الفصل الخامس

في التنظيمات والتراتيب الإدارية

في العهد الأموي الأول

(١) مقدمة في التراتيب الإدارية في سورية قبل الإسلام

كانت بلاد الشام ولاية رومانية منذ عهد بومبوس الروماني، الذي افتتحها في القرن الأول ق.م. ٦٤، وجعل عاصمتها أنطاكية، ولما فتحها المسلمون كان السلطان الروماني والإدارة التراتيب والأنظمة الرومانية متغلغلة فيها منذ أكثر من سبعة قرون خلت، وقد عهدوا بتدبير شئونها إلى ولاة رومانيين، كما أنهم أبقوا بعض الأسر الحاكمة القديمة إلى أن نسخوا ولايتهم على التعاقب.١ وكانت للسوريين قبل الفتح ندوات ومجالس بلدية، تُعنى بمهام البلاد الداخلية، وتصلح شئونها، وتهتم بتوسيع نطاق تجارتها، وتجميل أبنيتها في أنطاكية ودمشق وتدمر.٢ وكانت ديار الشام في ذلك أكثر زراعة، فإن كثيرًا من البقاع التي وصفت بأنها جنات ومزارع صارت فيما بعد صحارى قاحلة.٣ وكانت الغوطة في منتصف القرن الرابع٤ تسمى لؤلؤة عقد سورية وشامة الدنيا، وكانت صادراتها الزراعية من حبوب وخمور وزيوت وفواكه ذات شهرة واسعة في أرجاء العالم.٥ كما كانت مصنوعاتها من نسيج القطن والحرير والكتان وآنية الزجاج والنحاس مضرب الأمثال، فكانت تُنقل إلى كافة أرجاء المعمورة.٦ وكان التجار السوريون يرحلون إلى أقاصي الهند والصين وأوروبا، وكانت لهم مخازن ومراسي في موانئ إيطالية وإسبانيا وبحر الهند.٧ ولا شك في أن لهؤلاء التجار قوانين وتراتيب وأنظمة، سنَّتها حكومتهم لتنظيم شئونهم الاقتصادية وعلاقاتهم بالدول الأخرى تجدها إما في كتب الفقه والتشريع الروماني، أو على الأحجار واللوحات والآثار التي بقيت من ذلك العهد.
وقد تغلغلت الديانة المسيحية في سورية منذ القرن الأول المسيحي، وخلفت لنا المسيحية آثارًا عقلية وعلمية وأدبية رائعة أنتجتها عقول السوريين في ذلك العصر.٨ ولا سيما المشرعين منهم، والقانونيين، والفلاسفة؛ أمثال فرفير الصوري «فورفوريوس» الفيلسوف الأشهر، تلميذ فلوطين (؟–٣٠٥م) والأسقف أوسابيوس أسقف قيصرية؛ فقد كان من رجال الدين والعلم والفلسفة والتاريخ والقانون والجغرافية (؟–٣٣٨م).٩ وأوسابيوس أسقف قيصرية؛ فقد كان من أئمة البلاغة والتاريخ والقانون.١٠ والقديس يوحنا فم الذهب الأنطاكي الخطيب العالم المشرع الأشهر (؟–٤٠٧م).١١ وسوزومانس المؤرخ السوري الأشهر، والفقيه المحامي بعد سنة ٤٣٩.١٢ ومنهم إيناي الغزي الفيلسوف المسيحي (؟–٥٢١).١٣ ومنهم القديس سمعان العمودي الزاهد العالم، صاحب الدير المعروف باسمه إلى الآن في سورية (؟–٤٥٩).١٤ ومنهم المعلم دوروتاوس أحد معلمي مدرسة الشريعة في بيروت، وكان من جملة من استدعاهم الملك جوستنيان لتنقيح الشرائع وتدوين اللغة، فكان هو والمعلم تريبونيان رئيس اللجنة التي شكَّلها جوستنيان صاحبَي الفضل الأكبر في إيجاد مدونة جوستنيان Institutos.١٥ ومنهم المؤرخ الفقيه أفاغربوس الحموي (؟-بعد سنة ٥٩٤).١٦ وغيرهم من الأئمة الأعلام الذين ضربوا بسهم وافر في علم التشريع والقوانين وترتيب الدول وأنظمتها. ولا شك في أن هذا التراث العلمي العريق قد وجد الأرض الطيبة في عهد الراشدين، ثم في عهد الأمويين. وقد استعان معاوية بنفر من أئمة التشريع والفقه الروماني من نصارى أهل الشام، كمنصور الرومي وسرجون الرومي وغيرهما.

(٢) الخلافة

كانت الخلافة في العهد الراشدي خلافة شورية على الرغم من اللمحات الاستبدادية التي كانت تتجلى على بعض تصرفات أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ولكنها في الأكثر كانت ذات أسلوب إسلامي جماعي ديموقراطي، فلما جاء عهد أمية استحالت إلى ملك استبدادي، ولم يمكن الناس أن يثوروا على هذه البدعة؛ لأن الرجل الذي تقلد الأمر كان رجلًا مرنًا، ذا هيبة، يؤذي ويداري ويجرح ويداوي، ثم إنه سلك بالناس مسلكًا حسنًا، فوجه العرب إلى الفتح والجهاد في سبيل الله، وأحسن سياسة غير العرب، فلم يرهقهم ولم يقسُ عليهم، ووحَّد أركان الدولة الجديدة بمخترعاته في التنظيم والترتيب والسياسة، فأحبه الناس وآزروه، ثم إنه نقل عاصمة الخلافة من مقرها الأول المُتزمِّت المُتشدِّد إلى مقر جديد يكوِّنه كما يريد، ثم إن القوم الذين أقام بينهم في عاصمته هم قوم مسالمون مطيعون، يحبون المال، ويكرهون الشغب، وقد يسر لهم معاوية ذلك، فالتفُّوا حوله وآزروه، وأعانوه بعلمهم ومقدرتهم وما ورثوه من تقاليد الدولة المنقرضة وآدابها وتراتيبها الإدارية والدولية، فرتب الخلافة تراتيب جديدة، وأقام على بابه الحجاب والشرطة، واتخذ المقصورة يصلي فيها بعيدًا عن الناس، ثم جعل نظام ولاية العهد على الأسلوب الكسروي، فنقلها من الشورى التي كانت عليها أيام الراشدين إلى الميراث، ولا شك في أنه قد تأثر بنظام ولاية العهد البيزنطي الرومي أو الساساني الفارسي. ثم إن معاوية قد رأى أن الأمر في زمانه لم يبقَ كما كان أيام الرسول وأن المُلك غير الخلافة، فالمُلك يستند على السياسة والخلافة تستند على الدين، ولا مانع عنده من أن يجنح إلى السياسة، ولو كان في ذلك خروج عن بعض تعاليم الدين إذا ما اقتضت مصلحة المسلمين ذلك؛ لأن ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وإذا تعارضت الفكرة الدينية بالمصلحة الدنيوية يجب الأخذ بالمصلحة؛ ومن أبرز الأدلة على ذلك استلحاقه زيادًا بأبيه أبي سفيان، وعدم اكتراثه بكل ما قيل فيه؛ لأنه رأى أن المصلحة الدنيوية تقضي بذلك؛ ومن ذلك أنه أوجد سرير الملك على نمط العرش البيزنطي والساساني، وهذا أمر يخالف روح الفكرة الديموقراطية التي سار عليها الخلفاء من قبله، ولكنه رأى أن المصلحة تقضي بذلك فعمله. قال صاحب صبح الأعشى في الفصل الخاص برسوم الملك وآلاته، ومنها «سرير الملك»، ويقال له تخت الملك، وهو من الأمور العامة للملوك، وقد تقدم أن أول من اتخذ مرتبة للجلوس عليها في الإسلام معاوية حين «بَدَّن»، ثم تنافس الخلفاء والملوك بعده في الإسلام حتى اتخذوا الأسرَّة.١٧ وقال ابن خلدون:

