تكون الحياة هي القدرة، والقدرة هي الحياة. فلا حياة لعاجز ولا عجز لحي. ولا يعني استقلال الجواهر هذا الوجود المنفعل، بل يعني عدم ازدهار الجواهر.٢٧٣ وإذا وُجدت قدرة بلا حياة كما هو الحال في التولد، فإن ذلك لا يعني غياب الحياة على الإطلاق، بل وجود الحياة أوَّلًا ثم صدور القدرة منها ثم استمرار القدرة كدليل على الحياة؛ لذلك كانت الحياة شرط العلم والقدرة في الصفات. وتزيد القدرة وتنقص، تشتد وتضعف شأنها شأن ظواهر الحياة. وتتحدد الزيادة والنقصان بتوافر وجود عوامل الفعل على الوجه الأكمل: شدة الباعث، وضوح الرؤية، كمال الغاية، طبيعة الموانع … إلخ.٢٧٤ وهذا لا يعني أنها عرض لأنها تتغير، بل القدرة جوهر؛ لأن الإنسان بلا قدرة يتحوَّل إلى جماد لا يؤثر بل يقع عليه التأثير. ولماذا يكون الجوهر بالضرورة هو الجماد الذي لا يتغير؟ لذلك آثر البعض جعلها جوهرًا مستقلًّا توجد أو لا توجد دون أن تتراوح بين الشدة والضعف. وإذا كانت القدرة هي الوجود فإنها تكون أقرب إلى الجوهر؛ فالوجود جوهر.
وتعلق القدرة بالوجود تعلق الفاعل بميدان الفعل؛ فالقدرة تفعل في العالم، وهذا هو تعلُّقها به ودون أن تكون مصدره. سؤال النشأة سؤالٌ ماديٌّ خالص، والقدرة لا تبغي إلا التأثير في الواقع لا البحث عن نشأته المادية. وعدم تعلق القدرة بالوجود المادي هو أنه تعلقٌ خاطئ وإغفال لغاية القدرة وفعلها لا حرصًا على تنزيه قدرةٍ أخرى من التعلق بالموجود أو حرصًا على الإبقاء على النشأة من عدم. لا يحتاج وصف الكمال إلى تشبيه بقدرة الإنسان وإن كان ما يحدث بالفعل هو التشبيه، إعطاء الكمال صفات الكمال الإنساني ونفي مظاهر النقص عنه.٢٧٥ ليس الفعل مجرد وجود شيء بعد أن لم يكن؛ فهذا وصف للفعل على مستوى الوجود بعد إسقاط الفعل ذاته، وبإسقاط الفعل يسقط الفاعل. لا يوجد الوجود بلا فاعل. ولا يعدم العدم بلا فاعل. وإذا حدث تغيير في الوجود فذلك يعني وجود فاعل وغاية وقصد بالإضافة إلى القدرة والأثر.٢٧٦ تثبت القدرة بإثبات الفعل، ويثبت الإنسان قادرًا بإثباته فاعلًا على أن يتحقق الفعل بشروطه: الروية والقصد والباعث. فقد يحدث الفعل بلا روية أو قصد أو باعث ولا يثبت أية قدرة إلا بقدرةٍ عقليةٍ عمياءَ هوجاء. ولا يثبت الفعل بإثبات القدرة وحدها بدليل التولد وهو فعل بدون قدرة.٢٧٧ قد توجد قدرة دون فعل، وهي القدرة السابقة على الفعل قبل إتيانه انتظارًا لتحقيقه، أمَّا إذا وجدت الموانع فإن القدرة في هذه الحالة لا توجب الفعل لوجوب الموانع.٢٧٨ والفعل هو الفعل الموضوعي، والقدرة هي القدرة الموضوعية. فالفعل والقدرة هما اللذان يوجدان عند الآخرين.٢٧٩
والقدرة حادثةٌ قادرة على الإيجاد. والدليل على ذلك التجارب الحية عند الإنسان؛ إحساسه بوقوع الأفعال حسب الدواعي والصوارف، يشعر الإنسان بذلك في نفسه ضرورة. وجحد الضرورة جحد للدواعي وللصوارف. كما أن المقدرة الحادثة مناط التكليف، وهو بدوره مناط الثواب والعقاب.٢٨٠
والقدرة من جنسٍ واحد، تظهر في محالَّ مختلفة لأن الباعث واحد، والغاية واحدة؛ فالقادر على نصرة المظلوم في جماعة قادر عليه في كل جماعة، والقادر على قول كلمة حق في وجه حاكمٍ جائر قادر عليه في أية جماعة وفي أية لحظة بشرط ارتفاع الموانع.٢٨١ ويمكن للقدرة الواحدة أن تحدث عديدات من المقدورات؛ فالقادر على التضحية يمكن أن يضحي بنفسه في سبيل عديد من الأفراد والجماعات. ولكن هذه المقدورات جميعها تهدف إلى غايةٍ واحدة.٢٨٢ ويمكن أن تأتي القدرة بعديد من الأفعال المتماثلة دون أن تتحول هذه الأفعال إلى تكرارٍ آلي، وذلك لحيوية الباعث، وشوق الفاعل إلى الفعل والاستمرار في الفعل تعبيرًا عن كمال طبيعته. ولا يعني ذلك أن جزءًا من القدرة يأتي جزءًا من الفعل تعبيرًا عن كمال طبيعته. ولا يعني ذلك أن جزءًا من القدرة يأتي من الفعل لأن القدرة لا تتجزأ كمًّا وكذلك المقدور. تتفاوت القدرة شدةً وضعفًا، طبقًا لشدة الباعث وضعفه، والمقدور طبقًا لوجود الموانع أو عدمها.٢٨٣
وكما تكون القدرة قدرة على المتماثلات فإنها تكون أيضًا قدرة على المختلفات. ولا يعني الاختلاف هنا اختلافًا في الباعث أو القصد أو الغاية، بل تباين عديد من البواعث والمقاصد والغايات وتفاوت درجاتها من حيث القيمة والشرف؛ فالقادر على منفعة فرد بعينه قادر على منفعة المجموع طبقًا لمدى وقوة الباعث وكمال القصد.٢٨٤
وكما أن القدرة تأتي بالمتماثلات والمختلفات، فإنها تتعلق أيضًا بالمتضادات. ولا يعني التضاد هنا أن الإنسان قادر على إتيان الشيء ونقيضه؛ لأن الغاية توجِّه السلوك نحو القصد. ورسالة الإنسان ذات خطٍّ واحد تعبر عن طبيعته ووجوده، بل تعين إثباتًا للحرية لأنه لو لم يكن الإنسان قادرًا على الشيء وضده لكان مجبرًا على الشيء وغير قادر على سواه. إثبات القدرة على الضد ضرورةٌ نظرية لإثبات الحرية، ثم تأتي الطبيعة فتقدر عمليًّا على فعل الشيء المحدد بالغاية.٢٨٥ وقد تكون القدرة على الضدين لاتحاد الباعث والغاية والقصد واختلاف الوضع. القدرة على حب الشعب المضطهد قدرة على كراهية الطاغية. والقدرة على حب العدل قدرة على كراهية الظلم. والقدرة على فعل الإيمان في واقعٍ مبني على الإيمان قدرة على مقاومة الكفر في واقع يدعو إلى الكفر. فإذا كانت القدرة قدرة على شيءٍ واحد لا على ضده يكون ذلك وصفًا للفعل الموجه الذي لا يتغير ولا يتبدل ولا يتوقف والذي يعبر عن رسالة الإنسان وطبيعته ومقصده وغايته. إذا كان الموقف نابعًا من طبيعة الإنسان فلا يستطيع الإنسان أن يغير طبيعته. أمَّا إذا استوى الطرفان، فإن الدافع الأقوى هو الذي سيحدد أي الفعلين.٢٨٦ وقد يطرح السؤال بالنسبة للترك أيضًا: هل ترك الشيء هو فعل ضده؟٢٨٧
والقول بأن القدرة على الشيء هي أيضًا قدرة على تركه في حال حدوثه قولٌ مبدئي خالص حتى تكون الحرية ممكنة نظريًّا. لو لم يكن الإنسان قادرًا على الفعل والترك لما كان حرًّا. الترك هنا دليل على الحرية. والفعل بلا ترك قد يوقع في الجبر. وقد تكون القدرة على الامتناع عن الفعل أكثر تعبيرًا عن الاستطاعة والحرية من القدرة على إتيان الفعل. القدرة هي قدرة على الفعل وعلى عدم الفعل. بل إن عدم ذاته نوع من الفعل لأنه إحجام عنه.٢٨٨ الترك هو فعل عن طريق الغياب كما أن التولد فعل عن طريق غياب الفعل المباشر. الترك قبل الفعل المباشر والتولد بعده. ليس المهم في الفعل والترك دراستهما على نحوٍ ميتافيزيقي، هل الترك غير التارك وهي قضية الذات والصفات، أو على نحوٍ طبيعي هل هما حركتان للإنسان في الفعل وعدم الفعل على حدٍّ سواء.٢٨٩ المهم دراستهما على نحوٍ سلوكيٍّ إنسانيٍّ خالص. كل فعل إقدام وإحجام. والإحجام أي عدم الفعل هو نوع من الفعل يتطلب جهدًا وقدرة واستطاعة وباعثًا وقصدًا وروية ولكن من الناحية الفعلية، القدرة على شيء طبقًا للباعث والغاية والقصد لا تكون قدرة على تركه. فالقادر على التضحية لا يقدر على النكوص، والقادر على خدمة الشعب لا يقدر على الإساءة إليه، والقادر على الجهاد لا يقدر على القعود وإلا ضعف الباعث وضاع القصد وعُدمت الغاية. أمَّا الذي لا باعث له ولا قصد ولا غاية فهو قادر على فعل الشيء وتركه. الترك هو مثل الضد أو نصفه. فما أن يحدث الفعل طبقًا للغاية والقصد لا يمكن تركه أو تبديله لأنه أصبح تعبيرًا عن وجود الإنسان وحياته. إن كان الترك ممكنًا قبل الفعل كدليل على الحرية فإنه بعد الفعل يكون قد عبر عن طبيعة الإنسان وحقق غايته ومقصده.٢٩٠
وكما يسأل: هل الفعل فعل لفعلين؟ يسأل أيضًا: هل الترك ترك لمتروكين؟ ولا إجابة إلا بتحليل تجربةٍ بشرية؛ إذ يمكن للإنسان أن يمتنع عن فعلين في آنٍ واحد.٢٩١ وكما سُئل من قبلُ: هل يفعل الإنسان ما لا يخطر بباله؟ كذلك يكون السؤال في الترك: هل يترك الإنسان ما لا يخطر بباله؟٢٩٢ ولما كان شرط الفعل الروية والقصد، فكذلك شرط الترك. والترك فعل من أفعال القلوب أو الجوارح كما كان الفعل أيضًا.٢٩٣ وكما يحتاج الفعل إلى إرادة يحتاج الترك أيضًا؛ فالإرادة إمَّا للفعل أو الترك.٢٩٤ وقد يتحول الفعل إلى ترك والترك إلى فعل إذا ما تغيرت البواعث والمقاصد.٢٩٥ وكما يُثار في الفعل موضوع استمرار الفعل وبقائه في الفعل المتولد، كذلك الترك هل هو باقٍ ومتولد؟ فطالما ذهب الباعث والقصد من الترك الأوَّل يظل في الترك الثاني.٢٩٦ وقد يُثار الموضوع نفسه على نحوٍ آخر وبتعبيراتٍ أخرى بدل الفعل والترك مثل الأمر والنهي، والإرادة والكراهة، والإثبات والنفي. وذلك في صيغة مثل: هل الإثبات نفي؟ ويتراوح التحليل بين التحليل للشيء المادي والتحليل للفعل الإنساني أو الجمع بينهما، مثل تحليل الأمر والنهي وكأنهما حركتان وليسا فعلين. ويرجع الخلاف في ذلك إلى إحالة الفعل الإنساني إلى بناءٍ صوريٍّ عقلي أو الإبقاء على فرديته وخصوصيته، كما هو الحال في علم الأصول والتوتر فيه بين العقل والواقع.٢٩٧
ولما كان الفعل واقعًا بالقدرة، فإنه يستحيل تكليف ما لا يُطاق، سواء في أفعال الشعور الداخلية أو الخارجية، نظرًا لمقارنة الإرادة بالمراد، والقدرة بالمقدور، ولأن تكليف ما لا يُطاق قبيح ولا يجوز على الله فعل القبح.٢٩٨ ونظرًا لأهمية القدرة بالنسبة إلى الحرية، وعلى نقيض الطاقة في عدم جواز التكليف بما لا يُطاق أصبح العجز، وهو نقيض القدرة، أحد مباحث الحرية دون أن يكون كذلك في الجبر أو الكسب اللذين لا يتعلق المقدور فيهما بقدرة الإنسان، بل بقدرةٍ خارجية لا ينتابها العجز بأي حال؛ إذ إنها قادرة على الإطلاق. العجز نقيض القدرة، وهو حالة طارئة على الإنسان تمنعه من ممارسة القدرة. الإنسان حيٌّ قادرٌ مستطيع بنفسه لا بغيره، حتى تحدث به آفة وهو العجز. والعجز غير الإنسان. الإنسان من حيث المبدأ قادر على الفعل، وقدرته ذاته، في حين أنه عندما تعرض له آفة يكون الوهن غيره. لا يعني حدوث العجز أن الإنسان مستطيع بغيره، وأن الاستطاعة غيره، بل يعني أن الإنسان مستطيع بنفسه والعجز غيره. القدرة هي المبدأ، والعجز هو الاستثناء.٢٩٩ ولا يعني العجز أنه ضرورة ما دام حالةً عارضة على القدرة، كما لا يفيد أي جبر من البدن أو من العالم الخارجي.٣٠٠ العجز حالة للإنسان القادر الممنوع من إتيان الفعل، هو حال العاجز.٣٠١ وقد يكون العجز منعًا من الفعل إمَّا لقيد وحبس وذلك لزيادة قوة القيد أو لعارض أو لفقد الآلة.٣٠٢ العاجز عن شيء قادر على أشياء أخرى. يتعين العجز في فعل، لا في كل الأفعال. وما دام العجز حالةً طارئة في وقتٍ معين لفعلٍ معين لوجود مانعٍ معين، فإنه إذا ما تغيرت الحالة والوقت ونوع الفعل ظهرت القدرة من جديد.٣٠٣ العجز الوحيد الدائم هو العجز الذي يستمر لغياب الوعي والهدف والقصد. ولما كان الإنسان رسالته فإن الإنسان نفسه يكف عن الوجود والحياة. الموانع البدنية عارضة كالقيد والحياة العضوية.٣٠٤ ولا يعني توقفها نهاية القدرة واستمرار العجز لأن الإنسان يكون مؤثرًا بعد حياته بعمله وسنته وأفكاره وآثاره وسيرته وقدوته ومُثله وغاياته ونموذجه. العجز الدائم ليس توقف الحياة بل توقف الوعي؛ فالحياة هي حياة الشعور.٣٠٥
إن أفعال الإنسان سواء كانت أفعال القلوب أم أفعال الجوارح لا تتوقف بعد الموت؛ فالذين يقومون بتحرير شعوبهم أو تأسيس نظم يتحرر فيها الناس باقون. أفعال الإنسان ممتدة إلى ما بعد حياته الظاهرة، وكذلك أفعال القلوب كالعلم. إن ما يترك وراءه علمًا يظل هذا العلم ساريًا، مقروءًا ومؤثرًا وموجِّهًا وأصلًا للإبداع.٣٠٦ لذلك قد تكون في الإنسان قدرة ولا يُقال قادر لأن القدرة غير ظاهرة، في حالة من الإمكانية لوجود موانع أمامها بدنية أم اجتماعية، داخلية أم خارجية.٣٠٧ وتختلف أشكال ظهور القدرة باختلاف درجات الموانع؛ فالموانع البدنية كالقيد والحبس تمنع من الحركة التامة؛ والموانع الفكرية كالإرهاب والرقابة تمنع من القول. ومع ذلك، لا تعدم القدرة حيلة للظهور مهما تعددت الموانع. ويظل الإنسان قادرًا باستمرار على إظهار قدرته على أي نحو. وإن لم تظهر القدرة لكان ذلك تبريرًا للعجز أو هروبًا من الفعل. الممنوع من الفعل قادر عليه بمجرد غياب الموانع.٣٠٨ يحدث العجز بمجرد وجود المانع، فإذا وُجد المانع في الحال الأوَّل لم يحدث الفعل، وإذا وُجد في الحال الثاني حدث الفعل في الأوَّل ولم يحدث في الثاني.٣٠٩ ولا يعدم الفاعل بالرغم من الموانع استعمال طاقاته الكامنة لرفع الموانع ثم الإتيان بالفعل؛ فالقدرة لها الأولوية المطلقة على المانع. هناك قدرة أولى وليس هناك مانعٌ أول. والمقدور لا يتجزأ كمًّا؛ فلا يُقال مثلًا إن القادر على شيء يقدر على الأقل منه أو على الأكثر منه؛ لأن القدرة والمقدور ليسا كمًّا فحسب. الفعل مجموعة من العوامل البدنية والنفسية معًا؛ فالقادر على شيء قد يقدر على أعظم منه لو توافر الباعث القوي. وقد لا يقدر على أقل منه لو ضعف الباعث. ومن الناحية البدنية هناك حدود للطاقة الإنسانية، ولكنها من الناحية النفسية لا حدود لها.٣١٠ القدرة لا تتجزأ والمقدور لا يتجزأ بل تتفاوت القدرة بين الشدة والضعف حسب قوة الباعث وكمال الغاية. ليست القدرة كمًّا فحسب بل هي أيضًا كيف.٣١١ وإذا لم يتحقق الفعل كله وتحقق جزء منه يكون أيضًا أقرب إلى الفعل الكامل من غياب الفعل كله. مهمة الفعل الكامل احتواء الفعل الجزئي وجعله جزءًا منه. فالدفاع عن القومية مثلًا جزء من الفعل الكامل يمكن احتواؤه في الدفاع عن الإنسانية. وهذه الموضوعات في الحقيقة كما عرضها القدماء بالرغم من أهميتها في تحليل القدرة والطاقة والفعل والمانع، وبالتالي الإبقاء على مستوى الفعل الإنساني دون وقوع في الاغتراب والتعمية في الآخر تظل صوريةً عقليةً افتراضية أكثر منها عمليةً واقعية تشير إلى موضوعٍ معين. ونظرًا لهذا الطابع الصوري الافتراضي يصعب الإجابة على كثير من هذه التساؤلات إجاباتٍ صوريةً خالصة. بل إنه ليس لها أية إجاباتٍ صوريةٍ خالصة دون الإشارة إلى مواقفَ اجتماعيةٍ معينة تظهر فيها القدرة أو العجز ودون الإشارة إلى تجربةٍ خاصة تظهر فيها البواعث والمقاصد والغايات. وهل تستطيع الإجابة الصورية على موضوعٍ صوري سواء نفيًا أم إثباتًا تغيير واقع أو تقرير مصير البشر؟

(٣-٥) الاستطاعة

الاستطاعة أظهر في أفعال الجوارح منها في أفعال القلوب.٣١٢ وهو لفظٌ آخر يعبر عن معنى القدرة ولكن بصورةٍ أخصَّ وفي فعل يعينه. فإذا كانت القدرة مرتبطة بالوجود والحياة، فإن الاستطاعة مرتبطة بالفعل والطاقة والزمان. وإذا كانت القدرة تعبيرًا عن فاعلية الإنسان العامة كتعبير عن وجوده وحياته ورسالته، فإن الاستطاعة هي التعبير الخاص عن قدرته على فعلٍ محدد في الزمان. فما الاستطاعة؟
إن تعريف الاستطاعة بأنها الصحة والسلامة، أي القدرة البدنية اللازمة للقيام بالفعل تعريفٌ ماديٌّ خالص. وتكون الصحة أحيانًا بديلًا عن القدرة أو على الأقل مساوية لها. ويكون الإنسان القادر هو الإنسان صحيح البدن.٣١٣ وتشمل الصحة التخلي عن الآفات والأمراض والموانع. والحقيقة أن الاستطاعة أكثر من مجرد سلامة البدن لأن سلامة البدن ما هي إلا محل للاستطاعة البدنية. تشمل الاستطاعة الباعث والقصد والغاية فهي ليست مجرد عرض بل جوهر. وهي أكثر من اعتدال المزاج بل قدرةٌ زائدة على سلامة البنية والمزاج معًا.٣١٤ كما أن الاستطاعة ليست مجرد الآلة التي يُقام بها الفعل؛ آلة بدنية كاليد أو الرجل أو آلة خارجية. فالآلة وسيلة لإيصال القدرة وأثرها دون أن تكون هي ذاتها قدرة بالآلة والقدرة حتى يصح الفعل.٣١٥ أمَّا إذا كانت الاستطاعة هي التخلية، تخلية الشئون، فإنها في هذه الحالة لا تتعدى ارتفاع الموانع، أمَّا إذا عنت بالتخلية مجرد تخلي أية إرادةٍ خارجية عن التدخل في قدرة الإنسان وترك الإنسان القيام بالفعل فإنها تكون رجوعًا إلى الكسب ولكن على نحوٍ سلبي. فالكسب هو تدخل إرادةٍ خارجية في قدرة الإنسان. وفي كلتا الحالتين يفترض التدخل والكسب أن الجبر هو الحال الدائم وأن الاختيار حالٌ عارض ينشأ من الكسب بخلق قدرة على الفعل في لحظة القيام بالفعل أو في التخلي بتخلي الإرادة الخارجية المشخصة عن الجبر الدائم والسماح بحريةٍ وقتية للإنسان للقيام بالفعل.٣١٦ وقد تكون الاستطاعة مجموعة هذه العوامل كلها كالصحة وتخلية الشئون والمدة والآلة والباعث.٣١٧ كذلك قد تتحدد الاستطاعة تحديدًا شاملًا فتكون كل ما يُنال الفعل به. ومع أن هذا التحديد مأمون من الخطأ، إلا أنه لا يعطي هذه العوامل ولا يشير إلى أي شيءٍ معين.٣١٨ وقد تعرَّف الاستطاعة تعريفًا معنويًّا خالصًا دون الإشارة إلى أي محلٍّ مادي. حينئذٍ تكون الاستطاعة مجرد معنى. والمعنى المجرد لا وجود له. أمَّا إذا كان المعنى هو الإشارة إلى الأساس النظري للفعل فإنه يكون معنًى موجودًا مؤثرًا في الفعل.٣١٩ وعلى الطرف المقابل للتعريف الصوري الخالص هناك التعريف المادي الصرف الذي يجعل من الاستطاعة مجرد الجسم أو أحد أبعاض الجسم أو نفس المستطيع.٣٢٠
وتقتضي حرية الأفعال أن تكون الاستطاعة قبل الفعل حتى يكون الفعل ممكنًا بعد الاستطاعة، وحيث يتأتى الفعل بإرادة الإنسان الموجودة من قبلُ وبقراره الذي هو صنعه وبباعثه الذي يدفعه وبغايته التي يسير نحوها.٣٢١ ولا يعني تقدم الاستطاعة على الفعل أن الفعل متحقق بالضرورة؛ إذ لا يتحقق الفعل إلا بتوافر شروط الفعل كلها. لا يوجب تقدم الاستطاعة على الفعل بالضرورة وإن كانت تمهد له إمكانياته.٣٢٢ وبالتالي تكون الإجابة على سؤال: هل الفعل واقع بالاستطاعة؟ كالآتي: إذا وُجدت الاستطاعة وتوافر الباعث والداعي ووضح المقصد وكملت الغاية وامتنعت الموانع وقع الفعل. أمَّا إذا توافرت الاستطاعة، ووجدت الموانع، فإن الاستطاعة تظل إمكانيةً خالصة دون تحقق. قد توجد الاستطاعة دون فعل إذا لم تتوافر شروط تحقيق الفعل.٣٢٣ كما لا يعني تقدم الاستطاعة على الفعل أن تكون الاستطاعة قادرة على فعل أي شيء ممكن أو غير ممكن ما دامت هناك استطاعة؛ فالاستطاعة موجودة في حدود الطاقة الإنسانية، والفعل ممكن في حدود القدرة الإنسانية، موجهًا بالباعث والقصد والغاية.٣٢٤ ولا يعني تقدم الاستطاعة على الفعل تقدمًا مطلقًا أي تقدمًا سابقًا على وجود الإنسان؛ فقبل الإنسان لم تكن هناك استطاعة.٣٢٥ كما لا تعني الاستطاعة قبل الفعل أنها عرَض؛ لأنها لا توجد في حالة إمكانية لم تستعمل بعدُ، بل إنها وجود كامن، وأن الإنسان هو الذي يحول هذا الكمون إلى واقع.٣٢٦ والأمر أيضًا كالاستطاعة واقع قبل الفعل. وكيف يأتي أمر في التو واللحظة ويكون مضمون الوقوع؟ ومتى يتم التأمل والتدبر فيه حتى يمكن التخطيط له؟ ومتى يتحول الأمر إلى أساسٍ نظري للفعل؟ ومتى يحلل ميدان الفعل طبقًا للأمر المتوقع؟ قد يحدث ذلك في صدور الأمر لأول مرة حيث يتحقق إلى فعل مباشرة. ولكن بعد وجود الزمن قد يوجد في الزمن قبل وجود الفعل التالي، وهو ما تحقق في حال الأمر. وقد يتأخر الفعل لنقص في الفهم أو لضعف في الباعث، ومع ذلك يكون الأمر قائمًا.٣٢٧
والتقدم والمقارنة للاستطاعة والفعل لا يتمان على مستوى الفعل الطبيعي أو الفعل الآلي، بل في الفعل الحيوي أي في الفعل الاجتماعي.٣٢٨ ولهذا توجد علتان: علة قبل الفعل وعلةٌ مصاحبة للفعل. الأولى هي الاستطاعة السابقة على الفعل والتي لأجلها صدر الأمر، والثانية الاستطاعة في حال الفعل التي بها يحقق الإنسان الفعل والتي بها يحول الإمكانية الأولى إلى واقعٍ متحقق. العلة الأولى اختيارية خالصة، فالإمكانية موجودة لمن يحققها، والثانية اختياريةٌ ناشئة عن شدة الباعث ووضوح الفكر.٣٢٩ الأولى قبل الفعل والاستطاعة المبدئية، والثانية في حال الفعل وهو الاستطاعة المتجددة التي هي على حافة الإمكان والوقوع.٣٣٠ والحقيقة أن الاستطاعة واحدة قبل الأفعال ومعها وهي الاستطاعة الناشئة من تحمل الإنسان لرسالته ومسئوليته عنها. وهي موجودة دائمًا كإمكانية حتى ولو لم يوجب الفعل. ولا تُغني مطلقًا حتى ولو لم يتحقق أي فعل، بل تظل حتى بعد تحقق فعلٍ واحد كي تتحقق بها أفعالٌ أخرى. ليس الإنسان مجموعة متفرقة من الاستطاعات يتمكن بها من إتيان مجموعةٍ أخرى متفرقة من الأفعال. الإنسان رسالة يعبر عنها بأفعالٍ متصلة تكون حياته.٣٣١ ويكون كمال الغاية تعبيرًا عن رسالة الإنسان وازدهار الطبيعة وتحقيقًا لوجوده إذا وضح الموقف وتوتر الشعور وإذا ما ابتعد الواقع إلى أقصى حد عن الموقف الطبيعي، وهو الموقف المثالي، وإذا ما اشتدت الرسالة في الإنسان إلى أقصى حدٍّ حتى الحلقوم. ليس الفعل لحظةً واحدة بل هو وجود في الزمان. ولا يتم في مرحلةٍ واحدة في آنٍ واحد بل يتم في الروية، ويبدأ بوجود الباعث وضوح الفكر وكمال الغاية وغياب الموانع واختيار لحظة التاريخ طبقًا لمسار التاريخ ودرجة تحمل الواقع. ليس الفعل إذن واقعةً واحدة تتم في آنٍ واحد، بل هو وجودٌ مستمر في الزمان.٣٣٢ والأمر باقٍ إلى حال الفعل، ولا يوجب التكرار، بل يظل نداءً إلى الفعل وتوجيهًا له. وإن لم يوجد العمل يبقى النظر فعلًا لم يتحقق وإمكانية لم تتحول بعدُ إلى واقع.٣٣٣ ولا يوجد أمر إلا إذا كان متحققًا، ولا يكون الأمر متحققًا إلا إذا آن الزمن واستعد الواقع لتقبُّله. ولو أتى الأمر قبل أن يحين الزمن لما تحقق ولكان تكليفًا لما لا يُطاق. ولو أتى الأمر بعد أوان الزمن لكان تخليًا عن الواقع وتركه بين المد والجزر إلا من طبيعةٍ خالصة توجهه. قد توجد في كمالها وقد لا توجد، ما دامت خالية من الفعل الإنساني.٣٣٤ إذا تم الفعل في زمانه وبغايةٍ متحدة مع كمال الطبيعة ومسار التاريخ لا تنشأ الحركة الارتدادية ولا الحركة القافزة على المراحل. الفعل استطاعة وزمان وتاريخ.

(٣-٦) التمرينات العقلية

والحقيقة أن معظم المشاكل حول القدرة الإلهية والقدرة الإنسانية هي في حقيقة الأمر تمريناتٌ عقلية، القصد منها المزايدة في الإيمان وإثبات أولوية القدرة الإلهية على القدرة الإنسانية؛ مما أوجب الدفاع عن القدرة الإنسانية دون ما نفاق أو مزايدة. وكلها مشاكل موضوعة وضعًا خاطئًا ولا حل لها إلا بعد تصحيح وضع السؤال أو وضع السؤال الصحيح. حلها في المنهج لا في الموضوع. والسؤال الصحيح يأتي من الموقف الصحيح للمتكلم، هل هو إله أم إنسان؟ هل وظيفته الدفاع عن حق الله أم الدفاع عن حق الإنسان؟٣٣٥ وتظهر هذه التمرينات في عدة أسئلة مثل:
  • (١)
    هل يقدر الله على فعل المُحال؟ وطبعًا تكون الإجابة بنعم في المحالات الأربعة، المحال بالإضافة والمحال في الوجود والمحال في بنية العقل والمحال المطلق في ذات الله.٣٣٦ ولماذا تتوقف المزايدة؟ ألا يقدر الله أن يغير ذاته؟ وكيف يكون المحال في العقل وفي الطبيعة ممكنًا؟ ألا يكون ذلك هدمًا لبنية العقل وقضاءً على قوانين الطبيعة؟ كيف يثق الإنسان حينئذٍ بقدراته الفكرية وبعالمه الذي يعيش فيه لو أمكن تغيير قوانين العقل وانقلاب قوانين الطبيعة؟ هل إثبات القدرة الإلهية يكون بالضرورة على حساب استقلال العقل وثبات قوانين الطبيعة؟ وهل يرضى الله أن يكون إثبات قدرته على حساب الإنسان والعالم؟ أليس ذلك مزايدة في الإيمان أو تملُّقًا للسلطة أو كلاهما معًا؟ ولماذا يكون عقل الإنسان وعلمه وعالمه ومجتمعه هو الضحية؟ وفي سبيل من: الله أم السلطان؟ وهو السؤال التالي نفسه: هل يقدر الله على أن يجعل شيئًا موجودًا معدومًا في وقتٍ واحد أو جسمًا في مكانَين أو جسمَين في مكانٍ واحد؟ ولما كانت الإجابة بنعم بطبيعة الحال كانت صورة الله أشبه بصورة الحاوي أو الساحر الذي يوهم الناس بأشياء في اليقظة أو في النوم. وكذلك السؤال حول قدرة الله على أن يمسخ الكافر قردًا وكلبًا، مجرد سؤال لإعطاء المزايد الفرصة للتعظيم والتأليه والإجابة المسبقة بنعم!
  • (٢)
    هل الله قادر على جنس ما أقدر عليه عباده؟ وفي هذا السؤال تنتقل التمرينات العقلية من الطبيعة إلى الإنسان، ومن الرغبة في القضاء على الأجسام وقوانين الطبيعة لإثبات القدرة المشخصة المعظمة إلى الرغبة في القضاء على الحرية الإنسانية لإثبات القدرة المطلقة الحرة التي لا تقف أمامها قدرةٌ حرةٌ أخرى. وقد يكون إثبات القدرة رغبة في عدم الوقوع في التشبيه. فبالرغم من أن الفعلَين من جنسٍ واحد إلا أنهما غير متشابهَين.٣٣٧ ويتجاوز السؤال فيتعدى كونه مجرد إعطاء فرصة للشعور لأنه من الطبيعي أن يقدر الله على جنس ما أقدر عليه عباده. وإثبات ذلك في الحقيقة لا يدل على عظمةٍ زائدة، بل يكون مجرد تحصيل حاصل؛ لأن الله يقدر بطبيعة الحال على ما يقدر عليه الإنسان حتى لو كانت الإجابة المرجوَّة إثباتًا للتعظيم، فلا يجوز عليه أن يقدر على ما يقدر عليه الإنسان، بل على أعظم منه، فإن القدرة على جنس الفعل لا تزيد كثيرًا على القدرة على الفعل نفسه إلا درجة لا نوعًا إن لم تكن أقل. فما أسهل الفعل عن طريق المبدأ العام الذي تندرج تحته الأفعال الخاصة! وما أصعب الفعل الخاص الفريد الذي لا يندرج تحت جنس معين! ويصبح للسؤال مدلولٌ حقيقي إذا واجهت القدرة الفعل الإنساني الحر؛ وبالتالي يكون السؤال: هل تستطيع القدرة المعظمة أن تسيطر على الفعل الحر وتقضي عليه؟ والرد بالإثبات يعني أن القدرة المعظمة لها الأولوية والسيطرة على كل شيء حتى على الفعل الحر.٣٣٨ والرد بالنفي يكون إمَّا لأن ذلك يثبت عظمةً زائدة فما أسهل أن يقدر الله على ما أقدر عليه عباده، وإمَّا إثباتًا للفعل الحر واستقلاله كاستقلال الطبيعة.٣٣٩ ولإثبات الحرية يكون السؤال نفسه موضوعًا وضعًا خاطئًا، فإن الله لا يُقدِر أحدًا من العباد على فعل شيء بل يفعل الإنسان من ذاته طبقًا لقدرته.٣٤٠ ومن الطبيعي أن تكون الإجابة إثباتًا حتى عند المدافعين عن حرية الأفعال وقدرات العباد. فالمزايدة بديهية، وتملق الحس الديني لا يتنازل عنه العلماء أو العامة، بل إن الأعظم هو إثبات أن الله أقدر على فعل أجناسٍ أخرى لا يقوى على فعل أفرادها قدرات العباد، أجناس غير مرئية يجهلها العباد أو مرئية يعلن العباد عن عجزهم أمامها مثل الطيران في الهواء أو اختراق حجب الفضاء أو السير على الماء.٣٤١
  • (٣)
    هل الله قادر على ما أقدر عليه عباده؟ ثم يتعين السؤال أكثر ويتوجه ليس إلى جنس الفعل بل إلى ذات الفعل. فإذا كان المقصود به إعطاء فرصة للشعور للتعبير عن عواطف التعظيم والإجلال، فإن السؤال لا يعطي هذه الفرصة؛ لأنه ما أسهل على القدرة المعظمة أن تقدر على ما يقدر عليه الإنسان. وإذا كان المقصود هو إثبات قدرةٍ مطلقة تحتوي على أية قدرةٍ أخرى خارجها أي القدرة الإنسانية، فإن ذلك يكون تحصيل حاصل؛ لأنه ما أسهل من إثبات قدرةٍ مسيطرة على قدرة الإنسان كقوى الطبيعة مثلًا، ولكن ما أقساها على الإنسان ذاته بالرغم من استطاعة الإنسان السيطرة عليها!٣٤٢ وقد يعطي الرد بالنفي هذه الفرصة لأن الله لا يقدر على ما يقدر عليه الإنسان لأنه يقدر على أعظم منه. يفعل الإنسان الممكن ولكن الله يفعل المستحيل. وفي هذه الحالة يكون المقصود هو تجاوز الممكن إلى المستحيل. وقد يكون المقصود إثبات الحرية الإنسانية التي تعادل على المستوى الطبيعي استقلال الطبيعة عن تدخل أية قوةٍ مشخصة من خارجها.٣٤٣ وقد يكون الرد بالإيجاب دون تعدٍّ على الحرية الإنسانية، فتثبت القدرة الأولى مطلقة ويكون الفعل منها بالضرورة، وتثبت القدرة الثانية محددة ويكون الفعل منها كسبًا.٣٤٤ إذ تحاول نظرية الكسب الجمع بين إثبات القدرة المعظمة والفعل الإنساني المستقل، ويكون الإنسان حينذاك قادرًا على الكسب، عاجزًا عن الخلق.٣٤٥ وقد يتعدى السؤال إلى تعلق قدرة الله بأفعال العباد جميعًا من الحيوانات والملائكة والجن والإنس، وإثبات قدرة الله المطلقة؛ فلا خالق ولا مخترع سواه، خاصةً وأن قدرات العباد لا تعلم الخلق ولا تجد في حركاته وسكناته حتى تكون قادرة عليه. والحقيقة أن كل ما يحدث في الطبيعة، امتصاص الثدي من فعل الحي ونسج بيوت العنكبوت بأشكالٍ هندسية لا يقدر عليها المهندسون، إنما يتم طبقًا لقوانين الطبيعة.٣٤٦ ولا حل لذلك إلا الكسب، أي إثبات مقدور لقادرين؛ تجنبًا للجبر الذي ينفي مقدورات العباد، وتجنُّبًا لحرية الأفعال التي تنفي القدرة الإلهية. ولماذا يعطى الإنسان أقل من حقه بافتراض أن غيره قادر على ما هو قادر عليه، بل وأعظم منه يتدخل في شئونه ويُسيِّر له حياته؟ وكيف تصبح قدرة الله قادرةً على أفعال العباد، وأفعال العباد بها من الشرور والآثام ما لا يعدُّ ولا يحصى؟ هل الله قادر على فعل الزنا وشرب الخمر وقتل الأبرياء وظلم العباد؟٣٤٧ إن إثبات قدرةٍ إنسانية هو إثبات لواقعةٍ إنسانية وتجاوز لانفعالات عواطف التأليه. وقد يكون ذلك على نحوٍ آخر إثباتًا لتنزيهٍ أعظمَ يقدر الحرية الإنسانية ويردُّ إليها اعتبارها. ليس المقصود من أمثال هذه الأسئلة المصالحة بين القدرتَين كما هو الحال في نظرية الكسب بل المقصود تدمير الإنسان الواقعي وإثبات الإنسان «السوبرمان»، أي لله.٣٤٨
  • (٤)
    هل يقدر الله على أن يُقدِر أحدًا على فعل الأجسام، الحياة أو الموت؟ ثم يخصص السؤال أكثر فأكثر ويتوجَّه نحو الطبيعة من جديد. وهنا لا تظهر القدرة المعظمة في فعل جنس الفعل أو ذات الفعل، بل داخل الفعل، فتوجِّهه وتقوِّيه وتجعله قادرًا على الخلق كالقدرة والعظمة. فإذا كان المقصود هو إتاحة الفرصة للشعور للتعبير عن عواطف التأليه، فما أسهل ذلك! أمَّا إذا كان المقصود إثبات قدرةٍ فاعلة ضد طبائع الأشياء، فالإنسان لا يميت ولا يحيي؛ فإنها تكون فرصةً عظيمة تسمح بإثبات هذه القدرة. الإنسان بمفرده يسير طبقًا لطبائع الأشياء، ولكنه بتدخل القدرة المعظَّمة يسيطر عليها ويقلبها رأسًا على عقب، يحيي الميت ويميت الحي.٣٤٩ وفي هذه اللحظة يكون إثبات مثل هذه القدرة نفيًا للحرية الإنسانية ولاستقلال الطبيعة، ويكون نفيها إمَّا إثباتًا للتنزيه؛ فإن تدخل القدر المعظمة في الفعل الإنساني لا يثبت تنزيهًا أعظم، وإمَّا إثباتًا للحرية واستقلال قوانين الطبيعة.٣٥٠ أمَّا نفيها لأن الله أعجز الإنسان فهو رجوع إلى إثباتها ما دام الله قد أعجز الإنسان.٣٥١ وقد يجمع بين الإثبات والنفي لا في الفعل الإنساني بل في التمييز بين الموضوعات.٣٥٢ وكما تسلب الصفات المطلقة الإنسان حريته وتحيله إلى أقل من إنسان لا فعل له ولا خيرة له من أمره. لم يكن الإنسان هو نفسه بل كان مرة أقل من إنسان ومرةً أخرى أكثر من إنسان.
