الفصل الثاني

رجال كورزون ستريت الثلاثة

كان المنزل رقم ٢٣٣ في كورزون ستريت منزلًا صغيرًا. وحتى أكثر السماسرة حماسًا، لن يصف أبعاده بأي حماس، لو أراد أن يكون صادقًا. لعله يُسهب في الحديث عن أوجُه جماله الأنيق، ويُشير بتوقير إلى تاريخه العريق، ويتحدث بصدق عن نظام التدفئة المركزية والتركيبات الكهربائية، ولكن من شأنه أن يُعطي انطباعًا، بأن المنزل رقم ٢٣٣ كان صغيرًا للغاية، هذا لو كان رجلًا أمينًا في وصفه.

كان المنزل مطوقًا بقصرين حديثين، ذوَي واجهة صخرية، وأبواب معدنية وزجاجية تعكس بريق الضوء ليلًا. وكلاهما يفوق ارتفاع السطح المتواضع للمنزل المجاور بعدة طوابق؛ يبدو المنزل رقم ٢٣٣ وكأنه رجل ضئيل الحجم محشور وسط حشد وعاجز عن الهروب، وهناك على واجهته الناعمة ثمة انطباعٌ خادع على الاستكانة الصامدة والخنوع.

أما بالنسبة إلى ذلك الجزء الذي يقع فيه هذا المنزل من كورزون ستريت، فكان المنزل في حدِّ ذاته يُعد مخالفة، وكان يُعتبر مصدرًا للإزعاج من كل النواحي ما عدا الناحية القانونية. لقد رفض قاضٍ خبيرٌ من قضاة المحكمة العليا الذي قُدِّمت إليه دعوى باسم أصحاب العقارات المجاورة، وملَّاك الأراضي وأمثالهم، إصدارَ أمرٍ قضائي «لمنع المدعو جورج مانفريد من إدارة عمل خاص، أي وكالة ذا تراينجل للتحقيقات الخاصة، في المنزل السالف الذكر رقم مائتين وثلاثة وثلاثين كورزون ستريت بمدينة وستمنستر في مقاطعة ميدلسيكس.»

وفي مقال رأي احتلَّ ثلث عمود بجريدة ذا تايمز، عرَض رأيه الشخصي بأن المحقِّق السري هو رجل يُمارس مهنة، وليس تاجرًا، وهو رأي كان ولا يزال محلَّ خلاف إلى الأبد.

هكذا ظل المثلث الفِضي الصغير مثبتًا على الباب وواصلَ هو مقابلة عملائه، وهم قلة؛ لأنه حريصٌ جدًّا أن يقبل فقط أولئك الذين يُفسحون المجال أمام إظهار عبقريته.

لاحظ كورزون ستريت — أو أولئك القاطنون فيه الذين يُلاحظون أبسط الأشياء — أنه رجل طويل، ووسيم على نحوٍ لافت للنظر، ذو وجه أرستقراطي وأكتافِ شخص رياضي، يرتدي ملابس أنيقة جدًّا في جميع المناسبات. كان يُعد إعلانًا متحركًا لخياطٍ عصري جدًّا في هانوفر ستريت من شأنه أن يموت رعبًا من مجرد فكرة نشر إعلان. كان أصحاب السيارات يتوقفون عند التقاطعات المزدحمة يُحدقون في سيارته الليموزين، ويشاهدون وجهه الرجولي المسمر الحادَّ الملامح ويظنون أنه واحدٌ من أطباء هارلي ستريت. بيد أن عددًا قليلًا جدًّا من الأشخاص يعرفونه على المستوى الاجتماعي. اعتاد دكتور إلفير، جراح سكوتلاند يارد، زيارة كورزون ستريت أحيانًا والإعلان عن آرائه المذهلة بخصوص الأفعى ومواقع ظهورها، وكان جورج مانفريد وصَديقاه يستمعون في صمت ولا يعرضون أيَّ مساعدة. وباستثناء إلفير ومساعد مفوض الشرطة، وهو رجل كتوم، اعتاد الزيارة في لحظات غريبة ليُدخن الغليون ويتحدثَ عن ذكريات الماضي، كان عدد الزوار الاجتماعيِّين قليلًا وعلى أوقات متباعدة.

كان سائقه — الذي هو خادمه في الوقتِ ذاتِه معروفًا أكثر منه. وفي المَرْأب الذي كان يبيت فيه سيارته، يُطلقون عليه اسم «البرق»، كان هناك اتفاقٌ عام بأن هذا الرجل ذا الوجه النحيف والعينين الشغوفتين سيلقى — عاجلًا أو آجلًا — النهايةَ المحتومة التي تنتظر جميع السائقين الذين يأخذون المنعطفات الحادة على عجلتين بسرعة ستين ميلًا في الساعة؛ كان بعض المنتقدين يشاهدون السيارة الكبيرة من طِراز سبانز على الطريق ثم يوبِّخونه فيما بعد، برفق أو بعنف، حسَب درجة ذعرهم.