(٣) الوزارة

لم يتخذ الرسول، ولا الخلفاء الراشدون، ولا الأمويون وزيرًا بالمعنى الذي نفهم، والذي وجد في العصر العباسي، وإنما كان الخلفاء الراشدون والأمويون يستعينون على حلِّ بعض القضايا بمشاورة كبار أهل الرأي من رجالات الدولة، فكان أبو بكر يشاور عمر وعثمان وعليًّا، وغيرهم من كبار رجالات الصحابة، وكان عمر وعلي يقضيان بين الناس، ويحلان كثيرًا من المشاكل التي اعترضت أبا بكر في عهده، وكان لأبي بكر مجلس يجمع فيه أهل العلم والدين والعقل، ويشاورهم فيما يحل به من قضايا المسلمين، وكذلك كان عمر وعثمان وعلي من بعده. فلما تولى معاوية وسلك بالدولة الإسلامية ذلك المسلك الجديد، لم يستطع أن يبدل كل شيء في الأسلوب القديم، فلم يتخذ نظام الوزارة الفارسي أو البيزنطي، ولم يقيد الخليفة بقيود بعيدة عن روح الإسلام والعقلية العربية، ولكنه أبقى للتقاليد العربية سلطانها، بل يمكننا أن نقول: إن العهد الأموي كان رجوعًا إلى التقاليد الجاهلية التي تجعل لشيخ القبيلة السلطان المطلق في تصريف الأمور، وهذا ما جعل الفقهاء ينظرون إلى الخلفاء الأمويين، كأنهم ملوك مستبدون لا خلفاء يمثلون النبي، ويقومون بتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية. ولم يتخذ الأمويون وزراء بالمعنى الذي نعرفه في العصر العباسي، وإنما كان لهم كُتَّاب وأناس يستشيرونهم، ولو لم يكونوا من المسلمين؛ كما رأينا في تقريب معاوية لمنصور الرومي وسرجون الرومي، وأسرة سرجون «سرجيوس» أسرة نبيلة ساهمت في تولي الوظائف الإدارية والمالية في العهد البيزنطي، وممن برز اسمُهم في هذا العصر من النصارى السوريين حفيد القديس يوحنا الدمشقي، الذي كان أحد ندمان يزيد وأهل مشورته، ومنهم الطبيب ابن أثال الذي كان طبيب معاوية، ثم ولاه جباية خراج حمص.١٨ ومنهم الأخطل الشاعر وقصصه مع الأمويين معروفة، وغيرهم من عقلاء نصارى الشام وأهل الذمة.

(٤) الكتابة والتراتيب الإدارية

اتخذ الرسول كُتَّابًا يكتبون له الوحي، وكُتَّابًا يكتبون له الأمور الدنيوية، ومن كُتَّاب الرسول عمر، وعلي، وعثمان، وزيد بن ثابت، ومعاوية، وسعيد بن العاص، والمغيرة بن شعبة.١٩ ولما ولي أبو بكر اتخذ عثمان كاتبًا له، فنظم له ديوان الدولة، ولما ولي عمر اتخذ ثابتًا وعبد الله بن الأرقم٢٠ كُتَّابًا، واتخذ عثمان مروان بن الحكم كاتبًا له، واتخذ علي عبد الله بن أبي رافع كاتبًا له. ويروي الجهشياري أن عليًّا أوصاه بقوله: يا عبد الله ألقِ دواتك، وأطل شباة قلمك، وفرِّج بين السطور، وقرمط بين الحروف.٢١ ولا شك في أن هؤلاء الكُتَّاب كانوا يكتبون ما يُملى عليهم للخليفة، وقد يُعطيهم الفكرة فيكتبونها، ثم يقرءونها عليه، فإذا أعجبته وَقَّع عليها. ولما ولي معاوية عدَّد الكُتَّاب، وجعل لكل مصلحة من مصالح الدولة ديوانًا خاصًّا، وفي عهد معاوية صار الكُتَّاب خمسة أصناف: (١) كاتب الرسائل. (٢) كاتب الخراج والمستغلات. (٣) كاتب الجُند. (٤) كاتب الشرطة. (٥) كاتب القاضي. وأكبر هؤلاء الكُتَّاب مكانة هو كاتب الرسائل، وكان الخلفاء لا يولون هذا المنصب إلَّا الأمين المأمون الشريف، وقلما اختاروا له شخصًا من غير بني أمية أو أشراف العرب، وقد استمروا على ذلك طول العهد الأموي، وكان صاحب هذا الديوان لا يقل عن الوزير في العصر العباسي، وكان ديوان الخاتم تابعًا لصاحب ديوان الرسائل، وهو ديوان أحدثه معاوية، وكانت قبلئذٍ الرسائل غير مختومة، وكان أحال رجلًا على زياد ابن أبيه — عامله على العراق — بمائة ألف درهم، فمضى الرجل وجعل المائة مائتين، فلما رفع زياد حسابه إلى معاوية أنكر هذا العدد، وقال: ما أحلته إلَّا بمائة ألف، ثم استعاد المائة ألف ووضع ديوان الخاتم، فصارت الرسائل لا تصدر إلَّا مختومة لا يعلم أحد ما تشتمل عليه، ولا يستطيع أن يغيرها في شيء.٢٢ أما ختم الرسائل بوضع خاتم في آخرها، فقد كان منذ عهد النبي؛ فقد رووا أنه لما أراد أن يكتب إلى الملوك قيل له: إن الملوك لا يقبلون كتابًا إلَّا إذا كان مختومًا، فاتخذ خاتمًا من فضة ونقشه: «محمد رسول الله»، وختم به أبو بكر وعمر وعثمان إلى أن سقط من يد عثمان في بئر أريس، فصُنع آخر مثاله (مقدمة ابن خلدون، ص٢٢٠). ومن إصلاحات معاوية الإدارية أنه ضرب أنواع العملة؛ فسك دنانير عليها صورته وبيده سيف، كما سك دراهم وزن الواحد منها ستة دوانق، وسك عامله على العراق دراهم وزن العشرة منها ستة مثاقيل.٢٣ ولكن يظهر أن هذه العملة كانت محدودة الكمية؛ فإنها لم تستطع أن تقضي على العملات الأجنبية من دنانير رومية أو دراهم ساسانية. وسنرى أن عبد الملك بن مروان هو الذي خطا في هذا المضمار الخطوة الرئيسية.