    وبالرغم من كل محاولات الفكر العلمي الذي يقوم على طبائع الأشياء، والفكر الإنساني الذي يقوم على إثبات الحرية الإنسانية وفعل الأصلح، فإن القدرة المعظمة تفرض نفسها من خلال عواطف التأليه وتمثل شبح السلطة الرهيب. فكما أن العلم المطلق لا يغيب عنه شيء، فكذلك القدرة المطلقة لا يندُّ عنها شيء. وإذا كان شبح العلم المطلق يظهر في الحياة الإنسانية في صورة المخابرات العامة، فإن القدرة المطلقة تظهر في صورة الدكتاتور الذي يفعل كل شيء والذي يمتدُّ سلطانه على كل صغيرة وكبيرة.٣٥٣ ويكون الموقف الشعوري الذي يرفض الدخول في أمثال هذه التمرينات العقلية للتعبير عن عواطف التأليه، هو الموقف الذي يرفض النفي والإثبات والحلول الوسط، ويتوقف عن الحكم، ويلغي المشكلة التي يقدمها العقل طوعًا للشعور.٣٥٤ وبالرغم من أن التوقف عن الحكم لا يعطي الأسباب خوفًا من الدخول في المتاهات العقلية التي يرفضها، فإنه أسلم المواقف الشعورية وأكثرها أمانة. يكفي بعدها تحليل المتاهات العقلية وبيان دورها كتمرينات يقدمها العقل للشعور دون أن يشير إلى أي موضوعٍ خارجي.
    هذا الموقف في الحقيقة يكشف عن البناء النفسي للقائل أكثر مما يحتوي على إجابةٍ موضوعية أو إقرار حقيقة. ويتلخص هذا البناء النفسي في الإحساس بالضعف ثم في الرغبة في التستر عليه أو تقويته باللجوء إلى قوةٍ أعظم. وهنا يفترض الإنسان قوةً أعظم من قوَّته وحقًّا أكثر من حقه، وكأنه لما لم يستطيع أن يكون إنسانًا أصبح أكثر من إنسان! ويحدث ذلك تعبيرًا عن عجز الإنسان بالضد عن طريق التعويض وإعطائه قوةً أعظم منه. وثبات ذلك في الحقيقة وقوع في التشبيه؛ تشبيه الله بالسلطان القاهر وتدمير الحرية الإنسانية. كما أنه إعلاء للإنسان إلى درجة الله وجعل قدرته مساويةً لقدرة الله ومشاركته في الخلق معه، وهو غير المقصود منه؛ مما يدل على أن عواطف التأليه والتعظيم والإجلال عواطفُ عمياءُ هوجاء، مناقضة لنفسها، تعمل ضد مقاصدها. وبالرغم من ذلك تظل قدرة الإنسان محدودة؛ فالله أقدر منه. وإن ما يبدعه الإنسان يلحقه الكون والفساد، في حين أن ما يبدعه الله لا يلحقه الكون والفساد حتى يظل الله متقدمًا على الإنسان ولو بدرجةٍ واحدة. كما أنه إبطال للخلق، ودلالة الخلق على الخلق ووحدانيته، وإثبات للشركة فيه بين الله والإنسان. فالإثبات يؤدي إلى غير المقصود منه، ويدل على نقص في النظرة العلمية، وتحليل الأشياء بالرجوع إلى عللٍ خارجية وليس من باطنها، وكأن الظواهر الطبيعية في يد إرادةٍ قاهرة تسيرها كيفما تشاء، تقلب الحجر ذهبًا والعصا ثعبانًا. وإن تفسير النشأة الطبيعية للكون لا يحدد من سلوك الإنسان؛ فخلق الكون شيء وخلق الفعل شيءٌ آخر. وكيف يسلب من الإنسان فعله وهو حي ويُعطى له وهو ميت؟ قد يبلغ التعظيم مداه على حساب الإنسان عندما يكون المعبود قادرًا على خلق إنسانٍ ميتٍ قادر! وهذا في الحقيقة تعبير عن عواطف التأليه وإلغاء للموقف الإنساني من أجل التأليه لدرجة افتراض المستحيل عمله، ثم من أجل إثبات المؤله وحده قادرًا على فعل المستحيل مثل فعل الأجسام أو خلق الحياة أو الموت. إن الإنسان لا يفعل إلا في موقفٍ إنساني ولا تظهر قدرته إلا في مستواها. وإن عدم القدرة على السير في الهواء أو التنفس في الماء ليس نقصًا في القدرة، ولكنه إخراج للقدرة عن مستواها. السؤال إذن من أوله سؤالٌ خاطئ بالنسبة إلى الواقع وإلى حدود القدرة الإنسانية التي لا تثبت أي عجز أو نقص في مقابل قدرةٍ أعظمَ وأشمل.٣٥٥ وقد تكون هناك محاولة للتوفيق بين القدرتَين، القدرة الإلهية والقدرة الإنسانية، أو القدرة الإلهية وقوانين الطبيعة، فتستثنى الحياة والموت والجواهر والأجسام ولا يبقى لله إلا الأعراض، وهذا حطة في شأن الله. كما أنها محاولةٌ خاسرة لأنها تجعل الطبيعة صامدة من حيث هي جواهر وأجسام أمام القدرتَين معًا، فيثبت عجز القدرة الإلهية ويظهر مستوى القدرة الإنسانية في خلق الأفعال لا في خلق الأجسام.٣٥٦ أمَّا الإجابة بالنفي فإنها تكون في نفس الوقت إثباتًا للتنزيه وإثباتًا للحرية الإنسانية.٣٥٧
  • (٥)
    هل أفعال الله مختارة؟ يظهر هذا السؤال الأخير كعود على بدء ليطرح موضوع الإطلاق والتقييد. الفعل المختار هو الفعل المقيد الذي اختير بباعثٍ آخر سوى الفعل كالأصلح مثلًا، في حين أن الاختيار نفسه مطلق غير محدود بباعث آخر سوى القدرة المطلقة. إثبات المختار حدٌّ من القدرة المعظمة وتأكيد لوجود طرفٍ آخر له استقلاله وحريته وهو الإنسان. وإثبات الاختيار إثبات للقدرة المطلقة وللحرية التي لا تقوم على أي باعث إلا كمظهر للقدرة والتي تلغي أمامها كل حريةٍ إنسانيةٍ أخرى. بل قد وصل الحد في تأكيد صفة الاختيار إلى اعتبارها صفة. من الحياة والعلم والإرادة والقدرة تتولد قدرةٌ خامسة وهي الاختيار للتأكيد على الفعل الحر ولكن كل ذلك لله وليس للإنسان. وهو اختيار على مقتضى العلم والإرادة، ولا يصدر عن أية علية أو استلزام وجودي أو تكليف أو قصد أو مصلحة. ولكن أية عظمة في مثل هذا الاختيار الذي لا يحكمه قانون ولا تحدده غاية؟٣٥٨ والحقيقة أنها مشكلةٌ إنسانيةٌ خالصة، وهي مشكلة الاختيار يسقطها الإنسان خارج ذاته على التأليه لمشخَّص ولا تحل إلا بإرجاعها إلى أصلها في التجربة الإنسانية. أمَّا الحلول المتوسطة فإنها تكشف عن استحالة تصور الاختيار المطلق حتى في الله وكأن الجبر لا بد وأن يتسرب، وكأن الضرورة هي الجوهر والحرية هي العرض، وكأن الضرورة هي الوجود والحرية هي العدم.٣٥٩
    وعجبًا! إذا كان المقصود هو البحث في الحرية الإنسانية، فإن محاولة إثبات الضعف الإنساني لإثبات قدرةٍ أعظم هي تخلٍّ عن القضية الأساسية وتملق للقدرة الجديدة المراد إثباتها على حساب قدرة الإنسان المنكرة. إنها ليست مجرد مسألة لفظية، بالرغم من قدرة تحليل اللغة على تحديد أشكال التعبير، ولكنها أعمق من ذلك، وتعبر عن عواطف التأليه والتعظيم والإجلال التي تفرض على العقل مقولاتها وعلى اللغة ألفاظها، وتعطي لله كل الحقوق وتسلب الإنسان جميع الحقوق. إن علم الله لا يعني الجبر، بل الحق النظري لله؛ لأن الجبر هو سلب الاختيار، والاختيار واقع بالمشاهدة والحس والتجربة. ولا يتعلق الاختيار بالإيجاد بل بالتأثير، بالفعل والترك فيكون حسنًا مرة وقبيحًا مرةً أخرى؛ لذلك تتفق جميع فرق العقلاء على الاختيار كمناط للتكليف وكفعل للإنسان.٣٦٠
١  تجمع فرق المجبرة على أنه لا فعل للعبد أصلًا، وأن حركاته بمنزلة حركات الجمادات لا قدرة للعبد عليها ولا قصد ولا اختيار (شرح التفتازاني، ص١٠٠).
٢  انظر محاولة الأفغاني لإعادة تفسير القضاء والقدر على أنه استسلام للشهادة والموت في سبيل المقاومة وجهاد العدو.
٣  الله خالق أفعال العباد. هذا تفريع على ما تقدم من انفراده تعالى بالإيجاد، وهذا يُسَمَّى عند العارفين بوحدة الأفعال (التحفة، ج٢، ص٢). المسألة، خلق الأفعال فرعًا على ما مر من وجوب وحدانيته وعموم علمه للمعلومات وقدرته وإرادته لسائر الممكنات (الإتحاف، ص٩٨) من حيث تبعية التأثير للعلم لو كان العبد خالقًا لأفعال نفسه لعلمه بتفاصيلها، وإن الذي عمم علمه الأشياء تفصيلًا هو المولى (الأمير، ص٩٨). وحاصل المقام أن إرادة الله وقدرته صفتان له يجب اتصافه بهما، ويستحيل انتفاؤهما عنه، ويتعلقان بكل ممكن، بخلاف إرادة العبد وقدرته فإنهما معاونتان لإرادة الله وقدرته؛ فهما ممكنتان يجوز عليهما الوجود والعدم ويتعلقان ببعض الممكنات دون بعض. أمَّا من جانب العبد فهناك علاقة السبب بالمسبب وبالتالي فإرادة العبد مؤثرة (التمهيد، ص٤٣-٤٤).
٤  هذا هو موقف جهم بن صفوان أول من قال بالجبر. يقول مثلًا: العبد ليس له عمل، وأخبر الله عن نفسه أنه خالق أفعال العباد (الأصول، ص١٣٥). كما أنه أثبت كونه (الله) قادرًا فاعلًا خالقًا؛ لأنه لا يوصف شيء من خلقه بالقدرة والفعل والخلق (الملل، ج١، ص١٢٨). وقد أصبح هذا تعريف الجبر أي نفي الفعل حقيقةً عن العبد وإضافته إلى الرب (الملل، ج١، ص١٢٦).
٥  يقوم الجبر إذن على شيئين: (أ) لما كان الله فعالًا، وكان لا يشبه شيئًا من خلقه، وجب ألا يكون أحد فعَّالًا غيره. (ب) نفي إضافة الفعل إلى الإنسان، لا نقول مات زيد بل أماته الله (الفصل، ج٣، ص١٩). يقول جهم: لا فعل لأحد في الحقيقة إلا الله وحده، هو الفاعل، وإن الناس تنسب إليهم أفعالهم على المجاز كما يُقال تحركت الشجرة، ودار الفلك، وزالت الشمس، وإنما فعل ذلك بالشجرة والفلك والشمس الله. خلق الله للإنسان قوةً كان بها الفعل، وخلق له إرادة للفعل واختيارًا له منفردًا بذلك كما خلق له طولًا كان به طويلًا، ولونًا كان به متلونًا (مقالات، ج١، ص٣١٢). وعند جهم أيضًا بخلق الله الأفعال في الإنسان على حسب ما يخلق في سائر الجمادات، وينسب إليه الأفعال مجازًا كما ينسب إلى الجمادات كما يُقال: أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتحرك الحجر، وطلعت الشمس وغربت، وتغيبت السماء وأمطرت، وازدهرت الأرض وأنبتت. والثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال جبر. وإذا ثبت الجبر فالتكليف كان جبرًا (الملل، ج١، ص١٢٨-١٢٩). وعند جهم لا فعل ولا عمل لأحد غير الله وإنما تنسب الأعمال للمخلوقين على المجاز كما يُقال زالت الشمس ودارت الرحى من غير أن يكونا فاعلَين مستطيعَين لما وصفنا به (الفِرَق، ص٢١١). ذهبت الجبرية إلى نفي القدرة وإلى أن يُسَمَّى كسبًا للعبد أو فعلًا له، فهو على سبيل التوسع والتجوز في الأخلاق والحركات الاختيارية والإرادية بمثابة الرعدة والرعشة (الإرشاد، ص٢١٥).
٦  يقول جهم: الأفعال مخلوقة الله فينا، لا تعلق لنا بها أصلًا لا اكتسابًا ولا أحداثًا دائمًا نحن كالظروف لها (شرح الأصول، ص٣٢٤، ص٣٦٣). الإنسان مجبر على أفعاله ولا استطاعة له أصلًا (الفصل، ج٣، ص١٨). العباد في الدنيا مضطرون إلى ما يكون منهم، العباد غير مكتسبين ولا قادرين على أكسابهم (الفِرَق، ص٣٣٨). العباد مضطرون إلى الأفعال المنسوبة إليهم، وليس لهم فيها اكتساب ولا لهم عليها استطاعة، وإن حركاتهم الاختياري بمنزلة حركة العروق النوابض في اضطرارها (الأصول، ص١٣٤). قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال، وأنكر الاستطاعات (الفِرَق، ص٢١١). من زعم أن العبد لا استطاعة له على الكسب، ليس بفاعل ولا مكتسب فهو جبري (الفِرَق، ص٣٣٩). ولديه أن العبد ليس قادرًا البتة (اعتقادات، ص٦٨). وهذه الجبرية الخالصة لا تثبت للعبد فعلًا ولا قدرة على الفعل أصلًا (الملل، ج١، ص١٢٦). فالإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة وإنما هو مجبور في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار (الملل، ج١، ص١٢٨-١٢٩).
٧  هذا هو موقف جمهور الأشاعرة إذ يقول الأشعري: نحن نثبت أن الله قدر أعمالنا وخلقها مقدرة لنا، ولا نثبت ذلك لأنفسنا (اللمع، ص٩١). أجمع المسلمون على أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأخبرنا أنَّا لا نشاء شيئًا إلا وقد شاء الله أن نشاءه … لا يستطيع أحد أن يفعل شيئًا قبل أن يفعله أو أن يقدر أن يخرج عن علم الله أو أن يفعل شيئًا علم الله أنه لا يفعله (مقالات، ج١، ص٣٢٠). الله مريد لكل شيء ويجوز أن يُراد (اللمع، ص٥٧-٥٨). وقد أصبح هذا هو إيمان أهل السنة جميعًا ألا يحدث شيء في العالم إلا بإرادته، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن (الفِرَق، ص٣٣٦). لا تأثير لقدرة العبد في مقدوره أصلًا، بل القدرة والمقدور واقعان بقدرة الله (المحصل، ص١٤٠). مقدر لجميع الأفعال، لا يكون حادث إلا بإرادته، ولا يخرج مخلوق عن مشيئته، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن (الإنصاف، ص٢٨). خالق أفعال العباد هو الله (السائل، ص٣٧٤). أفعال العباد كلها واقعة بقدر الله مخلوقة له (المطالع، ص١٨٩). أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله وقدرها (المواقف، ص٣١١). في أن الله مريد لجميع الكائنات (المعالم، ص٧٢–٩٠). قال الشيخ إن أفعال العباد كلها واقعة بقدرة الله، إنه تعالى مريد للكائنات من الخير والشر والإيمان والكفر وإنه لا موجب للكل ومبدعه ولأنه علم ممن يموت على كفره عدم إيمانه فامتنع وجوده وإلا لأمكن انقلاب علمه جهلًا فلا تتعلق الإرادة به (الطوالع، ص١٨٩–١٩٨). في أن أفعال العباد واقعة بقدرة الله وحدها، في أنه تعالى مريد لجميع الكائنات (المواقف، ص٣٢٠–٣٢٣). إرادة الله وتعلقها بكل كائن حي (التحقيق، ص١٢٥-١٢٦).
٨ 
والفعل في التأثير ليس إلا
للواحد القهار جل وعلا
ومن يقل بالطبع أو بالعلة
فذاك كفر عند أهل الملة
ومن يقل بالقوة المودعة
فذلك يدَّعي فلا تلتفت
(الخريدة، ص٢٣–٢٧)
حياته وقدرة إرادة
وكل شيء كائن أراده
وإن لم يكن لعبده قد أمرا
فالقصد غير الأمر فاطرح المرا
كلامه والسمع والإبصار
فهو الإله الفاعل المختار
وقدرة وإرادة تعلقا
بالممكنات كلها أخي التقى
(الخريدة، ص٣٠-٣١، ص٣٦)
وجائز في حقه ما أمكنا
إيجادًا اعدامًا لرزقه الفنا
فخالق لعبده وما عمل
موقِّف لمن أراد أن يصل
وخاذل لمن أراد بُعده
ومُنجز لمن أراد وعده
(الجوهرة، ص١١-١٢)
٩  يقول الباقلاني إن الله أخبر أنه خالق الأعمال على العموم كما أخبر أنه خالق لصورنا وذواتنا على العموم (الإنصاف، ص١٤٥). ومعلوم أن أفعالنا مخلوقة إجماعًا وإن اختلفنا في خالقها. وهو قد أدخل في خلقه كل شيء مخلوق؛ فدلَّ على أنه لا خالق لشيء مخلوق غيره إلا كلامه، والمخاطب لا يدخله تحت الخطاب (الإنصاف، ص١٤٥). لا يكون من العباد شيء إلا وهو خلق الله ومراد له، لا يجوز أن يخلق أحد غيره، ولا يكون في ملكه إلا ما أراده (الإنصاف، ص١٤٣). ويقول الجويني: اتفق سلف الأمة قبل ظهور البدع والأهواء واضطراب الآراء على أن الخالق المبدع رب العالمين ولا خالق سواه، ولا مخترع إلا هو، فهذا هو مذهب أهل الحق؛ فالحوادث كلها حدثت بقدرة الله، ولا فرق بين ما تعلقت قدرة العباد به وبين ما تفرَّد الرب بالاقتدار عليه. ويخرج من مضمون هذا الأصل أن كل مقدور لقادر؛ فالله قادر عليه وهو مخترعه ومنشؤه (الإرشاد، ص١٨٧).
١٠  في أسطورة الخلق عند المغيرة بن سعيد: لما أراد الله خلق العالم تكلم باسمه الأعظم فطار، فوقع على رأسه تاج، ثم اطلع على أعمال العباد وقد كتبها على كفِّه؛ فغضب من المعاصي، فعرق فاجتمع من عرقه بحران أحدهما مالح والآخر عذب، المالح مظلم والعذب نيِّر (مقالات، ج١، ص٢٧٢؛ الفِرَق، ص٢٣٩-٢٤٠؛ الملل، ج٢، ص١٢٠-١٢١). وعند بيان بن سمعان يعلم علي الغيب ويعلم ما في الغد، وما تشتمل عليه الأرحام من الأولاد، وما يغيب عن الناس في بيوتهم. والأئمة يعلمون ذلك كما علم علي (الرد، ص١٥٦-١٥٧).
١١  هذا هو موقف الإسماعيلية وأهل إحدى فرق الإمامية، وكلها تقول بالجبر والتشبيه (الرد، ص٣٢). وعند هشام بن الحكم: أعمال العباد مخلوقة لله (مقالات، ج١، ص١١٠؛ الفِرَق، ص٦٧). وعند هشام بن سالم الجواليقي وشيطان الطاق: الحركات هي أفعال الخلق؛ لأن الله أمرهم بالفعل (مقالات، ج٢، ص٣٦). وعند شيطان الطاق لا يكون الفعل إلا أن يشاء الله (مقالات، ج١، ص١١٢).
١٢  يقول فريق من الزيدية إن أعمال العباد مخلوقة، خلقها وأبدعها واخترعها بعد أن لم تكن؛ فهي محدثة له ومخترعة (مقالات، ج١، ص٢٣٩).
١٣  تقول الشيعة في القدر إن الكافر كفر لعلة وبسبب من قِبَل الله، ألجأه إلى الكفر بل ألجأه إلى كفره واضطراره إليه وأدخلاه فيه، وإن الله يشاء كل فاحشة ويريد كل معصية (الانتصار، ص٦).
١٤  هذا هو موقف بعض الخوارج؛ إذ يقول الكثير منهم إن أعمال العباد مخلوقة، والله لم يزل مريدًا لما علم أن يكون، ولما علم أنه لا يكون، وهو مريد لما علم من طاعات العباد ومعاصيهم، لا بأنه على حب ذلك، بل إنه ليس بآب عنه ولا بمكرَه عليه (مقالات، ج١، ص١٧٤). وعند الإباضية الله خالق أفعال العباد (الفِرَق، ص١٠٥). وعند المجهولية أفعال العباد مخلوقة لله وأثبتت القدر (الملل، ج٢، ص٥٢؛ مقالات، ج١، ص١٦٦). وعند الشعيبية أن أحدًا لا يستطيع أن يعمل إلا ما شاء الله، وأن أعمال العباد مخلوقة (مقالات، ج١، ص١٦٥). وعند الخازمية الله خالق أعمال العباد ولا يكون في سلطانه إلا ما يشاء (الملل، ج٢، ص٤٧-٤٨). لا خالق إلا الله، ولا يكون إلا ما شاء الله (الفِرَق، ص١٩٤). ويدل على صحة ذلك إجماع المسلمين وأنهم يقولون: لا خالق إلا الله، وأنه لا رازق إلا الله ولا محيي ولا مميت إلا الله؛ وبالتالي فلا يكون الخلق من غيره، وأثبتوه خالقًا. كما أثبتت الخلفية القدر (مقالات، ج١، ص١٦٥). وأضافوا القدر خيره وشره إلى الله (الملل، ج٢، ص٤٥). وقالت الشيبانية بالجبر، ووافقوا جهمًا فيه وفي نفي القدرة الحادثة (الملل، ج٢، ص٥٠).
١٥  هذا هو موقف بعض المرجئة، إذ قال صنف منهم بالجبر في الأعمال (الفِرَق، ص٢٠٢). ومالوا إلى قول جهم في الأعمال والإكساب، فهم من جملة الجهمية والمرجئة (الفِرَق، ص٢٥). ومنهم الحسين بن النجار ويثبتون القدر (مقالات، ج١، ص٢٥١). وعندهم أن أعمال العباد مخلوقة لله، وهم فاعلون لها، ولا يكون في ملك الله إلا ما يريده، والله لم يزل مريدًا أن يكون في وقته ما علم أنه يكون في وقته، مريدًا ألَّا يكون ما علم أنه لا يكون (مقالات، ج١، ص٣١٥). والنجارية كلهم يوافقون الجبرية في خلق الأعمال والاستطاعة (اعتقادات، ص٦٨).
١٦  الباب السادس في الجبر والقدر وما يتعلق بهما من المباحث وفيه مسائل: المختار عندنا أن عند حصول القدرة والداعية المخصوصة يجب الفعل؛ وعلى هذا يكون العبد فاعلًا على سبيل الحقيقة، ومع ذلك تكون الأفعال بأسرها واقعة بقضاء الله وقدره (المعالم، ص٧٢–٩٠؛ خاتمة في القضاء والقدر؛ المواقف، ص٣٢٠–٣٢٣).
١٧  من هم القَدَرية؟ هل هم الذين يثبتون القدر لله مثل الأشاعرة؟ أم الذين ينكرونه مثل المعتزلة؟ هل هم الذين ينفون القدر عن الإنسان مثل الأشاعرة أم الذين يثبتونه مثل المعتزلة؟ في الحقيقة أن التسمية أولى بالأشاعرة منها بالمعتزلة، أي بالمثبتين للقدر لا بالنافين له، وهو رأي المعتزلة في التسمية ومن أحق بها، ولكن الأشاعرة يلصقونها بالمعتزلة كاتهام؛ لأن النفي والرفض بطبيعته اتهام. يقول الأشعري: «زعمت القدرية أنَّا (الأشاعرة) نستحق اسم القدر لأنَّا نقول إن الله قدَّر الشر والكفر، فمن يثبت القدر كان قدريًّا دون من لم يثبته. فيُقال لهم القدري هو من يثبت القدر لنفسه دون ربه، وأنه يُقدِّر أفعالًا دون خالقه وكذلك هو في اللغة … فلما كنتم تزعمون أنكم تقدرون أعمالكم وتفعلونها دون ربكم، وجب أن تكونوا قَدَرية ولم نكن نحن قدرية؛ لأنَّا لا نضيف الأعمال إلى أنفسنا دون ربنا، ولم نقل إنَّا نقدرها دونه، وقلنا إنها تقدر لنا. ويُقال لهم إذ كان من أثبت التقدير لله قدريًّا فيلزمكم إذا زعمتم أن الله قدر السموات والأرض وقدر الطاعات أن تكونوا قدرية» (الإبانة، ص٥٤). ويقول أيضًا: «نحن نثبت أن الله قدر أعمالنا وخلقها مقدرة لنا، ولا نثبت ذلك لأنفسنا. فمن أثبت القدر لله وزعم أن أفعال العبد مقدرة لربه لا يكون قدريًّا» (اللمع، ص٩٤). «وزعموا أنهم ينفردون بالقدرة على أعمالهم دون ربهم، فأثبتوا لأنفسهم الغنى عن الله، ووصفوا أنفسهم بالقدرة على ما لم يصفوا الله بالقدرة عليه» (الإبانة، ص٧). وقد أبرز علم الكلام المتأخر القضية نفسها؛ فالقدرية تنفي القدرة وتزعم أن الله لم يقدر الأمور أزلًا، وتقول الأمر أُنُف أي يستأنفه الله علمًا حال وقوعه، ولُقِّبوا بالقدرية لخوضهم في القدر حيث بالغوا في نفيه. ولا يُقال مثبت القدر أحق أن يُنسَب إليه لأنه كما يصح نسبه إلى مثبته يصح إلى نافيه إذا بالغ في نفيه، وهؤلاء انقرضوا قبل الإمام الشافعي. وأمَّا القدرية التي تنسب أفعال العبيد إلى قدرهم مع علم الله به فقدريتان: (أ) تنكر سبق علم الأشياء قبل وقوعها وتبالغ في نفي القدر. (ب) تنسب أفعال العباد إلى قدرهم (التحفة، ص١٥؛ الأمير، ص١٠٤).
١٨  عند أبي حنيفة: الله هو الذي قدر الأشياء وقضاها، ولا يكون في الدنيا ولا في الآخرة شيء إلا بمشيئته وعلمه وقدره، وكتبه في اللوح المحفوظ ولكن كتبه بالوصف لا بالحكم (الفقه، ص١٨٥). وعند الأشعري كما أراد الله وعلم أراد من العباد ما علم، وأمر القلم حتى كتب في اللوح المحفوظ، فذلك حكمه وقضاؤه وقدره الذي لا يتغير ويتبدل (الملل، ج١، ص١٤٤). ويقول الباقلاني: نحن نطلق الرضا بقضاء الله وقدره الإطلاق، بمعنى أنه لا يعترض على حكمه السابق وإرادته الأزلية، ولا يتقدم بين يديه الاعتراض، بل نسلم بما أراده فينا وفي غيرنا ولا نعترض بما يفعل، فيقول: نحن نرضى بقضاء الله الذي هو خلقه كما أخبرنا به، ومدحنا على فعله، ووعد عليه الثواب؛ فنرضى بذلك ونريده لنا ولجميع إخواننا المسلمين (الإنصاف، ص١٦٦-١٦٧). وفي العقائد المتأخرة قيل شعرًا:
وواجبنا إيماننا بالقدر
وبالقضاء كما جاء في الخبر
وكل أمر بالقضاء والقدر
وكل مقدورنا فما لنا من مفر
(الجوهرة، ج٢، ص١٥–١٧)
فكن له مسلمًا كي تسلما
واتبع سبيل الناسكين العلما
(الخريدة، ص٧٦-٧٧)
فوجب الرضا بالقضاء
والقدر الموعود بالجزاء
(الوسيلة، ص٤٤)
١٩  القضاء والقدر متلازمان، أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء. القضاء هو وجود الممكنات في اللوح مجملة على سبيل الإبداع والثاني وجودها في منزلة الأعيان بعد حصول شرائطها مفصلة واحدًا بعد واحد (الدر، ص١٤٨).
٢٠  اشتهر من أكثر أهل الملل أن الحوادث بقضاء الله وقدره وهذا يتناول أفعال العباد. وأمره ظاهر عند أهل الحق لما تبين أنه الخالق لها نفسها وللقدرة والداعية الموجبتَين لها (الدر، ص١٤٩).
٢١  فمعنى القضاء والقدر الخلق والتقدير. وقد يكون بمعنى الإلزام فتكون الواجبات بالقضاء والقدر دون الباقي. وقد يُراد بها التبيين والإعلام. وقد أجاب الأشعري على سؤال: هل قضى الله المعاصي وقدرها؟ بنعم، خلقها بأن كتبها وأخبر عن كونها، كما أجاب على سؤال: أفَقضاء الله حق؟ بأنه قضاء الله الذي خلق ما هو موجود كالكفر والمعاصي؛ لأن الخلق منه حق ومنه باطل. وأمَّا القضاء الذي أمر والقضاء الذي هو إعلام وأخبار وكتاب فحق لأنه غير المقضي (اللمع، ص٨١). ويقول ابن حزم إن بعض الناس ذهبوا لكثرة استعمال المسلمين هاتين اللفظتين (القضاء والقدر) إلى أن ظنوا فيهما معنى الإكراه والإجبار وليس كما ظنوا، وإنما معنى القضاء في لغة العرب التي خاطبنا بها الله ورسوله، بها نتخاطب ونتفاهم، مرادنا أنه الحكم فقط أو الأمر أو الخبر (الفصل، ج٣، ص٣٩). ومعنى القضاء في اللغة العربية الترتيب، والحد الذي ينتهي إليه الشيء (الفصل، ج٣، ص٣٩). ومعنى القضاء والقدر حكم الله في شيء بحمده أو ذمه وبكونه وترتيبه على صفة كذا إلى وقت كذا (الفصل، ج٣، ص٤٠). ويتساءل الباقلاني: على كم وجه ينقسم القضاء؟ ويجيب: خمسة أقسام. (أ) قضاء يكون بمعنى الخلق. (ب) التسليط. (ج) الإخبار والإعلام. (د) الأمر. (ﻫ) الحكم والإلزام (الإنصاف، ص١٦٥-١٦٦).
٢٢  في أن الله مريد لجميع الكائنات (المعالم، ص٧٢–٩٠؛ المواقف، ص٣٢٠–٣٢٣). القضاء والقدر والمشيئة صفاته في الأزل بلا كيف (الفقه، ص١٨٥). وعند الأشعري إرادة الله واحدةٌ قديمة أزلية متعلقة بجميع المرادات من أفعاله الخاصة وأفعال عباده من حيث إنها مخلوقة لا من حيث إنها مكتسبة لهم (الملل، ج١، ص١٤٤). قضاء الله عند الأشاعرة هو إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال وقدرته إيجاده إياها على قدرٍ مخصوص وتقديرٍ معين في ذواتها وأحكامها (الجرجاني) (الدر، ص١٤٨-١٤٩). إرادة الله وتعلقها بكل كائن حي (التحقيق، ص١٢٥-١٢٦).
٢٣  الحل الأوَّل للأشاعرة والثاني للماتريدية. فقد اختلفت الأشاعرة والماتريدية في القضاء والقدر؛ فالقدر عند الأشاعرة إيجاد الله الأشياء على قدرٍ مخصوص فيرجع إلى صفة فعل، وعند الماتريدية تحديد الله أزلًا كل مخلوق بحدِّه الذي يوجد عليه من حسن وقبح ونفع وضر، أي علمه أزلًا صفات المخلوقات، فيرجع إلى صفة العلم وهي من صفات الذات. والقضاء عند الأشاعرة إرادة الله الأشياء في الأزل على ما هي عليه فيما لا يزال، فهي من صفات الذات، وعند الماتريدية إيجاد الله الأشياء مع زيادة الإحكام والإتقان فهو صفة فعل. فالقدر حادث والقضاء قديم عند الأشاعرة على عكس الماتريدية (التحفة، ص١٦-١٧؛ الإتحاف، ص١٠٣). ولما كانت الماتريدية تراجعًا عن الأشاعرة واقترابًا من الاعتزال تحت تأثير الحنفية في الفقه، فإن هذا الاقتراب لم يظهر إلا في رد القضاء إلى صفة العلم وليس صفة الإرادة كما هو الحال عند الأشاعرة. وظهر تشدد الماتريدية في اعتبار القدر صفة أزل؛ مما يدل على سيادة عقيدة القضاء والقدر في الدين الشعبي خارج النسق الماتريدي العام. ويقول شارح أبي حنيفة: يجب الرضا بالقضاء والقدر، وهو تعيين كل مخلوق برتبته التي توجد من حسن وقبح ونفع وضرر وما يحيط به من مكان وزمان وما يترتب عليه من ثواب أو عقاب (شرح الفقه، ص١٣).