كان عددٌ قليل يعرف كبير خدم السيد مانفريد، وهو شخص أجنبي كثُّ الحاجبين، قوي البِنية ومتجهم بعضَ الشيء. كان رجلًا قليلَ الكلام جدًّا حتى مع الطباخ والخادمتين اللتين تأتيان الساعة الثامنة صباحًا كلَّ يوم وتغادران المنزل في السادسة مساءً بالضبط؛ نظرًا إلى أن السيد مانفريد يتناول العشاء في الخارج معظم الليالي.

تقتصر إعلاناته على أكثر الصحف خصوصيةً، ولا يعلن باسمه الخاص؛ ولا تُجرى أي مقابلات شخصية إلا بمواعيدَ مسبقة، ومن ثَم جاءت زيارة السيد سام باربرتون مخالِفةً للقواعد بكل معنى الكلمة.

طرَق الباب في نفس اللحظة التي تُغادر فيها الخادمتان، ونظرًا إلى أنهما لا تعرفان الكثير عن عادات السيد مانفريد باستثناء أنه يحبُّ البيض المسلوق والسبانخ على الإفطار، سُمح للغريب بالدخول إلى قاعة الاستقبال، واستُدعي كبير الخدم الصموت من غرفته على الفور، لمقابلته.

كان الزائر رجلًا قصيرًا، وغليظ البنية ذا وجه أحمر قاتم ورأس أشيبَ وأصلع. وكان ملبسه وطريقة حديثه على نفس القدْر من الغِلظة. لاحظ كبير الخدم أنه لم يكن حرفيًّا عاديًّا لأن حذاءه كان من نوعٍ يُعرف باسم فيلدشونز. وهو حذاءٌ مصنوع من الجلد غير المدبوغ، أجزاء منه مبيضة باستخدام أشعة الشمس.

قال بصوتٍ عالٍ، وهو يدسُّ يده في جيب الصديري، ليخرج قصاصة جريدة ملطَّخة: «أريد مقابلة رئيس هذه الوكالة ذا تراينجل.»

أخذها كبير الخدم منه دون أن ينبس ببنتِ شفة. كانت من جريدة كيب تايمز — كان من شأنه أن يعرفها من الخطِّ والمسافات حتى وإن لم يكن مطبوعًا على ظهرها إعلان السوق الخيرية للكنيسة في ضاحية وينبرج. لقد درس كبير الخدم مثل هذه الأشياء.

ردَّ قائلًا: «للأسف لن يُمكنك مقابلة السيد مانفريد دون موعد مسبق.» كان صوته وأسلوبه لطيفًا بالنسبة إلى رجل متجهِّم.

قال الرجل بعناد: «يجب أن أقابله، ولو جلست هنا طوال الليل.» ومَثَّلَ ثباتَه هذا بجلوسه القُرفصاء على الكرسي الموجود في القاعة.

لم تتحرَّك عضلةٌ واحدة في وجه الخادم. كان من المستحيل أن تُحدِّد ما إذا كان غاضبًا أم مستمتعًا.

«لقد اقتطعت هذه القصاصة من صحيفةٍ وجدتها على متن السفينة بنجيلا — رست في منطقة تلبري بعد ظهر اليوم — وجئتُ مباشرةً إلى هنا. ما كان لي أن أحلم بالمجيء على الإطلاق، كل ما أريده هو منافسة نزيهة لجميع الأطراف المعنيَّة. هذا الرجل البرتغالي الذي يُشبه اسمه ماركة سيجار … فيلا، هذا هو! قال: «ما فائدة الذَّهاب إلى لندن بينما يُمكننا تسوية كل شيء على متن السفينة؟» ولكنه نصف برتغالي! يا إلهي، أنا أُفضل أن أتعامَل مع أهل قبيلة البوشمن! البوشمن متحضرون … انظر.»

وقبل أن يُدرك الخادم ما الذي يفعله الرجل، كان قد خلع فردة حذائه القبيح. لم يكن يلبس أيَّ شراب أو جورب تحتي، ورفع أخمص قدمه العارية للفحص. كانت بشَرتُه مجعَّدة ومتغضنة على هيئة نتوءات حمراء، عرف الخادم السبب.

قال الزائر باختصار وهو يلبس حذاءه مرةً أخرى: «برتغالي.» وتابع: «لا زنجي … نصف برتغالي … مهجَّن، أعترف بذلك. لقد أحرَقوني ليجبروني على التحدُّث، وكانوا سيقتلونني لولا أن جاء واحدٌ من هؤلاء التجار الأمريكيين المتحمسين — تملؤه روح المقاومة والشراسة. جاء بي إلى البلدة.»

سأله الخادم: «أين حدث هذا؟»

«موسامادس: ذهبت إلى الشاطئ في جولة، كأحمق. كنت على متن سفينة ركَّاب في طريقها إلى بوما. كان قبطان السفينة من الهن، ولكنه أبيض البشرة؛ لقد حذَّرني.»