(٥) الحجابة

كان للرسول والخلفاء الراشدين حُجَّاب، ولكنهم ما كانوا يتشددون في الحجاب، ولا يمنعون أحدًا من الدخول عليهم إلَّا في الأوقات التي يخلون فيها بأنفسهم وأهلهم وأولادهم غالبًا، وكانوا يسيرون بالناس على الطريقة العربية. فلما انتقل الأمر إلى بني أمية اتخذ معاوية حُجَّابًا على بابه يمنعون الناس من الدخول إلَّا بإذن وسؤال؛ خوفًا على نفسه من شر الخوارج والمفسدين والثقلاء، وتلافيًا من حصول الفوضى في مجالس الخلافة، على أن معاوية لم يستطع أن يحتجب عن الناس تمامًا؛ فقد رأينا في كلام المسعودي الذي صوَّر لنا فيه كيف كان معاوية يقضي يومه، أنه كان يخصص بعض ساعات يومه للناس عامة لا يحتجب دون أحد. يقول ابن خلدون: لما انقلبت الخلافة إلى مُلْك (أي في العهد الأموي)، وجاءت رسوم السلطان وألقابه، كانوا أول شيء بُدئ به في الدولة شأن الباب وسده دون الجمهور، بما كانوا يخشون على أنفسهم من اغتيال الخوارج وغيرهم، كما وقع لعمر، وعلي، ومعاوية، وعمرو بن العاص، وغيرهم، مع ما في فتحه من ازدحام الناس عليهم، وشغلهم بهم عن المهمات، فاتخذوا من يقوم بذلك وسمَّوه الحاجب.٢٤ وهذا حق، فإن بني أمية قد نظموا أمور الحجابة؛ فشدَّدوا فيها بعض الأحيان. كان الحجاب في أيام أبي بكر وعمر يتساهلون كل التساهل. ويروى أن يرفأ مولى عمر وحاجبه هو أول من ارتشى في الإسلام؛ فقد ذكر أبو نعيم أن يرفأ ارتشى من المغيرة بن شعبة؛ ليسهل عليه الدخول إلى عمر، ويخبره عن بعض أوضاع عمر.٢٥ ويظهر أن عثمان قد تشدَّد في الحجابة بعد حادثة عمر، أما علي فكان لا يمنع أحدًا من الدخول عليه، ولما انتهت الدولة الراشدية وجاء معاوية نظم أمر الحجاب على الشكل الذي حدثنا به ابن خلدون. وقد كان لمعاوية حاجب اسمه سعد أبو درة، ذكره ابن عساكر فقال: «كان حاجبًا لمعاوية، ثم لعبد الملك بن مروان»، وروي عن أبي المعطل الكلابي قال: أقبل رجل من الصحابة يُقال له أبو مريم غازيًا زمن معاوية، حتى بلغ الجفر فتذكر حديثًا، فرجع إلى دمشق فدخل على معاوية، فرحب به فقال أبو مريم: إني لم أجئك طالب حاجة، ولكن سمعت رسول الله يقول: «من أغلق بابه دون ذوي الفقر والحاجة أغلق الله عن فقره وحاجته باب السماء»، فبكى معاوية ثم قال: ردد حديثك. ثم أرسلَ خلف سعد، وقال له بعد أن حدَّثه حديث أبي مريم: اللهم إني أخلع هذا من عنقي وأجعله في عنقك، من جاء يستأذن فأذنْ له.٢٦

(٦) الجيش

يظهر أن معاوية قد حوَّر نظام الجيش عما كان عليه في عهد الخلفاء الراشدين، فقد اقتبس بعض الأنظمة العسكرية البيزنطية، فكانت الفرقة مؤلَّفة من خمسة أجزاء: القلب، والميمنة، والميسرة، والطليعة، والساق، كما أدخل بعض ألبسة الجند البيزنطي كالسروج المستديرة البسيطة، واتخذ بعض آلات الحرب التي كان الروم يستعملونها كالعرادة والمنجنيق والدبابة.

أما الجيش فبعد أن كان عربيًّا صرفًا في العهد الراشدي، صرنا نجد فيه بعض العناصر غير العربية من روم وفرس وبخاصة في قسم البحرية. وقيل إن الجيش النظامي قد بلغ في عهد معاوية ستين ألف مقاتل، وأن عطاءهم السنوي بلغ نحوًا من ستين ألف ألف درهم.٢٧ وكان المقاتلة البحريون على نمط المقاتلة البحرية عند البيزنطيين، كما كانت السفينة الحربية العربية على نمط السفينة الحربية البيزنطية، وكانت في كل واحدة منها ما لا يقل عن خمسة وعشرين مقعدًا للتجديف في كل واحد من ظهري السفينة الأسفلين يجلس على المقعد رجلان عدا المقاتلة، وكان الملَّاحون مسلحين أيضًا.

ترتيب العمارة البحرية: طلب معاوية من عمر أن يأذن له بغزو الروم بحرًا فنهاه عن ذلك، فلما تولى عثمان أعاد الطلب، فأذن له على ألا يحمل أحدًا من العرب على ركوب البحر، فصار المسلمون يركبون البحر، وبلغ الأسطول الأموي في وقت ما نحوًا من ألفي سفينة، وقد اتخذ معاوية في عهدَي إمارته وخلافته دورًا للصناعة والقيام بتراتيب العمارة البحرية في كلٍّ من صيدا وصور والإسكندرية، وجزائر صقلية، وإقريطش ورودس وسردانية والبليار، واتخذ معاوية بموافقة عثمان قرارًا بإيجاد إمرة للأسطول العربي، يتولَّى صاحبها الإشراف على الموانئ والمنائر، ودور الصناعة، وقضايا التجارة البحرية، والحملات الحربية البحرية.

(٧) العمالة

اتسعت الدولة الإسلامية في عهد بني أمية إلى أقصى حدودها، وكانت منقسمة إلى خمس عمالات كبرى:
  • (١)

    الحجاز واليمن وأواسط بلاد العرب، وحاضرتها المدينة.

  • (٢)

    العراقان، العربي والعجمي، وحاضرتهما الكوفة، ثم البصرة، يتبعه خراسان والمشرق إلى ما وراء النهر، وكانت هذه الأقطار تابعة لعامل العراق أو واليه، وهو يُولي عاملًا من قِبَله في مرو والمشرق.

  • (٣)

    مصر، وحاضرته الفسطاط.

  • (٤)

    الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، وعاصمتها الموصل.

  • (٥)

    إفريقية الشمالية، وبلاد الأندلس، وجزر صقلية، وسردانية، والبليار، وحاضرتها القيروان، ويُولي عامل إفريقية من قِبَله حُكامًا على الأندلس والجزر.