٢٤  عقيدة الاستغناء والافتقار موجودة من قبلُ عند الأشعري، إذ يقول: «إنَّا (الأشاعرة) نلجئ أمورنا إلى الله، ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه» (الإبانة، ص٩)، وأمَّا الإيمان بالقدر فيدخل فيه قولنا «لا إله إلا الله» أعني في جزء الافتقار لأن القدر مجموع أمور ثلاثة؛ القدرة والإرادة والعلم (الجامع، ص٢٧). وقد قيل شعرًا:
وذي العقائد التي تقررت
في لازم الشهادتين اندرجت
إذ لازم الكلية الشريعة
غناء قل وحاجة الخليقة
فيوجب استغناؤه لنفسية
سلبية واستثنِ وحدانية
(الوسيلة، ص٣٤-٣٥)
٢٥  هذا هو موقف محمد بن عبد الوهاب إذ يقول: اعتمادًا على ابن القيم يظن الجاهلون أن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته، وأنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمةٍ بالغة يستحق عليها الحمد (الكتاب، ص١٥٦-١٥٧). ثم يستنبط محمد بن عبد الوهاب من الإيمان بالقضاء والقدر عدة مسائل، منها: (أ) فرض الإيمان بالقضاء والقدر. (ب) بيان كيفية الإيمان به. (ج) إحباط عمل من لم يؤمن به. (د) الإخبار بأن أحدًا لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به. (ﻫ) جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى قيام الساعة. (و) براءة الرسول محمد ممن لم يؤمن به (الكتاب، ص١٦). ويقول أيضًا: والصبر على أقدار الله (الكتاب، ص١١٠). الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع ومنعها عمن سعى (الكتاب، ص١٢). من الإيمان الصبر على أقدار الله، شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية. علامة إرادة الله بعبده للخير، إرادة الله بالشر، علامة حب الله للعبد تحريم السخط، ثواب الرضا بالبلاء (الكتاب، ص١١٠-١١١). الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى، الإيمان بالله، والصبر على أقدار الله (الكتاب، ص١١٠–١٥٦، باب ما جاء في منكري القدر، ص١٥٦-١٥٧).
٢٦  هذه هي محاولة الأفغاني في «الرد على الدهريين»، وفي «رسالة القضاء والقدر»؛ فالاعتقاد بالقضاء يؤيده الدليل القاطع بل ترشد إليه الفطرة، وسهل على من له فكر أن يلتفت إلى أن كل حادث له سبب يقارنه في الزمان … التوكل والركون إلى القضاء إنما طلبه الشرع مِنَّا في العمل لا في البطالة والكسل (الأعمال الكاملة، ص١٨١–١٨٨).
٢٧  «ولا تغتروا بأقوال الذين جهلوا حقيقة التشريع الإلهي وجعلوا على تثبيط همم العاملين وبث روح الكسل والتقاعد عن العمل الصالح وصاروا دعاة الشياطين حتى كادوا بأقوالهم هذه وزخرفتها أن يهدموا أسس الأوامر والنواهي الشرعية الإلهية وأن يحملوا الناس على ترك الأعمال الصالحة والإقبال على المعاصي اعتمادًا على تلك الشبهات الواهية.» (القول، ص٣٧-٣٨).
٢٨  هذه محاولة محمد عبده في «رسالة التوحيد» إذ يقول: «سر القدر النهي عنه حقيقة»، التوحيد ورد الشرك، علم الله بعمل العبد الاختياري ليس ملزمًا (الرسالة، ص٥٩–٦٥).
٢٩  هذه محاولة محمد إقبال إذ يقول شعرًا:
من القرآن قد تركوا المساعي
وبالقرآن قد ملكوا الثريا
إلى التقدير ردُّوا كل سعي
وكان زمامهم قدرًا خفيًّا
تبدلت الضمائر في إسار
فما كرهوه صار لهم رضيًّا
(ضرب الكليم، ص٩)
ذلك الظالم سُمَّى
اختيارًا فيه جبرًا
(ضرب الكليم، ص٣١)
ويقول أيضًا:
على كل غصن تبين أن النَّـ
ـبات مشوق لرحب الفضاء
فما قرَّ في ظلمة الترب حبٌّ
جنون النشوء به والنماء
فلا تبغ في فطرة ترك سعى
فما ذاك معنى الرضا بالقضاء
لأهل النماء فضاء فسيحُ
وما ضاق ملك الإله فسيحوا
(ضرب الكليم، ص٣٥)
٣٠  عند أبي حنيفة المقدر خيره وشره من الله (الفقه، ص١٨٤). وعند الأشعري أن الله أراد جميع أفعال العباد خيرها وشرها، نفعها وضرها، الخير والشر بقضاء الله وقدره. ونحن (الأشاعرة) نؤمن بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره، ونعلم أن ما أخطأنا لم يكن يصيبنا وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وأن العباد لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا إلا ما شاء الله (الإبانة، ص٩). وعند أهل السنة لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله، الأشياء تكون بمشيئة الله، ما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون (مقالات، ج١، ص٣٢٠). ومن عقائدهم الإيمان بالقدر خيره وشره من الله (التنبيه، ص١٥-١٦). وعند أهل السلف القدر خيره وشره من الله (الملل، ص٢، ص٧١). وقد استمر ذلك في العقائد المتأخرة حتى أصبحت ركنًا من أركان الإيمان؛ فأركان الإيمان ستة … والإيمان بالقدر (الجامع، ص٢). وأمَّا الإيمان بالقدر فمجموع أمورٍ ثلاثة: قدرة وإرادة وعلم. فالواجب علينا أن نعتقد أن كل ما أصابنا من خير وشر ونفع وضر وحلو ومر؛ كله من عند الله أوقعه علينا بقدرته وإرادته، وسبق علمه قبل وقوعه (الجامع، ص٢١-٢٢). وقد قيل شعرًا:
فهو تعالى خالق كل عمل
خيرًا وشرًّا فاجتنب أهل الزلل
(الوسيلة، ص٣٤-٣٥)
٣١  رأي الفلاسفة في القضاء والقدر: الموجود إمَّا خيرٌ محض كالعقول والأفلاك، وإمَّا الخير غالب عليه كما في هذا العالم؛ فإن المرض وإن كان كثيرًا فالصحة أكثر. لا يمكن تنزيه هذا العالم من الشرور بالكلية؛ فكان الخير واقعًا بالقصد الأوَّل، والشر واقعًا بالضرورة والعرض. والتزم فعله لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير؛ فليس من الحكمة ترك المطر الذي به حياة العالم لئلا يُهدَم به دورٌ معدودة أو لا يتألم سابح في البر أو البحر (المواقف، ص٣٢٣).
٣٢  السعادة والشقاوة، والسعيد والشقي. فوز السعيد مقدَّر في الأزل حال كونه سابقًا عنده تعالى في علمه … شقاؤه في الأزل مثل فوز السعيد فليس كلٌّ من فوز السعيد وشقاء الشقي باعتبار الوصف القائم به في الحال من الإيمان في الأوَّل والكفر في الثاني، بل اعتبار ما سبق أزلًا في علمه تعالى. لم يتحول كل واحد من السعيد والشقي ما سبق أزلًا في علمه؛ فالسعيد لا ينقلب شقيًّا وبالعكس. والالزام انقلاب بالعلم جهلًا وهو بديهي؛ فالسعادة والشقاوة مقدرتان في الأزل لا يتغيران ولا يتبدلان لأن السعادة هي الموت على الإيمان باعتبار تعلق علم الله أزلًا بذلك، والشقاوة هي الموت على الكفر بذلك الاعتبار؛ فالخاتمة تدل على السابقة فإن خُتم له بالإيمان دلَّ على أنه في الأزل كان من السعداء، وإن تقدَّمه كفر. وإن خُتم له بالكفر دل على أنه في الأزل كان من الأشقياء وإن تقدَّمه إيمان. وخوف العامة من الخاتمة وخوف الخاصة من السابقة وهو أشدُّ وإن تلازما. هذا ما ذهب إليه الأشاعرة. وذهبت الماتريدية إلى أن السعادة هي الإيمان في الحال والشقاوة هي الكفر كذلك. فالسعيد هو المؤمن في الحال وإذا مات على الكفر انقلب شقيًّا بعد أن كان سعيدًا، والشقي هو الكافر في الحال، وإذا مات على الإيمان انقلب سعيدًا بعد أن كان شقيًّا (التحفة، ص٦-٧). وبالجملة، فالخلاف بين الأشاعرة والماتريدية لفظي؛ لأنهم اختلفوا في المراد من لفظ السعادة ولفظ الشقاوة مع الاتفاق في الأحكام (الإتحاف، ص٢٠٠؛ الخريدة، ص٤٢).
وقد قيل شعرًا:
وجائز في حقه الإيجاد
والترك والإشقاء والإسعاد
ثم السعادة وكذا الشقاء
في أزل فلم يكن إنشاء
دليل كل ما يليق من عمل
لكن الاعتبار بانتهاء الأجل
فإذن السعيد ما في الأزل
ومثله الساقي لم ينتقل
فمن يموت مؤمنًا سعيد
ومن يموت كافرًا طريد
فوز العبد عنده في الأزل
كذا الشقي ثم لم ينتقل
(الوسيلة، ص٣٧؛ الجوهرة، ص١١-١٢)
ويعتمد الأشاعرة على بعض الروايات الأسطورية مثل: «تقول الملائكة يا رب أشقيٌّ أم سعيد؟ فيقضي الله، ويكتب الملك، ثم تُطوى الصحف فلا يُزاد فيها ولا ينقص.» أو مثل: «السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه.» فعلم من كل عاقل أن الله أسعد من شاء وكتبه سعيدًا وأشقى من شاء وكتبه شقيًّا. وقد أسقط النظام عدالة ابن مسعود ونسبه إلى الضلال من أجل هذه الرواية عن النبي (الفِرَق، ص٣١٩؛ الملل، ج١، ص٨٧-٨٨).
٣٣  عند الأشعري: الشقي من مات على الكفر، والسعيد من مات على الإيمان، وعند الماتريدي هو الكافر أو المؤمن. وينبني على هذا الخلاف هل الشقاوة والسعادة يتبدَّلان؟ فقال الأوَّل لا، والثاني نعم. والخلاف لفظي. وأمَّا الإشقاء والإسعاد فلا يتبدَّلان اتفاقًا. أمَّا عند الأشعري فلأنهما الإماتة على الشقاوة أو السعادة، فهما من صفات الأفعال، وهي عنده حادثة لأنها عبارة عن تعلُّق القدرة بالمقدور. وأمَّا عند الماتريدي فلأنهما قديمان كالإحياء والإماتة والخلق والرزق؛ ومِنْ ثَمَّ فالإشقاء والإسعاد لا يتبدلان لقدمهما (شرح الخريدة، ص٤٢-٤٣). السعيد هو من علم الله في الأزل أنه سعيد، وبأنه يموت على الإيمان والإسلام وإن كان يعمل الطاعات طول حياته ويترك المعاصي. فالسعيد هو من مات على الإيمان، والشقي هو من مات على الكفر وباقي علمه لا يتبدل. فالسعيد لا ينتقل من سعادته ولا يتحول عنها. والشقي لا ينتقل من شقاوته ولا يتحول عنها (الأشاعرة)، وعند الماتريدية: السعادة تتبدل بالشقاوة، والشقاوة تتبدل بالسعادة؛ فالسعيد هو المؤمن في دار الدنيا وقد يصير شقيًّا في الآخرة بأن يموت كافرًا. والشقي من كان كافرًا في الدنيا وقد يصير سعيدًا في الآخرة بأن يموت مؤمنًا. فالسعادة والشقاء بحسب ما يظهر للعباد، وأمَّا بالنظر إلى ما في علم الله الذي لا يتبدل فالسعادة المعلومة له لا تتبدل بالشقاوة وبالعكس. الخلاف لفظي … (القول، ص٣٧-٣٨). والسعيد قد يشقى والشقي قد يسعد، والتغير يكون على السعادة والشقاوة دون الإسعاد والإشقاء، وهما من صفات الله، ولا تغير على الله ولا على صفاته النفسية (ص١٣٢؛ شرح التفتازاني، ص١٣٢؛ حاشية الإسفراييني، ص١٣٢).
٣٤  إن تعلقت (الصفات) بالحياة تُسَمَّى إحياءً، وبالموت تُسَمَّى إماتة، أو بالمرزوق تُسَمَّى رزقًا وترزيقًا، وهي المسماة بصفات الأفعال. الإشقاء خلق قدرة الكفر أو خلق الكفر في العبد، ويُسَمَّى الخذلان والإضلال، قيده الأشاعرة بحالة الموت، وأطلقه الماتريدي. الإسعاد خلق قدرة على الطاعة أو خلق الطاعة في العبد ويُسَمَّى بالهداية … علامة السعادة ودليلها الإيمان والعمل الصالح، وعلامة الشقاوة ودليلها الكفر بالله، ومتى وفَّق الله عبده للإيمان والعمل الصالح كان ذلك دليلًا موجبًا سعادته بمقتضى خبره ووعده الصادق الذي لا يخلف. ومتى خذل الله عبدًا حتى أهمل فلم يؤمن أو عاند وكفر كان ذلك دليلًا موجبًا لشقاوته بمقتضى خبره ووعيده الذي لا يُخلَف في حق الكفار.
وقد قيل شعرًا:
ومثل توفيق ذوي السعادة
وخذلان أهل الخسر والشقاوة
(القول، ص٣٧-٣٨)
انظر أيضًا ثانيًا: أفعال الشعور الداخلية، رابعًا: أفعال الشعور في الطبيعة، خامسًا: أفعال الشعور في المجتمع والتاريخ. انظر أيضًا: الفصل الثاني عن العقل الغائي وقانون الاستحقاق.
٣٥  وفي غالبيتها أحاديث قدسية وذلك مثل حديث: «أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب. فقال القلم: ماذا أكتب؟ فقال الله: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.» وفي هذا التحقيق دلالة على ما قاله أهل الحق من أن حقائق الأشياء تابعة (شرح الفقه، ص٣٨). وتستعمل قصة آدم وإبليس ومهاجمة موسى لآدم حتى قال آدم: يا موسى أترى هذا الأمر قد قدر عليَّ أو لم يقدر؟ فقال موسى: بل قدر عليك. فقال له آدم: فكيف يكون فراري من أمر قدر عليَّ؟ قال نبينا فحج آدمُ موسى. وهذا صريح أن جميع الأمور خيرها وشرها بقضاء الله وقدره ومشيئته. وأتاه رجل سأله عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله … إجماع المسلمين من الصحابة على أن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. قال بعض الأنبياء: تريد وأريد ولا يكون إلا ما أريد فإن لم تُسلِّم لما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد! لا يكون في الدارين إلا ما أراد الله. وسُئل بعض السلف بم عرفتَ ربك؟ فقال: بنقص العزائم وفسخ الهمم؛ وذلك أن الواحد مِنَّا يعزم الأمر ويهمُّ به فيجري عليه غير ما عزم عليه وهمَّ به؛ فعلم كل عاقل أن ذلك الفسخ لأن المقدر له غير ما قدَّر لنفسه، والمريد أراد غير ما أراد لنفسه؛ فكان كل ما أراده العبد لنفسه (الإنصاف، ص١٦٠-١٦١). انظر بعض الحجج النقلية في الإرشاد (ص٢٥٢–٢٥٥).
٣٦  إن قلتم إن الواحد مِنَّا يخلق أفعاله من طاعة أو معصية أو إيمان أو كفر فقد شركتم بيننا وبين الله في الخلق، وإنه لا يتم خلقه إلا بخالقنا؛ وذلك لأن الجسم لا يخلو من حركة أو سكون أو كفر أو إيمان أو طاعة أو معصية. فصح أن جميع الذوات مشتركة الخلق بين العبد والرب وأنه لا يتم خلق أحدهما إلا بمخلوق الآخر وهذا شرك (الإنصاف، ص١٤٧). وتُجوِّز المجبرة وقوع فعل من قادرين (المغني، ص٩؛ التوليد، ص٥٧). الإشراك هو الشريك في الألوهية بمعنى استحقاق العبادة (شرح التفتازاني، ص٩٧؛ حاشية الخيالي، ص١٠٢-١٠٣؛ حاشية الإسفراييني، ص١٠٢-١٠٣).
٣٧  يوجه الآمدي الحجج الآتية: (أ) لو لم تكن مقدورات العباد مخلوقة لم يكن إلا لاستحالة مقدور بين قادرَين وهو غير مستقيم. (ب) لو جاز تأثير القدرة الحادثة في الفعل بالإيجاد والاختراع لجاز تأثيرها في إيجاد كل موجود من حيث إن الوجود قضية واحدة. (ج) الباري قادر على مثل جميع الأجناس التي في مقدور العبد. وإذ ذاك فيجب أن يكون قادرًا عليها فإنه لو لم يقدر عليها لم يكن قادرًا على مثلها وهو خلف. وإذا ثبت أنه قادر على أفعال العباد وجب أن تكون مخلوقة له (الغاية، ص٢١٤–٢٢٣).
٣٨  نجد الواحد مِنَّا يفعل ما لا يعلم فعله، ولا يحصره ولا يعده بقدره حتى إن الواحد مِنَّا يريد أن يتكلم صوابًا فيرمي خطأً إلى غير ذلك فيفعل ما لا يعلمه ولا يريده. وأيضًا الواحد مِنَّا إذا خرج إلى المسجد حتى وصل إليه فعند الخالق أن كل خطوة خطاها خلقها وأنشأها. ولو سئل عن عدد كل خطوة خطاها لم يدرِ ما يقول ولا يعلمه ولا يعرفه. فلم يبق إلا أن الخالق لأفعالنا وأكسابنا هو الله الذي يعلمها (الإنصاف، ص١٤٧). لو كان العبد خالقًا لأفعال نفسه لزم أن يكون عالمًا بتفاصيل أفعاله، لكنه أي العبد غير عالم بتفاصيل أفعاله فيلزم ألَّا يكون خالقًا لأفعاله (المسائل، ص٣٧٤). لو أوجد فعله باختياره لكان عالمًا بتفاصيله فيحيط بالسكنات المتخللة للحركة البطيئة ويعرف أحيازها (مطالع، ص١٩٠). قال أبو الهذيل في المكره إذا لم يعرف التعريض والتورية فيما أُكره عليه فله أن يكذب ويكون وزره موضوعًا عنه (الملل، ج١، ص٧٨؛ شرح التفتازاني، ص٩٦؛ حاشية للخيالي، ص٩٦؛ حاشية الإسفراييني، ص٩٦).
٣٩  إشارتنا إلى زينون آتية من إشارة التراث له وليس بالرجوع إلى «التراث الغربي في أصوله اليونانية». كما أن ردنا عليه لا يحيل إلى أية فلسفةٍ غربيةٍ معاصرة بل اعتمادًا على بداهة العقل وشهادة الوجدان.
٤٠  ما علم الله عدمه فهو ممتنع الصدور عن العبد، وما علم الله وجوده فهو واجب الصدور عن العبد ولا مخرج عنهما، وأن يبطل الاختيار (المواقف، ص٣١٥). وأيضًا إن كان معلوم الوقوع وجب وقوعه وإن كان معلوم اللاوقوع امتنع (مطالع، ص١٩١).
٤١  إيمان أبي لهب مأمور به، وهو ممتنع لأنه تعالى أخبر بأنه لا يؤمن، والإيمان تصديق الرسول فيما علم مجيئه فيكون مأمورًا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، ويصدق بأنه لا يصدق، وهو تصديق بما علم في نفسه خلافه ضرورة وأنه محال (المواقف، ص٣١٥).
٤٢  ما أراد الله وجوده وقع قطعًا وما أراد عدمه لم يقع قطعًا (المواقف، ص٣١٥).
٤٣  لو كان فعل العبد خلقه لزم أن يكون وجود ذلك الفعل موقوفًا على إرادته. لكنه غير موقوف على إرادته فلزم أنه غير خالق له. والدليل عليه هو أن واحدًا مِنَّا لا يريد الكفر بل مراد جملة العقلاء أن يكونوا مؤمنين معتقدين موحدين ناجين من عذاب النار واصلين إلى الجنة. فإن لم يرد العبد الكفر الذي هو موجب للتعذيب وقد حصل الكفر علمنا أن فعله ما كان خالقًا بل هو بخلق الله وقدرته (المسائل، ص٣٧٤؛ حاشية الإسفراييني، ص٩٧-٩٨).
٤٤  يرد الإيجي على أبي الحسين البصري قائلًا: والجواب بأن الفرق (بين الأفعال الاختياري والأفعال غير الاختيارية) عائد إلى وجود القدرة وعدمها لا إلى تأثيرها وعدمه، وذلك أنه لا يلزم من دوران الشيء مع غيره وجوب الدوران، ولا يلزم من وجوب الدوران العلية، ولا من العلية الاستقلال بالعلية (المواقف، ص٣١٢).
٤٥  يورد الإيجي هاتين الحجتَين ضد أبي الحسين البصري لإبطال الإرادة بالفعل ارتباطًا ضروريًّا فيقول: ثم يُبطل ما قاله أمران: (أ) من كان قبله بين منكرين لإيجاد العبد فعله ومعترفين به مثبتين له بالدليل، فالموافق والمختلف له اتفقوا على نفي الضرورة، فكيف تنسب إلى كل العقلاء إنكار الضرورة؟ (ب) كل سليم العقل إذا اعتبر حال نفسه علم أن إرادته للشيء لا تتوقف على إرادته لتلك الإرادة، وأنه مع الإرادة الحازمة يحصل المراد وبدونها لا يحصل. ويلزم منها أنه لا إرادة منه ولا حصول الفعل عُقيبها منه، فكيف يدَّعي الضرورة في خلافه؟ (المواقف، ص٣١٣). وقد خالف أبو الحسين قول أصحابه في قولهم: القادر على الضدَّين لا يتوقف فعله لأحدهما على الآخر على مرجِّح، وزعم أن العلم بتوقف ذلك على الداعي ضروري. وزعم أن حصول الفعل عُقيب الداعي واجب. ولزم للاعتراف بهاتين المقدمتَين عدم كون العبد موجبًا لفعله! ثم بالغ في كون العبد موجدًا، وزاد على كل من تقدمه حتى ادعى العلم الضروري بذلك. لا يُقال الاعتراف بتوقف صدور الفعل عن القادر على الداعي ووجوب حصوله عند حصوله لا ينافي القول بأن القدرة الحادثة مؤثرة في وجود الفعل، وإنما ينافي استقلاله بالفاعلية. وهو إنما ادعى العلم الضروري في الأوَّل لا في الثاني لأنَّا نقول إن غرضنا سلب الاستقلال كما هو مذهب الأستاذ إمام الحرمين … لا فرق في العقل بين أن يأمر الله بما يفعله وبما يجب عند فعله ويمتنع عن عدمه؛ فإن المأمور على كلا التقديرَين غير ممكن من الفعل (المواقف، ص٣١٣).
٤٦  من شرط الخالق للشيء أن يكون قادرًا على خلق الشيء وضده. فإن من يقدر على خلق الحياة يقدر على خلق ضدها وهو الموت. وكذلك من يقدر على خلق التفريق في الجسم يقدر على خلق الاجتماع له حتى يعود كما كان جسمًا مؤلَّفًا. ولما وجدنا أحدنا لا يقدر على ذلك صح أنه غير خالق. ولما وجدنا الخالق يقدر على خلق الشيء وضده دلَّ ذلك على أنه هو الخالق لا خالق سواه (الإنصاف، ص١٤٨). أحالت المجبرة في تثبيتها القدرة على أحد الضدَّين ونفيها إياها عن الآخر. وتزعم المجبرة أن الكافر قادر على الكفر الذي هو فيه غير قادر على الإيمان الذي هو تركه (الانتصار، ص١١). فلو كان العبد موجدًا لأفعاله لكان متصرفًا في بدنه ولكان يمنع عن نفسه الموت والأمراض والغضب والغفلة. فلما لم يقدر على المنع علمنا أنه غير متصرف في بدنه. وإذا لم يكن متصرفًا في بدنه لم يكن موجودًا لأفعاله بالنص والمعقول (المسائل، ص٣٧٥). وزعم فريق من المجبرة أن القدرة مقارنة لمقدورها تصلح للضدَّين، وهذا إنما أخذوه عن ابن الراوندي؛ ظنًّا منهم أنه ينجيهم من ارتكاب القول بتكليف ما لا يطاق، ولا خرج عن ذلك أيضًا لأن القدرة إذا كانت مقارنة لمقدورها صالحة للضدين، يجب أن يوجد من الكافر الكفر والإيمان معًا أو يكون تكليفه بالإيمان بما لا يُطاق (شرح الأصول، ص١٩٨).
٤٧  حقيقة والخلق والإحداث هي إخراج الشيء من العدم إلى الوجود. وإذا كان الواحد مِنَّا يقدر أن يخلق حركةً معدومة حتى يخرجها من العدم إلى الوجود وأن يخلق شيئًا زائدًا فيخرجه من العدم إلى الوجود، وأن يخلق له لونًا غير لونه فيخرجه من العدم إلى الوجود؛ أدَّى هذا القول بالتسوية بين قدرة الله وقدرة العباد في أنهم يقدرون على ما يقدر عليه (الإنصاف، ص١٤٨-١٤٩).
٤٨  مذهب الأشاعرة (أهل الحق من أهل الملل وأهل الإسلام) أن الموجد لجميع الكائنات هو الله، فلا موجد ولا خالق إلا هو (التمهيد، ص٥٤)، لا خالق سواه (العضدية، ص٢٤٦). الخالق هو الله ولا خالق سواه، وأن الحوادث كلها كائنة بقدرة الله من غير فرق بين ما يتعلق به من قدرة العبد وبين ما لا يتعلق به. والأدلة النقلية مثل: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ، هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ(الدواني، ص٢٤٦–٢٥٤). والقدرة الحادثة لا تصلح لإحداث الأجسام والألوان والطعوم والروائح وبعض الإدراكات والحياة والموت (التمهيد، ص٥٦). وطريقة أهل السنة في إسناد الكائنات إلى الله خلقًا وإبداعًا طريقان: (أ) الأفعال المحكمة الدالة على علم مخترعها أو الإتقان والإحكام من آثار العلم، وهذا بخلاف قدرة الإنسان وعلمه؛ فالإنسان أقل علمًا وقدرةً، يغلب عليه السهو والغفلة. (ب) استحالة كون القدرة الحادثة صالحة للإيجاد (التمهيد، ص٦٧–٧٣).
٤٩  الفعل عند استواء الدواعي إلى الفعل والترك وإن امتنع عليه حال الفعل كان مجبورًا لا مختارًا وإن لم يمتنع احتاج فعله إلى مرجح موجب لا يكون من العبد دفعًا للتسلسل ويلزم الجبر (مطالع، ص١٨٩-١٩٠)؛ لذلك خالف أبو الحسن البصري أصحابه في قولهم: القادر على الضدَّين لا يتوقف فعله لأحدهما على الآخر على مرجح. وزعم أن العلم يتوقف ذلك على الداعي ضروري، وزعم أن حصول الفعل عُقيب الداعي واجب (المواقف، ص٣١٣). الأمر مشترك؛ إذ المأمور عند استواء الدواعي ومرجوحية داعية وعند رجحانه واجب (مطالع، ص١٩١؛ الإنصاف، ص١٥٣-١٥٤).
٥٠  بيان ما يلزمهم على القول بالخلاف (الجبر) (المحبط، ص٣٦٦–٣٧٨). وهي أيضًا ما يلزم من الكسب (الشرح، ص٣٣٢–٣٣٦). وقد قيل شعرًا:
لو لم يكن متصفًا بها لزم
حدوثه وهو محال فاستقم
لأنه يفضي إلى التسلسل
والدور هو المستحيل المنجلي
(الخريدة، ص٢٣–٢٧)
٥١  العبد إذا أراد إيجاد فعل وأراد الله عدم إيجاد ذلك بعينه، فإن حصل مراد العبد دون مراد الرب لزم أن يكون العبد قادرًا كاملًا والباري ضعيفًا عاجزًا. وهذا لا يقول به عاقل لاستحالته (المسائل، ص٣٧٤). لو اختار العبد وناقض مراده مراد الله لزم جمعهما أو رفعهما أو الترجيح بلا مرجح فإن قدرته تعالى وإن كانت أعم لكنَّا بالنسبة إلى هذا المقدور المعين على سواء (مطالع، ص١٩٠).
٥٢  انظر مقدمتنا لإسبينوزا «رسالة في اللاهوت والسياسة» (ص٦٥–٦٩)، انظر أيضًا الفصل التاسع من هذا المصنف عن النبوة.
٥٣  كما أنه إذا عرف تعلق كونه متحركًا بالحركة لوجب كونه متحركًا عندها، ووجوب زواله عند زواله؛ فواجب إذن تعليق مدة الصفة بالحركة، فهكذا الحال في أفعالنا (المحيط، ص٣٤٠-٣٤١).
٥٤  ومتى قيل إن الله هو الذي يحدثه والحال ما قلناه فيجب أن يزول تعلقه بنا كما يزول تعلق الألوان بنا من جهة الفعلية، وإنما يتعلق من حيث الحلول (المحيط، ص٣٤١).
٥٥  إضافة المجبرة المقبحات إلى الله (الشرح، ص٧٨٧). الله فاعل القبائح إن كان مسئولًا عنها. فإن قيل ذلك قبيح والله غير موصوف بالقدرة على التفرد بالقبيح قيل: هو قادر على أن يجعله من كسب العباد (الشرح، ص٣٣٢–٣٣٤). على أن أفعال الجوارح لو كانت فعل الله وفي جملتها الكلام والكذب لوجب كونه كاذبًا بكل كذب يقع في العالم (المغني، ج٩؛ التوليد، ص١٨). ويكفي المجبرة إضافة القبائح إلى الله (المغني، ج٩؛ التوليد، ص١٨؛ شرح التفتازاني، ص١٠٣؛ حاشية الإسفراييني، ص١٠٣).
٥٦  يقتضي أن يكون الله فاعلًا للإيمان والكفر (المحصل، ص١٤٤).
٥٧  المجبرة خصماء الله لأنهم يحتجون عليه بالقدر (الشرح، ص٧٧٤).
٥٨  يقول أبو الهذيل ويؤيده الرازي: أُنزل الله القرآن ليكون حجة على الكافرين لا لهم، ولو كان المراد من إثبات الجبر وقوع أفعال العباد وبقضاء الله لقالت العرب للنبي كيف تأمرنا بالإيمان وقد طبع الله على قلوبنا؟ وكيف تنهانا عن الكفر وقد خلقه الله فينا؟ وكان ذلك من أقوى القوادح في نبوَّته (المحصل، ص١٤٤). لولا استقلال العبد بالفعل لم يبقَ للبعثة فائدة (المواقف، ص٣١٤). ولم تعد هناك إمكانية لإثبات النبوة (الشرح، ص٧٧٨). ففيمَ بعثة الأنبياء، بطلان الشرائع، جواز بعثة رسولٍ كذاب، بطلان حجة الرسل على الكفار، التسوية بين الرسول وإبليس (الشرح، ص٣٣٣–٣٣٥). ولو جوَّزنا ذلك عليه لم يوفق بشيء من كلامه وبشيء من الأدلة (المغني، ج٩، التوليد، ص١٨).
٥٩  نكاح البنات والأمهات بقضاء الله وقدره (الشرح، ص٧٣؛ الاقتصاد، ص٤٧).
٦٠  التكليف واقع بمعرفة الله. فإن كان في ذلك في حال حصول المعرفة فهو تكليف بتحصيل الحاصل وأنه محال. وإن كان في حال عدمهم فغير العارف بالمكلف وصفاته المحتاج إليها في صحة التكليف منه غافل عن التكليف، وتكليف الغافل بالمحال. لولا استقلال العبد بالفعل لبطل التكليف والتأديب. وأمَّا التكليف والتأديب والبعثة والدعوة فإنها تكون دواعي إلى الفعل؛ فيخلق الله الفعل عُقيبها عادةً. وباعتبار ذلك يصير الفعل طاعةً ومعصيةً ويصير علامة للثواب والعقاب (المواقف، ص٣١٥). عدم صحة الاحتجاج بالقضاء والقدر لنفي التكليف، وصحة التكليف مع القضاء والقدر (التحقيق، ص١٣١–١٣٣).
٦١  والجبر مذهبٌ معقول إلا أنه يرفع كل ما تقرر في العقول من الأمر والنهي (المحيط، ص٤٠٨). قبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن قيل: الاستدلال بحسن المدح والذم والأمر والنهي على أنها محدثة لتصرفاتنا فإننا استدللنا بفرع الشيء على أصله لأنَّا ما لم نعلم أن أحدنا محدث لتصرفه لم نعلم حسن مدحه وذمه وأمره ونهيه. قيل: نعم حسن الأمر والنهي والمدح والذم على الجملة ضرورة وإن لم نعلم كونه محدثًا على التفصيل … (قبح الجهاد. الشرح، ص٣٣٥-٣٣٦).
٦٢  جواز تكليف ما لا يُطاق. الشرح، ص٧٧٣، ص٣٣٥؛ الاختيار الموجب تكليف بما لا يُطاق، الاختيار الضروري أو على البدل ليس اختيارًا (الشرح، ص٣٩٨–٤٠٠؛ الفصل، ص١٠٠-١٠١).
٦٣  الإبانة، ص٥٧.
٦٤  لولا استقلال العبد بالفعل لارتفع المدح والذم والثواب والعقاب. المدح والذم باعتبار المحلية لا باعتبار الفاعلية كما يمدح الشيء ويذم بحسنه وقبحه وسلامته وعاهته (المواقف، ص٣١٤). منع استحقاق المدح والذم ومنع التفرقة بين المحسن والمسيء (الشرح، ص٣٣٢–٣٣٤؛ الإنصاف، ص١٥٥-١٥٦).
٦٥  (الاقتصاد، ص٤٧؛ التمهيد، ص٧٣–٧٩؛ الدواني، ص٢٤٦–٢٥٤؛ شرح التفتازاني، ص١٠٠). أمَّا الثواب والعقاب فكسائر العاديات. وكما لا يصح أن يُقال له خلق الله الاحتراق عقيب مسيس النار ولم لم يحصل ابتداءً فكذا هنا (المواقف، ص٣١٥). وزعم جهم أنه تعالى جعل هذه الأفعال (التي يفعلها الله على الحقيقة والإنسان على المجاز) علامة الثواب، وجعل بعضها علامة العقاب، حتى أجاز أن يجعل العلامة الدالة على الثواب والكفر والعلامة الدالة على العقاب الإيمان، وحتى يجوز أن يجعل العلامة في ذلك الأمراض والمصائب والألوان (المحيط، ص٤٠٧-٤٠٨).
٦٦  مزاج العالم عند المجوس واحد، حسن من النور، وقبيح من الظلمة، والمجبرة تثبت الكفر واحدًا، حسن من الله، وقبيح مِنَّا (الشرح، ص٧٣).
٦٧  الاختيار الذي فعل الله ومنفي عن سواه هو الاختيار الذي أضافه إلى خلقه ووصفهم به لأن الاختيار الذي توحد الله به هو أن يفعل ما يشاء كيف شاء وإذا شاء، وليست هذه صفة شيء من خلقه. وأمَّا الاختيار الذي أضافه الله إلى خلقه فهو إمَّا خلق فيهم الميل إلى شيء ما والإيثار له على غيره فقط … والفرق بين الفعل الواقع من الله والفعل الواقع مِنَّا هو أن الله اخترعه وجعله جسمًا أو عرضًا أو حركةً أو سكونًا أو معرفةً أو إرادةً أو كراهيةً. وفعل الله كل ذلك فينا بغير معاناة منه. وفعل تعالى لغير علة. وأمَّا نحن فإنما كان فعلًا لنا لأنه خلقه فينا وخلق اختيارنا له وأظهره فينا محمولًا لاكتساب منفعة أو لدفع مضرة ولم نخترعه نحن (الفصل، ج٣، ص٢٠-٢١).
٦٨  بين الصحيح الجوارح وبين من لا صحة بجوارحه فرقٌ لائح لجوارحه؛ لأن الصحيح الجوارح بفعل القيام والقعاد وسائر الحركات مختارًا لها دون مانع، والذي لا صحة لجوارحه لو رام بذلك جهده لم يفعله أصلًا (الفصل، ج٣، ص١٩).
٦٩  الشرح، ص٣٩٤-٣٩٥.
٧٠  ومع ذلك فإن الله تعالى لا يُسأل عما يفعل (مطالع، ص١٩١).
٧١  سدَّت المجبرة على أنفسها معرفة الله (الشرح، ص٧٧٨). إن المجبرة لا يمكنها أن تعرف تعلق الحوادث بالقديم ولا يمكنهم أيضًا معرفة المحدث للقديم (المغني، ج٩؛ التوليد، ص٢٤).
٧٢  المجبرة يشهدون الزور لإبليس ويجعلونه سبب الغواية (الشرح، ص٧٧٤).
٧٣  عند أبي الهذيل: أهل الآخرة مضطرون إلى ما يكون منهم، وأهل الجنة مضطرون إلى أكلهم وشربهم وجماعهم، وأهل النار مضطرون إلى أقوالهم، وليس لأحد في الآخرة من الخلق قدرة على اكتساب فعل ولا على اكتساب قول. والله خالق أقوالهم وحركاتهم وسائر ما يوصفون به (الفِرَق، ص١٢٤)؛ لذلك قيل عن أبي الهذيل: قدري الأولى جبري الآخرة، فإن مذهبه في حركات أهل الخُلدَين في الآخرة فإنها كلها ضرورية لا قدرة للعباد عليها، وكلها مخلوقة للباري؛ إذ لو كانت مكتسبة للعباد لكانوا مكلفين بها (الملل، ج١، ص٧٦).