وكان لكل عمالة عامل أو آمر ينتخبه الخليفة من خاصة الخاصة وأكثر رجال الدولة كفاءة.٢٨

(٨) التراتيب والتنظيمات الإدارية الأخرى

نظم معاوية الدولة تنظيمات أخرى نذكر منها:

تنظيمات الضرائب والخراج وجباية الأموال والمستغلات

وقد كان الخلفاء من قبله يطبقون ما ورد عن الرسول وما تناقله الأصحاب، وما كانوا يعرفونه من طرق الجباية والإدارة المالية. وقد كان للخليفة عمر يد مشكورة في تنظيم موارد الدولة المالية، فقد اتسعت رقعة الدولة، وفتح المسلمون أقطارًا شاسعة تحتاج إلى تنظيم جديد. وقد كان تشريع عمر مستوحًى من روح الشرع الإسلامي، تسيطر عليه الرأفة والرحمة، وكان الخراج والجزية والفيء والغنائم والزكاة عماد موارد الدولة، فلما تَوسَّع الأمر في عهد معاوية ورأى التنظيمات المالية في الشام ومصر والعراق من رومية وقبطية وفارسية، اقتبس منها ما يلائم روح الإسلام.

وقد زاد معاوية بعض الضرائب عما كانت عليه في عهد الخلفاء الراشدين، وقد كانت أهم موارد الدولة في عهده الجزية والزكاة، وهي ما يدفعه سكان الشعوب المفتوحة، وكانت نفقات كل عمالة — من رواتب ومخصصات للجند ورجال الإدارة والقضاء — تدفع من صندوق بيت مال تلك العمالة، وما يفيض يرسل إلى بيت مال المسلمين، وقد جعل معاوية الزكاة اثنين ونصف بالمائة.

ترتيب شئون البريد

البريد ترتيب قديم يرجع إلى ما قبل الإسلام، وقد استعمله المسلمون في عهد النبي والخلفاء الراشدين، ولكنه كان مماشيًا لحالة البداية التي كان عليها رسول الله والخلفاء الراشدون، فلما انتقل معاوية إلى دمشق واطلع على تراتيب البريد في العهد الرومي، فأعجبه وعمل على تطبيقه مثلهم. قال القلقشندي: أول من وضع البريد في الإسلام معاوية بن أبي سفيان، وذلك حين استقرت له الأمور، ومات أمير المؤمنين علي، وسلم له ابنه الحسن، وخلا من المنازع، يبعثون إليه بأخبار البلاد وأحوالها، فوضع البريد لتُسرع إليه أخبار بلاده من جميع أطرافها، فأمر بإحضار رجال من دهاقن الفرس وأهل عمال الروم، وعرفهم ما يريد فوضعوا له البريد.٢٩ ولا بدَّ لصاحب البريد من عيون في النواحي.
قال أكرم ميتر: وهذا ميراث أخذه العرب من البيزنطيين؛ ففي عهد قسطنطين الأكبر كان لصاحب البريد أعوان يسمون Veridrii، وهم نَقَلَة الأخبار الذين يركبون الخيل، وكانوا يمدونه بالأخبار.٣٠ ويقول أرنولد في تاريخ الحضارة الإسلامية، ص٣٧: «وكانت الرسل التي تنقل رسائل الحكومة في ذلك الوقت — كما كانت سابقًا — تُسمى بريد، وهي كلمة مأخوذة من كلمة وريدوس Veredus اللاتينية، بينما سماها اليونان أنكروس نقلًا عن اللغة الفارسية.» فهو يرى أنها آتية من اللاتينية، كما أن ميتس يذهب إلى أنها بيزنطية، ويرى «حتي» في تاريخ العرب المُطوَّل٢، ص٣٩٩، أنها لفظة سامية لا علاقة لها باللفظ Veredus وما لها علاقة ﺑ «برون الفارسية»، ومعناها حصان سريع الجري و«برذون» العربية (راجع سفر إستير ٨: ١٠).

ترتيب شئون القضاء

كان القضاء في عهد الخلفاء الراشدين يوكل إلى كبار أئمة الإسلام ومجتهديه، وقد اختلف المؤرخون في أول من أوجد القضاء وظيفة معينة؛ فقد روى السيوطي عن العسكري في كتاب الأوائل: أن أول قاضٍ في الإسلام هو عمر بن الخطاب، قضى لأبي بكر. ثم يستدرك السيوطي على هذا بقوله: لكن أخرج الطبراني حديثًا عن السائب بن يزيد أن النبي وأبا بكر لم يتخذا قاضيًا، وأن أول من استقضى هو عمر، قال للسائب بن يزيد: رد عني الدرهم والدرهم. وكذلك روى أبو يعلى في مسنده عن ابن عمر قال: ما اتخذ رسول الله قاضيًا ولا أبو بكر ولا عمر حتى كان في آخر زمانه، فقال للسائب بن يزيد: اكفني بعض الأمور؛ يعني صغارها. وكذلك روى ابن سعد في الطبقات عن الزهري أنه قال للسائب: لو روحت عني بعض الأمر. وروي أيضًا عن نافع قال: استعمل عمر زيد بن ثابت على القضاء وفرض له رزقًا. وروى سعد أيضًا عن أبي هريرة أن مروان بن الحكم لما ولي المدينة في عهد معاوية سنة ٤٢ استقضى عليها عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وهذا أول قاضٍ في الإسلام.

وروى ابن عبد البر في التمهيد أنه اختلف في أول من استقضى، فقال العراقيون: عمر، وأنه بعث شريحًا إلى الكوفة قاضيًا، وبعث كعب بن سوار إلى البصرة. وقال مالك: أول من استقضى معاوية، وأول قاضٍ بالبصرة إياس بن صبيح الحنفي.

أقول: ويظهر من هذه الأقوال أن نظام القضاء بالمعنى المفهوم بدأ في عهد عمر، ثم انتظم في عهد معاوية، أما في عهد الرسول وعهد أبي بكر، فقد أسند القضاء إلى عمر، وظل سنتين لا يأتيه متخاصمان لما عرف به من الشدة، وفي عهد عمر وعثمان كان علي ونفر من كبار الصحابة يتولون قضايا المسلمين، وفي عهد عمر فُتِحت الأمصار الإسلامية، فعهد بالقضاء في كل مصر إلى بعض الفقهاء من أهل الرأي والاجتهاد. وكثيرًا ما جمع الخراج والقضاء لرجل واحد، وربما عهد عمر لعامله أن يولي القضاة إذا كانت ولايته عامة؛ أي إنها ولاية على الخراج والصلاة معًا. ومن قضاة عمر أبو الدرداء، ولَّاه قضاء المدينة، وشريح بن الحارث استقضاه على الكوفة، وأبو موسى الأشعري استقضاه على البصرة، وعثمان بن أبي العاص استقضاه بمصر. ولما ولي عثمان وعلي استمر القضاء وشئونه كما كان في عهد عمر، إلَّا أن عليًّا كان كثيرًا ما يقضي بنفسه.