٧٤  يدافع الخياط عن أبي الهذيل قائلًا: الآخرة دار جزاء وليست بدار تكليف؛ فلو كان أهل الآخرة مكتسبين لأعمالهم لكانوا مكلَّفين، ولو وقع ثوابهم وعقابهم في دار سواها (الفِرَق، ص١٢٥). وردًّا على أبي الهذيل وجبريته في الآخرة يقول أهل السنة: وما أنكرت عليهم من أنهم يكونون في الآخرة منهيين عن المعاصي ومعصومين منها كما قال أهل السنة مع أكثر الشيعة إن الأنبياء كانوا في الدنيا منهيين عن المعاصي ومعصومين عنها. وكذلك الملائكة منتهون عن المعاصي ومعصومون منها (الفِرَق، ص١٢٥).
٧٥  الجبر مذهبٌ معقول إلا أنه يرفع وجوب وقوع تصرفنا بحسب أحوالنا ودواعينا (المحيط، ص٤٨). القضاء على الدعاوى والمقاصد والاستحقاق (الشرح، ص٧٧٩؛ الإنصاف، ص١٥٣-١٥٤).
٧٦  القادر على الخير لا يقدر على خلافه، بل يكون مطبوعًا عليه، والقادر على الإيمان لا يقدر على الكفر بل يكون محمولًا عليه (الشرح، ص٧٧٤).
٧٧  المجبرة يجعلون المتولدات من خلق الله بإيجاب المحل، بل أكثر أفعال العباد متولدة (المحيط، ص٣٨٠، ص٣٨٨). فأمَّا المجبرة فإنهم يثبتون المتولِّدات كلها من فعل الله ويمتنعون من أن يفعل الإنسان إلا في بعضه إلا ما حُكي عن ضرار وحفص الفرد أن ما تولد من فعله يمكنه الامتناع منه متى أراد، فهو فعله كالريح وما أشبهه دون سواه (المغني، ج٩؛ التوليد، ص١٣).
٧٨  يجب على المكلف أن يؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره، بمعنى أنه يُصدِّق ويُذعِن بأن كل كائن في الماضي والحال والاستقبال إنما هو بقضاء الله وقدره (القول، ص٤٤-٤٥؛ الأمير، ص١٠٣-١٠٤). لو كان الكفر بقضاء الله لوجب الرضا به لأن الرضا بالقضاء واجب، واللازم باطل لأن الرضا بالكفر كفر (شرح التفتازاني، ص٩٨؛ حاشية الخيالي، ص٩٨-٩٩؛ الإسفراييني، ص٩٨).
٧٩  نحن نطلق الرضا بقضاء الله وقدره على الإطلاق، بمعنى أنه لا يعترض على حكمه السابق وإرادته الأزلية، ولا يتقدم بين يديه بالاعتراض، بل نسلم لما أراد فينا وفي غيرنا، ولا نعترض بما يفعل (الإنصاف، ص١٦٦-١٦٧). كل الكائنات مقضية مقدرة له وعدم الاعتراض على شيء من ذلك (القول، ص٤٤-٤٥).
٨٠  الذين يقولون بالكسب طوائفُ كثيرة: أهل السنة، المريسي، ابن عون، النجارية، الأشعرية، الجهمية، طوائف من الخوارج، والمرجئة، والشيعة، ومن المعتزلة: ضرار بن عمرو، وأبو يحيى حفص الفرد. يقولون جميعًا: جميع أفعال العباد مخلوقة، خلقها الله في الفاعلين بها (الفصل، ج٣، ص٤١). والمصنفون من المقالات عدوا النجارية والضرارية من الجبرية، ونحن سمعنا إقرارهم على أصحابهم من النجارية والضرارية، فعددناهم من الجبرية (الملل، ج١، ص١٢٧).
٨١  ويُقال شعرًا في العقائد المتأخرة:
ولنا الجزاء للعبيد
لكسبهم في المذهب السديد
فلا تكن مفرِّطًا أو مفْرطًا
واتبع بين ذلك سبيلًا وسطًا
(الوسيلة، ص٣٤-٣٥)
وعندنا العبد كسب كلفا
به ولكن لم يؤثر فاعرفا
وليس مجبورًا ولا اختيارًا
وليس كل يفعل اختيارًا
(الجوهرة، ص١١-١٢)
انظر أيضًا التحفة (ج٢، ص٨–١٠)؛ الإتحاف (ص١٠١-١٠٢).
٨٢  عند الأشعري: كل ما وُصف بالقدرة على أن يخلقه كسبًا لعباده فهو قادر أن يضطرهم إليه، وجائز أن يضطرهم الله إلى الجور (مقالات، ج٢، ص٢٠٧).
٨٣  الله خالق كل مخلوق، سواء من أكساب العباد أو من غير أكسابهم (الأصول، ص١٣٦). وجب إذا أقدرنا الله على حركة الاكتساب أن يكون هو الخالق لها فينا كسبًا لنا؛ لأن ما قدر عليه أن يفعله ولم يفعله فينا كسبًا فقد ترك أن يفعله فينا كسبًا. وإذا ترك أن يكون كسبًا لنا استحال أن نكون له مكتسبين. فدل على ما قلنا إنه لا نكتسبه إلا وقد خلقه الله لنا كسبًا (اللمع، ص٧٨). اعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة أن الله هو الخالق وحده، لا يجوز أن يكون خالق سواه، فإن جميع الموجودات من أشخاص العباد وأفعالهم وحركات الحيوانات قليلها وكثيرها حسنها وقبحها خلق له تعالى، لا خالق غيره. فهي منه خلق وللعباد كسب (الإنصاف، ص١٤٤). والمعتزلة يسمون من لم يثبت للقدرة الحادثة في الإبداع والإحداث استقلالًا جبريًّا (الملل، ج١، ص١٢٦، ١٢٧). وقد قيل شعرًا:
فهو تعالى خالق كل عمل
خيرًا وشرًّا فاجتنب أهل الزلل
(الوسيلة، ص٣٨٠)
٨٤  من أبدع هذه اللفظة ما أراد الله بإطلاقها، وإنما لبَّس على قوم من العامة فأوهمهم أنه مخالف لجهم. وإنما اجترأ بهذه اللفظة فقط ولا نفي التحقيق. يعود المذهبان إلى شيء واحد لأنهم يوافقون جهمًا أو أن التصرف يحدثه الله بجميع أوصافه (المحيط، ص٤٠٩).
٨٥  الكسب اسم بلا مسمى. العبد إذا اختار الطاعة حصلت، وإذا اختار المعصية حصلت، وحصول ذلك الاختيار أولى به. والأول قول المعتزلة والثاني لا يدفع الإلزام؛ كونه طاعة ومعصية صفات لذات الفعل بقدرة العبد وذات الفعل تحصل بقدرة الله، وهذا اعتراف بكون القدرة الحادثة مؤثرة، وهو قول المعتزلة (المحصل، ص١٤٤).
٨٦  الكسب أن تتعلق القدرة به على وجه ما وإن لم تتعلق من جميع الوجوه، وهو ما سماه القاضي صفةً وحالًا. ولم يُثبت الأشعري للقدرة الحادثة أثرًا أصلًا غير اعتقاد العبد بتيسير الفعل عند سلامة الآلات وحدوث الاستطاعة والكل من الله. وقد أثبت إمام الحرمين للقدرة الحادثة أثرًا هو الوجود، غير أنه لم يُثبت للعبد استقلالًا بالوجود ما لم يستند إلى سببٍ آخر، ثم تتسلسل الأسباب في سلسلة الترقي إلى الباري وهو الخالق المبدع المستقل إبداعه من غير احتياج إلى سبب. وسلك مسلك الفلاسفة حيث قالوا بتسلسل الأسباب وتأثير الوسائط الأعلى في القوابل الأدنى. وإنما حمله على تقرير ذلك الاحتراز عن ركاكة الجبر، والجبر على تسلسل الأسباب ألزم؛ إذ كل مادة تستعد لصورةٍ خاصة، والصور كلها فائضة على المواد من واهب الصور جبرًا، حتى الاختيار على المختارين جبر، والقدرة على القادرين جبر (التمهيد، ص٧٧–٧٩). نُقل عن القاضي أنه لم يُثبت للقدرة الحادثة أثرًا في الفعل، بل أثبت لها أثرًا وصفةً زائدةً على الفعل. وقال تارةً لا أثر للقدرة القديمة فيه أصلًا، وتارةً بالتأثير وأثبت مخلوقًا بين خالقَين. ونُقل عن الإسفراييني أنه قال ما قاله القاضي في القول الثاني في الأثر الزائد. وذهب الجويني في بعض تصانيفه إلى تأثير القدرة الحادثة في إيجاد الفعل ولم يجعل للقدرة القديمة فيه تأثيرًا إلا بواسطة إيجاد القدرة الحادثة. وذهب أهل الحق إلى أن أفعال العباد مُضافة إليهم بالاكتساب وإلى الله بالخلق والاختراع وأنه لا أثر للقدرة الحادثة فيه أصلًا (الغاية، ص٢٠٦-٢٠٧).
٨٧  الجبرية المتوسطة أن يثبت للعبد قدرة غير مؤثرة. فأمَّا من أثبت للقدرة الحادثة أثرًا ما في الفعل وسمى ذلك كسبًا فليس بجبري (الملل، ج١، ص١٢٦).
٨٨  العبد إمَّا أن يكون مستقلًّا بإدخال شيء في الوجود، وإمَّا ألا يكون، فهذا نفي وإثبات ولا واسطة بينهما. فإن كان الأوَّل فقد سلمتم قول المعتزلة، وإن كان الثاني كان العبد مضطرًّا؛ لأن الله إذا خلقه في العبد حصل لا محالة، وإذا لم يخلقه فقد استحال حصوله وكان العبد مضطرًّا (المحيط، ص٣٤٧).
٨٩  ما لم تكن الصفة معقولة معروفة فلا تصح إضافتها، فأمَّا أن تعرفها بالإضافة فلا. وعند ضرار بن عمر: الأفعال متعلقة بنا ومحتاجة إلينا، ولكن جهة الحاجة إنما هو الكسب. وقد شارك جهمًا في المذهب وزاد عليه في الإحالة؛ لأن ما ذكره جهم على فساده معقول، وما ذكره هو غير معقول أصلًا (الشرح، ص٣٦٣). زعمت القدرية أن الكسب الذي يقول به أهل السنة غير معقول لهم، وقالوا: لا وجه لنسبة الفعل إلى مكتسب غير محدث له (الأصول، ص١٣٣). الكسب غير معقول (الشرح، ص٣٤٣).
٩٠  قول جهم معقول لأنه لم يعلق هذا الفعل بالواحد مِنَّا على وجه الحقيقة، بل جعل العبد فاعلًا له على وجه المجاز. وزعم أنه تعالى جعل هذه الأفعال علامة الثواب وجعل بعضها علامة العقاب حتى أجاز أن يجعل العلامة الدالة على الثواب الكفر والعلامة الدالة على العقاب الإيمان، وحتى يجوز أن يجعل العلامة في ذلك الأمراض والمصائب والألوان. وهذا مذهب معقول إلا أن يرفع كل ما تقرر في العقول من الأمر والنهي والحمد والذم وغيرهما من الأحكام ويرفع وجوب وقوع تصرفنا بحسب أحوالنا ودواعينا. ولما رأت المجبرة تهافت العقول جعلوا التصرف مطلقًا بنا من جهة، ومن عند الله بجهةٍ أخرى، فقالوا: هو كسب ما خلق الله. ثم افترقوا، منهم من يقول جميع الأفعال تجري على طريقةٍ واحدة في كونها كسبًا متولدًا أو مباشرًا (ضرار)، ثم حدث قوم جعلوا حقيقة الكسب ما لا يتعدى محل القدرة؛ فخصصوا بها المباشر دون المتولد، ولا يصفون العبد فاعلًا على الحقيقة بل مجازًا (المحيط، ص٤٠٧-٤٠٨).
٩١  مريد بها (إرادته) لكل حادث في سمائه وأرضه مما يتفرد سبحانه بالقدرة على إيجاده ومما يجعله منه كسبًا لعباده من خير وشر ونفع وضر وهدًى وضلال وطاعة وعصيان، لا يخرج حادث عن مشيئته ولا يكون إلا بقضائه وإرادته (الإنصاف، ص٦). ومنهم من ذهب إلى أن لها بنا تعلقًا من جهة الكسب وإن كانت مخلوقة فينا من جهة الله (الشرح، ص٣٢٤). وعند فريق من الزيدية: الأفعال غير مخلوقة ولا محدثة ولا مخترعة، وإنما هي كسب للعباد أحدثوها واخترعوها وأبدعوها وفعلوها (مقالات، ج١، ص١٣٩).
٩٢  تقول المعلومية (العجاردة الخوارج): إن أفعال العباد ليست مخلوقة ولا يكون إلا ما شاء الله (مقالات، ج١، ص١٦٦). الله تعالى خالق لأفعال العباد كلها من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان، وهي كلها بإرادته ومشيئته وحكمه وقضيته وتقديره، وللعباد أفعالٌ اعتبارية يُثابون بها ويُعاقَبون عليها. والحسن منها برضاء الله والقبيح منها برضائه (النسفي، ص٩٦–١٠٣).
٩٣  قال جُلُّ الإباضية: يجوز أن يقع حكمان مختلفان في الشيء الواحد من وجهَين. فمن ذلك أن رجلًا لو دخل زرعًا بغير إذن صاحبه لكان مبتغاه الخروج منه لأن فيه فساد الزرع، وقد أمر به لأنه ليس له (مقالات، ج١، ص١٧٤).
٩٤  القول بالجبر مُحالٌ باطل، والقول بالاختراع اقتحامٌ هائل. وإنما الحق إثبات القدرتَين على فعلٍ واحد، والقول بمقدرٍ منسوب إلى قادرين، فلا يبقى إلا استبعاد توارد القدرتَين على فعلٍ واحد. وهذا إنما يبعد إذا كان تعلق القدرتَين على وجهٍ واحد. فإن اختلفت القدرتان واختلف وجه تعلقهما فتوارد التعلقين على شيءٍ واحد غير محال (الاقتصاد، ص٤٩–٥١). مقدورة بقدرة الله اختراعًا وبقدرة العبد على وجهٍ آخر من التعلق اكتسابًا. التعلق بمجموع القدرتين عند أبي إسحاق (القاضي) (الدواني، ص٢٤٦–٢٥٤؛ الاقتصاد، ص٤٧–٤٩).
٩٥  لا معني لكون العبد فاعلًا بالاختيار إلا كونه موجدًا لأفعاله بالقصد والإرادة. وقد سبق أن الله مستقلٌّ بخلق الأفعال وإيجادها. ومعلوم أن المقدور لا يدخل تحت قدرتَين مستقلتَين (شرح التفتازاني، ص١٠١-١٠٢). يقول الشحام: يجوز مقدورٌ واحد لقادرَين، يصح أن يحدث كل واحد منهما على البدل (الفِرَق، ص١٧٨). ويقول إن الله يقدر على ما أقدَرَ عليه عباده، وأن حركةً واحدةً مقدورة تكون مقدورة لقادرَين، لله وللإنسان. فإن فعلها القديم كان اضطرارًا، وإن فعلها المحدث كان اكتسابًا، وإن كل واحد منهما يوصَف بالقدرة على أن يفعل وحده لا على أن القديم يوصَف بالقدرة على أن تكون الحركة فعلًا له وللإنسان، ولا يوصف الإنسان بالقدرة على أن تكون الحركة فعلًا وللقديم، ولكن يوصف الباري بأنه قادر بأن يخلقها، ويوصَف الإنسان بأنه قادر أن يكتسبها (مقالات، ج١، ص٢٥١).
٩٦  قال جل الإباضية: يجوز أن يقع حكمان مختلفان في الشيء الواحد من وجهَين (مقالات، ج١، ص١٧٤).
٩٧  في حدوث الكائنات بأسرها بإحداث له سبحانه وفيها تحقيق الكسب والفَرق بينه وبين الإيجاد والخلق (التمهيد، ص٥٤). فإن قيل قد قام البرهان على وجوب استقلاله تعالى بالأفعال والمقدور واحد لا يدخل تحت قدرتَين كما يستلزمه إثباتكم للعبد كسبًا؛ أجيب بأنه لما ثبت بالبرهان أن الخالق هو الله بالضرورة وأن لقدرة العبد مدخلًا في بعض الأفعال كحركة البطش دون البعض كحركة الارتعاش، احتججنا في التخلص من هذا المضيق بأن الله خالق للفعل، لكن للعبد في الاختياري منه كسب والمقدور الواحد يدخل تحت قدرتَين بجهتَين مختلفتَين، فيدخل تحت قدرة الله بجهة الخلق، وتحت قدرة العبد بجهة الكسب. العبد المراد به كل مخلوق يصدر عنه فعل اختياري (التحفة، ص٨؛ الإتحاف، ص١٠١).
٩٨  وهذا الفريق صرح بأن العبد مجبور في الباطن مختار في الظاهر؛ فهو عنده مجبور في صورة مختار. ولا ينفي أن هذا المذهب مذهب الجبرية، ولا ينفع التستر بقالب الاختيار (القول، ص٤٠).
٩٩  فإن قالوا: لو كان الكسب فعلًا لله وللعبد لاشتركا فيه؛ قيل: ليس حدوث منهما حتى يكونا شريكَين في إحداثه، وإنما الله خالق الكسب والعبد مكتسب له، كما أن الله خالق حركة العبد والعبد متحرك. ولا يجب الشركة بمثل هذا، وإنما يتصور الشركة صانعَين يكون صنع واحد منهما غير صنع صاحبه في الجنس … ومن قال من القدرية إنه صنعه في يديه غير صنع الله فهو الذي ادعى المشاركة (أصول، ص١٣٧).
١٠٠  هذا هو موقف فريق من الرافضة (مقالات، ج١، ص١٣٩). فريق من الرافضة يزعمون أنه لا جبر كما قال الجهمي، ولا تفويض كما قالت المعتزلة؛ لأن الرواية عن الأئمة جاءت بذلك. ولم يتكلفوا أن يقولوا في أعمال العباد هل هي مخلوقة أم لا (مقالات، ج١، ص١١٠).
١٠١  عند الباقرية (الشيعة) أن الله أراد بنا شيئًا وأراد مِنَّا أشياء. فما أراده بنا طواه عَنَّا، وما أراده مِنَّا أظهره لنا، فما بالنا نشتغل بما أراد بنا عما أراده عَنَّا. وهذا قول في القدر هو أمر بين لا جبر ولا تفويض (الملل، ج٢، ص١٠٢).
١٠٢  أمَّا المبحث فيما وراء ذلك من التوفيق بين ما قام عليه الدليل من إحاطة علم الله وإرادته وبين ما تشهد به البداهة من عمل المختار فيما وقع عليه الاختيار؛ فهو من طلب سر القدر الذي نُهينا عن الخوض فيه، واشتغلنا بما لا تكاد تصل العقول إليه. وقد خاض فيه المغالون من كل ملة خصوصًا من المسيحيين والمسلمين، ثم لم يزالوا بعد طول الجدال وقوفًا حيث ابتدءوا. وغاية ما فعلوا أن فرقوا وشتتوا. فمنهم القائل بسلطة العبد على جميع أفعاله واستقلاله المطلق، وهو غرور ظاهر. ومنهم من قال بالجبر وصرح به، ومنهم من قاله به وتبرأ من اسمه وهو هدم للشريعة ومحو للتكاليف وإبطال لحكم العقل البديهي وهو عماد الإيمان (الرسالة، ص٦١). وأمَّا التطلع إلى ما هو أغمض من ذلك فليس من مقتضى الإيمان كما بَيَّنَّا، وإنما هو من شره العقول في طلب رفع الأستار عن الأسرار، ولا أنكر أن قومًا قد وصلوا بقوة العلم والمثابرة على مجاهدة المدارك إلى ما اطمأنت به نفوسهم وتقشَّعت به حريتهم ولكن قليل ما هم. على أن ذلك نور يقذفه الله في قلب من يشاء، ويخص به أهل الولاية والصفاء. وكثر ما ضل قوم وأضلوا. وكان لمقالاتهم أسوأ الأثر فيما عليه حال الأمة اليوم (الرسالة، ص٦٣). ولو شئت لزدت في بيان ذلك ورجوت أنه لا يبعد عن عقلٍ ألِفَ النظر الصحيح ولم تفسد فطرته بالممحاكات اللفظية، ولكن يمنعني عن الإطالة فيه عدم الحاجة إليه في صحة الإيمان، وتقاصر عقول العامة عن إدراك الأمر في ذاته مهما بالغ المعبر عنه في الإيضاح عنه، واعتياد قلوب الجمهور من الخاصة بمحض التقليد فيما يعتقدون الأمر، ثم يطلبون الدليل عليه ولا يريدونه إلا موافقًا لما يعتقدون. فإن جاءهم بما يخالف ما اعتقدوا نبذوه ولجُّوا في مقاومته وإن أدى ذلك إلى جحد العقول برمَّتها، فأكثرهم يعتقد فيستدلُّ، وقلَّما نجد بينهم من يستدل ليعتقد. فإن صاح بهم صائح من أعماق سرائرهم: ويل للخابط، ذلك قلب لسُنَّة الله في خلقه وتحريف لهديه في شرعه؛ عرتهم هزة من الجزع ثم عادوا إلى السكون محتجِّين بأن هذا هو المألوف، وما أقمنا إلا على معروف (الرسالة، ص٦٥).
١٠٣  اعلم أن الكسب كل فعل يُستجلَب به نفع أو يُستدفَع به ضرر. أمَّا الكسب الاصطلاحي على ما لا يعقل فغير ممكن؛ لأن الشيء يفعل معناه ثم إن لم يوجد له اسم في اللغة يصطلح عليه. فأمَّا والمعنى لم يثبت بعدُ ولم يفعل فلا وجه للاصطلاح عليه (الشرح، ص٣٦٤، ص٣٧١). لو كان معقولًا كما عقله أهل اللغة وعبروا عنه أن يفعله غيرهم من أرباب اللغات وأن يضعوا له عبارة تنبئ عن معناه لأنه لا يجوز في معنًى عقلوه أن يخلو عن لفظة تُنبئ عنه. فلما لم يوجد في شيء من اللغات ما يفيد هذه الفائدة البتة دلَّ على أنه غير معقول (الشرح، ص٣٦٦). لو كان معقولًا لعقله العوام والخواص جميعًا، ولوضعوا له عبارة تنبئ عنه لشدة الحاجة إليه (الشرح، ص٣٦٦).
١٠٤  علقوا الأحكام بشيء لا يُفعل سمَّوه كسبًا مثل المجوس (المحيط، ص٤٠٩). عقلونا معنى الكسب وخبرونا عنه. فإن اشتغلوا بالتحديد قلنا: الشيء يعقل أوَّلًا ثم يحدد لأن التحديد ليس إلا تفصيل لفظ مشكل بلفظٍ واضح، فكيف توصلتم إلى معناه بطريق التحديد؟ (الشرح، ص٣٦٦). لو كان معقولًا لكان يجب أن يعقله، فخالفوا المجبرة في ذلك من الزيدية والمعتزلة والخوارج والإمامية. والمعلوم أنهم لا يفعلونه، فلولا أنه غير معقول في نفسه وإلا لكان يجب أن يفعله هؤلاء، فإن دواعيهم متوافرة وحرصهم شديد في البحث عن هذا المعنى. فلما لم يوجد في واحد من هذه الطوائف، على اختلاف مذاهبهم وتنافي ديارهم وتباعد أوطانهم وطول مجادلتهم في هذه المسألة؛ من ادَّعى أنه عقل هذا المعنى أو ظنه أو توهَّمه دل على أن ذلك مما لا يمكن اعتقاده والإخبار عنه البتة. فلو قالوا إنهم عقلوا هذا المعنى واعتقدوه غير أنهم لعجزهم عن الكلم عليه وإبطاله كتموه وجحدوه وادعوا أننا لا نهتدي إليه ولا نعقله. قلنا: هذه الطريقة إنما تجوز على العدد اليسير بطريق التواطؤ، أمَّا على العدد الكثير والجمِّ الغفير فإن ذلك مما لا يتصور خاصته. وبعض هؤلاء المخبرين من الشرق وبعضهم من الغرب (الشرح، ص٣٦٥-٣٦٦).
١٠٥  لا يصير الشيء معقولًا بالإضافة، بل ينبغي أن يكون في نفسه معقولًا ثم يكسب بالإضافة التخصيص (المحيط، ص٤٠٨).
١٠٦  قال الحكماء وإمام الحرمين بقدرة يخلقها الله في العبد (المواقف، ص٣١٢). وقال إمام الحرمين وأبو الحسين والحكماء إنها واقعة بقدرة خلقها الله في العبد (المطالع، ص١٨٩).
١٠٧  قال القاضي: على أن تعلق قدرة الله بأصل الفعل وقدرة العبد بكونه طاعة ومعصية (المواقف، ص٣١٣). وقال كونها طاعة ومعصية بقدرة العبد (المطالع، ص١٨٩).
١٠٨  الكسب هو ما حله مع القدرة عليه. وينقد القاضي الحد كالآتي: (أ) الفعل لا يحلُّ نفس الفاعل وإنما يحل بعضه. (ب) اللجوء إلى القدرة إثبات للضد. (ج) كيف تفسر الفعلية التي يتأخر العلم بها عن العلم بالفعلية. (د) تقرير صحة العلم بالقدرة دون العلم بكونه فاعلًا لما استقام إثبات القدرة. (ﻫ) التأثير يعني إثبات القدرة. (و) إذا كان الساهي مكتسبًا دون اختيار فالاختيار نفسه لا يقع باختيارٍ آخر (المحيط، ص٤٠٩–٤١٢).
١٠٩  الكسب ما وقع بقدرة محدثة (الشرح، ص٣٦٧).
١١٠  الكسب ما وقع باختيار الفاعل (الشرح، ص٣٦٨).
١١١  الكسب هو التفرقة بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية وتعلق إحداها بنا دون الثانية؛ فالكسب عبارة عن هذه التفرقة (الأصول، ص٣٦٨).
١١٢  الكسب هو وقوع هذه الحركات قيامًا مرةً وقعودًا أخرى، هذا من أفعال الجوارح ومن أفعال القلوب، فوقوع الاعتقاد علمًا مرة وجهلًا أخرى (الشرح، ص٣٦٩).
١١٣  هذه هي حجة الأشعري: «إنَّا وجدنا الكفر قبيحًا فاسدًا باطلًا متناقضًا خلافًا لمن خالف، ووجدنا الإيمان حسنًا متعبًا مؤلمًا، ووجدنا الكافر يقصد ويجهل نفسه إلى أن يكون الكفر حسنًا حقًّا فيكون بخلاف قصده، ووجدنا الإيمان لو شاء المؤمن ألا يكون متعَبًا مؤلمًا ولا مريضًا لم يكن ذلك كائنًا حسب مشيئته وإرادته. وقد علمنا أن الفعل لا يحدث على حقيقته إلا من مُحدِث أحدثه عليها لأنه لو جاز أن يحدث على حقيقته لا من محدِث أحدثه على ما هو عليه لجاز أن يحدث الشيء فعلًا من محدِث أحدثه فعلًا، فلما لم يجز ذلك صح أنه لم يحدث على حقيقته إلا عن محدث أحدثه على ما هو عليه، وهو قاصد إلى ذلك؛ لأنه لو جاز حدوث فعل على الحقيقة لا عن قاصد لم يؤمن أن تكون الأفعال كلها كذلك، كما أنه لو جاز حدوث فعل لا من فاعل لم يؤمن أن تكون الأفعال كلها كذلك. وإذا كان هذا هكذا فقد وجب أن يكون الكفر محدَثًا أحدثه كفرًا باطلًا قبيحًا وهو قاصد إلى ذلك. وكذلك الإيمان مُحدَث أحدثه على حقيقته متعبًا مؤلمًا ممرضًا غير المؤمن الذي لو جهد أن يقع الإيمان خلاف ما وقع من إيلامه وإتعابه وإمراضه لم يكن إلى ذلك سبيل. وإذا لم يجز أن يكون المحدث للكفر على حقيقته الكافر ولا المحدث للإيمان حقيقته المؤمن فقد وجب أن يكون محدث ذلك هو الله … القاصد إلى ذلك لأنه لا يجوز أن يكون أحدث ذلك جسم من الأجسام لأن الأجسام لا يجوز أن تفعل في غيرها شيئًا» (اللمع، ص٧١-٧٢). الأفعال المحكمة الدالة على علم مخترعها وتصدر من العبد أفعال في غفلته وذهوله وهي الاتساق والانتظام وصفة الإتقان والإحكام، والعبد غير عالم بما يصدر منه؛ فيجب أن يكون الصادر منه وإلا على علم مخترع، وإنما يتقرر ذلك على مذهب أهل الحق الصائرين إلى أن مخترع الأفعال الرب وهو عالم بحقائقها. ومن ذهب إلى أن العبد مخترع أفعاله، وهو غير عالم بها في الصورة التي وضعنا الدلالة عليها فقد أخرج الإتقان والإحكام عن كونه دالًا على المتقن المخترع، وذلك نقض للدلالة العقلية. ثم لو ساغ وقوع ومحكم وفاعله غير عالم به ساغ أيضًا بطلان دلالة الفعل على القادر. وقد ينساق القول إلى بطلان دلالة الفعل على الفاعل (الإرشاد، ص١٩).
١١٤  فإن احتجوا فقالوا: وجدنا أفعالنا واقعة حسب قصدنا، فوجب أن يكون خلقًا لنا وفعلًا لنا وبيان ذلك أن الواحد مِنَّا إذا أراد أن يقوم قام وإذا أراد أن يقعد قعد، وإذا أراد أن يتحرك تحرك وإذا أراد أن يسكن سكن وغير ذلك. فإذا حصلت أفعاله على حساب قصده ومقتضى إرادته دل على أن أفعاله خلق له. فالجواب من وجهين: (أ) نرى من يريد شيئًا ويقصده ولا يحصل ما يريد ولا ما يقصده فإنه ربما أراد أن ينطق بصواب فيخطئ، وربما أراد أكلًا لقوةٍ وصحةٍ فيضعف ويمرض، وربما ابتاع سلفة ليربح فيخسر، وربما أراد القيام فيعرض ما يمنعه إلى غير ذلك، فبطل ما ذكرتموه، وصح أن فعله خلق لغيره يجري على حسب مشيئة الخالق. وإنما يظهر كسب لذلك الفعل بعد تقدُّم المشيئة والخلق من الخالق. (ب) وقوع الكسب من الخلق على حسب القصد منهم لا يدل على أنه خلق لهم واختراع … وكذلك فيما يحصل من الواحد مِنَّا إذا أراد حصوله على حسب قصده لا يدل على أنه هو خلقه، بل الخالق له هو الله (الإنصاف، ص١٥٣-١٥٤). فرب فعل يقع على حسب القصد وربما لا يقع على حسبه (الإرشاد، ص٢٠١).
١١٥  لا يجب عندنا في حكم الفعل كون المكتسب عالمًا بما يكتسبه، ثم يجوز أن يصدر منه القليل؛ إذ لو وجب ذلك في الكثير من الأفعال لوجب في القليل منها … هذا ما نجيزه في حكم العقل. وإنما يمنع وقوعه لاطراد العادات، ولو انخرقت لما امتنع في جائزات العقول … الحكم دليل على كونه فاعلًا عالمًا به من غير احتياج إلى نظر في كونه دليلًا (الإرشاد، ص١٩١-١٩٢).
١١٦  العبد قادر على أفعال العباد أو الإنسان يجد من نفسه تفرقةً ضرورية بين حركات الرعدة والرعشة وبين حركات الاختيار والإرادة. والتفرقة راجعة إلى أن الحركات الاختيارية حاصلة، بحيث إن القدرة تكون متوقَّعة على اختيار القادر (الملل، ج١، ص١٤٤-١٤٥). العبد له كسب وليس مجبورًا بل مكتسب لأفعاله من طاعة أو معصية. ويدل على صحة هذا أيضًا أن العاقل مِنَّا من يفرق بين تحرك يده جبرًا وسائر بدنه عند وقوع الحمى به أو الارتعاش وبين أن يحرك عضوًّا من أعضائه قاصدًا إلى ذلك باختياره، فأفعال العباد كسب لهم وهي خلق الله. فما يتصف به الحق لا يتصف به الخلق، وما يتصف به الخلق لا يتصف به الحق. وكما لا يُقال لله إنه مكتسب كذلك لا يُقال للعبد إنه خالق (الإنصاف، ص٤٥-٤٦). فهذه الأفعال: الشبع عند الأكل، والري عند الشرب … إلخ. مع وقوعها حسب المقصود ليست أفعالًا للدواعي والقصود (الإرشاد، ص٢٠١).
١١٧  فإن قيل: هل يجوز أن يكون فاعل يفعل فيكم هذه الأفعال مطابقة لقصودكم؟ قيل: يصح إضافته إلى اللغة بالطريقة التي يصحُّ بها إضافته إلينا ومقدور واحد لا يتعلق بقادرين (المحيط، ص٣٤٢). الطريقة في كون أحدنا فاعلًا هي كالطريقة في كونه تعالى فاعلًا لقدرته على الضدين كقدرتنا، فيحدث الفعل مع جواز ألا يحدث. وعند القوم يحدث مِنَّا مع الوجوب لقولهم بالقدرة الموجبة واستحالة قدرتنا على الضدين. فكيف يجيزون أن نعتقد فيما يقع مِنَّا مع أنه واجب عندهم حادث من جهة الله مع أنه يحدث مع جواز ألا يحدث (المحيط، ص٣٤٢). فإن قيل: فهل تصفونه بالقدرة على أن يُحدِث فينا أفعالًا مطابقةً للدواعي والقصود؟ فإن كان له فهل يمكن الفصل بين الفعلَين؟ وإن أمكن كان الله فاعلًا أحد الفعلَين؟ قيل: نثبت الفعل لا محالة بين ذلك وبين ما نختار إحداثه لأنه تعالى إن كان هو الذي يحدثه فينا لم يحصل لنا العلم باستمرار هذا الفعل عند الدواعي والقصود واستمرار انتفائه عند الكراهة والصارف. القديم لا يحتاج إلى إيجاد الفعل فينا إلى خلق دواعٍ ولا في أن يخلق إلى إيجاد صوارف؛ فكنا نجيز ألا يوجد الفعل في بعض الأحوال مع دواعي الصحة والسلامة وأن يوجد مع الصارف والكراهة وأن يجري ذلك مجرى المرض والصحة (المحيط، ص٣٤٣-٣٤٤).
١١٨  فإن قيل: هل جاز أن تقع هذه الأفعال مطابقة للدواعي وإن كان الله يحدثها بأن يكون قد خلق فينا الفعل وخلق الدواعي والقصود، فكان وجوده بحسبها على هذا السبيل لا بحدوثه من جهتنا، ونجعل طريق ذلك طريق الأفعال التي فعلها الله بالعادة؟ قيل: العلم بوجوب استمرار هذا الفعل مطابقًا لدواعينا في النفس والإثبات حاصل على حد يفصل بينه وبين ما يقع من قبل غيرنا مطابقًا لدواعينا. فلو كان الله هو الذي يُحدث في سائر الفاعلين مِنَّا القصد والدواعي ويحدث الأفعال مطابقةً لهما لما ثبت هذا الفعل، ولما ثبت أيضًا العلم بوجوب انتفائه عند الكراهة والصارف، فعرفنا أن هذا الفعل إنما يثبت لأن أحد الفاعلين وقع والمؤثر فيه أحوالنا وليس كذلك الآخر. ولا يبعد عندكم أن يخلق الباري في العبد أكوانًا ضرورية ويخلق فيه الدواعي ضرورية إليها على الاطراد، ولو كان الأمر كذلك لكانت الأكوان واقعة على حسب الدواعي (الإرشاد، ص٢٠٢). من اعتقد أنه لا خالق إلا الله فلا تدعوه داعية إلى الخلق، ولا يصح مع هذا الاعتقاد منه القصد إلى الإحداث، وأفعال معظم الخليقة غير واقعة على حسب القصد فإن المقصود الواقع بالعبد عند الخصوم الحدث (الإرشاد، ص٢٠٢).
١١٩  الطريق الذي نعرف به أن القديم يحدث فعلًا من الأفعال هو ما ذكرناه. فإن أفسدناه في الشاهد لم يصح إثبات الصانع وإضافة الأفعال لله. لا بد أن يثبت أحدنا محدثًا لتصرفه ليصحَّ تعليق حدوث الأجسام بالله (المحيط، ص٣٤١). لو قدرناه فاعلًا فينا هذه الأفعال ما كان طريقنا إلى العلم بكونه محدثًا لها (المحيط، ص٣٤٤).
١٢٠  وفيه أيضًا دليل على أن الخالق للشيء يجب أن يكون عالمًا به وبتفاصيله. وعلمنا أن العباد لا يعلمون تفصيل عدد حركاتهم الكسبية في عضوٍ واحد في زمان متناهٍ (أصول، ص١٣٦). لو كان الواحد مِنَّا محدثًا لتصرفاته لوجب أن يكون عالمًا بتفاصيل ما أحدثه كالقديم؛ فإنه لما كان مُحدِثًا لأفعاله قادرًا عليها كان عالمًا بتفاصيلها (الشرح، ص٣٧٨؛ الحجة نفسها في المحصل، ص١٤١؛ المواقف، ص٣١).
١٢١  كما يشهد بذلك في نفسه يشهده أيضًا في بني قومه كافة من كانوا مثله في سلامة العقل والحواس، ومع ذلك فقد يريد إرضاء خليل فيغضبه، وقد يطلب كسب رزق فيفوته، وربما سعى إلى منجاة فسقط في مهلكة؛ فيعود باللائمة على نفسه إن كان لم يُحكِم النظر في تقدير قوله، ويتخذ من خيبته أول أمره مرشدًا له في الآخر فيعاود العمل عن طريقٍ أقوم وبوسائلَ أحكم، ويتقد غيظه على من حال بينه وبين ما يشتهي إن كان سبب الإخفاق في السعي منازعة منافس له في مطلب لوجدانه من نفسه أنه الفاعل في حرمانه، فينبري لمناضلته، وتارةً يتجه إلى أمرٍ أسمى من ذلك إن لم يكن لتقصيره أو لمنافسة غيره فيما لقي من مصير عمله، كأن هبَّ ريح فأغرق بضاعته، أو نزلت صاعقة فأغرقت ماشيته، أو علق أمله بمعين فمات، أو بذي منصب فعُزل. يتجه من ذلك إلى أن في الكون قوةً أسمى من أن تحيط بها قدرته، وأن وراء تدبيره سلطانًا لا تصل إليه سلطته. فإن كان قد هداه البرهان في تقويم الدليل إلى أن حوادث الكون بأسره مستندة إلى واجب وجود واحد يعرفه على مقتضى علمه وإرادته خشع وخضع وردَّ الأمر إليه فيما لقي، ولكن مع ذلك لا ينسى نصيبه فيما بقي. فالمؤمن كما يشهد بالدليل وبالعيان أن قدرة مكون الكائنات أسمى من قوى الممكنات، يشهد بالبداهة أنه في أعماله الاختيارية عقلية كانت أو جسمانية قائم بتصريف ما وهب الله له من المدارك والقوى فيما خلقت لأجله. وقد عرف القوم شكر الله على نعمه فقالوا: هو صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خُلق لأجله. على هذا قامت الشرائع، وبه استقامت التكاليف، ومن أنكر شيئًا منه فقد أنكر مكان الإيمان من نفسه وهو عقله الذي شرَّفه الله بالخطاب في أوامره ونواهيه (الرسالة، ص٥٩-٦٠).
١٢٢  الدليل على خلق الله حركة الاضطرار قائم في خلق حركة الاكتساب، وذلك أن حركة الاضطرار إن كان الذي يدل على أن خلقها حدوثها، فكذلك القصة في حركة الاكتساب وإن كان الذي يدل على خلقها حاجتها إلى مكان وزمان، فكذلك قصة حركة الاكتساب. فلما كان كل دليل يُستدلُّ به على أن حركة الاضطرار مخلوقة لله يجب به القضاء على أن حركة الاكتساب مخلوقة لله؛ وجب خلق حركة الاكتساب بمثل ما وجب به خلق حركة الاضطرار (اللمع، ص٧٤-٧٥). ههنا حركة اختيارية واضطرارية. فلو كانت إحداهما متعلقة بنا من طريق الحدوث لوجب مثله في الأخرى؛ لأن الحدوث ثابت فيهما. وقد عرف خلافه، فليس إلا أنها متعلقة بنا عن طريق الكسب … إن الحدوث في الذوات متماثل، فلو تعلق حدوث الحركة بنا، والحدوث ثابت في الجوهر واللون، لوجب تعلقهما بنا والمعلوم خلافه (الشرح، ص٣٣٧-٣٣٨). الحركة الضرورية من الله عكس الحركة الاختيارية التي هي من فعله أو من فعلنا دلالة على الله (المحيط، ص٤١٤-٤١٥).
١٢٣  يعطي الأشعري مثال الملائكة كموجودات ذات أفعال اضطرارية.
١٢٤  فإن قيل: ماذا عن الساهي والنائم؟ قيل: حد الفاعل من يقع فعله بحسب دواعيه وقصوده فحيث يوجد يجب أن يدل … نعرف فعل الساهي أنه فعله بتقدير الدواعي فيفارق فعل الغير … الساهي قادر (المحيط، ص٣٤٤–٣٤٦). فإن قيل: إذن الدواعي المقصودة مؤثرة أي قادرة، قيل: ليس يجب إذا كان المؤثر قادرًا أن يكون دليلًا … صحة المؤثر في وجود القدرة. الدواعي تكشف كون الإنسان قادرًا على الجملة (المحيط، ص٣٤٤–٣٤٦).
١٢٥  فإن قيل: هل العالم فاعل؟ قيل: لا نعرف القدرة وكون القادر قادرًا بها إلا بعد العلم يكون العبد محدثًا لتصرفاته (المحيط، ص٣٤٤–٣٤٦).
١٢٦  فإن قالوا: إذا كان في عدم الإحسان للحياكة عدم الحياكة، فلماذا لا يكون في وجود الإحسان لها وجودها؟ قيل لهم: إن الحياكة تقوم لعدم قدرتها لا لعدم إحسانها. ولو عُدمت الحياكة لعُدم الإحسان لها ولوجدت بوجود الإحسان لها. فلما لم يكن كذلك وكان الإحسان لها يجامعه العجز؛ عُلم أنها إنما تعدم لعدم القدرة عليها. ولو أجرى الله العادة أن يخلق القدرة عليها مع عدم الإحسان لها لوقعت الحياكة لا محال. فإن قالوا: فإن كان في عدم التخلية والإطلاق عدم الفعل ففي وجودهما وجود الفعل، قيل لهم: كذلك تقولون. فإن قالوا: فإذا كان في عدم احتمال البنية للفعل عدم الفعل، فلم لا يكون في وجود احتمال البنية للشيء وجوده؟ قيل لهم: كذلك نقول لأن البنية لا تحتمل إلا ما يقوم بها (اللمع، ص٩٨).
١٢٧  فإن قالوا: أليس في عدم الجارحة عدم الفعل؟ قيل: في عدم الجارحة عدم القدرة، وفي عدم القدرة عدم الاكتساب؛ لأنها إذا عُدمت القدرة فلانعدامها (لما استحال) الكسب إذا عدمت الجارحة لا فليس بسبب انعدامها. ولو عدمت الجارحة ووجدت القدرة لكان الاكتساب واقعًا. ولو كان إنما استحال الاكتساب لعدم الجارحة لكانت إذا وُجدت وُجد الكسب. فلما كانت توجد ويقارنها العجز وتعدم القدرة فلا يكون كسب علم. إن الاكتساب إنما يقع لعدم الاستطاعة لا لعدم الجارحة. فإن قالوا: أفليس في عدم الحياة عدم الكسب؟ قيل: نعم لأن الحياة إذا عدمت عدمت القدرة، فلعدم القدرة استحال الكسب لا لعدم الحياة. ألا ترون أن الحياة تكون موجودة ثم عجز فلا يكون الإنسان مكتسبًا. فعلم أن الكسب لم يعدم لعدمها ولا يوجد لوجودها. والجواب في الحياة كالجواب في الجارحة (اللمع، ص٩٧).
١٢٨  من حق الفاعل أن يكون مخالفًا لفعله. فلو كان العبد مع أنه مُحدِث يصح منه الإحداث للزم أن يكون الفعل مجانسًا لفعله، فيجب أن يكون الحدوث حاصلًا من جهة القديم لتثبت المخالفة بين الفعل والفاعل (المحيط، ص٤١٢).
١٢٩  لو كان موجدًا لفعله، فلا بد أن يتمكن من فعله وتركه. ويتوقف ترجيح فعله على تركه على مرجح، وذلك المرجح لا يكون منه وإلا لزم التسلسل، ويكون الفعل عنده واجبًا وإلا لم يكن الوجود تمامًا المرجح فيكون اضطراريًّا. وأورد عليه أن هذا ينفي كون الله مختارًا لإمكان إقامة الدلالة بعينها فيه. وأجيب بالفرق بأن إرادة العبد محدثة، فافتقرت إلى إرادة يخلقها الله فيه منعًا للتسلسل. وإرادة الله قديمة فلا تفتقر إلى إرادةٍ أخرى (المواقف، ص٣١٢-٣١٣). العبد في حال الفعل، إمَّا أن يمكنه الترك أو لا يمكنه. فإن لم يمكنه الترك فقد بطل قول المعتزلة. وإن أمكنه فإمَّا أن لا يفتقر ترجيح الفعل على الترك إلى مرجح وهو باطل لأنه تجويز لأحد طرفَي الممكن على الآخر لا لمرجح أو يفتقر ذلك المرجح إن كان من فعله عاد التقسيم وإلا يتسلسل، بل ينتهي لا محالة إلى مرجِّح لا يكون من فعله، ثم عند حصول ذلك المرجح أمكن ألا يحصل ذلك الفعل. فلنفرض ذلك، وحينئذٍ يحصل الفعل تارة ولا يحصل تارةً أخرى مع أن نسبة ذلك المرجح إلى الوقتَين على السواء. فاختصاص أحد الوقتين بالحصول والوقت الآخر بعدم الحصول يكون ترجيحًا لأحد طرفي الممكن المتساوي على الآخر من غير مرجح وهو محال. وإن امتنع ألا يحصل فقد بطل قول المعتزلة بالكلية لأنه متى حصل المرجح وجب الفعل ومتى لم يحصل امتنع، فلم يكن العبد مستقلًّا بالاختيار (المحصل، ص١٤١). إذا أراد العبد تسكين الجسم أو أراد الله تحريكه، فإمَّا أن لا يقعا معًا وهو محال لأن المانع من وقوع كل واحد منهما وجود مراد الآخر. فلو امتنعا معًا لوقعا معًا وهو محال. أو يقع أحدهما دون الآخر وهو باطل لأن القدرتَين متساويتان في الاستقلال بالتأثر في المقدور الواحد والشيء الواحد وحده حقيقةً لا يقبل التفاوت. فإذن القدرتان بالنسبة إلى اقتضاء وجود هذا المقدور على السوية إنما التفاوت في أمور أُخر خارجة على هذا المعنى. وإن كان ذلك كذلك امتنع الترجيح (المحصل، ص١٤١). الأمران توجه حال استواء الدواعي ففي تلك الحالة امتنع الترجيح وإن توجه حال الرجحان، فهناك الراجح واحد والمرجوح ممتنع، ولأن ذلك الفعل إن علم الله وجوده فهو واجب وإن علم عدمه فهو ممتنع، فثبت أن الإشكال وارد على الكل وأن الجواب هو أن الله لا يُسأل عما يفعل (المحصل، ص١٤٢). إن عنيتم به أن العبد قادر على الفعل وعلى الترك وأن نسبة قدرته إلى الطرفَين على السوية، ثم إنه في حال حصول هذا الاستواء دخل هذا الفعل في الوجود من غير أن خص ذلك القادر ذلك الطرف بمرجح وبمخصص البتة فلا نُسلِّم أن هذا القول صحيح، بل كانت بديهية الفعل تشهد ببطلانه، وإن عنيته من عند حصول الداعية المرجوحة صدر عنه هذا الأثر فهذا قولنا. فلما كان عند حصول القدرة والداعية يجب الفعل وعند انتفائها أو انتفاء أحدهما يمتنع وجب أن يكون الكل بقضاء الله (معالم، ص٧٧).
١٣٠  لذلك قالت المعتزلة: إن فعل العبد لو كان بخلق الله لما كان متمكِّنا من الفعل البتة؛ لأنه إن خلقه الله فيه كان واجب الحصول، وإن لم يخلق الله فيه كان ممتنع الحصول، ولو لم يكن العبد متمكنا من الفعل والترك لكانت أفعاله جارية مجرى حركات الجمادات. وكما أن البديهية جازمة أنه لا يجوز أمر الجماد ونهيه ومدحه وذمه وجب أن يكون الأمر كذلك في أفعال العباد. ولما كان ذلك باطلًا علمنا العبد موجدًا (المحصل، ص١٤٢). وقالت أيضًا: عند حدوث الداعية يصير الفعل أولى بالوقوع، ولا ينتهي إلى حد الوجوب (معالم، ص٧٣).
١٣١  عند حصول القدرة والداعية المخصوصة يجب الفعل. وعلى هذا التقدير يكون العبد فاعلًا على سبيل الحقيقة. ومع ذلك تكون الأفعال بأسرها واقعة بقضاء الله وقدره … والدليل عليه أن القدرة الصالحة للفعل إمَّا أن تكون صالحة للترك أو لا تكون، فإن لم تصلح للترك كان خالق تلك القدرة خالقًا لصفةٍ موجبة لذلك الفعل. ولا نريد بوقوعه بقضاء الله إلا هذا. وأمَّا إن كانت القدرة صالحة للفعل والترك، فإمَّا أن يتوقف رجحان أحد الطرفين على الآخر على مرجح أو لا توقف، فإن توقف على مرجح فذلك المرجح إمَّا أن يكون من الله أو من العبد أو يحدث لا يؤثر. فإن كان الأوَّل فعند حصول تلك الداعية يجب الفعل وعند عدمه يمتنع الفعل وهو المطلوب. وإن كان من العبد عاد التقسيم الأوَّل. ويحتاج خلق تلك الداعية إلى داعيةٍ أخرى ولزم التسلسل. وأمَّا إن حدثت تلك الداعية لا بمحدث أو ترجيح أحد الجانبين على الآخر لا لمرجح أصلًا كان هذا قولًا باستغناء الحدث عن المحدِث استغناء الممكن عن المؤثر، وذلك يوجب نفي الصانع (معالم، ص٧٣-٧٤). ويثبت الرازي بالترجيح القضاء والقدر رافضًا قول المعتزلة بأنه عند حدوث الداعية يصير الفعل أولى بالوقوع إلى حد الوجوب، فيقول: (أ) المرجوح أضعف حالًا من المساوي. فلما امتنع حصول المساوي حال كونه مساويًا فكان يمتنع حصول المرجوح حال كونه مرجوحًا أولى. وإذا امتنع حصول المرجوح وجب حصول المرجح لامتناع المرجوح عن النقيضَين. (ب) عند حصول الداعي إلى أحد الجانبين لو حصل الطرف الثاني لكان قد حصل ذلك الطرف لا لمرجح أصلًا. وهذا القائل قد سلم أن الترجيح لا بد فيه من الترجيح. (ج) عند حصول ذلك المرجح إن امتنع النقيض فهو الوجوب وإن لم يمتنع فكل ما لا يمتنع لم يلزم من فرض وقوعه مُحال. فلنفرض مع حصول ذلك المرجح تارةً ذلك الأثر واقعًا وتارةً غير واقع. فاختصاص أحد الوقتين دون الثاني بالوقوع إن توقف على انضمام قيدٍ زائد إليه لزم أن يُقال إن حصول الرجحان كان موقوفًا على هذا القيد الزائد رجحان الممكن المتساوي لا لمرجح وهو مُحال. إذن لما كان الفعل واجب الحصول عند مجموع القدرة والداعي يكون العبد فاعلًا وجاعلًا، ولا يلزمنا مخالفة ظاهر القرآن وسائر كتب الله. ولما كان المؤثر في الفعل مجموع القدرة والداعي مع أن هذا المجموع حصل بخلق الله كان الكل بقضاء الله وقدره (المعالم، ص٧٥).
١٣٢  لو كان الواحد مِنَّا محدثًا لتصرفاته لوجب أن يُسَمَّى خالقًا لها، والأمة مِنَّا اتفقت على أن لا خالق إلا الله (الشرح، ص٣٧٩–٣٨١). لو كان الله خالق كل شيء لكان خالقًا لنفسه (الشرح، ص٣١٢). لو كان الله خالقًا لكل شيء لكان خالقًا للتحت (الشرح، ص٣٨٣). ونحن نقول إن الله هو الذي جعل أفعالنا أشياءً وأعراضًا وهذا معنى قولنا إن الله خلق أعمال عباده، ومعناه أنه هو الذي جعل أشياءً وأعراضًا. وقد سلمتم لنا أن الإنسان لم يجعلها كذلك فالذي نفيتموه عن الإنسان أضفناه إلى الله (الأصول، ص١٣٣-١٣٤). الله خالق أكساب العباد كما أنه خالق الأجسام والألوان والطعوم والروائح لا خالق غيره، وإنما العباد مكتسبون لأعمالهم (الأصول، ص١٣٤).
١٣٣  خلق السموات والأرض وما بينهما لا يتضمن الأفعال … البيِّن في الفعل الوصول ليست كذلك الأفعال، الخلق فعلٌ مطابق للمصلحة وليس كذلك الأفعال (الشرح، ص٣٨٣-٣٨٤).
١٣٤  لأن الإنسان قد لا يكون عدلًا إذا لم يمكن منه عدل كسبه ولا فعله ولا يكون جائرًا … وأيضًا فقد لا يكون إنسان عادلًا ولا يكون جائرًا بجور من جنس العدل … لأن الإنسان قد يكون عادلًا بالكون في المكان … (اللمع، ص٤١).
١٣٥  قال جُلُّ الإباضية بالخاطر، ولا يجوز أن يخلي الله العباد البالغين منه (مقالات، ج١، ص١٧٤). وقال عديد من المعتزلة بالخاطر؛ فعند النظام لا بد من خاطرَين أحدهما يأمر بالإقدام والآخر يأمر بالكف ليصحَّ الاختيار، خاطر المعصية من الله إلا أنه وضعه للتعديل لا ليعصى (مقالات، ج٢، ص١٠٤). وعند أبي الهذيل: الخاطر الداعي إلى الظلمة من الله، وخاطر المعصية من الشيطان. الخواطر أعراض وقد تلزم الحجة التفكير من غير الخاطر. وعند ابن الراوندي الأفعال التي من شأن النفس أن تفعلها وتجعلها وتميل إليها وتحبها لا تحتاج إلى خاطر يدعوها إليها. وأمَّا الأفعال التي تكرهها وتنفر منها، فإن الله إذا أمر بها أحدث لها من الدواعي مقدار ما يوازي كراهتها لها ونفارها منها. وإن دعاه الشيطان إلى ما يمثل إليه وتحبه زادها من الدواعي والترغيب ما يوازي داعي الشيطان ويمنعه من الغلبة. وإن أراد الله أن يقع من النفس فعل تكرهه وتنفر طباعها منه جعل الدواعي والترغيب والترهيب والتوفير يفضل ما عندها من الكراهة لذلك منه؛ فتميل النفس إلى ما دعيت إليه ورغبت فيه طباعًا (مقالات، ج٢، ص١٠٢). وعند بشر بن المعتمر قد يتفق المختار في فعله وفيما يختار من الخاطرين والدليل أول شيطان خلقه الله وأنه لم ينقل إلينا شيطان يخطر (مقالات، ج٢، ص١٠٢).
١٣٦  يثبت الخاطرَ جلُّ الإباضية والنظام وبشر بن المعتمر وأبو الهذيل وجعفر بن مبشر وابن الراوندي وينكره آخرون (مقالات، ج٢، ص١٠٢).
١٣٧  عند هشام بن الحكم الأفعال مخلوقة لله لأنها لا تكون إلا بحدوث السبب المهيج عليها، فهو اضطرار من وجه، أي إن الإنسان أرادها واكتسبها (مقالات، ج١، ص١١٠، ص١٣٩). والسبب المهيج هو فعل أحد المكونات الخمس للفعل. فالاستطاعة خمسة أشياء: الصحة، تخلية الشئون، البدء في الوقت، آلة الفعل، السبب المهيج الذي من أجله يكون الفعل، وهو الموجب للفعل، وهو مخلوق من الله (مقالات، ج١، ص١١١-١١٢).
١٣٨  (الإرشاد، ص١٩٥-١٩٦). يروى في تاريخنا الحديث أيضًا حدوث الدعوة والابتهال في المسجد أثناء الغزو الفرنسي لمصر، وقالوا: «يا خفي الألطاف، نجِّنا مما نخاف»، كما عبر عن ذلك أحد شعرائنا المحدثين بقوله: «ونشحذ النصر من عنده تعالي.»
١٣٩  هاجم إقبال في العصر الحديث فلسفة السؤال ليضع محلها فلسفة الفعل والخلق.
١٤٠  شرح الأصول، ص٣٤٦.
١٤١  وإذا كان الإيمان من الله وأنه مشكور عليه، وإذا لم يفعل الفاعل شيئًا لم يجب شكره، ونحن نشكره فوجب أن الإيمان فيه (المحيط، ص٤١٧-٤١٨).
١٤٢  لو تعلقت هذه التصرفات بنا من جهة الحدوث لوجب تعلقها بنا على سائر صفاتها التي هو كونها شيئًا وعرضًا وحسنًا وقبيحًا، ومعلوم خلافه (الشرح، ص ٣٧٣). انظر أيضًا الفصل الثامن عن العقل الغائي.
١٤٣  لو كان العبد محدثًا لأفعاله لصح أن يتصرف فيجعل الإيمان كفرًا والحسن قبيحًا (المحيط، ص٤١٨-٤١٩).
١٤٤  ما علم الله أنه يوجد كان واجب الوقوع، وما علم أنه لا يوجد كان ممتنع الوقوع، ولأنه لم يوجد رجحان الداعي امتنع الفعل، فإن وُجد وجب (الفصل، ص١٤٤). العلم بالسر والجهر والصدور يعني خلق الصدور (الشرح، ص٣٨٥-٣٨٦). حفظ كل المصائب في لوحٍ محفوظ يعني كل الأنفس لا المصائب كأفعال (الشرح، ص٣٨٥).
١٤٥  تقول المجبرة: القدرة على خلاف المعلوم محال، وأنتم قد جوَّزتم التكليف به، فكيف منعتم أن يكلِّف الله الكافر وإن لم يقدر عليه؟ ويرد القاضي: تكيف الكافر مع العلم أنه لا يؤمن بحسن لأن تكليفه بالإيمان تكليف بما لا يطيقه ويقدر عليه. ويقول: إذن لن يكون الله قادرًا على أن يقيم القيامة لعلمه أنه لا يقيمها (الشرح، ص٤١٨–٤٢٠).
١٤٦  تقول المجبرة: لو قدر الكافر على خلاف ما علم الله من حاله لصحَّ وقوعه منه، ولو صح وقوعه وجب أن يكون الله جاهلًا. ويرد القاضي: ممكن القدرة على الشيء ومعرفة الشيء دون إتيانه (الشرح، ص٤٢٠-٤٢١).
١٤٧  للمجبرة أربعة شبهات تثبت أن القدرة على خلاف المعلوم محال: (أ) القدرة على خلاف المعلوم محال وأنتم جوَّزتم التكليف به وكيف منعتم من أن يجيز الله الكافر وإن لم يقدر عليه؟ (ب) القدرة على خلاف المعلوم تجهيل لله. (ج) لو قدر الكافر على خلاف ما علم الله من حاله لصحَّ وقوعه منه ولو صحَّ وقوعه لوجب أن يكون الله جاهلًا. (د) لو قدرنا أن يقع خلاف ما علم الله لزم أن يكون جاهلًا؛ لأنه كان يعلم أن هذا الفعل لا يوجد والآن يعلم أنه موجود. وهذان اعتقادان متضادان (الشرح، ص٤١٨–٤٢١).
١٤٨  ويرد القاضي على الحجة الرابعة بقوله: محال تجويز البدل على صفات الله؛ فالله صادق (الشرح، ص٤٢٠-٤٢١).
١٤٩  فعل العبد ممكنٌ مقدور لله؛ لشمول قدرته ولا شيء مما هو مقدور بواقع بقدرة العبد؛ لامتناع اجتماع قدرتين مؤثرتَين على مقدورٍ واحد (المواقف، ص٣١٢). وقد ثبت أن الله قادر لذاته، ومن حق القادر لذاته أن يكون قادرًا على سائر أجناس المقدورات، ومن جملة المقدورات أفعال العباد فيجب أن يكون قادرًا عليها (الشرح، ص٣٧٥، ٣٧٦). قد ثبت أن الله قادر على أن يقدرنا على هذه التصرفات، فيجب أن يكون عليها أقدر، كما أنه لما كان قادرًا على أن يعلمنا هذه الأمور كان بها أعلم (الشرح، ص٣٧٦–٣٧٨). لو كان الله هو الذي أقدرنا على الفعل وجب أن يكون عليه أقدر أي خالقًا له (المحيط، ص٤١٦-٤١٧). القدرة على اختلاف الألسنة والألوان تشير إلى الكلام البدني لا المعنوي … والقدرة على الرأفة والرحمة لا تدل دائمًا على أنها من الله، بل تكون أحيانًا من غير الله. القدرة على الاحتمال والإبقاء تشير إلى الحركة البدنية لا إلى القصد المعنوي (الشرح، ص٧٨٥، ٣٨٧)؛ فذلك العبد لا يقدر على الانفراد بفعله، ولو أراد الله الانفراد وبإحداث ما هو كسب للعبد قدر عليه ووجد مقدوره. فوجوده على الحقيقة بقدرة الله، ولا يخرج مع ذلك المكتسب من كونه فاعلًا وجد الفعل بقدرة الله (الأصول، ص١٣٤).
١٥٠  لو قدر الواحد مِنَّا على إيجاد هذه التصرفات وأخرجها من العدم إلى الوجود لوجب قدرته على إعادتها بدليل أن الله تعالى لما قدر على الإيجاد قدر على الإعادة (الشرح، ص٣٧٤-٣٧٥). لو كان الواحد مِنَّا محدِثًا لتصرفاته لوجب صحة أن يحصل في الثاني ما أحدثه في الأوَّل، ومعلوم خلافه، فإن من كتب حرفًا مرة لا يمكنه أن يكتب مثل ذلك الحرف مرةً أخرى (الشرح، ص٣٧٨-٣٧٩). لو كنتم المحدِثين لأفعالكم لصحَّت الإعادة، فإن تعذرت كان المحدث هو القديم القادر على الإعادة. لو كان العبد مختارًا لصحَّت هذه الإعادة. ولما كان الله هو المحدث صحت منه الإعادة (المحيط، ص٤١٢-٤١٣، ٤١٧). لو كان أحدنا محدث الفعل لصح منه أن يفعل المؤلم ملذًّا والملذ مؤلمًا كما صح من الله (المحيط، ص٤١٣-٤١٤).
١٥١  الله مالك كل شيء، بما فيه أفعالنا، ومِنْ ثَمَّ فهو قادر عليها فعلًا له وخلقًا من جهته (المحيط، ص٤١٦).
١٥٢  لو كان العبد محدِثًا لأفعاله لكان مثل الله مشاركًا له. وهذا يقتضي التمانع (المحيط، ص٤١٥-٤١٦).
١٥٣  الشرح، ص٣٨٥.
١٥٤  الإرشاد، ص٢١٥-٢١٦؛ الإنصاف، ص٧؛ الفصل، ص٣، ص٤٠.
١٥٥  معالم، ص٧٨-٧٩.
١٥٦  إن قال قائل: لم قلتم إن الإنسان يستطيع باستطاعة غيره؛ قيل له: لأنه يكون مرة مستطيعًا ومرة عاجزًا، كما يكون تارةً عالمًا وتارةً غير عالم، وتارةً متحركًا وتارةً غير متحرك؛ فوجب أن يكون مستطيعًا بمعنى هو غيره. وكما وجب أن يكون عالمًا بمعنى هو غيره. وكما وجب أن يكون متحركًا بمعنى هو غيره لأنه لو كان مستطيعًا بنفسه أو بمعنى يستحيل مفارقته لم يوجد إلا وهو مستطيع، فلما وجد مرة مستطيعًا ومرة غير مستطيع ثبت أن استطاعته غيره (اللمع، ص٨٣).
١٥٧  البحر، ص٣٧، ٤٧.
١٥٨  الإنصاف، ص٤٦-٤٧؛ النسفية، ص١٠٣.
١٥٩  (الشرح، ص٤٠٠). عند المجبرة القدرة مقارنة للفعل، فأحدنا لا يجوز أن يكون محدثًا لتصرفه. ولما كان الله محدثًا على الحقيقة كانت قدرة الله متقدمة لمقدورها غير مقارنة له (الشرح، ص٣٩٦).
١٦٠  الإرشاد، ص٢٢٢؛ المعالم، ص٨٢.
١٦١  (الملل، ج١، ص١٤٤). ولأن القدرة الحادثة لو تقدمت على الفعل لوجد الفعل بغير قدرة؛ لأنها عرض والعرض لا يبقى (الإنصاف، ص٤٧). وعند المعلومية (العجاردة الخوارج) كذلك (مقالات، ج١، ص١٦٦؛ الفِرَق، ص٩٧؛ مقالات، ج١، ص٥٢). وكذلك الأمر عند الخازمية (العجاردة والخوارج) وأهل السنة (الفِرَق، ص٩٤؛ مقالات، ج١، ص١٧٤).
١٦٢  ظهرت الاستطاعة مع الفعل عند بعض القائلين بالحرية مثل المعتزلة والخوارج، مثلًا الجبائي (مقالات، ج٢، ص٩٢-٩٣)، الإسكافي (مقالات، ج٢، ص٩٣)، ابن الراوندي (مقالات، ج١، ص١٧٥)، وعند فريق من الإباضية (مقالات، ج٢، ص١٧٤، ص١٨٠؛ الفِرَق، ص١٠٥)، وعند النجار وبرغوت والمريسي والعطوي وهشام بن الحكم وسليمان بن جرير، وجماعة من المرجئة (الفصل، ج٣، ص١٨)، وعند زرقان (مقالات، ج١، ص١٢)، وعند فريق من الزيدية، الاستطاعة مع الفعل قبل الأمر (مقالات، ج١، ص١٤٠).
١٦٣  ومما يدل على أن الاستطاعة مع الفعل أن من لم يخلق الله له استطاعة محال أن يكتسب شيئًا. فكما استحال أن يكتسب الفعل إذا لم تكن استطاعة صح أن الكسب إنما يوجد لوجودها. وفي ذلك إثبات وجودها بالفعل (اللمع، ص٩٦-٩٧). الاستطاعة فعل الله وأنه لا يفعل أحد خيرًا ولا شرًّا إلا بقوة أعطاه الله إياها (الفصل، ج٣، ص٢٤).
١٦٤  حجة الجويني لإثبات استحالة تقدم الاستطاعة على الفعل عن طريق استحالة تسلسل الحوادث والقدرات إلى ما لا نهاية، وضرورة وجود قدرةٍ قديمة كما هو الحال في دليل الحدوث. فيقول مثلًا: الحادث في حال حدوثه مقدور بقدرةٍ قديمة (الإرشاد، ص٢١٨-٢١٩).
١٦٥  ليست القدرة عونًا بل تمكين وإرادة (الشرح، ص٤٣٠-٤٣١).
١٦٦  الاستطاعة علة الفعل ولا تكون إلا معه (مقالات، ج٢، ص٧٠). الحكم في حالة ثبوته تقارنه العلة (الإرشاد، ص٢٢٠-٢٢١). ويرفض عباد بن سلميان ذلك؛ فإن العلة لا تكون مع معلولها، والاستطاعة ليست علة (مقالات، ج٢، ص٧٠).
١٦٧  المعجزة دلالة على النبوة ومتقدمة عليها (الشرح، ص٤٢٧-٤٢٨).
١٦٨  الإرشاد، ص٢١٩-٢٢٠.
١٦٩  يقرب الأشعري المثل باستطاعة طلاق المرأة وإعتاق العبد (اللمع، ص١٠٣).
١٧٠  جمع بين أمرين من غير علة تجمعهما … لا يحتاج الله إلى ذلك … لو احتاج إلى الإرادة لوجب قِدَم العالم … لا تتعلق إرادة بنفي … لا احتياج إلى أمر زائد (الشرح، ص٤٢٢).
١٧١  الحركة الاختيارية تتقدمها القدرة (الشرح، ص٤٢٢-٤٢٣). نقيض الاستحالة هو الصحة لا الوجوب (الشرح، ص٤٢٣).
١٧٢  الاستحالة في الحال لا تعني الاستحالة في المستقبل؛ هناك استحالة في الله على ما فعل ما لم يزل (الشرح، ص٤٢٩).
١٧٣  الجواب بالنفي أمَّا إن وجدت وعدمت فنعم وذلك هو التولد (الشرح، ص٤٢٤).
١٧٤  عند أبي علي لا يجوز خلق القادر بالقدرة من الأخذ والترك إلا عند مانع، وعند أبي هاشم والقاضي يجوز خلق القادر بالقدرة من الأخذ والترك (الشرح، ص٤٢٤–٤٢٦).
١٧٥  الآلات تنقسم إلى متقدمة ومقارنة (الشرح، ص٤٢٦).
١٧٦  القدرة تنتفي بعد الوجود (الشرح، ص٤٢٦-٤٢٧).
١٧٧  القدرة ليست على سبيل الإيجاد، بل على سبيل التأثير والاختيار، فلا احتياج إلى أمر زائد (الشرح، ص٤٢٨-٤٢٩).
١٧٨  التعلق بالضدين جائز … اختلاف الأغيار من جهة التعليق (الشرح، ص٤٣٠).
١٧٩  هذا هو دليل الأشعري (اللمع، ص٩٦؛ حاشية الخيالي؛ حاشية الإسفراييني، ص١٠٥).
١٨٠  لو تعلَّقت قدرةٌ واحدة بكل ما يصح أن يكون في مقدور العبد لوجب أن تكون القدرة القادرة على الدبيب قادرة على اكتساب جميع العلوم والإرادات ونحوها من المقدورات (الإرشاد، ص٢٢٣).
١٨١  عند الأشعري لا تصلح القدرة للضدين (معالم، ص٨٠). والدليل على وجود القدرة عند مقدورها والضد غير موجودة بعدُ، والقدرة لا يجوز أن توجد وقتين (اللمع، ص٩٥، ص٩٩–١٠٢). وكذلك يمنع الجويني تعلق القدرة بالضدَّين لأنه لو تعلَّقت بهما لقارنتْهما ومن ضرورة ذلك اقترانهما وهو باطل. ولماذا يختص أحد الضدين بالوقوع دون الثاني. والقصد لا يجوز لأنه قد يقع أحد الضدين من الغافل والنائم والساهي من غير إرادة، وليس من شرط القدرة على شيء القدرة على تركه (الإرشاد، ص٢٢٣–٢٢٥).
١٨٢  المجبرة على فرقتَين؛ الأولى تقول بقدرةٍ مقارنة لمقدورها غير صالحة للضدَّين (الشرح، ص٣٩٧). جوز المجبرة البدل عن الوجود؛ فالكافر يصح منه الإيمان بشرط ألا يكون فيه الكفر، ومنع المعتزلة ذلك وإلا جاز البدل في صفات الأجناس والجواهر وصفات الله وفي الماضي. والبدل كالشرط لا يدخل إلا في المستقبل المنتظَر، أمَّا في الواقع الموجود فلا يصح (الشرح، ص٤١٧-٤١٨). ويرى القاضي أن ذلك يوقع في التناقض؛ ولماذا يكون أحد الضدين أولى بالوقوع من الآخر؟ وما المخصص لأحدهما دون الآخر؟ أليس ذلك تكليفًا بما لا يُطاق، أي التكليف بالإيمان والكفر معًا (الشرح، ص١٩٨).
١٨٣  هذا هو موقف الرازي الذي يجوز القدرة على الضدَّين وعلى الفعل والترك في القدرة البدنية وحدها دون الداعية الجازمة التي ترجح أحد الضدَّين (المعالم، ص٨٠).
١٨٤  عند القاضي يستحيل التكليف بالإيمان والكفر معًا (الشرح، ص٣٩٦).
١٨٥  (المحيط، ص٤٠٤–٤٠٦). وقد ألزم أبو الهذيل المجبرة بأن البدل مضاد للجبر (الانتصار، ص١٤).
١٨٦  تكليف ما لا يُطاق تكثر صوره؛ فمن صوره تكليف جمع الضدَّين وإيقاع ما يخرج من قبيل المقدورات. والصحيح عندنا أن ذلك جائز عقلًا غير مستحيل. واختلفوا في جواز تكليف من لا يعلم كالمغشيِّ عليه والميت! والدليل على جواز تكليف المحال الاتفاق على جواز تكليف العبد القيام مع كونه قاعدًا حال توجُّه الأمر إليه (الإرشاد، ص٢٢٦). وعند الغزالي يجوز أن يكلفهم الله ما لا يُطاق (الاقتصاد، ص٨٣)، فيقول إن الله يكلف العباد ما يطيقونه وما لا يطيقونه (الاقتصاد، ص٩٢). وكذلك تُجوِّز المجبرة تكليف الكافر بالإيمان وتكليف ما لا يُطاق نظرًا لمقارنة القدرة بمقدورها، وهو أيضًا قول ابن بشر وأصحابه (الشرح، ص٤٠٠، ص١٩٨). وعند بعض الإباضية والخوارج؛ يحيى بن كامل ومحمد بن حرب وإدريس الإباضي، أن الله كلف العباد على ما لا يقدرون عليه لتركهم له لا لعجزهم عنه (مقالات، ج١، ص١٣٤).