فلما ولي معاوية جعل لصاحب القضاء مكانًا خاصًّا يجلس فيه للحكم بين الناس، وحلَّ خصوماتهم الشرعية والمدنية، وجعل له كاتبًا يكتب الوثائق، ويسجل الأحكام في سجل خاص، ويكتب إلى صاحب الشرطة أو المحتسب لتنفيذ حكم الشرع، وهذه أمور استحدثت في عهد معاوية؛ لتوسع رقعة الدولة، وكثرة قضايا الناس وتشابك مصالحهم. وكان القاضي ينظر في المظالم وقضايا الاحتساب، وربما جعل للمظالم قضاة مستقلين عن قضاة الحقوق، كما يجعل للحسبة صاحبًا مختصًّا بها وحدها.

والفرق بين القاضي والمحتسب وصاحب المظالم، أن الأول هو الذي يقضي بين الناس، ويحل المشاكل المتعلقة بأمور الدين، بينما يهتم المحتسب بالفصل فيما يتعلق بالحقوق العامة، وأمر آداب الطريق وحقوق الأسواق وما إليها، وصاحب المظالم هو الذي يفصل فيما يستعصي على القاضي والمحتسب معًا.٣١ وقد كان غير المسلمين من أهل الذمة يتمتعون باستقلال قضائي كنسي خاص بهم، يتولاه رؤساء أديانهم من نصارى أو يهود أو غيرهم.

الشرطة

من متعلقات القضاء هي السلطة التنفيذية التي تتولى الإشراف على تنفيذ الأحكام القضائية، وفرض العقوبات الزاجرة قبل حدوث الجرائم، وإقامة الحدود الثابتة في محالها، ويحكم صاحبها في القود والقصاص، ويقيم التعزير والتأديب في حق من لم ينتهِ عن الجريمة. وقد كان الخلفاء الراشدون والأمويون يُولُّونها الوجوه والعدول والثقات، ويقال: إن أول من اتخذها عثمان.٣٢ ثم استمرَّ الخلفاء بعده في اتخاذها.

(٩) العاصمة والسكان

لم نعثر فيما بين أيدينا من نصوص تاريخية على وصف لما كانت عليه العاصمة الإسلامية في عهد بني أمية، وإنما هنالك نصوص متأخرة كالذي يذكره المقدسي، وابن خرداذبة، وابن عساكر وياقوت، وإليك مجمل ذلك:

دمشق مدينة قديمة جدًّا، حتى قال بعضهم: إنها أقدم مدينة موجودة على ظهر الأرض، وزعم كعب الأحبار أن أول حائط وُضع في الأرض بعض الطوفان حائط دمشق وحران. والأخبار كثيرة متواترة عن قدم المدينة. ومهما يكن من شيء فإن مسجدها الذي شُيِّد بعد الفتح ووسِّع أيام الوليد، قد أقيم على أطلال كنيسة يوحنا المعمدان التي أقيمت على أطلال معبد للوثنيين٣٣ هو معبد الشمس، ويقول المطران الدبس: الأظهر أنها من بنايات الأراميين، ولد أرام بن سام، حتى يقال إن تسميتها والبلاد التابعة لها شامًا نسبة إلى شام بن نوح. وقال أبو الفداء: سميت شامًا؛ لأن قومًا من بني كنعان تشاءموا؛ أي تياسروا إليها؛ لأنها عن يسار الكعبة.٣٤ وقد سكنها العرب قديمًا. قال الدبس: «إن فصيلة التي ظعنت من اليمن إلى سورية في القرن الثاني للميلاد على ما يظن، وظعن مع بني غسان بنو عاملة بن سبأ مع سبعة أحياء أخرى، وتوطنوا في دمشق ونواحيها.»٣٥ وقد استمر هؤلاء الغساسنة في الشام إلى حين الفتح الإسلامي؛ ولذلك لم يجد العرب أنفسهم غرباء عن المحيط الشامي بعد الفتح، لصلاتهم التجارية بأهل البلاد قبل الفتح، ولوجود هؤلاء العرب في الشام، ممن سهلوا لهم مهمتهم وأعانوهم على حلِّ كثير من القضايا. ولما فتح المسلمون دمشق في رجب سنة ١٤ﻫ، وجدوا أن أعظم أبنية المدينة هي كتدرائيتها العظيمة المعروفة بكتدرائية يوحنا المعمدان (يحيى عليه السلام)، فاشترطوا على نصارى المدينة أن يقتطعوا نصف الكتدرائية، ويجعلوه جامعًا لهم إلى أن جاء الوليد بن عبد الملك، فأخذ النصف الباقي سنة ٨٦ﻫ وعوَّضهم عنه٣٦ على الشكل الذي سنتحدث عنه فيما بعد. أما الكتدرائية كما وجدها المسلمون بعد الفتح فقد كانت رائعة البناء ضخمة الأعمدة. يقول فون كريمر: إنها كانت تقع في منتصف الطريق بين البابين الشرقي والغربي، وإنها كرست باسم يوحنا المعمدان (يحيى بن زكريا)، وهي واقعة على مكان هيكل وثني قديم، وقد بنيت حيطانها على أساساته، أما بانيها فهو الإمبراطور الروماني تيودوسيوس سنة ٣٩٩م، وقد كانت أقواس أبوابها الضخمة المرتكزة على أعمدة كورنتية والواجهات المنقوشة بزخارف رائعة، مأخوذ من أطلال آثار ونقوش ترجع إلى أواخر عصر الإحياء الروماني، وكانت هذه الأعمدة تزين مدخل الكنيسة. وقد بقي لنا من آثار الأعمدة والأبواب التي تذكرنا ببعلبك في فخامتها وأسلوب نقشها وزخرفتها، نماذج ما تزال باقية إلى اليوم في الجانب الغربي من الجامع الحالي عند باب البريد.٣٧ ويقول مكوليستر: إن داخل الكنيسة كان على غاية من الروعة، وصحنها من عمل البيزنطيين، وهو متوَّج بقبة كبرى يدعوها العرب قبة النسر، والحيطان مرصعة من الداخل من كلا الجانبين بالفسيفساء الجميلة، التي تماثل كنيسة القديس مارك في البندقية، ومساحة هذا البناء كله من الداخل ٤٣١ قدمًا في ١٢٥ قدمًا، وتمتد على الجهة الجنوبية من على شكل مربع مستطيل مساحته ١٦٣ يردًا في ١٠٨ يردات.٣٨ وقد كانت هذه الكتدرائية تقع في وسط المدينة، من حولها ساحة عظيمة يخترقها الشارع الأعظم المذكور في العهد القديم، باسم «الشارع المستقيم»، ممتدًا من الباب الشرقي إلى الباب الغربي بطول يقرب من ألفي متر، كما يخترقها من الساحة شارع آخر، أقصر من الأول بقليل، يمتد من الباب الشمالي إلى الباب الغربي.٣٩

عجب المسلمون بجمال المدينة، واتساق أبنيتها، وفخامة آثارها، وتعدد أنهارها، واتفقوا والنصارى على إبقاء كلِّ شيء على ما هو عليه، وفي عهد معاوية بنى قرب الجامع دار الإمارة الخضراء، وقيل بل إنه جدَّد بناءها. قال ابن عساكر ١: ٢٤٣: إن معاوية لما بنى الخضراء بدمشق، وهي دار الإمارة، وكان بناؤها بالطوب، فلما فرغ منها قدم عليه رسول لملك الروم فنظر إليها فقال له معاوية: كيف ترى هذا البنيان؟ قال: أما أعلاه فللعصافير، وأما أسفله فللفار، فبنى معاوية ضفتها بالحجارة.

وحكي أيضًا أن الخضراء التي كانت دار الإمارة هي من بناء الجاهلية.٤٠ ويظهر أن معاوية الميال إلى المظاهر والتفخيم قد بناها على أطلال مقر قديم، وأنه لما تمم بناءها سأل هذا الرومي عن رأيه فقال ما قال، ثم بدا لمعاوية أن يزيد في رونقها زيادة جعلت الناس يلغطون في كثرة إنفاق الخليفة على قصره من كثرة ما جمَّلها، وتأنق فيها ما شاء له التأنق، وأنفق عليها وعلى فرشها ورياشها إنفاقًا جعل أبا ذر الغفاري يثور عليه، ويقول له: يا معاوية إنْ كانت هذ الدار من مال الله فهي الخيانة، وإنْ كانت من مالك فهذا الإسراف، فسكت معاوية.٤١ وقد توارثها أبناء معاوية، وفي عهد عبد الملك طلب من خالد بن يزيد بن معاوية أن يبيعه إياها، فاشتراها منه بأربعين ألف دينار.٤٢ وقد ظلت هذه الدار إلى أن هدمها العباسيون.٤٣

ودمشق موصوفة منذ القديم بكثرة مياهها، وتعَدُّد أنهارها، وروعة بساتينها، وكثرة فاكهتها وزهرها. قال ياقوت: «دمشق هي قصبة الشام وجنة الأرض بلا خلاف؛ لحسن عمارة ونضارة بقعتها، وكثرة فاكهتها، ونزاهة رقعتها، وكثرة مياهها.» وقال أبو بكر الخوارزمي: «من خصائص دمشق التي لم أرَ في بلد آخر مثلها، كثرة الأنهار بها، وجريان الماء في قنواتها، فقلَّ أن تمر بحائط إلَّا والماء يجري في بركة في صحن هذا المكان.» وما يزال هذا الوضع كما كان عليه في السابق.

وقد وصف المدينة الرَّحالة ابن جبير لما زارها في ربيع الآخر سنة ٥٨٠: «جنة المشرق ومطلع حسنه المونق، وهي خاتمة بلاد الإسلام التي استقر بناها، وعروس المدن التي اجتليناها، وقد تجلت بأزاهر الرياض، وتجلت في حلل سندسية من البساتين؛ ظل ظليل، وماء سلسبيل. وقد أحدقت البساتين بها إحداق الهالة بالقمر، واكتنفها اكتناف الكمامة للزهر، وامتدت بشرقيها غوطتها الخضراء امتداد البصر.» ثم أطنب في وصف الجامع وجمال بنائه وفخامة زخرفته، ثم وصف الأمكنة والمشاهد الجليلة المعروفة في المدينة من مشاهد دوارس، ومشافي، وبيمارستانات، وحدائق، وكنائس، وأديرة، ويظهر أن سور المدينة القديم كان ما يزال باقيًا إلى ذلك العصر الذي زارها ابن جبير فيه.٤٤ وهذا السور راجع إلى ما قبل الفتح الإسلامي، ويقول فون كريمر: إن علو هذا السور المحيط بالمدينة كان عشرين قدمًا وسُمْكه خمسة عشر، مُكوَّن من حجارة ضخمة جدًّا، تكاد تكون من عمل الجن، وهي حجارة مربعة، وهي مبنية في بعض المواضع على خط يرجع أسلوب بنائه إلى ما قبل العصر اليوناني.٤٥ ولا تزال أطلال هذا السور وأبواب المدينة الضخمة باقية إلى أيامنا هذه تؤيد ما يقوله فون كريمر.
وعلى الرغم من النكبات التي حلت بالمدينة خلال العصور من غزو الفرس، فإن ما كان يبذله الأباطرة الرومان من إصلاح سورها، وقلاعها، وأبوابها، وخندقها المحيط بالمدينة، وبخاصة في عهد الإمبراطور «ديو كلشيان».٤٦ فإنها كانت حين الفتح العربي محكمة الأسوار، متينة الأبواب، كما حدثنا المؤرخون العرب الذين صوَّروا لنا حصارها، كالطبري وابن الأثير والبلاذري.
أما سُكان الشام الأصليون فهم: الحثيون، والآراميون، والسريانيون، والفينيقيون، والعرب، والعبرانيون، وقد اجتمعت كل هذه العناصر في العاصمة دمشق، أما العنصر البارز في المدينة على العهد الأموي، فالنصارى من الروم والسريان والعرب، ثم اليهود والفرس والزط، أما النصارى فقد كانوا الكثرة الساحقة حين الفتح الإسلامي؛ فقد روى البلاذري في فتوح البلدان، ص١٢٧: «أنه لما فرغ المسلمون من قتال من اجتمع لهم بالمرج، أخذوا الغوطة وكنائسها عنوة وتَحصَّن أهل المدينة وأغلقوا بابها.» وفي كتاب الصلح الذي أعطاه خالد لأهل المدينة: هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق، إذا دخلها أعطاهم أمانًا على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم.٤٧ فهو قد ذكر الكنائس؛ لأن أكثر أهل المدينة كانوا نصارى وهم الحكام، أما غيرهم من يهود ووثنيين وفرس، فإنهم كانوا قلة، ويظهر أن كثيرًا من النصارى قد غادروا المدينة بعد الفتح ولحقوا بهرقل وهو في أنطاكية. روى الواقدي أن دمشق لما فُتِحت لَحِق بشرٌ كثيرٌ من أهلها بهرقل وهو بأنطاكية، فكثرت فضول منازلها فنزلها المسلمون.٤٨ وفي كتاب الفتوح للبلاذري أن أبا عبيدة لما فرغ من أمر دمشق سار إلى حمص فمر ببعلبك، فطلب أهلها الأمان والصلح، فصالحهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وكتب كتابًا صورته «هذا أمان لفلان بن فلان، وأهل بعلبك رومها وفرسها وعربها على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ودورهم».٤٩ وأما العرب فقد دخلوا ديار الشام منذ زمن بعيد جدًّا. قال الأستاذ كرد علي: لم تطل حياة عنصر في صحة ببلاد الشام، كما طالت حياة العرب، فإنهم فيها على أصح الأقوال منذ ألفين وخمسين سنة، وأوصله بعضهم إلى نحو أربعة آلاف سنة، وهم الذين اندمج فيهم عامة الشعوب القديمة واستعربت، فلم تعد تعرف عن العربية لسانًا ومنزعًا، ثم أورد عدة أدلة، ومنها أن الإسكندر لما جاء إلى غزة وحاصرها، كانت حاميتها عربًا فقاومته أشد المقاومة، ومنها أن أحد تلامذة المسيح بشَّر بلغات عديدة، منها اللغة العربية كما ورد في أعمال الرسل، ومنها أن الحارث — حاكم دمشق — كان عربيًّا لما دخلها بولس الرسول، كما ورد في رسالته إلى أهل مدينة كورنتوس.٥٠ وأما القبائل العربية التي سكنت الشام فكثيرة، منها الغساسنة الذين تنصَّروا، ومنهم آل جفنة ملوك دمشق، وحوران، والبلقاء، وحمص، واليرموك، والجولان، وقد استمرَّ ملكهم نحوًا من ستة قرون، ومنها التنوخيون، وقد تنصَّروا أيضًا وحكموا بلاد الجزيرة منذ القرن الثالث الميلادي.٥١