١٨٧  وعند الجويني يأمر الله الكافر بالإيمان، وذلك جائز عقلًا وواقع شرعًا عند الأشعري (الإرشاد، ص٢٢٧-٢٢٨). وقال أهل السنة: لا يمتنع تكليف ما لا يُطاق لثلاثة أسباب: (أ) علم الله تعالى من بعض الكفار أنه يموت على كفره. فإذا كلفه بالإيمان فقد كلفه بفعل الإيمان مقارنًا للعلم بعدم الإيمان، وهذا تكليف بالجمع بين الضدين. (ب) أن الله كلف أبا لهب بالإيمان، ومن الإيمان تصديق الله في كل ما أخبر عنه، ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن أبدًا، فيلزم أنه كلفه بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، وهو جمع بين النقيضَين. (ج) أن القدرة والداعية على الكفر من الله مجموعهما يوجب الكفر، فإذا كلَّفه بالإيمان فقد كلَّفه بما لا يُطاق (معالم، ص٨٢-٨٣).
١٨٨  لو كانت القدرة مقارِنة لمقدورها لوجب أن يكون تكليف الكافر بالإيمان تكليفًا لما يُطاق؛ إذ لو أطاقه لوقع منه، فلما لم يقع منه دلَّ على أنه غير قادر، وتكليف ما لا يُطاق قبيح، والله لا يفعل القبيح (الشرح، ص٣٩٦).
١٨٩  والاستطاعة مع الفعل، وهي حقيقة القدرة التي يكون بها الفعل، ويقع هذا الاسم على سلامة الأسباب والآلات والجوارح، وصحة التكليف تعتمد على هذه الاستطاعة، ولا يكلف العبد بما ليس في وسعه (النسفية، ص٩٦–١١٢).
١٩٠  عند ابن حزم الاستطاعة قسمان؛ أحدهما قبل الفعل وهي سلامة الجوارح وارتفاع الموانع، والثاني مع الفعل وهو خلق الله للفعل في فاعله، ولولاهما لم يقع الفعل (الفصل، ج٣، ص٢٧). وهشام بن الحكم الرافضي (مقالات، ج١، ص١١١-١١٢). من يقول بالاستطاعة قبل الفعل صحيح من حيث إن ذلك المزاج المعتدل سابق، ومن يقول الاستطاعة (وكذلك الرازي) مع الفعل صحيح من حيث إن عند حصول مجموع القدرة والداعي الذي هو المؤثر التام يجب حصول الفعل (المعالم، ص٧٩-٨٠). ويقسم الجويني الاستطاعة إلى ثلاث لحظات؛ حالة عدم، وحالة حدوث بعدها، وحالة بقاء بعد الحدوث. والثانية فقط تتعلق القدرة بها (الإرشاد، ص٢٢١).
١٩١  شرح التفتازاني، ص١٠٣-١٠٤؛ حاشية الخيالي، ص١٠٣–١٠٦؛ حاشية الإسفراييني، ص١٠٥-١٠٦.
١٩٢  قال الأستاذ (الإسفراييني) المؤثر في الفعل مجموع قدرة الله وقدرة العبد (مطالع، ص١٨٩). وقالت طائفة إن أفعال العباد واقعة بالقدرتَين (المواقف، ص٣١١-٣١٢). ويوفق الرازي بين القدرتَين إمَّا عن طريق جريان العادة أو عن طريق ذات الفعل، وفي الأولى مجرد وهمٍ ناشئ عن تداعي المعاني ونفي السببية، والثاني تجعل القدرة على الفعل من الله، والطاعة والمعصية من الإنسان ولكن يظل الإشكال قائمًا (المحصل، ص١٤٤).
١٩٣  ينفي المعتزلة تعلق فعل بقادرين (المحيط، ص٣٤٢، ص٣٥٦–٣٦٦). في أن الفعل الواحد لا يجوز أن يحدث من جهتَين ولا من قادرَين ولا بقدرتَين (مطالع، ص١٨٩). وحجة المعتزلة هي أن مقدورات العباد ليست مقدورة للرب لاستحالة إثبات مقدور بين قادرين. ويردُّ الأشاعرة على لسان الجويني بأن الرب قبل أن أقدَرَ عبده كان موصوفًا بالاقتدار على ما كان في معلومه أنه سيقدر عليه، والنفي إمَّا تجهيل أو تعجيز (الإرشاد، ص١٩٠).
١٩٤  ومن العجيب أن يحدث هذا في حركات الإصلاح الحديث؛ إذ يدافع محمد عبده مثلًا عن الكسب نافيًا عنه تهمة المشاركة لأن الإشراك اعتقاد بأن لغير الله أثرًا فوق ما وهبه الله من الأسباب الظاهرة كالاستنصار في الحرب بغير قوة الجيوش، والاستشفاء من الأمراض بغير الأدوية أو بغير الطرق والسنن التي شرعها الله لنا. هذا هو الشرك الذي كان عليه الوثنيون ومحاه الإسلام ورد الأمر فيما فوق القدرة البشرية والأسباب الكونية إلى الله وحده، وتقرير أمرَين عظيمَين هما ركنا السعادة وقوام البشرية: (أ) أن العبد يكسب بإرادته وقدرته ما هو وسيلة لسعادته. (ب) أن قدرة الله هي مرجع جميع الكائنات وأن من آثارها ما يحول بين العبد وبين إنفاذ ما يريده، وأن لا شيء سوى الله يمكن له أن يمد العبد بالمعونة فيما لم يبلغه كسبه … (الرسالة، ص٦١–٦٣).
١٩٥  عند أكثر أهل الإثبات الإنسان فاعل في الحقيقة بمعنى مكتسب وليس محدِثًا. وقال الكوشاني: ليس الإنسان خالقًا في الحقيقة بل مكتسب. وقال يحيى بن كامل: لا يفعل الباري على المجاز ولا يفعل الإنسان على المجاز، الإنسان مكتسب والله خالق (مقالات، ج٢، ص١٩٧-١٩٨).
١٩٦  ويقول بعض المعتزلة بالكسب مثل ضرار بن عمر وحفص الفرد وبعض أقوال الجبائي (الفصل، ج٣، ص٤١)؛ فعند ضرار بن عمر أعمال العباد مخلوقة، وأن فعلًا واحدًا لفاعلين أحدهما خلقه وهو الله والآخر اكتسبه وهو العبد، وكلاهما فاعل على الحقيقة (الفِرَق، ص٢١٤). ويقول حفص الفرد: أفعال العباد مخلوقة للباري حقيقة يكتسبها الإنسان حقيقة لحصول فعل بين فاعلين (الملل، ج٢، ص١٣٤). ويقول الجبائي: الذي يكتسب نفعًا أو ضرًّا يكون اكتسابًا كاكتساب الأموال، فالمال كسبه وإن لم يكن فعله (مقالات، ج٢، ص١٩٩).
١٩٧  هذه هي حجة القاضي عبد الجبار في «المحيط» ص٣٥٦–٣٥٨.
١٩٨  المحيط، ص٣٥٨–٣٦٦.
١٩٩  لو كان الكسب معقولًا لكان يجب أن نُسَمِّي القديم مكتسبًا والمعلوم خلافه (الشرح، ص٣٦٩-٣٧٠، ص٣٧٦). ولو جاز أن يخلق الإنسان بعض كسبه لجاز أن يخلق كل كسبه، كما أن القديم لو خلق بعض فعله لجاز خلق كل فعله (مقالات، ج٢، ص١٩٨).
٢٠٠  لو كان الكسب معقولًا لكان يمتنع من أن تكون هذه التصرفات بناءً عن طريق الحدوث، وما يدل على أن هذه التصرفات كسب لنا يدل على أنها تتعلق من جهة الحدوث (الشرح، ص٣٧١). وإذا كان الكسب يقع بقدرة مُحدِثة فهو الاختيار (الشرح، ص٣٦٩-٣٧٠، ص٣٧٦).
٢٠١  عند الأشعرية المكتسَب هو المقدور بالقدرة الحادثة ولا تأثير للقدرة الحادثة في الإحداث. فلو أثرت في قضية الحدوث لأثرت في كل حدوث كل محدث إحداث الجواهر والأعراض مما يؤدي إلى تجويز وقوع السماء على الأرض بالقدرة الحادثة؛ لذلك سلبها الله من العبد إلا وقت الفعل «ولماذا لا يقرر الإنسان ذلك ويأخذ القدرة وقت الفعل؟» (الملل، ج١، ص١٤٥–١٤٨)؛ لذلك يثبت الجويني القدرة والاستطاعة لأن نفيهما يأباه الحس والعقل، ويثبت أثرهما إلا من إثباتهما دون أثر مثل نفيهما. فالفعل يستند إلى القدرة، والقدرة إلى سبب، والسبب إلى سبب حتى الوصول إلى سبب الأسباب، وهو الخالق، وهو التفكير الطولي وليس الدائري (الملل، ج١، ص١٤٩)، انظر الفصل الخامس عن الوعي الخالص أو الذات.
٢٠٢  حتى الكسب خلق الله. من قال إن العبد مكتسب لأعماله والله خالق كسبه فهو سني (الفِرَق، ص٣٣٩). الله خالق أكساب العباد ولا خالق إلا الله (الفِرَق، ص٢٢٤، ص٢٣٨). الله يخلق أكساب عباده (الفِرَق، ص١٨٩؛ الفصل، ج٣، ص١٩). وعند أبي حنيفة: أعمال العباد كسب لهم والله خلقها (الفقه، ص١٨٥). وتجيز الصفاتية مقدورًا وحد القادرَين أحدهما خالقه والآخر مكتسب له، وليس الخالق مكتسبًا ولا المكتسب خالقًا (الفِرَق، ص١٧٨).
٢٠٣  خروج الألوان والطعوم ونحوها عن كونها مقدورة للعباد (الإرشاد، ص٢٨٢–٢٨٩).
٢٠٤  لو لم نكن محدثين لبطل الاستدلال عن الصانع (المحيط، ص٤١٩).
٢٠٥  الإرشاد، ص١٩٦-١٩٧.
٢٠٦  نمنع أن يكون العبد خالقًا مخترعًا له من العدم إلى الوجود. وهو ما لا يقدر عليه إلا الله، لا خالق سواه (الإنصاف، ص١٤٩-١٥٠). ويقول الرازي: لا نقول إن العبد ليس بقادر، بل نقول ليس خالقًا (اعتقادات، ص٦٨). وهو اتهام الفلاسفة للمعتزلة بأن حرية الأفعال تعني خلق الأشياء (الأصول، ص١٣٣).
٢٠٧  عند المرجئة الله خالق أكساب العباد (الفِرَق، ص٢٠٨). وعند أبي الحسن النجار الإنسان قادر على الكسب عاجز عن الخلق. والمقدور على كسبه هو المعجوز عن خلقه (مقالات، ج٢، ص٢١٨). وقد وافق الصفاتية في خلق الأعمال، فالله خالقها خيرها وشرها، حسنها وقبحها، والعبد مكتسب لها (الملل، ج١، ص١٣١). لذلك قالت الشعيبية (الخوارج) إن العبد مكتسب، ولا يقولون إنه موجد (اعتقادات، ص٤٩). وقد برئ أبو شعيب بن ميمون حين أظهر القول بالقدر (مثل المعتزلة) (الملل، ج٢، ص٤٥-٤٦).
٢٠٨  الخالق للشيء يجب أن يكون قادرًا على إعادته. والواحد مِنَّا لا يقدر على إعادة كسب. فابتداء وجود الكسب بقدرة غيره وهو القادر على إعادته (الأصول، ص١٣٦-١٣٧).
٢٠٩  القدرة الحادثة لا يتأتى بها إعادة ما اخترع بها أوَّلًا، فإذا اعترضت المعتزلة بأن القدرة الحادثة لا تصلح لإعادة ما يجوز في العقل إعادته، فهي لا تصلح لابتداء الخلق (الإرشاد، ص١٩٣-١٩٤).
٢١٠  القدرة الحادثة على أصولهم تتعلق بالوجود دون غيره من الصفات، فيجب تعلق القدرة الحادثة بجميع الحوادث، والقدرة الحادثة لا تتعلق بمحض الوجود بل بالذات وأحوالها.
٢١١  الصفات التي تختلف بها الحوادث ليست من آثار القدرة. وأمَّا الحدوث وإثبات الذوات فالرب مستأثر بها (الإرشاد، ص٢٠٧–٢٠٩). القدرة الحادثة لا تؤثر في مقدورها أصلًا (الإرشاد، ص٢١٠). وعند القاضي: ذات الفعل واقعة بقدرة الله، وكونه طاعة ومعصية بقدرة العبد (المحصل، ص١٤٠-١٤١). وعند أبي إسحاق: الفعل وصفاته تقع بالقدرتَين (المحصل، ص١٤١). وعند إمام الحرمين والفلاسفة والحسن البصري: الله موجب للعبد القدرة والإرادة، ثم هما يوجبان المقدور (المحصل، ص١٤١).
٢١٢  ما الفصل بين الوجود وبين الصفة الزائدة؟ … يجوز تقدير انتفائها أصلًا إذا انتفى الوجود (الإرشاد، ص١٩٤-١٩٥).
٢١٣  القدرة الحادثة تتضمن إثبات حال للمقدور بها … والخلق لا يتضمن إثبات الذات (الإرشاد، ص٢٠٦).
٢١٤  أجمع أهل السنة على أن الحركة والسكون يصح اكتسابهما، وكذلك الإرادة والاعتقاد والجهل والقول والسكون، ولا يصح اكتساب الألوان والطعوم والروائح والقدرة والعجز والسمع والبصر والرؤية والعمى والخرس واللذة والشهوة والأجسام (الأصول، ص١٣٩).
٢١٥  عند الكرامية: القدر خيره وشره من الله، وأنه أراد الكائنات كلها خيرها وشرها، وخلق الموجودات كلها حسنها وقبحها (الملل، ج١، ص٢١).
٢١٦  وعند الكرامية: للعبد قدرة حادثة تُسَمَّى كسبًا، وهي مؤثرة في إثبات فائدةٍ زائدة على كونه مفعولًا مخلوقًا للباري. هذه الفائدة هي مورد التكليف. والمورد هو المقابل بالثواب والعقاب (الملل، ج١، ص٢١). ويعترض القاضي عبد الجبار بأنه لو كان الكسب معقولًا لكان لا يصح أن يكون من جهة استحقاق المدح والذم والثواب والعقاب (الشرح، ص٣٧٠-٣٧١).
٢١٧  حاولت إحدى حركات الإصلاح الحديث إبراز ذلك، ولكنها ظلت في نطاق الكسب. فعند محمد عبده: كل نوع من الوجود له ميزةٌ خاصة وكيان، ومن ضمن ميزات النوع الإنساني أن يكون مفكرًا مختارًا في عمله على مقتضى فكره. فوجوده الموهوب مستتبع لمميزاته هذه. ولو سلب شيء منها لكان إمَّا ملكًا أو حيوانًا آخر. والغرض أنه الإنسان. فهبة الوجود له لا شيء فيها من القهر على العمل ثم على الواجب محيط بما يقع للإنسان بإرادته وبأن كذا يصدر في وقت كذا وهو خير يُثاب عليه وأن عمل آخر شر يُعاقَب عليه عقاب الشر. والأعمال في جميع الأحوال حاصلة على الكسب والاختيار. فلا شيء في العالم بسالب التخيير في الكسب، وكون ما في العالم يقع لا محالة إنما جاء من حيث هو الواقع، والواقع لا يتبدل … (الرسالة، ص٦٣-٦٤).
٢١٨  بالرغم من أن لفظ الجبر ليس في أصل الوحي ولا لفظ الحرية، وأن لفظ الخلق بمعنى الإيجاد للأشياء من عدم وليس خلق الأفعال، إلا أن لفظ «الكسب» موجود في أصل الوحي؛ فقد ذكر اللفظ ٦٧ مرة، كلها أفعال مُضافة إلى شتى الضمائر؛ مما يدل على أنه لفظ فعل وليس اسمًا أو نظرية. وتشير الضمائر إلى الكسب الجمعي أكثر منها إلى الكسب الفردي؛ فالضمائر الفردية ٢٧ مرة والجمع ٣٩ مرة والمثنى مرةً واحدة. والكاسب في الغالب هو النفس (١٧ مرة) أي الشعور أو الإنسان أو الفرد من خلال العمل الأخلاقي وليس مجرد العمل البدني. وقد يكون الكاسب هو القلب (مرة واحدة) أو الأيدي (مرتان) للدلالة على أفعال القلوب والجوارح. وقد يكون الكاسب مجرد ضميرٍ منفصلٍ مفرد مثل من أو أسماء موصولة مثل الذين أو أسماء الإشارة مثل أولئك. وقد يُشار إليه بعبارة امرئ أو الناس أو النساء أو الرجال، وربما بمزيد من التعيين مثل السارق والسارقة أو المنافقين أو الذين ظلموا أو الذين آمنوا. أمَّا أفعال الكسب ففي الغالب أفعالٌ سلبية مثل السيئة (٤ مرات) والإثم (٤ مرات) أو الخطيئة والفساد والمصيبة (كل منها مرةً واحدة) أكثر منها أفعالًا إيجابية مثل الخير والطيبات (مرةً واحدة). فالإنسان مسئول عن الخير والشر معًا، وهو الفرق بين الكسب والاكتساب، الأوَّل لها والثاني عليها كما هو واضح في آية: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (٢: ٢٨٦)، والتأكيد على مسئولية الإنسان عن الشر: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ (٤: ١١١)، إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (٦: ١٢٠)، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (٤٢: ٣٠). وفعل الكسب ليس هو الكسب المادي بل هو الفعل الأخلاقي الذي لا يُغني عنه الفعل المادي شيئًا: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (١١١: ٢). وتبدو المسئولية الفردية في عدة آيات مثل: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (٥٢: ٢١)، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٧٤: ٣٨)، وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا (٦: ١٦٤). أو المسئولية الجماعية للناس أو القوم أو الأمة: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ (٢: ١٣٤)، (٢: ١٤١)، لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٤٥: ١٤). وعلى مسئولية الإنسان عن الخير والشر يترتب الاستحقاق وفقًا لأصل العدل مثل: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢: ٢٨١)، (٣: ١٦١)، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٣: ٢٥)، لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ (١٤: ٥١)، الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ (٤٠: ١٧)، وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٤٥: ٢٢). ولا يوجد المعنى الأشعري للكسب على الإطلاق، فآية: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا (٢: ٢٦٤) إنما تتحدث عن الذين يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى، فيبطلون أفعالهم دون ما ذكر لتدخل إرادةٍ خارجية فيها في الأوَّل أو في الثاني. وكذلك آية: لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ (١٤: ١٨) تشير إلى ضرورة النظر، أي الإيمان، كأساس للعمل وإلا كان العمل هاويًا لا أساس له، دون أية إشارة إلى تدخل إرادةٍ خارجية فيه. فالكسب الأشعري تدمير للفعل الإنساني لحساب فعل الآخر، الله في الظاهر والسلطة في الباطن.
٢١٩  هذا هو موقف جمهور المعتزلة: الله غير خالق لأكساب الناس ولا لشيء من أعمال الحيوانات، والناس هم الذين يقدرون على أكسابهم، وليس لله في أكسابهم ولا في أعمال سائر الحيوانات صنع وتقدير؛ ولذلك سموا القدرية (الفِرَق، ص١١٤-١١٥). العبد موجد لأفعاله، لا على نعت الإيجاب، بل على صفة الاختيار (المحصل، ص١٤١). الله قدر كل شيء، ما خلا الأعمال (التنبيه، ص١٦٩). خالق أفعال العبد هو العبد (المسائل، ص٣٧٤). العباد خالقون أعمالهم (الأصول، ص١٣٥). أفعال العباد واقعة بقدرة العبد وحدها (المواقف، ص٣١١). العبد يوجد فعله باختياره (مطالع، ص١٨٩). أفعال العباد غير مخلوقة فيهم، وإنهم هم المحدثون لها (الشرح، ص٣٢٣-٣٢٤). نفي كونه تعالى خالق أفعال العباد (المحيط، ص٢٢٩). إثبات الحوادث وإثبات كونها أفعالًا للفاعلين … لا يصلح الفاعل إلا بإثبات فعل يُضاف إليه (المحيط، ص٣٤٠). إن الله ليس خالقًا لأفعال العباد (اعتقادات، ص٣٨). لم يخلق الله شيئًا من أكساب العباد (الفِرَق، ص٣٣٨). العبد خالق لأفعاله، خيرها وشرها (الملل، ج١، ص٦٧). أفعال العباد مخلوقة بقدرة العباد، وإن كل واحد مِنَّا منشئ ما سينشئ ويخلق ما يفعل وليس لله على أفعالنا قدرة جملة (الإنصاف، ص١٤٤).
٢٢٠  واتفقت المعتزلة ومن تابعهم من أهل «الأهواء» على أن العباد موجدون لأفعالهم مخترعون لها بقدرتهم، واتفقوا أيضًا على أن الرب لا يتصف بالاقتدار على مقدور العباد، كما لا يتصف العباد على مقدور الرب … ثم تجرأ المتأخرون منهم وسموا العبد خالقًا على الحقيقة. وأبرم بعض المتأخرين ما فارق به ربقة الدين فقالوا: العبد خالق والرب لا يُسَمَّى خالقًا على الحقيقة (الإرشاد، ص١٨٧-١٨٨). ثم المتقدمون منهم كانوا يمتنعون عن تسمية العبد خالقًا لقرب عهدهم بإجماع السلف على أنه لا خالق إلا الله (الإرشاد، ص١٨٧). وقالت المعتزلة إلا الناشئ إن الإنسان فاعلٌ محدث ومخترع ومنشئ على الحقيقة دون المجاز (مقالات، ج٢، ص١٩٧).
٢٢١  قالت القدرية: العباد خالقون لأكسابهم، وكل حيوان مُحدِث لأعماله، وليس لله شيء في أعمال الحيوان صنع. وذكر أكثرهم أن الله غير قادر على مقدور غيره (الأصول، ص١٣٥).
٢٢٢  قال بعض المعتزلة إن معنى خالق وفاعل واحد، ولكن لا يُطلَق ذلك في الإنسان لأنَّا مُنعنا منه. وقال البعض الآخر إن الخلق فعل لا بآلة ولا بجارحة، وهذا يستحيل من الإنسان. وقال بعضٌ ثالث إن معنى خالق أنه وقع منه الفعل مقدرًا. فكل من وقع فعله مقدرًا فهو خالق له قديمًا كان أم محدثًا (مقالات، ج١، ص٢٧٣).
٢٢٣  المعارضة السياسية من الخارج هي فرقة الخوارج، ومن الداخل العلنية هم المعتزلة، ومن الداخل السرية هم الشيعة. انظر «الخاتمة من الفرقة المذهبية إلى الوحدة الوطنية»، عند الكعبي من المعتزلة: لم يخلق الله أعمال العباد (الفِرَق، ص١١٦). وعند النظام: العبد قادر على الأشياء لا يقدر الله على خلقها (اعتقادات، ص٤١). وعند معمر: القدرة من فعل الجسم القادر عليها وليست من فعل الله (الفِرَق، ص١١٦). وعند عمر وواصل: الفعل مخلوق للعبد (الملل، ج٢، ص٥٢). وكفر أبو موسى المردار من قال إن أعمال العباد مخلوقة لله (الملل، ج١، ص١٠٤). وينفي الخياط عن أبي موسى المردار اتهام ابن الراوندي له بأنه يجيز وقوع فعل من فاعلين على التولد قائلًا: وقد بلغ من استعظام أبي موسى للجبر أنه أكفر المجبر، وأكفر الشاك في كفره، والشاك في الشاك، كل ذلك استعظامًا للجبر وتنزيهًا لله عن الظلم (الانتصار، ص٦٦-٦٧). وقد أثبت أبو هاشم والجبائي الفعل للعبد خلقًا وإبداعًا، وإضافة الخير والشر والطاعة والمعصية إليه استقلالًا واستبدادًا (الملل، ج١، ص١٧٧). وعند الجبائي: الخالق للشيء إنما يخلقه بأن يجعله على حال، ثم لا يصف تلك الحال بأنها موجودة ولا معدومة ولا بأنها معلومة ولا مجهولة (الأصول، ص١٣٤). ويقول أبو الحسين النجار إن أفعال العباد مخلوقة للعباد بقدرة العباد، وإن كل واحد مِنَّا ينشئ ما ينشئ ويخلق ما يفعل وليس لله على أفعالنا قدرة جملة (الإنصاف، ص١٤٤).
٢٢٤  معظم الخوارج يقولون بقول المعتزلة في القدر، ولكن يثبته بعض منهم فقط لما كانوا أهل عمل وليسوا أهل نظر (مقالات، ج١، ص١٨٩). فقد قالوا: أفعال العباد محدثة، فعلها فاعلوها ولم يخلقها الله (الفصل، ج٣، ص٤١). وقالت طائفة منهم: الإنسان ليس مجبرًا، وله قوة واستطاعة يفعل بها ما اختار فعله (الفصل، ج٣، ص١٨). وقالت الميمونية (العجاردة) بالقدر على مذهب المعتزلة، فالله فوَّض الأعمال للعباد وجعل لهم الاستطاعة إلى ما كلفوا. فهم يستطيعون الكفر والإيمان جميعًا وليس لله في أعمال العباد مشيئة، وليست أعمال العباد مخلوقة له (مقالات، ج١، ص١٦٥). كما أثبتت الحمزية والأطرافية القدر خيره وشره من العبد، وأثبتت الفعل للعبد خلقًا وإبداعًا (الملل، ج٢، ص٤٤–٤٧). وقالت: لو عذب الله العباد على أفعال قدَّرها عليهم أو على ما يفعلونه كان ظالمًا (الملل، ج١، ص٤٥). وقالت الشبيبية بقول المعتزلة في القدر، فبرئت منهم البهيسية (مقالات، ج١، ص١٨٠). ثم منهم من وافق القدرية في القدر، وقالوا إن الله فوَّض إلى العباد، فليس لله في أعمال العباد مشيئة (الملل، ج٢، ص٤١). وقالت الإباضية بالقدر مثل المعتزلة (مقالات، ج١، ص٢٧١؛ الملل، ج٢، ص٥٥). وتقول المعلومية: الفعل مخلوق للعبد (الملل، ج٢، ص٥٢). بل إن أفعال الله غير مخلوقة لله (الفِرَق، ص٩٧).
٢٢٥  تقول الروافض إن أفعال العباد مخلوقة للعباد بقدرة العباد، وإن كل واحد مِنَّا ينشئ ما ينشئ ويخلق ما يخلق، وليس لله على أفعالنا قدرة جملة … (الإنصاف، ص١٤٤). يقول فريقٌ آخر إن أعمال العباد غير مخلوقة، وهذا قول قوم يقولون بالاعتزال والإمامة (مقالات، ج١، ص١١٠). وقالت طائفة: الإنسان ليس مجبرًا، وله قوة واستطاعة يفعل بها ما اختار فعله (الفصل، ج٣، ص١٨). وقالوا أيضًا: أفعال العباد محدثة، فعلها فاعلوها ولم يخلقها الله (الفصل، ج٣، ص٤١). وعند فريق من الزيدية أن أعمال العباد غير مخلوقة لله ولا محدثة ولا مخترعة، وإنما هي كسب للعباد أحدثوها واخترعوها وأبدعوها وفعلوها (مقالات، ج١، ص١٣٩).
٢٢٦  صنف من المرجئة يثبت القدرة كالمعتزلة وغيلان وأبي شمر ومحمد بن شبيب البصري (الفِرَق، ص٢٠٢). وقالت طوائف منهم مثل محمد بن رشيد ومؤنس بن عمران وصالح قبة والناشئ إن الإنسان ليس مجبرًا، وله قوة واستطاعة يفعل بها ما اختار فعله (الفصل، ج٣، ص١٨). وقالت: أفعال العباد محدثة فعلها فاعلوها ولم يخلقها الله (الفصل، ج٣، ص٤١). وقال صنف منهم بالقدر على مذهب القدرية (الفِرَق، ص٢٥؛ مقالات، ج١، ص٢١٥). وكان غيلان الدمشقي يقول بالقدر خيره وشره من العبد (الملل، ج٢، ص٦٢-٦٣).
٢٢٧  فإن قالوا: لم سميتمونا قدرية؟ قيل لهم: لأنكم تزعمون في أكسابكم أنكم تقدرونها وتفعلونها مقدرة لكم دون خالقكم، والقدري هو من ينسب ذلك لنفسه. القدري من يدَّعي أنه يفعل أفعاله مقدرة له دون ربه، ويزعم أن ربه لا يفعل من اكتسابه شيئًا (اللمع، ص٩٠-٩١). القدرية هم المجبرة لا المعتزلة لتكرارهم وذكرهم القدر في كل الحوادث (المحيط، ص٢٤١-٢٤٢).
٢٢٨  القدرية هم المجبرة لا المعتزلة؛ لأن مذهب المجبرة فاسدٌ مذموم مثل مذهب المجوس، يثبت الأمور المذمومة قدر الله (المحيط، ص٤٢١-٤٢٢).
٢٢٩  القدرية عندنا هم المجبرة والمشبهة، وعندهم المعتزلة. فنحن نرميهم بهذا اللقب وهم يرموننا به. إن المعتزلة كانت تلقبنا بالقدرية فقلبناها عليهم، وقد أعاننا السلطان على ذلك، وذم القدرية يجري على من له مذهبٌ مذموم في القدر وهو مذهب المجبرة، وهو يشبه مذهب المجوس في الآتي: (١) نكاح البنات والأمهات بقضاء الله وقدره. (٢) مزاج العالم واحد حسن من النور قبيح من الظلمة، وتقول المجبرة الكفر واحد حسن من الله وقبيح مِنَّا. (٣) جواز تكليف ما لا يُطاق. (٤) القادر على الخير لا يقدر على خلافه، بل يكون مطبوعًا عليه، والقادر على الإيمان لا يقدر على الكفر بل يكون محمولًا عليه. (٥) قضاء الله لأنهم يحتجون بالقدر. (٦) يشهدون الزور لإبليس ويجعلونه سبب الغواية. (٧) القدري اسم نسبة، والنسبة تكون نسبة قرابة أو صناعة أو بلد أو لهجة بكلمة أو إثبات، والمجبرة هم الذين يثبتون القدر ويتكلمون به. (٨) القدر بمعزل عن القدرة. (٩) المجوس يثبتون فاعلية بالطبع والمعتزلة بالاختيار. (١٠) إضافة المجبرة المحتجات إلى الله. (١١) سدت المجبرة على أنفسها معرفة الله. (١٢) لم يعد هناك إمكانية لإثبات النبوة. (١٣) القضاء على الدواعي والمقاصد والاستحقاق (الشرح، ص٧٧٢–٧٧٩).
٢٣٠  وقوع تصرفنا بحسب دواعينا وتصورنا وغير ذلك من أحوالنا حاصل على وجه لا يمكن دفعه عن النفس، ومعلوم استمرار ذلك (المحيط، ص٣٤٧-٣٤٨). كما يشهد سليم العقل والحواس من نفسه أنه موجود، ولا يحتاج في ذلك إلى دليل يهديه ولا معلم يرشده، كذلك يشهد أنه ملك لأعماله الاختيارية يزن نتائجها بعقله، ويقدرها بإرادته، ثم يصدرها بقدرة ما فيه. ويعد إنكار كل شيء مساويًا لإنكار وجوده في مجافاته لبداهة العقل (الرسالة، ص٥٩).
٢٣١  هذه هي اعتراضات الأشاعرة.
٢٣٢  صار المعتزلة فريقَين: أبو الحسين ومن اتبعه يرى في إيجاد العبد لفعله الضرورة، وذلك أن كل أحد يجد من نفسه التفرقة بين حركتَي المختار والمرتعش والصاعد إلى المنارة والهادي منها ويجعل إنكاره سفسطة (المواقف، ص٣١٣).
٢٣٣  هذه التصرفات يجب وقوعها بحسب قصودنا ودواعينا، ويجب انتفاؤها بحسب كراهتنا وصارفنا مع سلامة الأحوال إمَّا ممتنعًا وإمَّا مقدَّرًا. فلولا أنها محتاجة إلينا ومتعلقة بنا وإلا لما وجب ذلك فيها؛ لأن هذه الطريقة تثبت احتياج الشيء إلى غيره، كما يعلم احتياج المحرك إلى الحركة والساكن إلى السكون. الشرح (ص٣٦٦-٣٦٧). وإذا أردت أن تعلم الفاعل بعينه فلك فيه طريقان: أحدهما أن تختبر حالة، فإن وجدت الفعل يقع بحسب قصده ودواعيه، وينتفي بحسب كراهته وصارفه حكمتَ بأنه فعل له على الخصوص. والطريقة الثانية هو أن تعلن أن هذا المقدور لا يجوز أن يكون مقدورًا بالقدرة، فيجب أن يكون مقدورًا للقادر ذاته وهو الله (الشرح. ص٣٢٥).
٢٣٤  فإن قيل: فعل الملجأ يقع بحسب قصد الملجئ ودواعيه، ولا يدل على الفعل قيل: فعل الملجئ يتم أيضًا حسب القصد والدواعي (الشرح، ص٣٣٨-٣٣٩).
٢٣٥  فإن قيل: هذه التصرفات يخلقها الله مطابقًا لقصودكم ودواعيكم بمجرى العادة، قيل: ما لم نعلم المحدِث في الشاهد لا يمكننا أن نعلم المحدث في الغائب. والطريق إلى إثبات المحدث في الغائب هو أن هذه التصرفات محتاجة إلينا ومتعلقة بنا في الاحتياج إلى محدِث وفاعل. وإنما احتاجت إلينا لحدوثها، فكل من شاركها في الحدوث وجب أن يشاركها في الاحتياج إلى محدث وفاعل. فإن قيل: يجوز أن يكون في الغائب محدِث يُحدث هذه التصرفات عند القصود والدواعي لمجرى العادة قيل مستحيل (الشرح، ص٣٤٠-٣٤١).
٢٣٦  فإن قيل هذا باطل بالساهي فإنه محدث وإن لم تقع تصرفاته فحسب قصده ودواعيه قيل: هذا هو العكس لا الطرد (الشرح، ص٣٤٢-٣٤٣).
٢٣٧  فإن قيل: مطلوب بيان أن وجه الحاجة هو الحدوث، قيل: حالنا (الشرح، ص٣٤٣-٣٤٤).
٢٣٨  فإن قيل: لم لا يجاوز التعلق من جهة المعلول؟ قيل هناك فرق بين الأفعال والأشياء (الشرح، ص٣٤٤).
٢٣٩  إضافة الفعل إلى العباد كسبًا في أفعالهم وتعليقًا بمشيئتهم حجةٌ نصية حولناها إلى تجربةٍ بشرية (المواقف، ص٣١٥-٣١٦؛ المحصل، ص١٤٢-١٤٣؛ مطالع، ص١٩١؛ المحيط، ص٣٧٩).
٢٤٠  اعتراف الأنبياء بذنوبهم وإضافتها إلى أنفسهم، واعتراف الكفار والعصاة بأن كفرهم ومعاصيهم كانت فيهم (المواقف، ص٣١٦؛ المحصل، ص٢٤٣؛ مطالع، ص١٩١؛ المحيط، ص٣٧٩).
٢٤١  أفعال الله منزهة أن تكون أفعال العباد من التفاوت والاختلاف والعلم (المواقف، ص٣١٥؛ المحصل، ص١٤٢؛ مطالع، ص١٩١؛ المحيط، ص٣٧٩؛ الشرح، ص٣٥٥–٣٦٠). لا يوجد باطل في خلق الله (الشرح، ص٣٦٢-٣٦٣).
٢٤٢  والمعتزلة ينكرون القضاء والقدر في الأفعال الاختيارية الصادرة عن العباد، ويثبتون علم الله بهذه الأفعال. ولا يعيدون وجودها إلى هذا العلم بل إلى اختيار العباد (الدر، ص١٤٨). عند حدوث الداعية يصير الفعل أولى بالوقوع ولا ينتهي إلى حد الوجوب (معالم، ص٧٣). وقد كفر أبو موسى المردار أصحاب القضاء والقدر. وكذلك من وصف الله بأنه يقتضي المعاصي على عباده ويقدرها فمُسفِّه لله في فعله، والمسفِّه لله كافر به (الانتصار، ص٦٨). وإن قيل: هل أفعال العباد مخلوقة لله وهي موقوفة على قصودهم ودواعيهم إن شاءوا فعلوها وإن كرهواال كثير من المعتزلة: تستعمل تركوها. الفعل فعل لفاعله. لو كانت مخلوقة لما استحق عليها المدح والذم والثواب والعقاب. لو كانت بقضاء الله وقدره للزم الرضا بها أجمع وفيه الكفر والإلحاد، والرضا بالكفر كفر (الشرح، ص٧٧١). لا يصح إضافة جميع الأفعال إلى أنها بقضاء من الله لإيهامه أنه فعلها (المحيط، ص٤٢١).