وأما اليهود فقد كانوا يسكنون في الشام منذ زمن إبراهيم — عليه السلام — حينما جاء من «الرها»، وسكن في «حبرون»، التي عُرفت بالخليل، وقد وجدت آثار تاريخية تدل على قِدَم وجود اليهود في مُدن الشام، كدمشق، وحلب، وحوران، وسائر بلاد الفينقيين في الألف الثاني قبل الميلاد.

ويروي الأستاذ كرد علي أن قائدَي سيدنا عمر عندما فتحا الشام، انتقيا نفرًا غير قليل من اليهود والمسلمين الدمشقيين من أرباب الصناعات والفنون الجميلة، وجيء بهم بعدُ إلى بلاد بخارى، فتوفروا على البناء المماثل تمام المماثلة للنسق الدمشقي من حيث طراز البناء ورسومه وأشكاله وأدواته، حتى يُخيَّل لمن يزور تلك الأصقاع أنه في سوق أو في دار من أسواق الشام ودُورها، ثم أخذ نزول اليهود في دمشق منذ أمد بعيد مشهود ومحسوس، من كنيس قرية جوبر التي تبعد بضع دقائق عن شرقي دمشق، وقد جاء ذكره في التلمود الموضوع أكثر من ألفي سنة، وأن اليهود لم ينقطعوا عن الشام لا سيما عند فتح المسلمين لها، إذ ثبتت أقدامهم فيها وتوفرت لهم أسباب الهناء والرخاء.٥٢
وأما الفرس: فقد قدموا إلى الديار الشامية منذ القديم. وقد كانت العلاقات بين الفرس والروم علاقات متوترة، فلم تكد الحروب تنقطع بين الجانبين، وكان الفرس إذا احتلوا الديار الشامية، أجلوا من أهلها إلى ديارهم، وأسكنوا بعض جاليتهم في مدن الشام الكبرى كحلب ودمشق، وآخر حملة حملوها على سورية كانت قبل الفتح الإسلامي في سنة ٦١٠، وقد فتكوا بالرومانيين وسيطروا على آسية الصغرى وسورية، وخربوا وغنموا.٥٣ وكانت لهم قبل ذلك حملات ورحلات تجارية إلى بلاد الشام، كما كان لهم علاقات ثقافية، وقد قويت هذه العلاقات التجارية والثقافية بعد الإسلام، وظهر أثرها في كثير من التقاليد والأنظمة التي ظهرت في البلاط الأموي بدمشق، فقد رأينا في كلام المسعودي الذي وصف فيه مجالس معاوية وطريقته في قضاء يومه، أنه كان يخلو بنفسه فيسامر جماعة من أهل الفضل، أو يقرأ في كتاب الأقدمين من فرس وروم؛ ليطلع على أخبارهم ويعرف أحوالهم. وروى محمد كرد علي أن الفرس سكنوا منذ القديم في بعلبك، وأن معاوية نقل قومًا من الفرس إلى طرابلس، وجبيل، وصيدا، وصور، وبيروت، كما نقل قومًا من فرس بعلبك وحمص وأنطاكية إلى سواحل الأردن، وصور، وعكا في سنة ٤٢، ونقل من أساورة البصرة والكوفة.٥٤ ويظهر أن هؤلاء الفرس كانوا بحارة، فلما أراد معاوية تنظيم الأسطول العربي استعان بهم، فجاء بهم إلى السواحل السورية.
وأما الزط: وهم قوم من الهنود الذين سكنوا العراق منذ زمن بعيد؛ فقد روى البلاذري أن معاوية نقل في سنة ٤٩ أو سنة ٥٠ إلى السواحل قومًا من زط البصرة والسبايجة.٥٥ وأنزل بعضهم أنطاكية، ويُظن أنه أراد الاستعانة بهم لتنظيم أمور الثغور.

وبعدُ، فقد كان لاختلاط هؤلاء الأقوام في الديار الشامية أثره الفعال في تلقيح الثقافات المختلفة، وإيجاد نظم قوية لدولة فتية. والفضل في ذلك كله يرجع إلى معاوية الذي أسس الدولة وشاد قواعدها، وانتقى لها العناصر الصالحة التي تستطيع أن تعينه على قهر خصمه الأول، وهو الروم الذين أخذ يعبئ قواه البرية والبحرية لهم؛ فقد رأينا عنايته بأمور الأسطول واهتمامه ببناء دور الصناعة في عكا وصيدا وصور وغيرها من المرافئ الشامية. ولا شك في أن عُمال دور الصناعة وبحارة السفن، كانوا من الروم السوريين والفرس والزط الذين رأينا معاوية يملأ الموانئ السورية بهم.

وقد انقسم الناس في هذه البيئة الإسلامية إلى ثلاث طبقات متمايزة:
  • (١)

    طبقة المسلمين من عرب أو غيرهم. وقد كان لهم من الامتيازات ما جعلهم أعلى الطبقات؛ أما العرب فلأنهم رجال الدين الجديد وعماد الخلافة. وقد كان أكثر هؤلاء من أصحاب الإقطاع أو الجند.

  • (٢)

    طبقة أهل الذمة من نصارى ويهود وصابئة ومجوس، وقد تمتع هؤلاء بحماية الدولة لهم لقاء دفعهم الخراج والجزية، وقد بقي من هؤلاء النصارى جماعة في لبنان لم يخضعوا للإسلام ولا للدولة الجديدة، متحصنين بجبلهم المنيع. وقد كانت لهم جولات ضد المسلمين. وقد كانوا ينتهزون فرص ضعف الدولة، فيقومون بحركاتهم التي تهدف إلى إيذاء المسلمين، وهؤلاء هم المُسمَّون بالجراجمة والمردة.