٢٤٣  القضاء يعني: (أ) الفعل دائمًا والفراغ منه. (ب) الإلزام (الإيجاب والإثبات). (ج) الإخبار والإعلام. والقدر يعني: (أ) الفعلية. (ب) الإخبار (المحيط، ص٤٢٠-٤٢١؛ الشرح، ص٧٧٠). هل يُقال الكل بقضاء الله أم لا؟ إن أريد الإعلام والإخبار فصحيح، وإن أريد الإلزام فيصح في البعض دون البعض. وإن أريد الخلق فلن يصح في شيء من أفعال العباد. وكذلك الحال في القدر. إنما يُقال فيما خلقه وفعله ولا يختص بالأفعال التي تتعدى دون ما يختص نفس الفاعل. فهكذا يصح في جميع خلقه وفعله أنه قضاء (المحيط، ص٤٢٠-٤٤١).
٢٤٤  والذي يدل على ذلك أن نفصل بين المحسن والمسيء وبين حسن الوجه وقبيحه، فنحمد المحسن على إحسانه ونذم المسيء على إساءته … فلولا أن أحدهما متعلق بنا وموجود من جهتنا بخلاف الآخر، وإلا لما وجب هذا الفصل (الشرح، ص٣٣٢). العاقل في الشاهد لا يشوِّه نفسه لعلمه بقبح الأفعال. فإن قيل: قبيح من الإنسان لا من الله، قيل: ربما في الشرعيات لا في العقليات (الشرح، ص٣٤٤-٣٤٥). التمييز بين الحسن والقبيح والإحسان والإساءة والمدح والذم، فإن قيل: هذه أفعال ليست من اختيار الإنسان كالإيمان وتأثير الفعل، قيل: بل أفعال من اختياره ومن تأثيره. فإن قيل: إن ذلك يجعل الله غير قادر على فعل القبيح، قيل: الله قادر على أن يجعله من فعل العباد. فإن قيل أخيرًا: هذا استدلال بنوع الشيء على أصله. قيل: بل استدلال من الجملة إلى التفصيل (الشرح، ص٣٤٦).
٢٤٥  الأمر من الله ولا أمر بلا قدرة (الإرشاد، ص٢٠٣). أمر العباد بالمسارعة إليها قبل فواتها (المواقف، ص٣١٦؛ المحصل، ص١٤٣؛ مطالع، ص١٩١؛ المحيط، ص٣٧٩).
٢٤٦  الاستدلال بطريقة الأمر والنهي وغيرهما من الأحكام الراجعة إلى الأفعال. هذه الطريقة لا بد أن يتقدم فيها العلم بتعلق الفاعل بفعل (المحيط، ص٣٤٧-٣٤٨).
٢٤٧  العبد مطالب من ربه بالطاعة، ويستحيل في العقول أن يطالب العبد بما لا يقع منه (الإرشاد، ص٢٠٣). الله لا يريد من العباد إلا الطاعة (الشرح، ص٣٦٢).
٢٤٨  من لغو الكلام أن يقول القائل لمن يخاطبه: افعل ما أنا فاعله وأبدع ما أنا مبدعه (الإرشاد، ص٢٠٣).
٢٤٩  أوامر الشرع وزواجره تتعلق بالأحوال المعلَّلة بعللها، والقدرة علة الفاعل (الإرشاد، ص٢٠٥).
٢٥٠  الظلم كل ضرر لا نفع فيه ولا دفع ضرر لا معلومًا ولا مظنونًا في الحاكم كأنه من جهة غير فاعل الضرر. والتعريفات الأخرى للظلم مثل: ما ليس لفاعله أن يفعله أو وضع الشيء في غير موضعه لا تمنع من إضافة الظلم إلى الله. فهي إلزام بالمعنى دون العبارة، جعل الله فاعلًا للظلم ولما هو أفحش. إطلاق العبارة كفر لتضمنه إضافة الظلم لله. لو كان فاعلًا للظلم لكان الظلم منه ومن عنده. لو كان فاعلًا للظلم لوجب أن نُرجع إليه أحكام الظلم من الذم والاستحقاق وجميع القبائح من الكذب والعبث. والتعريفات الأخرى مثل: فاعل للظلم وظالم واحد أو الظالم اسم لمن فعل الظلم لا تغير شيئًا لأنه لو كان الظالم اسمًا لمن فعل الظلم لوجب تفرد الله بالظلم. ولو كان الظالم هو من جعل الظلم ظلمًا له لكان خالقًا للظلم. ولو لم ينفرد الله بالظلم كان غير ظالم. وما دام الظالم صفة مشتقة من الفعل فالله ظالم إذا فعل الظلم (الشرح، ص٣٤٥–٣٥٤).
٢٥١  مدح المؤمن على الإيمان وذم الكافر على الكفر والمعاصي ووعد الثواب على الطاعة حجةٌ نصية حولناها إلى تجربةٍ بشرية (المواقف، ص٣١٤؛ المحصل، ص١٤٢؛ مطالع، ص١٩١؛ المحيط، ص٣٧٩). تقول المعتزلة: العلم بكون العبد موجدًا لأفعاله ضروري، والدليل عليه أن العلم بحسن المدح والذم عليه ضروري، والعلم الضروري حاصل بأن حسن المدح والذم يتوقف على كون الممدوح والمذموم فاعلًا، وما يتوقف عليه العلم الضروري أولى بأن يكون ضروريًّا (معالم، ص٧٥). وتقول أيضًا: إن فعل العبد لو كان بخلق الله لما كان متمكنًا من الفعل البتة؛ لأنه إن خلقه الله فيه كان واجب الحصول وإن لم يخلقه الله فيه كان ممتنع الحصول ولو لم يكن العبد متمكنًا من الفعل والترك لكانت أفعاله جارية مجرى العادات. وكما أن البديهية جازمة بأنه لا يجوز أمر الجماد ونهيه ومدحه وذمه وجب أن يكون الأمر كذلك في أفعال العباد. ولما كان ذلك باطلًا علمنا كون العبد موجِدًا (المحصل، ص١٤٢).
٢٥٢  هناك حساب وعقاب، ولا حساب ولا عقاب بلا حرية (الإرشاد، ص٢٠٨). الجزاء والعقاب كحجةٍ نصية (الشرح، ص٣٦١).
٢٥٣  عند النظام سبيل كون الروح في البدن على جهة أن البدن آفة عليه وباعث له على الاختيار. ولو خلص منه لكانت أفعاله على التولد والاضطرار (مقالات، ج٢، ص٢٧). الروح التي هي الإنسان مستطيع بنفسه، ويعجز لآفة تدخل عليه (الفِرَق، ص١٣٦). وعند النظام أيضًا لا بد من خاطرين أحدهما يأمر بالإقدام والآخر بالكف ليصح الاختيار، وهو صراع العواطف أو تداخل البواعث (الملل، ج٣، ص٨٨). وعند بشر بن المعتمر: إذا كان الإنسان مختارًا في فعله فإنه يستغني عن الخاطرين، فإن الخاطرين لا يكونان من قبل الله وإنما هما من قبل الشيطان، والفكر الأوَّل لم يتقدمه شيطان يخطر الشك بباله، ولو تقدم فالكلام في الشيطان كالكلام فيه (الملل، ج٣، ص٣٨).
٢٥٤  اختلفوا في الإرادة هل هي مختارة أم اختيار أم ليست مختارة، فقالوا: (أ) هي مختارة كما أنها اختيار، ولم يجيزوا أن تكون مرادة كما أنها مختارة. عند فريق الإرادة مختارة كما أنها اختيار، ولا تكون مرادة كما أنها مختارة. (ب) الإرادة اختيار وليست بمختارة (مقالات، ج٢، ص٥٩ ب). وعند الجبائي الإنسان مختار والاختيار غير المختار، كما أن الإرادة غير المراد (مقالات، ج٢، ص٢٠١). واختلفوا في الإيثار: (أ) الإيثار هو الاختيار والإرادة، والمراد لا يكون إيثارًا ولا اختيارًا. (ب) الإيثار هو الإرادة، والاختيار قد يكون إرادة وقد يكون مرادًا (مقالات، ج٢، ص٩٤-٩٥). ومن الناس من ذهب إلى أن الفعل إنما يقع بطبع المحل أو بقوة له غلبة على ما ذكر عن الأوائل المتفلسفين. والطبع غير معقول، فإذا كان الفاعل المختار فهو ما نقوله. ولكن العبارة فاسدة لأن العرب لا تُسَمِّي الفاعل المختار طبعًا، وإن كان أمرًا موجبًا، فالفعل يصدر عن الجملة، والمؤثر فيه لا بد أن يكون راجعًا إلى الجملة (الشرح، ص٣٢٥-٣٢٦).
٢٥٥  واختلفت المعتزلة في إرادة العباد، هل لها إرادة، على مقالتَين: (أ) لا يجوز أن تكون للإرادة إرادة لأنها أول الأفعال. (ب) أجاز الجبائي أن يريد للإنسان إرادته (مقالات، ج٢، ص٩٣).
٢٥٦  اختلفوا: هل تدعو النفس إلى الإرادة ويدعو إليها الخاطر، فأجازه قوم ومنعه آخرون (مقالات، ج٢، ص٩٣-٩٤).
٢٥٧  عند الجبائي الإرادة ليست هي الضمير، والضمير محل الإرادة.
٢٥٨  عند أبي الهذيل والنظام ومعمر وجعفر بن حرب والإسكافي والأولى والشحام وعيسى الصوفي: الإرادة موجبة لمرادها لو كانت متصلة به مع جواز منع الإرادة عن مرادها، ونفى ذلك بشر بن المعتمر وهشام الفوطي وعباد بن سليمان وجعفر بن المبشر والجبائي. ومنع الحسين النجار تدخل الله بين الإرادة والمراد بالمنع (مقالات، ج٢، ص٩٠-٩١).
٢٥٩  مقالات، ج٢، ص٩١-٩٢.
٢٦٠  الفعل إمَّا أن يحدث وليس صفةً زائدة على حدوثه أصلًا أو له صفةٌ زائدة على حدوثه. فالأول ما يقع من الحركة اليسيرة والكلام من الساهي والنائم … وإمَّا أن تكون له صفةٌ زائدة على حدوثه، فهذا إمَّا أن يقع ممن هو عالم به أو يقع ممن لا يعلم. فإن وقع ممن هو عالم به فإمَّا أن يقع ولا إلجاء ولا إكراه، أو يقع وهناك إلجاء وإكراه، فهذا الثاني أيضًا لا حكم فيه (المحيط، ص٢٣٢).
٢٦١  لا يخرج فعل العبد من وجوهٍ ثلاثة: (أ) عالم بالإلجاء وهو أن يقع الإكراه والحمل، ولا بد من وقوعه؛ إذ إن داعي الإلجاء لا يعارضه شيء من الدواعي، إمَّا على سبيل المنع أو على سبل النافع ودفع الضار. وهو فعل لا يتوجَّه إليه مدح أو ذم أو أمر أو نهي لعدم وجود داعٍ قوي. وهو ليس بواجب ويلزم له العوض. (ب) عالم بلا إلجاء وهو أن يقع مؤثرًا له مختارًا في فعله. مختار مؤثر للفعل على غيره بداعٍ يصح أن يقابله غيره من الدواعي. كل الأحكام تثبت فيه. ويصح ورود التكليف. (ج) ليس بعالم وهو أن يقع على وجه السهو، لا مدخل له في التكليف أو الوصف بالحسن أو القبح، وهو فعل بلا داعٍ ولا يلزم فيه العوض (المحيط، ص٣٤٨-٣٤٩).
٢٦٢  أجمعت المعتزلة إلا الجبائي على أن الإنسان يريد أن يفعل ويقصد أن يفعل (مقالات، ج٢، ص٩٢). وأن إرادته لأن يفعل لا تكون في حال كونه، والقصد لكون الفعل لا يتقدم الفعل، وأن الإنسان لا يوصف بأنه في الحقيقة مريد أن يفعل، وأن إرادة الباري مع مراده. أمَّا عند أبي الهذيل فإرادة الباري مع مراده، ومحال أن تكون إرادة الإنسان لكون الفعل مع الفعل (مقالات، ج٢، ص٩٢).
٢٦٣  يقول أبو الهذيل بطاعاتٍ كثيرة لا يراد الله بها حتى لُقِّب هو وأصحابه أصحاب طاعة لا يُراد الله بها. وقال بأنه ليس في الأرض صاحب هوًى ولا زنديق إلا وهو مطيع لله في أشياءَ كثيرة، وإن عصاه من جهة كفره (الفِرَق، ص١٢٥-١٢٦). ويستدل قائلًا: أوامر الله بإزائها زواجر. فلو كان من لا يعرف ترك جميع أوامره وجب أن يكون قد صار إلى جميع زواجره، وأن يكون من ترك جميع الطاعات قد صار إلى جميع المعاصي. ولو كان كذلك الدهري يهوديًّا ونصرانيًّا ومجوسيًّا وعلى أديان سائر الكفرة. وإذا صار المجوسي تاركًا لكل كفر سوى المجوسية علمنا أنه عاصٍ بمجوسيته التي قد نُهي عنها، ومطيع لله بترك ما تركه من أنواع الكفر لأنه مأمور بتركها (الفِرَق، ص١٢٦). وقالت إحدى فرق الخوارج وهي الحارثية بطاعة لا يُراد الله بها على مذهب أبي الهذيل، أي إن الإنسان قد يكون مطيعًا لله إذا فعل شيئًا أمره الله به وإن لم يقصد الله بذلك الفعل ولا أراده به (مقالات، ج١، ص٧٢؛ الفِرَق، ص١٧٢؛ الملل، ج٢، ص٥٥).
٢٦٤  هذا موقف أبي الهذيل. ولكن باقي المعتزلة تؤثر الصورة على المضمون فتقول: لا يجوز أن يطيع الله من لم يرد بطاعته ولم يتقرب إليه بها. وليس في الدهرية طاعة لله أو معرفة أمر … وليس في المشبهة معرفة بالله، ولا يكونون مطيعين له. ولكن في القدرية معرفة بالله إذا كانت موجودة وكذلك فيهم طاعة لله. ويقول عباد: أفعال الجاهل بالله كلها جهل بالله وليس أحد من الجهال مطيعًا (مقالات، ج٢، ص١٠٣) (يمكن الخطأ النظري ولكن الصدق العملي وهو شرط الوحدة الوطنية وكل محاولات الائتلاف وتنظيمات الجبهة.)
٢٦٥  يأخذ أهل السنة موقفًا وسطًا فيقولون ذلك يصح إلا في طاعة واحدة، وهو النظر الأوَّل، فإن صاحبه إذا استدل به كان مطيعًا لله في فعله وإن لم يقصد به التقرب إلى الله لاستحالة التقرب إليه (الفِرَق، ص١٠٥). ويقولون أيضًا: الطاعة ممن لا يعرفه إنما تصحُّ في شيءٍ واحد، وهو النظر والاستدلال الواجب عليه قبل وصوله إلى معرفة الله، فإن يفعل ذلك يكن مطيعًا لله لأنه قد أمر به، وإن لم يكن يقصد بفعله لذلك النظر الأوَّل التقرب به إلى الله. ولا تصح منه طاعات لله سواها إلا إذا قصد بها التقرب إليه؛ لأنه لا يمكنه ذلك إذا توصل بالنظر إلى معرفة الله، ولا يمكنه قبل النظر الأوَّل التقرب إليه إذا لم يكن عارفًا به قبل نظره واستدلاله (الفِرَق، ص١٢٦). ويرد أهل السنة على أبي الهذيل فيقولون: ليس الأمر في أوامر الله وزواجره كذلك، ولكن لا خصلة من الطاعة إلا ويضادها معاصٍ متضادة، ولا خصلة من الإيمان إلا ويضادها خصال من الكفر المضاد للطاعات كلها؛ لأن ذلك النوع من الكفر يضادُّ نوعًا آخر من الكفر كما يضادُّ سائر الطاعات (الفِرَق، ص١٢٦).
٢٦٦  عند النظام لا يقدر الإنسان على ما لا يخطر بباله. وعند سائر المعتزلة الإنسان قادر على ما تصحُّ قدرته له، خطر بباله شيء من ذلك أم لم يخطر (مقالات، ج١، ص٢٨١).
٢٦٧  يجوِّز البعض ذلك ويمنعه البعض الآخر (مقالات، ج١، ص٢٨٢).
٢٦٨  عند بعض الإباضية الخوارج مثل يحيى بن كامل ومحمد بن حرف وإدريس الإباضي: قوة الطاعة توفيق وتسديد وفضل وإحسان ولطف، ولو لطف الله بالكافرين لآمنوا، وعنده لطف لو فعله بهم لآمنوا طوعًا. والله لم ينظر لهم في حال خلقهم إياهم ولا فعل بهم أصلح الأشياء لهم، ولا فعل بهم صلاحًا في الدين، بل أضلَّهم وطبع على قلوبهم (مقالات، ج١، ص١٧٤). وتقول المفوِّضة من القدرية إنهم موكلون إلى أنفسهم أنهم يقدرون على الخير كله بالتفويض الذي يذكرون دون توفيق الله وهداه (التنبيه، ص١٧٤).
٢٦٩  الأسماء تختلف عليها فتسمى قوة واستطاعة وطاقة، وإن كانت الطاقة تستعمل فيما يوصل إليها (الشرح، ص٣٩٣).
٢٧٠  مقالات، ج١، ص١٢٢، ١٢٣.
٢٧١  وقد حجرت القدرية عليها في قولها إنه ليس له خلق أفعال العباد، (الأصول، ص٨٢).
٢٧٢  يعطي القاضي عبد الجبار براهينَ ثلاثة لإثبات القدرة: (أ) حصل الواحد مِنَّا قادرًا مع جواز ألا يحصل قادرًا والحال واحدة، والشرط واحد، فلا بد من أمرٍ مخصص له. (ب) عضوان يصح الفعل بأحدهما ابتداءً ولا يصح بالآخر. وليس ذلك الأمر إلا القدرة. (ج) قادر أن يصحَّ من أحدهما الفعل أكثر مما يصح في الآخر مع استوائهما في كونهما قادرَين. الزائد هو القدرة (الشرح، ص٣٩١). ويقول واصل: يستحيل أن يخاطب العبد وهو لا يمكنه أن يفعل وهو يحسن من نفسه الاقتدار والفعل، ومن أنكره فقد أنكر الضرورة (الملل، ج١، ص٧٠).
٢٧٣  جوَّزت بعض الفِرَق أن يعدم الله قدرة الإنسان مع وجود حياته؛ فيكون حيًّا غير قادر، وأن يفني حياته مع وجود قدرته وعلمه فيكون عالمًا قادرًا ميتًا، ومنع ذلك آخرون (مقالات، ج١، ص٢٨٢، ج٢، ص١٠). كما جوز الجبائي أن يخلق الله حيًّا لا قدرة فيه (مقالات، ج٢، ص١٠). ولكن أحال عباد وصالح والصالحي أن يوجد حي لا قادر (مقالات، ج٢، ص١١).
٢٧٤  الاستطاعة عَرَض من الأعراض تقبل الأشد والأضعف (الفصل، ج٣، ص٢٢). وعند المعتزلة جعل الله لهم الاستطاعة تامةً كاملة لا يحتاجون إلى أن يزدادوا (التنبيه، ص١٧٠-١٧١)، انظر الفصل الحادي عشر: النظر والعمل، هل الإيمان يزيد وينقص؟
٢٧٥  لو تعلَّقت القدرة بالموجود لوجب أن تتعلق أيضًا قدرة الله، وذلك يوجب قدرة العالم (الشرح، ص٤١٣–٤١٥).
٢٧٦  المغني، ج١/٦، التعديل والتجوير، ص٦؛ المحيط، ص٢٣٠–٢٣٢؛ الشرح، ص٣٢٤-٣٢٥.
٢٧٧  المحيط، ص٢٣٠-٢٣١، ص٣٤٦–٣٤٨.
٢٧٨  قال كثير من المعتزلة: تستعمل القدرة في الفعل، أي إنه يعمل بها الفعل (مقالات، ج١، ص٢٧٨-٢٧٩). وعند ابن الراوندي: القدرة مع الفعل (مقالات، ج١، ص٢٧٥)، وأيضًا (المغني، ج١/٦، التعديل والتجوير، ص٥). وأحال فريق أن يعتني الله قدرة الإنسان مع وجود فعله فيكون فاعلًا بقدرة معدومة. كما أحال عباد أن يوجد الفعل من الإنسان مع العجز بقدرة وقد عدمت (مقالات، ج٢، ص٢٠-٢١). عند عباد القدرة لا يفعل بها الإنسان أو يستعملها (مقالات، ج١، ص٢٧٨-٢٧٩). وأنكر الجبائي أن تستعمل القدرة في الفعل لأن الاستعمال يحل في الشيء المستعمل، ومع ذلك فالعقل واقع بها (مقالات، ج١، ص٢٧٥).
٢٧٩  الشرح، ص٣٢٤.
٢٨٠  أثبتت المعتزلة للقدرة الحادثة تأثيرًا في الإيجاد والإحداث من الحركات والسكنات وبعض الاعتقادات والاعتمادات والنظر والاستدلال، والعلم الحاصل به، وبعض الإدراكات، وهي التي يجد الإنسان من نفسه أنها تتوقف على البواعث والدواعي وورود التكليف بمباشرتها والكف عنها (التمهيد، ص٥٥). وتنحصر حجج المعتزلة في مسلكين: (أ) مدارك العقل. (ب) مدارك السمع. (١) يحس الإنسان من نفسه وقوع الفعل حسب الدواعي والصوارف. (٢) التكليف متوجِّه إلى العبد بافعل ولا تفعل، فأمَّا ألَّا يتحقق أصلًا فيكون التكليف سفهًا، والوعد والوعيد مقرون بالتكليف. والجزاء مقدر على الفعل والترك. التكليف طلب يستدعي مطلوبًا، فلو لم يحصل بطل الوعد والوعيد والثواب والعقاب. ولا يبقى فرق بين خطاب الإنسان العاقل وبين الجماد، ولا فصل بين أمر التسخير والتعجيز وبين أمر التكليف والطلب. وهذا بديهي بصرف النظر عن التكليف الشرعي؛ إذ يخاطب بعضنا بعضًا بالأمر والنهي، وإحالة الخير والشر على المختار، وإنكار ذلك خروج على حد العقل. ولا يناظر في ذلك إلا سفسطائي منكر للحقائق ولا يكون أمامه إلا الضرب (التمهيد، ص٧٩–٨٣). وأمَّا المعتزلة فمتفقون على أن أفعال العباد المختارين مخلوقة لهم، وأنها غير داخلة في مقدورات الرب، كما أن مقدورات الرب غير داخلة في مقدوراتهم. حجة المعتزلة هي أن أفعال العباد لو كانت مخلوقة لغيرهم كان التكليف باطلًا (الغاية، ص٢٢٠–٢٢٣).
٢٨١  كل الإجابات على سؤال: هل القدرة في محالَّ مختلفة جنسٌ واحد؟ إجابات عن القدرة البدنية إيجابًا أم نفيًا، مثل: (أ) القدرة على الكلام باللسان هي التي يكون بها المشي بالرجل، وامتناع الكلام بالرجل لاختلاف الموانع! (ب) القدرة على الكلام غير القدرة على المشي لاختلاف المحل (مقالات، ج١، ص٢٨٠).
٢٨٢  أصل المعتزلة أن القدرة الحادثة تتعلق بما لا نهاية له من المقدورات على تعاقب الأوقات (الإرشاد، ص٢٢٣).
٢٨٣  متفقون على أن القدرة الواحدة لا يتأتى بها إيقاع مثلَين في محلٍّ واحد جميعًا في وقتٍ واحد، وإنما يقع مثلان كذلك بالقدرتَين. فإن كثرت أعداد الأفعال مع اتحاد المحل والوقت كثرت القدر على عدتها (الإرشاد، ص٢٢٣). القدرة تتعلق بالمتماثل والمختلف والمتضاد. ولا يفترق الحال في ذلك بين قدرة القوي والضعيف، وإنما يفترقان من حيث إن أحدهما يمكنه أن يفعل في كل جزء … وجزء آخر زائد على ذلك. القدرة تتعلق والوقت واحد والمحل واحد بجزءٍ واحد من المتماثل، ولا تتعلق بأزيد من ذلك … (الشرح، ص٤١٦). وعند أبي الهذيل: ليس يفعل فاعل إلا وفعله مثله جائز منه حتى يتغير عما كان عليه من القدرة والتخلية إلى العجز والمنع (الانتصار، ص١٥). ويقول ابن الراوندي: والعاقل إذا رجع إلى نفسه علم أن من جاز منه الفعل في حالٍ ما لم يستحل منه في غيرها تعني تغييرًا دخل عليه (الانتصار، ص١٤).
٢٨٤  عند أكثر المعتزلة تتعلق القدرة بالمختلفات التي لا تتضاد (الإرشاد، ص١٢٣).
٢٨٥  أجمعت المعتزلة على أن الاستطاعة قدرة على الفعل وعلى ضده (مقالات، ج١، ص٢٧٥). القدرة قدرة على الضدين (المحيط، ص٣٤٢). القدرة تتعلق بالمتضادات (الإرشاد، ص٢٢٣). لو لم تكن القدرة صالحة للضدين لوجب أن يكون تكليف الكافر بما لا يطاق، وذلك قبيح، والله لا يفعل القبيح (شرح، ص٣٩٦). من حق القادر على الشيء أن يكون قادرًا على جنس ضده إذا كان له ضد (شرح، ص٤١٩). ولما نفى أبو الهذيل القدرة على أحد الضدين نفاها عن الضد الآخر، وهذا هو سبيل القدرة إذا صحت على فعل صحت على ضده، وإذا انتفت على فعل انتفت عن ضده (الانتصار، ص١١). عند بعض الزيدية الشيء الذي يفعل به الإيمان هو الذي يفعل به الكفر (مقالات، ج١، ص١٤٠).
٢٨٦  وهذا هو معنى قول المعتزلة: إذا وُجد أحد الضدين استحال أن يوصف الإنسان بالقدرة عليه أو على الضد الآخر. وكذلك قول الإسكافي: إذا وُجد أحد الضدين لم يوصف الإنسان بالقدرة عليه ولكن يوصف بالقدرة على الآخر (مقالات، ج١، ص٢٧٦). إجابة على سؤال: فإذا فعل الإنسان أحد الضدَّين اللذين كان يقدر عليهما قبل كون أحدهما، هل يوصف بالقدرة على الضد الذي لم يفعله؟ وهذا أيضًا موقف بعض الإباضية الخوارج مثل يحيى بن كامل ومحمد ابن حرب وإدريس الإباضي في قولهم استطاعة كل شيء غير استطاعة ضده (مقالات، ج١، ص١٧٤).
٢٨٧  اختلف المثبتون للترك هل ترك الشيء هو أخذ ضده أم لا بين النفي والإثبات (مقالات، ج٢، ص٦١). الشيء نفسه بالنسبة إلى الأمر والنهي، هل الأمر بالشيء نهي عن ضده أم لا، وكذلك بالنسبة للإرادة والكراهة، وهي من مباحث الأصوليين (مقالات، ج٢، ص٧٨).
٢٨٨  عند بعض المعتزلة الإنسان قادر على الفعل والترك (مقالات، ج١، ص٢٧٧). من حق القادر على الشيء أن يكون قادرًا على تركه إذا كان له ضد. ومتى صح منه فعل الشيء أن يصح منه تركه (المغني، ج٩، التوليد، ص٣٩). وعند بشر بن المعتمر وضرار بن عمر وعبد الله بن غطفان ومعمر بن عمر والعطار الاستطاعة للفعل والترك (الفصل، ج٣، ص١٨). وعند ابن الراوندي القدرة تصلح للشيء وتركه في حال حدوثه (مقالات، ج١، ص٢٧٥). وعند زرقان الرافضي الاستطاعة للفعل وتركه (مقالات، ج١، ص١٢). ويقول الرازي: اتفق المتكلمون على أن القادر كما يقدر على الفعل يقدر على الترك. ثم اختلفوا في تفسير الترك، فقال الأكثرون: ترك الفعل ألا يفعل شيئًا ويبقى على العدم الأصلي … وقال باقون الترك عبارة على فعل الضد … (معالم، ص٨١-٨٢).
٢٨٩  اختلف المتكلمون في الترك للشيء والكف هل يعني غير التارك؟ (مقالات، ج٢، ص٦٠-٦١).
٢٩٠  أحالت أكثر المعتزلة أن تكون الاستطاعة قدرة عليه في حاله على وجه من الوجوه (مقالات، ج١، ص٢٧٥). وعند أبي الحسين الصالحي: الاستطاعة قدرة عليه في حاله لا على تركه، وأنها قبله قدرة على تركه (مقالات، ج١، ص٢٧٥). وعنده أن القوة يُحتاج إليها في حال الفعل للفعل، وأنها وإن كانت قوة عليه قبله وعلى تركه فهي قوة عليه في حال كون تركه (مقالات، ج١، ص٢٧٧).
٢٩١  اختلفوا هل التارك الواحد لمتروكين (مقالات، ج٢، ص٦١)، لفعلين أو لفعلٍ واحد (مقالات، ج٢، ص٦٣-٦٤).
٢٩٢  واختلفوا هل يترك الإنسان ما لا يخطر بباله؟ ضرورة الخاطر تثبت الروية، وعند البعض الإرادة كافية بغير خاطر ولا داعٍ، وهذا هو الفعل النزوعي (مقالات، ج٢، ص٦٢).
٢٩٣  اختلفوا هل الترك من أفعال القلب؟ (مقالات، ج٢، ص٦٢).
٢٩٤  هل يحتاج الترك إلى إرادة مثل الفعل؟ (مقالات، ج٢، ص٦٣).
٢٩٥  هل يجوز فعل الترك بعد تركه؟ (مقالات، ج٢، ص٦٣).
٢٩٦  هل الترك باقٍ؟ (مقالات، ج٢، ص٦٣). هل الترك مثل الفعل متولد؟ (مقالات، ج٢، ص٦٤). هل يترك فعلان في حالةٍ واحدة؟ (مقالات، ج٢، ص٦٣-٦٤).
٢٩٧  عند البعض يمكن إثبات الشيء على وجه ونفيه على وجهٍ آخر، مثل أن يكون الشيء معلومًا من وجه مجهولًا من وجهٍ آخر، في حين أنه عند البعض الآخر مستحيل (مقالات، ج٢، ص٧٦-٧٧).
٢٩٨  أنكرت جميع المعتزلة أن يكلف الله عبدًا ما لا يقدر عليه (مقالات، ج١، ص٢٧٥). وقالت: لا يجوز تكليف ما لا يُطاق (معالم، ص٨٢). وقال القاضي عبد الجبار: إن الله لا يكلف العباد ما لا يطيقون ولا يعلمون (الشرح، ص١٣٣)؛ وذلك لأن مقارنة القدرة بالقدر يلزم عنها تكليف ما لا يُطاق، وذلك قبيح، ومن العدل ألَّا يفعل القبيح (الشرح، ص٣٩٠). ويقول أيضًا: تكليف الكافر بالإيمان تكليف ما لا يُطاق؛ لأن الطاقة والقدرة سواء. الكافر لم يعطَ القدرة؛ فيكون تكليفه والحال هذه تكليف ما لا يُطاق (الشرح، ص٤٠٢، ص٤٠٦). لو كانت القدرة مطابقة لمقدورها لوجب أن يكون تكليف الكافر بالإيمان تكليفًا لما لا يُطاق؛ إذ لو أطاقه لوقع فيه (الشرح، ص٣٩٦-٣٩٧). وقد خرج بعض أهل السنة عن تعنتهم في جواز تكليف ما لا يُطاق وتنبَّهوا إلى درجة نظر المعتزلة. فعند النسفي مثلًا: صحة التكليف تعتمد على هذه الاستطاعة، ولا تكلف العبد ما ليس في وسعه (النسفي، ص١٠٥-١٠٦). ولا يكلف العبد بما ليس في وسعه سواء كان ممتنعًا في نفسه كجمع الضدَّين أو ممكنًا في نفسه. لكنه لا يمكن للعبد كخلق الجسم. أمَّا ما يمتنع بناءً على أن الله علم خلافه أو أراد خلافه كإيمان الكافر وطاعة العاصي فلا نزاع في وقوع التكليف به لكونه مقدورًا للمكلف بالنظر إلى نفسه ثم عدم التكليف بما ليس في الوسع متفق عليه … (شرح التفتازاني، ص١٠٦-١٠٧؛ حاشية الخيالي، ص١٠٧-١٠٨؛ حاشية الإسفراييني، ص١٠٦-١٠٧).
٢٩٩  الاستطاعة لها ضد، وهو العجز (الفصل، ج٣، ص٢٢). عند النظام وعلي الأسواري: الإنسان حيٌّ مستطيع بنفسه لا بحياة واستطاعة هما غيره. والإنسان لا يجوز أن يكون مستطيعًا لنفسه لما من شأنه أن يفعله حتى تحدث به آفة. والآفة هي العجز، وهي غير الإنسان (مقالات، ج١، ص٢٧٤). وعند النظام أيضًا: العجز آفة دخلت على المستطيع (الفصل، ج٣، ص١٩). ويرفض ابن حزم ذلك (الفصل، ج٣، ص٢٣). ولكن عند أبي الهذيل ومعمر وهشام الفوطي وأكثر المعتزلة: الإنسان حيٌّ مستطيع، والحياة والاستطاعة هما غيره (مقالات، ج١، ص٢٧٤).
٣٠٠  العجز لا يوجب الضرورة وإن كانت الاستطاعة توجب الاختيار إلا عند إبراهيم النجاري الذي جعل العجز يوجب الضرورة كما أن الاستطاعة توجب الاختيار (مقالات، ج٢، ص٧٠).
٣٠١  القادر له حالتان: حالة يصح منه إيجاد ما قدر عليه، وحالة لا يصح. والأسماء تختلف عليه بحسب اختلاف الحالتين. الأولى يُسَمَّى مطلقًا فعليًّا والثاني ممنوعًا. الممنوع لا يكون إلا بمنع، والمنع لا يتعذَّر على القادر لمكانة الفعل (الشرح، ص٣٩٣). وعند الأصم وعلي الأسواري: العجز هو العاجز وليس له عجز يعجز به. العجز ليس شيئًا غير العاجز (مقالات، ج١، ص٢٨٣؛ الفصل، ج٣، ص١٩). وعند أكثر المعتزلة غير العاجز (مقالات، ج١، ص٢٨٣). وقد حاول عباد التوفيق فقال: العجز غير الإنسان، وليس غير العاجز لأن عاجز خبر عن إنسان وعجز (مقالات، ج١، ص٢٨٤).
٣٠٢  الشرح، ص٣٩٣.
٣٠٣  عند أكثر المعتزلة العجز عجز عن فعل، ولكن عند عباد القوة لا تكون قوة على شيء (مقالات، ج١، ص٢٨٤).
٣٠٤  عند أكثر المعتزلة قد يكون الإنسان قادرًا على أشياء، عاجزًا عن أشياء إلا عباد الذي قال: العاجز ميت (مقالات، ج١، ص٢٨٢).
٣٠٥  من المانع ما يجامع القدرة وما قد ينفيها ولا يجامعها. فأمَّا ما ينفيها ولا يجامعها فالعجز والزمانة. وأمَّا ما يجامعها ولا ينفيها فالقيد وما أشبهه، وذلك أن القيد لو كان ينفي القدرة لجاز أيضًا أن ينفي الصحة والسلامة لأن القدرة هي صحة الجوارح وسلامتها من الآفات. فكان القيد غير صحيح الرجل بأن كان مزمنًا. ولو كان كذلك لم يكن لتقييد وجه بل تقييده دلَّ على أنه إنما منع ما هو قادر عليه أن يفعله لو لم يمنع لفعله (الانتصار، ص٨٠-٨١).
٣٠٦  عند أبي الهذيل لا يجوز وجود أفعال القلوب من الفاعل مع قدرته عليه ولا مع موته. وأجاز وجود أفعال الجوارح من الفاعل مِنَّا بعد موته وبعد عدم قدرته إن كان حيًّا لم يمت. وزعم أن الميت والعاجز يجوز أن يكونا فاعلَين لأفعال الجوارح بالقدرة التي كانت موجودة قبل الموت والعجز (الفِرَق، ص١٢٨-١٢٩). وعند الجبائي وأبي هاشم أفعال القلوب كأفعال الجوارح يصح وجودها بعد فناء القدرة عليها ومع وجود العجز عنها … يجوز كون العاجز فاعلًا لأفعال القلب (الفِرَق، ص١٢٩).
٣٠٧  أنكر المعتزلة أن توجد قدرة بلا قادر. وعند عباد حال المعاينة فيه قدرة ولا يُقال إنه قادر (مقالات، ج١، ص٢٨٢).
٣٠٨  ردًّا على سؤال هل الممنوع قادر؟ تشير كل الإجابات إلى وجود القدرة مثل إذا منع الإنسان يكون قادرًا؛ فالمنع لا يضاد القدرة. القدرة فيه ولكن لا نسميه قادرًا على منع منه. قادر إذا حل وأطلق. الممنوع قادر وليس يقدر على شيء (مقالات، ج١، ص٢٨٢-٢٨٣).
٣٠٩  يُلاحَظ انتقال التحليل كله من المستوى الإنساني إلى المستوى الطبيعي.
٣١٠  إجابة على سؤال: هل القادر على شيء يقدر على الأكثر؟ قد تشير الإجابتان إلى المستوى البدني من جانب القادر: (أ) لا بد من أن يكون فيه عجز. (ب) لا عجز فيه وإنما عدم القوة فقط (مقالات، ج١، ص٢٩٣).
٣١١  ردًّا على سؤال: هل يقدر على حمل جزأين بجزء من القوة؟ تغفل الإجابات العوامل النفسية ولا تعطي إلا ردودًا كمية مثل: قد يقدر بجزء من القدرة أن يحمل جزأين أو أكثر من جزأين. وعند الجبائي لا يقدر على حمل جزء إلا بجزءٍ واحد من القوة. ولو جاز أن يقوى على جزأين بجزء من القوة لجاز أن يقوى على حمل السموات والأرضين بجزء من القوة. ويقول: إن الإنسان يحمل جزأين من الأجزاء بجزأين من القوة وإنه إذا حمل جزأين من الأجزاء بجزأين من القوة ففيه أربعة أجزاء من الحمل (مقالات، ج٢، ص٢٨٣).
٣١٢  يشارك في ذلك معظم المعتزلة والرافضة وبعض أهل السنة. وقد فرق أبو الهذيل بين أفعال القلوب وأفعال الجوارح. فقال: لا يصح وجود أفعال القلوب منه مع عدم القدرة والاستطاعة معها في حال الفعل. وجوَّز ذلك في أفعال الجوارح وقال بتقدمها فيفعل بها في الحال الأولى. وأن من يوجد في الفعل الآخر الحال الثانية قال فحال يفعل غير حال فعل (الملل، ج١، ص٧٧).
٣١٣  يقول البغداديون من المعتزلة: يصح من القادر الفعل لمكان الصحة لا للقدرة. أحدنا إن كان صحيح البدن يصح منه الفعل، ومتى لم يكن صحيح البدن لم يصح؛ فوجب أن تكون صحة الفعل مستندة إلى الفعل (الشرح، ص٣٩٢). وعند بشر بن المعتمر وثمامة بن الأشرس وغيلان الدمشقي. الاستطاعة هي سلامة البنية وصحة الجوارح وتخليها من الآفات (مقالات، ج١، ص٧٤؛ الملل، ج١، ص٩٦، ص١٠٦). وعند الكعبي الاستطاعة ليست غير الصحة والسلامة (الفِرَق، ص١٨٢). وعند الخياط القدرة هي صحة الجوارح وسلامتها من الآفات (الانتصار، ص٨٠). وعند زرارة بن أعين وعبيد بن زرارة ومحمد بن حكيم وعبد الله بن بكير وهشام بن سالم وحميد بن رباح وشيطان الطاق وكلهم من الرافضة: الاستطاعة هي الصحة (مقالات، ج١، ص١١١-١١٢). وعند ابن حزم الاستطاعة صحة الجوارح وانتفاء الموانع (الفصل، ج٣، ص٢٣). ويقول الرازي في إثبات قدرة العبد: نعلم بالضرورة تفرقة بين بدن الإنسان السليم عن الأمراض، الموصوف بالصحة، وبين المريض العاجز، وتلك التفرقة عائدة إلى سلامة البنية واعتدال المزاج (معالم، ص٧٧-٧٨). وعند النسفي يقع هذا الاسم (القدرة) على سلامة الأسباب والآلات والجوارح (النسفي، ص١٠٥).
٣١٤  عند ابن هاشم والجبائي، الاستطاعة قدرةٌ زائدة على سلامة البنية وصحة الجوارح. وأثبتا البنية شرطًا في قيام المعافى التي يشترط في ثبوتها الحياة (الملل، ج١، ص١١٧). وعند أبي الهذيل ومعمر والمردار: الاستطاعة عرض وهي غير الصحة والسلامة (مقالات، ج١، ص٧٤؛ الملل، ج١، ص٧٧). ويقول القاضي عبد الجبار: الصحة إمَّا يراد بها التأليف من جهة الالتئام أو اعتدال المزاج أو زوال الأمراض والأسقام أو شيء من ذلك مما لا يؤثر في وقوع الفعل ولا في صحته لأن الفعل إنما يصدر عن الجملة؛ فالمؤثر لا بد أن يكون راجعًا إلى الجملة. وهذه الأمور كلها راجعة إلى المحل. اعتدال المزاج يرجع إلى أمورٍ متضادة. فكيف يؤثر في حكمٍ واحد؟ وأمَّا زوال الأسقام فإنه نفي، فكيف يعلق به هذا الحكم، وقد يقع في زوال الأسقام الاشتراك. فليس إلا أن يُقال صحة الفعل ووقوعه إنما لكونه قادرًا، وكونه قادرًا لا يصح إلا بالقدرة، والقدرة تحتاج إلى كلٍّ وهي الصحة (الشرح، ص٣٩٢). وقد أثبت الأشعري صفة سماها بالقدرة مغايرة لاعتدال المزاج، فنحن ندري تفرقة بين الإنسان السليم الأعضاء وبين الزمِن المقعد في أنه يصح الفعل من الأوَّل دون الثاني. وتلك التفرقة ليست إلا في حصول صفة للقادر دون العاجز، وتلك الصفة هي القدرة (معالم، ص٧٨).
٣١٥  عند بعض المعتزلة الفاعل فعل بآلة وبجارحة وبقوةٍ مخترعة وعند آخرين الإنسان إذا كان قادرًا بآلات وجد فهو قادر من وجه وغير قادر من وجه (مقالات، ج٢، ص١٩٩، ج١، ص١١١-١١٢). الفعل كما يحتاج إلى القدرة يحتاج إلى الآلة (الشرح، ص٤٠٩).
٣١٦  عند إحدى فرق الإباضية الاستطاعة هي التخلية (مقالات، ج١، ص١٧٤، ص١٨٠).
٣١٧  عند هشام بن الحكم الاستطاعة خمسة أشياء: الصحة، وتخلية الشئون، والمدة في الوقت، والآلة التي يكون بها الفعل، والسبب المهيج الذي من أجله يكون الفعل. فإذا اجتمعت هذه الأشياء كان الفعل واقعًا (مقالات، ج١، ص١١١-١١٢).
٣١٨  هذا تعريف هشام بن عمرو من الرافضة (مقالات، ج١، ص١١٢). ويرفضه ابن حزم لعموميته (الفصل، ج٣، ص٢٣). ويفصله الشهرستاني قائلًا إن الاستطاعة ما لا يكون إلا به كالآلات والجوارح والوقت والمكان (الملل، ج٢، ص١٣٥).
٣١٩  عند البصريين من المعتزلة الاستطاعة معنًى غير صحة البدن والسلامة من الآفات (الفِرَق، ص١٨٢). وعند بعض الإباضية الخوارج مثل يحيى بن كامل ومحمد بن حرب وإدريس الإباضي ليست الاستطاعة هي التخلية بل معنى في كونه كون الفعل وبه يكون الفعل (مقالات، ج١، ص١٧٤، ص١٨٠). وعند هشام بن الحكم: أفعال العباد هي معانٍ وليست بأشياء ولا أجسام لأن الشيء عنده لا يكون جسمًا (الفِرَق، ص٦٧).
٣٢٠  عند هشام بن سالم الجواليقي وشيطان الطاق: أفعال العباد أجسام لأنه لا شيء في العالم إلا أجسام، ويجوز أن يفعل العباد والأجسام (الفِرَق، ص٦٩). وكان النجار ينكر بقاء الاستطاعة لأنها ليست بداخلة في جملة الجسم وهي غيره، ويستحيل أن يكون في غيرها لأنه يستحيل أن يبقى الشيء بقاء غيره (مقالات، ج٢، ص٤٥). وعند هشام بن سالم: الاستطاعة جسم، وهي بعض المستطيع (مقالات، ج١، ص١١٢). وعند سليمان بن جرير: الاستطاعة أحد أبعاض الجسم كاللون والطعم، وهي مجاورة للجسم (مقالات، ج٢، ص٥٧). وقد تكون بعض المستطيع؛ فالاستطاعة مجاورة له ممازجة الدهنين (مقالات، ج١، ص١٤٠). وعند ضرار بن عمرو: الاستطاعة بعض المستطيع (مقالات، ج١، ص٣١٢؛ الفِرَق، ص٣١٤). وعند النظام وعلي الأسواري وأبي بكر بن عبد الرحمن بن كيسان والأصم: ليست الاستطاعة شيئًا غير نفس المستطيع (الفصل، ج٣، ص١٩). ويرفض ابن حزم ذلك لأن العرض لا يكون في بعض الجسم (الفصل، ج٣، ص٢٣). ويعتبر أن الاستطاعة هي المستطيع قول في غاية الفساد (الفصل، ج٣، ص٢٢).
٣٢١  أجمعت المعتزلة على أن الاستطاعة قبل الفعل (مقالات، ج١، ص١٧٥). وأن الإرادة قبل الفعل (مقالات، ج٢، ص٩٢). وأن الاستطاعة لا توجد إلا قبل الفعل (معالم، ص٧٩). وأن القدرة متقدمة لمقدورها (الشرح، ص٣٩٦). وأن الإنسان يريد أن يفعل ويقصد إلى أن يفعل، وإرادته لأن يفعل لا تكون مع مراده ولا تكون إلا متقدمة للمراد (مقالات، ج٣، ص١٩). وعند أبي هاشم والجبائي تتقدم الاستطاعة على الفعل (الفِرَق، ص١٨٦؛ الملل، ج١، ص١١٧). وعند النظام الإنسان قادر على الشيء قبل كونه وأنه لا يوصف بأنه قادر عليه في حال وجوده (مقالات، ج١، ص١٧٤). ويقول القاضي عبد الجبار: الفعل يحتاج إلى القدرة لخروجه من العدم إلى الوجود (الشرح، ص٤١٢). ويبرهن على ذلك قائلًا: من قدر أن يطلق امرأته إمَّا أن يكون قادرًا على ذلك قبل وقوع الطلاق أو حال وقوع الطلاق، فإن قدر على فعل ذلك قبل وقوع الطلاق فهو الذي نقوله وإن قدر عليه حال وقوع الطلاق فالطلاق واقع لا يحتاج إلى قدرة (الشرح، ص٤١٤).
٣٢٢  وهذا قول المعتزلة أن الإرادة وإن كانت موجبة فلا تكون إلا قبل المراد (مقالات، ج٢، ص٩٣). وقول القاضي عبد الجبار إن القدرة سابقة للفعل وليست موجبة له (المحيط، ص٣٤٨).
٣٢٣  أجمعت المعتزلة على أن الاستطاعة غير موجبة للفعل (مقالات، ج١، ص٢٧٥).
٣٢٤  يتهكم ابن الراوندي على المعتزلة قائلًا: وأكثر المعتزلة يزعم أن كل واحد من الناس يقدر على الصعود إلى السماء وعلى شرب ماء البحر وعلى قتل أهل الأرض والسماء بأسرهم. وكثير منهم يزعمون أن الزنج يقدرون أن يقرضوا الشِّعر وأن يصنفوا الرسائل، ويرد الخياط: وكل ما قلت إن الإنسان يقدر عليه (الانتصار، ص٧٩-٨٠).
٣٢٥  ذهبت المعتزلة إلى أن الحادث في حال حدوثه يستحيل أن يكون مقدورًا للقديم، والحادث هو بمثابة الباقي المستمر، وإنما تتعلق القدرة بالمقدور في حال عدمه. يجب تقديم الاستطاعة على المقدور، ويجوز مقارنة ذات القدرة حدوث المقدور من غير أن تكون متعلقة به حال وقوعه (الإرشاد، ص٢١٩). وعند زرارة بن أعين، وعبيد بن زرارة، ومحمد بن حكيم، وعبد الله بن بكير، وهشام بن سالم، وحميد بن رباح، وشيطان الطاق، الاستطاعة قبل الفعل (مقالات، ج١، ص١١١-١١٢). وعند هشام بن خردل وزرقان الرافضي: الاستطاعة أيضًا قبل الفعل (مقالات، ج١، ص١١٢). وكذلك عند الميمونية (الملل، ج٢، ص٤٦). وعند عبد الواحد بن يزيد (مقالات، ج١، ص٣١٨).
٣٢٦  عند المعتزلة وطوائف من المرجئة كمحمد بن رشيد ومؤنس بن عمران وصالح قبة والناشئ وجماعة من الخوارج والشيعة: الاستطاعة التي يكون بها الفعل موجودة في الإنسان (الشرح، ص٤١٤). وعند الحارثية الإباضية: الاستطاعة قبل الفعل، وأنها عرض من الأعراض قبل الفعل يحصل بها الفعل (الملل، ج٢، ص٥٥، ص٥٣؛ مقالات، ج١، ص١٧١؛ الفِرَق، ص١٠٥).
٣٢٧  أجمع أكثر المعتزلة على أن الأمر بالفعل قبله، وأنه لا معنى للأمر به في حاله لأنه موجود (مقالات، ج١، ص٢٨٤). وعند إحدى فرق الزيدية: الاستطاعة قبل الفعل والأمر قبل الفعل. ولا يوصف إنسان بأنه مستطيع في حال كونه (مقالات، ج١، ص١٤٠).
٣٢٨  المقدورات على ضربَين: مبتدأ كالإرادة ومتولد كالصوت. فالمبتدأ يجب أن تكون القدرة متقدمة عليه بوقت ثم في الثاني يصح منه فعله. والمتولد على ضربين: أحدهما يتراخى على سبيله كالإصابة مع الرمي والثاني لا يتراخى كالمجاورة مع التأليف. وما لا يتراخى عن سبيله فإن حاله كالمبتدأ، والمتراخي عن سببه فإنه لا يمنع أن تتقدمه القدرة بأوقات وإن كان لا يجب أن يتقدم سببه إلا بوقت (الشرح، ص٣٩٠-٣٩١). الآلات بعضها متقدمة وبعضها مقارنة، فلم لا يجوز أن يكون في القدرة ما يتقدم وما يقارن حتى تكون قدرة الإنسان مقارنة لمقدورها وقدرة الله متقدمة لها. المعاني التي يحتاج إليها الفعل في الوقوع إليها من القدرة والعلم والإرادة منها ما يجب تقدمها ومنها ما يجب مقارنتها ومنها ما يجب فيه كلا الأمرين (الشرح، ص٤٠٩–٤١٥).
٣٢٩  العلة علتان: علة مع المعلول وعلة قبل المعلول. علة الاضطرار مع المعلول وعلة الاختيار قبل المعلول … الأمر علة الاختيار وهو قبله، والعلة علة الفعل وهي قبله … العلة قبل المعلول حيث كانت … العلة علتان: علةٌ موجبة وهي قبل الموجب، وهي التي إذا كانت لم يكن من فاعلها تصرف في معناه، ولم يجز ترك لها إرادة بعد وجودها، وعلة قبل معلولها، وقد يكون معها التصرف والاختيار للشيء وخلافه (مقالات، ج٢، ص٦٩-٧٠). وعند الجبائي العلة علتان: علة قبل المعلول وهي متقدمة بوقتٍ واحد، وما جاز أن يتقدم أكثر من وقتٍ واحد فليس بعلة ولا يجوز أن يكون له علة، وعلةٌ أخرى تكون مع معلولها (مقالات، ج٢، ص٧٠). وعند النظام: العلل منها ما تقدم المعلول كالإرادة الموجبة وعلة يكون معلولها معها، وعلة تكون بعدُ وهي العرض (مقالات، ج٢، ص٧٠-٧١). وعند بشر بن المعتمر والإسكافي: علة كل شيء قبله، ومحال أن تكون علة الشيء معه (مقالات، ج٢، ص٦٩).
٣٣٠  عند بشر بن المعتمر والبغدادي وضرار بن عمرو والكوفي وعبد الله بن غطفان ومعمر بن عمر والعطار البصري وغيرهم من المعتزلة الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل (الفصل، ج٣، ص١٨). وعند ضرار بن عمرو: الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل (مقالات، ج١، ص٢١٣). وعند سليمان بن جرير: الاستطاعة قبل الفعل، وهي مع الفعل مشغولة بالفعل في حال الفعل (مقالات، ج١، ص١٤٠).
٣٣١  ردًّا على سؤال: هل هناك استطاعة لكل فعل أم استطاعات لفعلٍ واحد أم استطاعاتٌ مختلفة لأفعالٍ مختلفة؟ قيل: الاستطاعة قبل الفعل تنفي وتحدث لكل فعل قبله، تحدث في الإنسان قبل كل فعل استطاعات لفعل آخر ولتركه أو عجز ينفيها (مقالات، ج١، ص٢٨٠-٢٨١).
٣٣٢  عند البعض يقدر الإنسان على الحركة في حال حدوث القدرة، والحركة تقع في الحال الثانية. وعند البعض الآخر يقدر عليها في حال حدوث الاستطاعة، وهي لا تقع إلا في الحال الثالثة لأنه لا بد من توسط الإرادة. وعند فريقٍ ثالث يقدر عليها في حال حدوث الاستطاعة، ولم تقع إلا في الحال الرابعة لأنه لا بد بعد حال الاستطاعة من حال الإرادة وحال التمثيل ثم توجد الحركة (مقالات، ج١، ص٢٨١).
٣٣٣  إجابة على سؤال: هل يبقى الأمر إلى حال الفعل؟ أثبته البعض يبقى إلى أجل الفعل وأنه يكون في حال بالفعل ولا يكون أمرًا به. ونفاه البعض الآخر (مقالات، ج١، ص٢٨٥). أوامر الله تنقسم إلى ما يكون أمرًا على الإطلاق وإلى ما يكون أمرًا بشرط. فالأول يلزم الفعل في الحال والثاني يلزمه إذا حصل الشرط … الخطاب في متناولهم والتكليف يجمعهم والموجدين في الحال جميعًا ليس يجب التكرار (الشرح، ص٤١٠-٤١١).
٣٣٤  هذا هو سؤال: هل يجوز أن يؤمر بالصلاة قبل كونها؟ وهذه هي أيضًا دلالة موضوع الناسخ والمنسوخ.
٣٣٥  وقد لاحظ ابن حزم ذلك بقوله: وقد اضطرب الناس في السؤال عن أشياء ذكروها وسألوا: هل يقدر الله عليها أم لا؟ واضطربوا أيضًا في الجواب عن ذلك … إن السؤال إذا حقق بلفظ يفهم السائل منه مراد نفسه ويفهم المسئول مراد السائل عنه فهو سؤال صحيح، والجواب عنه لازم. ومن أجاب عنه بأن هذا سؤالٌ فاسد وأنه محال فإنما هو جاهل بالجواب منقطعٌ متسلل عنه. وأمَّا السؤال الذي يفسد بعضه بعضًا وينقض آخره أوله فهو سؤالٌ فاسد لم يحقق بعدُ، وما لم يحقق السؤال عنه فلم يسأل عنه؟ وما لم يسأل عنه فلا يلزم عنه جواب على مثله. فهاتان قضيتان جامعتان وكافيتان في هذا المعنى لا يشذ عنهما شيء منه، إلا أنه لا بد من جواب ببيان حوالته لا على تحقيقه ولا على تشكله ولا على توهمه (الفصل، ج٢، ص١٥٨-١٥٩). إن كل المسائل من القدرة على إحداث فعل مبتدأ أو على إعدام فعل مبتدأ فالمسئول عنه مقدور عليه ولا تحاشي شيئًا. والسؤال صحيح والجواب عنه بنعم لازم. وإن كان المسئول عنه ما لا ابتداء له فالسؤال عن تغييره أو إحداثه أو إعدامه سؤالٌ فاسد لا يمكن السائل عنه فهم معنى سؤاله ولا تحقيق سؤاله. وما كان هكذا لا يلزم الجواب منه على تحقيقه ولا على تشكُّله لأن الجواب عن التشكيل لا يكون إلا عن سؤال وليس ها هنا سؤالًا أصلًا (الفصل، ج٢، ص١٥٩). وما كان هكذا فليس سؤالًا ولا سأل سائله عن معنًى أصلًا. وإذا لم يسأل فلا يقتضي جوابًا على تحقيقه أو توهمه، لكن يقتضي جوابًا بنعم أو لا لئلا ينسب بذلك إلى وصفه بعدم القدرة الذي هو العجز بوجهه أصلًا (الفصل، ج٢، ص١٥٩-١٦٠).
٣٣٦  المحال أربعة أقسام: (أ) محال بالإضافة مثل نبات اللحية لابن ثلاث سنين وإحباله امرأة (مريم) … (ب) محال في الوجوب كانقلاب الجماد حيوانًا (المعجزات). (ج) محال فيما بيننا في العقل (كون المرء قائمًا قاعدًا) (سير المسيح على الماء). (د) محالٌ مطلق مثل التغير في ذات الباري. وتذكر أيضًا حججٌ نقلية مثل: لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ. والحقيقة أن التعبير بلو تعبير بالاستحالة، أي مجرد افتراضٍ نظري. والإجابة بنعم تعبير عن الحق النظري ولكنه لا يحدث عملًا؛ لذلك قال علي الأسواري إن الله لا يقدر على غير ما علم أنه يفعله جملة (الفصل، ج٢، ص١٦٠-١٦١). انظر أيضًا الفصل السادس عن الصفات، القدرة.
٣٣٧  هذا هو رأي الجبائي وأبي الهذيل وكثير من المعتزلة (مقالات، ج١، ص٢٥١، ج٢، ص٢٠٥–٢١١).
٣٣٨  هذا هو رأي أبي الهذيل في أن الباري يضطر عباده في الآخرة إلى صدق يكونون به صادقين.
٣٣٩  الأوَّل رأي البغداديين من المعتزلة؛ لذلك يجيبون بالنفي لأن الله أعظم. والثاني رأي محمد بن عيسى حتى لا يقضي على الطاعة (مقالات، ج١، ص٢٥١، ج٢، ص٢٠٥–٢١١).
٣٤٠  ذهب البصريون أنه لا يقدر على مقدورات غيره وإن كان هو الذي أقدرهم عليها. وهم في هذا كمن يزعم أن الله يخلق عموم العباد بمعلوماتهم ولا يعلم معلوماتهم. الأصول، ص٩٤.
٣٤١  عند الجبائي: الله قادر على ما هو من جنس ما أقدر عليه عباده من الحركات والسكون وسائر ما أقدر عليه العباد، وإنه قادر على أن يضطرهم إلى ما هو من جنس ما أقدر عليه وإلى المعرفة به (مقالات، ج٢، ص٢٠٥-٢٠٦، ص٢٥١). ويقول: إن الله إذا أقدر عباده على حركة أو سكون أو فعل من الأفعال فهو قادر على ما هو من جنس ما أقدر عليه عباده (مقالات، ج١، ص٢٥١). وعند البغداديين المعتزلة: لا يوصف الباري بالقدرة على فعل عباده ولا على شيء هو من جنس ما أقدرهم عليه وأنه ليس له قدرة أن يخلق معرفة بنفسه يضطرهم إليها (مقالات، ج٢، ص٢٥٥، ص٢٠٦-٢٠٧).
٣٤٢  هذا هو رأي أهل الحق والإثبات وهم أهل السنة، فما من مقدور إلا والله عليه قادر (مقالات، ج٢، ص٢٠٤-٢٠٥).
٣٤٣  هذا هو رأي إبراهيم النظام وأبي الهذيل وسائر المعتزلة. فمحال أن يكون مقدورًا واحدًا لقادرَين (مقالات، ج٢، ص٢٥١).
٣٤٤  هذا هو رأي الشحام؛ فهو يردُّ بالإيجاب ولكن إن فعلها الله كانت ضرورة وإن فعلها الإنسان كانت كسبًا.
٣٤٥  هذا هو موقف الأشعري وأهل السنة بوجهٍ عام؛ فكل ما وصف بالقدرة على أن يخلقه كسبًا لعباده فهو قادر على أن يضطرهم إليه. وعند أهل الحق والإثبات الرد بالإيجاب مع إنكار أن يكون موصوفًا بالقدرة يضطر بها عباده إلى أن يكونوا به مؤمنين … وعند بعض المعتزلة أن له القدرة على من يلجئ عباده إلى فعل ما أراد منهم. وعند معمر أن القادر على الحركة قادر على أن يتحرك.
٣٤٦  أنكرت المعتزلة تعلق قدرة الله بأفعال العباد ومن الحيوانات والملائكة والجن والإنس والشياطين؛ فجميع ما يصدر عنها لا يقدر عليها بنفي ولا إيجاد (الاقتصاد، ص٤٧–٤٩).
٣٤٧  أنكر فريق من المعتزلة أن الله خلق ولد الزنا أو قدَّره أو شاءه أو علمه (التنبيه، ص١٧٦)؛ إجابة على سؤال: هل يوصف الله بالقدرة على ما أقدر عليه عباده؟ فرقتان: (أ) النظام وأبو الهذيل وأكثر المعتزلة: أن الباري لا يوصف بالقدرة على ما أقدر عليه عباده على وجه من الوجوه. (ب) وعند فريقٍ آخر والشحام: يقدر الله على ما أقدر عليه عباده، وإن حركةً واحدة تكون مقدورة لله وللإنسان، إن فعلها الله كانت ضرورة وإن فعلها الإنسان كانت كسبًا. وعند أبي الهذيل: لا تشبه أفعال الإنسان فعل الباري على وجه من الوجوه ولا تشبهه في الأعراض (مقالات، ج١، ص٢٠٥–٢٥١؛ ج٢، ص٢٥٥-٢٠٧).
٣٤٨  عند أهل الحق والإثبات لا مقدور إلا والله عليه قادر، كما أنه لا معلوم إلا والله به عالم، وما بين أن يكون مقدور لا يوصف الله بالقدرة عليه وبين أن يكون معلوم لا يعلمه فرقان (مقالات، ج٢، ص٢٠٥).
٣٤٩  كل من يُثبت هذه القدرة المعظمة إمَّا من المشبهة الذين يجعلون الله قد أقدر العباد على فعل الأجسام؛ لأنه لا يفعل إلا ما كان جسمًا، أو المؤلِّهة الذين يجعلون الله قد أقدر عليًّا على فعل الأجسام وفوَّض إليه الأمور والتدبيرات، أو المعظِّمة للأنبياء كالنصارى الذين يجعلون الله قد أقدر النبي على فعل الأجسام أو كالصوفية الذين يجعلون النبيين يقومون بفعل المعجزات (مقالات، ج٢، ص٢١٥–٢١٨).
٣٥٠  ينفي مثل هذه القدرة معمر والنظام والأصم وعامة أهل الإسلام (مقالات، ج٢، ص٢١٦).
٣٥١  يقوم البعض بنفي القدرة المعظمة لأن الله أعجز الإنسان.
٣٥٢  يجيب البعض بالإثبات، ولكن فيما يتعلق بالطعوم والألوان فقط لا فيما يتعلق بالحياة والموت. ويجيب الصالحي بالإثبات فيما يتعلق بالأعراض كالحياة والموت لا فيما يتعلق بالجواهر. ويجيب النظام بالإثبات ولكن فيما يتعلق بالحركات وحدها. ويجيب آخرون بالإثبات ولكن في غير حيز الإنسان. وعند الغالية الروافض الله قادر أن يُقدِر عباده على فعل الأجسام والألوان والطعوم والأراييح وسائر الأفعال (مقالات، ج٢، ص٥٩). وأن الله وَكَل الأمور وفوَّضها إلى محمد وأقدره على خلق الدنيا فخلقها ودبَّرها وأن الله لم يخلق شيئًا. ويُقال ذلك في علي والأئمة، تظهر عليهم الأعلام والمعجزات (مقالات، ج١، ص٨٦).
٣٥٣  انظر مثلًا ما يثيره هذا النص: «ليس له منازع ولا نديد، فعَّال لما يريد … لم يزل بصفاته قديرًا … ولم يلحقه في خلقه شيء مما يخلق كلًّا ولا نصب، ولا مسَّه لغوب ولا نصب. خلق الأشياء بقدرته، ودبرها بمشيئته، وقهرها بجبروته، وذلها بعزته؛ فذلَّ لعظمته المتجبرون، واستكان لعز ربوبيته المتعظمون، وانقطع دون الرسوخ في علمه الممترون، وذلَّت له الرقاب، وحارت في ملكوته فطن ذوي الألباب، وقامت بكلمته السموات السبع، واستقرت الأرض إلهًا، وثبتت الجبال الرواسي، وجرت الرياح اللواقح، وسار في السماء والسحاب، وقامت على حدودها البحار، وهو إلهٌ قاهر يخضع له المتعززون، ويخشع له المترفعون، ويدين طوعًا وكرهًا له العالمون» (الإبانة، ص٤، ملك قادر؛ الإنصاف، ص٢٩). في قدرة الله ومقدوراته أجمع أصحابنا على أن لله قدرةً واحدة يقدر بها جميع المقدورات (الأصول، ص٩٣).
٣٥٤  يرفض البعض الإثبات والنفي معًا، ويتوقف في الحكم.
٣٥٥  يمثل النصارى الرأي القائل بأن الله أقدر النبي على فعل الأجسام واختراع الأنام؛ فالله خصَّ عيسى بلطيفة يخترع بها الأجرام وينشئ بها الأجسام. وتقول اليهود أيضًا إن الله خلق ملكًا وأقدره على خلق الدنيا (أصحاب ابن يسن). وعند أصحاب الفلك خلق الله الفلك وخلق الفلك الأجسام، وأبدع هذا العالم الذي يلحقه الكون والفساد وأن ما أبدعه الباري لا يلحقه كون ولا فساد (مقالات، ج٢، ص٢١٥-٢١٦). وقال البعض إن الباري قادر على أن يُقدِر عباده على خلق الأجسام (مقالات، ج٢، ص٣١). فمثلًا عند المشبهة أن الله قد أقدر العباد على فعل الأجسام وأنه لا يفعل إلا ما كان جسمًا وأن العباد يفعلون الأجسام الطويلة العريضة العميقة (مقالات، ج٢، ص٢١٦). وعند قوم من الغالية أن الله قد أقدر عليَّ بن أبي طالب على فعل الأجسام وفوَّض إليه الأمور والتدبيرات، وأقدر النبي على فعل الأجسام واختراع الأنام (مقالات، ج٢، ص٢١٦). وعند عامة أهل الإسلام أن الله أقدر العباد وأحياهم، ولا يُقدِر أحدًا إلا بأن يخلق له القدرة، ولا يكون حيًّا إلا بأن يخلق له الحياة (مقالات، ج٢، ص٢١٦). وعند بعض الضعفاء من العامة فعل النبيون المعجزات والإعلام (مقالات، ج٢، ص٢١٧). وعند الصالحي أن الله يقدر الميت فيفعل وهو ميت غير حي (مقالات، ج٢، ص١٦٩).
٣٥٦  عند بشر بن المعتمر يجوز أن يُقدِر الله عباده على فعل الألوان والطعوم والأراييح والإدراك، بل أقدرهم على ذلك ولا يجوز أن يقدر أحدًا على فصل الحياة والموت (مقالات، ج٢، ص٢١٧، ص٦٠). وعند أبي الحسين الصالحي: الله قادر على أن يُقدِر عباده على كل الأعراض من الحياة والموت وغيرها، ولكنه لا يقدرهم على الجواهر (مقالات، ج٢، ص٢١٧). وقال: لا يوصف بالقدرة على أن يقدر عباده على فعل الأجسام ولكنه قادر على فعل جميع الأعراض من الحياة والموت والعلم والقدرة وسائر أجناس الأعراض. مقالات (ج٢، ص٥٩-٦٠). وعند أبي الهذيل أن ذلك جائز في الحركات والسكون والأصوات والآلام وسائر ما يعرفون كيفيته، أمَّا الأعراض التي لا يعرفون كيفيتها كالألوان والطعوم والأراييح والحياة والموت والعجز والقدرة فلا (مقالات، ج١، ص٦٠). وعند النظام لا يجوز أن يُقدِر الله إلا على الحركات لأنه لا عرض إلا الحركات، وهي جنسٌ واحد، ولا يجوز أن يقدر على الجواهر ولا على أن يخلق إنسان في غير حياة (مقالات، ج٢، ص١٧٢؛ مقالات، ج٢، ص٦٠).
٣٥٧  عند عامة أهل الإسلام لا يجوز أن يُقدر الله مخلوقًا على خلق الأجسام، ولا يوصف الباري بالقدرة على أن يُقدر أحدًا على ذلك. ولو جاز ذلك لم يكن في الأشياء دلالة على أن خالقها ليس بجسم (مقالات، ج٢، ص٢١٧). وعند معمر لا يوصف الله بالقدرة على أن يخلق قدرة لأحد، وما خلق الله لأحد قدرة على موت ولا حياة، ولا يجوز عليه ذلك (مقالات، ج٢، ص٢١٦، ص٣١). كما أبى أكثر الناس ذلك (مقالات، ج٢، ص٣١). وعند النظام والأصم لا يوصف الله بالقدرة على أن يخلق قدرة غير القادر وحياة غير الحي. وأحالا ذلك (مقالات، ج٢، ص٢١٦). وقد أنكر أبو الهذيل والجبائي وصف الله بالقدرة على الإقدار عليها، الحياة والموت وسائر الأعراض، حتى أنكروا أن يوصف الله بالقدرة على أن يُقدِر أحدًا على لون أو طعم أو رائحة أو حرارة أو برودة، وكل عرض لا يجوز أن يفعله الإنسان فحكمه هذا الحكم (مقالات، ج٢، ص٢١٧).
٣٥٨  (الرسالة، ص٤٠-٤١). ويعلق رشيد رضا بأن صفة الاختيار تبطل قول القائلين بأن العالم كالآلة الميكانيكية، وبالرغم من انتفاء المصلحة والغاية!
٣٥٩  هذه الحلول الوسط مثل: (أ) منها ما هو اختيار ومنها ما هو مختار. (ب) كلها مختارة لا باختيار غيرها بل هي اختيار، وهذا هو قول البغداديين. (ج) ما كان من أفعال الله له ترك كالأعراض فهو مختار وما لا ترك له كالأجسام فهو اختيار. (د) ليست كل أفعال العباد مختارة، ومنها ما يُقال إنه مختار، وجميعًا لا يُقال له اختيار (مقالات. ج٢، ص٩٤).
٣٦٠  يقول صاحب القول المفيد: وهذا الخلاف عند التأمل يرجع إلى أمرٍ لفظي؛ لأنه من نظر إلى أن العرب في محاوراتهم ينسبون الأفعال الاختيارية الصادرة من الحيوان إلى الحيوان على سبيل الحقيقة اللغوية، ويجعلون إسناد تلك الأفعال إلى الحيوانات إسنادًا حقيقيًّا لا مجازيًّا، كأن الحيوان في نظره فاعلًا لفعله حقيقة. فأطلق القول بأن الحيوان خالق لأفعاله الاختيارية أو تسنده إليه حقيقة وأيَّد ذلك بما يوافقه من الآيات. وهذا الفريق هم المعتزلة. ومن نظر إلى أن العرب وإن كانوا حقيقة ينسبون الأفعال الاختيارية الصادرة من الحيوان إليه، ويسندونها إليه على سبيل الحقيقة اللغوية. لكن الأدلة العقلية التي ذهبت في الأنفس والآفاق دلَّت على أنه لا يمكن أن يصدر الخلق بمعنى الإيجاد إلا منه. فلا يجوز شرعًا أن ينسب شيء من ذلك إلى غيره. وأوَّلوا الآيات التي استدلَّ بها المعتزلة بأن المراد بالخلق فيها معنى التقرير لا الإيجاد والتأثير. الخلاف في الحقيقة يرجع إلى مسألةٍ فرعية فقهية (القول، ص٣٩-٤٠). ويقول أيضًا: وكيف يمكن أن يكون المكلف مجبورًا في أفعاله الاختيارية وهو إنسان وحيوان، والحيوان جسمٌ نامٍ حساسٌ متحرك بالإرادة والاختيار. فكان من قانيات كل حيوان أن يكون متحركًا بالإرادة والاختيار؛ فالقول بأن المكلف مجبور في أفعاله الاختيارية وهو إنسان قول بأن الإنسان ليس بحيوان وهو كذب ببداهة العقل أو قول بأنه حيوان ليس بحيوان وهو تناقض ظاهر البطلان. ألا ترى أن جميع ما يعتدُّ بهم من العقلاء كالحكماء والمعتزلة وأهل السنة لم يختلفوا في أن الحيوان بجميع أنواعه مختار في أفعاله الاختيارية بالمعنى الأخص، بمعنى أنه يجوز أن يصدر منه الفعل بدلًا من الترك وبالعكس (والخلاف في الكيفية بالواجب عند الحكماء أم بالإرادة عند المتكلمين) (القول، ص٤٣).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