  • (٣)

    طبقة العبيد: وقد احتفظ الإسلام بنظام الرقيق الذي كان في الدولة البيزنطية، ولكنه حسَّن حالته، ودعا إلى الرأفة به وإصلاح حاله، ومنع استرقاق المسلم، ولكنه إذا أسلم بعد استرقاقه لا يعتق، وكان معظم الرقيق في هذا العهد من أسرى الحرب أو الغزو. ومما استحدثه الإسلام من أحكام الرقيق الرفيقة، عدم فصل الطفل عن أمه الرقيقة إلَّا بعد السابعة، ويستطيع أن يتزوج بأمةٍ مثله، وله تطليقها، وأن يكتسب ويعمل، ويعطي له نصيبًا ويبقي لنفسه نصيبًا. وإذا تزوج السيد أمته وولدت له صارت أم ولد، ولها أحكام؛ فابنها حر، وهي واجبة التحرير بعد وفاة السيد، وقد فرض الدين تحرير الرقيق في كثير من أحوال التكفير عن الذنوب والخطايا الشرعية. وللسيد أن يعتق رقبة عبده إعتاقًا آنيًّا أو مؤجلًا من تدبير ومكاتبة. وقد كانت للمكاتبة أصول عند الرومان والبيزنطيين، إلَّا أن الشروط التي فرضها الإسلام هي شروط أعدل وأشفق بالعبد. وقد استحفظ الإسلام للعبد المولى صلة بمولاه وسماه حق الولاء، ولها علاقات بالإرث، وكثير من العلاقات الاجتماعية والقانونية من وصاية والتزام.

١  تاريخ سورية، للدبس ٤: ١٤٣.
٢  تاريخ سورية، للدبس ٤: ١٤٤.
٣  تاريخ سورية، للدبس ٤: ١٤٥.
٤  تاريخ سورية، للدبس ٤: ١٤٦.
٥  تاريخ سورية، للدبس ٤: ١٤٥.
٦  تاريخ سورية، للدبس ٤: ١٤٦.
٧  تاريخ سورية، للدبس ٤: ١٤٧، ١٥٠.
٨  تاريخ سورية، الجزء الرابع والخامس.
٩  تاريخ سورية ٤: ١٧٣.
١٠  تاريخ سورية ٤: ١٧٦.
١١  الدبس ٤: ١٨٥.
١٢  الدبس ٤: ٣٠٠.
١٣  الدبس ٤: ٣٠٢.
١٤  الدبس ٤: ٣٥٤.
١٥  ترجمها أحمد لطفي السيد، وطبعها بمصر.
١٦  الدبس ٤: ٤٥٦.
١٧  صبح الأعشى ٤: ٦ ومقدمة ابن خلدون، ص٣٠٦.
١٨  ابن عساكر ٥: ٨٠.
١٩  الوزراء، للجهشياري، ص١٢.
٢٠  ونظم دواوين الدولة ومنشآتها بعد أن كانت للسذاجة أقرب في عهد أبي بكر؛ لفقر عهده وانشغاله بحروب الردة، وبالفتوح التي لم تؤتِ ثمارها إلَّا في عهد عمر. فلما توسَّعت رقعة ديار الإسلام وتعقدت أمور الكتابة والدواوين، اضطر عمر إلى أن يسلك بالدولة الجديدة مسلكًا جديدًا في ترتيبها ونظامها، وعلى الرغم من تمسكه بما كان عليه الأمر أيام الرسول الكريم وخليفته الصديق، ولكنه رأى أن الدولة لا بدَّ لها من تراتيب جديدة لم تكن في العهد السابق؛ فوسع الديوان وعدَّد شعبه، ورتَّب لها العمال والكُتَّاب من العرب وأهل الذمة من فرس وروم وقبط، وقسم الولايات، ومَصَّر الأمصار الجديدة، وضرب الدراهم على النمط الفارسي، وزاد في بعضها: «الحمد لله»، وفي بعضها: «محمد رسول الله»، وأن هذه النقود كانت تُضْرب في الحجاز، ثم أذن عمر لعماله أن يضربوها في بلادهم، ووضع التاريخ الهجري ونظام القضاء، وأوجد تراتيب الحسبة والإشراف على الأسواق والباعة، ومراقبة الموازين والمكاييل وتنظيف الطرق، وسمى أناسًا بينهم لهذه الوظائف، ولما تولى عثمان أقر هذه المنشآت العمرية، وزاد فيها نظام القطائع، ورتب نظام الزكاة، وأوجد دور الضيافات ورتب لها الأرزاق.
La Voix-Catalogue des monnaies musulmanes de la Bibliothèque Nationale. Paris 1942 p. 7.
٢١  الوزراء، للجهشياري، ص٢٣.
٢٢  الفخري، ص١٠٢.
٢٣  انظر المقريزي، شذور العقود، ص٤.
٢٤  المقدمة، ص٢٠٦.
٢٥  الوسائل، للسيوطي، ص٩٧.
٢٦  ابن عساكر ٦: ١١٤.
٢٧  المسعودي ٥: ١٩٥.
٢٨  انظر حتي، تاريخ العرب المُطوَّل، ص٢٩١.
٢٩  صبح الأعشى ١٤: ٣٦٧.
٣٠  الحضارة الإسلامية ١: ١٢٨.
٣١  ابن خلدون، المقدمة، ص٢٦٣، والأحكام السلطانية للماوردي ص٦١–٨١.
٣٢  الوسائل، للسيوطي، ص٩٧.
٣٣  انظر تاريخ الحضارة الإسلامية، لبارتوليه، ترجمة: حمزة طاهر، ص٣٣.
٣٤  تاريخ سورية ١: ٩.
٣٥  تاريخ سورية ٤: ٣٢.
٣٦  تاريخ دمشق لابن عساكر ١: ١٩٩ وما بعدها.
٣٧  The Orient under the Caliphe. Translation by k. Bukhsh coleercta p. 144.
٣٨  مقالة دمشق في دائرة المعارف البريطانية.
٣٩  انظر تاريخ الحضارة الإسلامية، لبارتوليه، ترجمة حمزة طاهر، ص٣٣.
٤٠  ابن عساكر، ص٦: ٢٤٣.
٤١  أنساب الأشراف ٣: ٥٣.
٤٢  ابن عساكر ١: ٢٤٣.
٤٣  الحضارة الإسلامية: أحمد زكي باشا، ص٣٧.
٤٤  رحلة ابن جبير، ص٢٤٠–٢٨٠.
٤٥  فون كريمر، ص١٤٤.
٤٦  ب.م، ص١٢٨.
٤٧  البلاذري الفتوح، ص١٢٨.
٤٨  البلاذري الفتوح، ص١٢٩.
٤٩  البلاذري الفتوح، ص١٣٦.
٥٠  خطط الشام ١: ٥٩-٦٠.
٥١  خطط الشام ١: ٦١–٦٦.
٥٢  خطط الشام ٦: ٢١٦–٢١٩.
٥٣  تاريخ سورية، للدبس ٤: ٥٤٤.
٥٤  كرد علي، الخطط ١: ٦٦.
٥٥  مفردها سبيجي. انظر المحفص ١٠: ٢٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