«وما الذي كانوا يريدون معرفته منك؟»

رمَق الزائر مستجوبه بنظرات مريبة.

وسأله بحدة: «هل أنت مدير الوكالة؟»

«كلا … أنا رئيس خدم السيد مانفريد. ما اسمك حتى أبلغه؟»

«باربرتون … السيد صامويل باربرتون. أخبِره بأنني أريد اكتشاف أشياء معينة. عُنوان فتاة تُدعى الآنسة ميرابيل ليستر. وسأخبِر مديرك بشيء آخر أيضًا. هذا البرتغالي أصبح ثملًا ذات ليلة، وأفشى السر بخصوص الحصن الذي لديهم في إنجلترا. يبدو أشبهَ ببيت ولكنه حصن، وذهب إلى هناك …»

كلا، لم يكن ثملًا؛ انحنى رئيس الخدم ليلتقط عود ثقاب وهميًّا، فاقترب رأسه من الزائر؛ كانت هناك رائحة تبغ قويةٌ لا خمر.

سأله، ثم صعد درجات السُّلم واختفى: «هلا تتكرَّم بالانتظار؟»

لم يكن قد غاب مدةً طويلة حتى عاد إلى عتبة السُّلم وأشار إلى السيد باربرتون ليأتي. اقْتِيد الزائر إلى غرفةٍ في الجزء الأمامي من المنزل، غرفة صغيرة، وقد صارت أصغرَ بسبب الستائر الرمادية المخملية الطويلة المنسدلة وراء المكتب العتيق الذي وقف وراءه مانفريد.

«هذا هو السيد باربرتون، يا سيدي» قالها رئيس الخدم، ثم انحنى، وخرج مغلِقًا الباب وراءه.

«اجلس، يا سيد باربرتون». أشار إلى كرسيٍّ ثم جلس. واستطرد قائلًا: «أخبرني رئيس الخدم بأنك تريد أن تُخبرني بقصةٍ مثيرة جدًّا — هل أنت من مدينة كيب؟»

أجاب السيد باربرتون: «كلا، لست من هناك.» وأضاف: «لم أذهب إلى مدينة كيب في حياتي قط.»

أومأ الرجل الجالس خلف المكتب برأسه.

«الآن، هلا تخبرني …»

جاء الرد القاطع على نحوٍ مدهش: «لن أقول لك الكثير.» وتابع: «ليس من المحتمل أن أخبِر شخصًا غريبًا بما لم أخبِر إيليا واشنطن به — وقد أنقذ حياتي!»

لم يُظهِر مانفريد أيَّ استياء من هذا التوجُّه الحذِر. ففي تلك الغرفة، التقى بالكثير من العملاء الذين أبْدَوا القدْر نفسَه من التردد لقَبوله أمينًا على أسرارهم. ولكن ساوره شعورٌ مترسخ في ذهنه بأن هذا الرجل، على عكس البقية، ربما يظل عنيدًا حتى النهاية؛ كان لديه فضول لاكتشاف الهدف الحقيقي من الزيارة.

سحب باربرتون كرسيَّه بالقرب من طاولة الكتابة وأسند مرفقيه على الحافة.

«الأمر كالتالي، يا سيد، أيًّا كان اسمك. ثَمة سرٌّ معيَّن لا يخصُّني، وإنما له علاقة بي بطريقة أو أخرى. وتساوي قيمته الكثيرَ من المال. إن السيد إيليا واشنطن يعلم ويحاول أن يبتزَّني، وفيلا لديه عصابة من البحَّارة الأفارقة من ليبيريا الذين أحرقوا قدمي، ولكني لم أُفشِ السرَّ بعد. ما أريدك أن تفعله هو أن تبحث عن الآنسة ميرابيل ليستر، وأريد منك أن تصل إليها بسرعة؛ لأنه ليس أمامنا وقتٌ سوى أسبوعين فقط، إذا كنت تفهمني، قبل أن تنشط هذه العصابة الأخرى — من المؤكد أن فيلا أرسل إليهم برقية، وحسب كلامه فإنها عصابة عنيفة!»

أراح السيد مانفريد ظهره على كرسيِّه المبطَّن، ولاح بريقُ ابتسامةٍ مرحةٍ في عينيه الرماديتين.

«فهمتُ أن ما تريد منا القيام به هو البحث عن الآنسة ليستر؟»

هز الرجل رأسه بحماس.

«هل لديك أدنى فكرة أين يمكن العثور عليها؟ هل لديها أيُّ أقارب في إنجلترا؟»

قاطعه الرجل قائلًا: «لا أعرف.» وتابع: «كل ما أعرفه أنها تعيش هنا في مكانٍ ما، وأن والدها تُوفِّي قبل ثلاث سنوات، في التاسع والعشرين من مايو — اكتب هذه الملاحظة: تُوفِّي في إنجلترا في التاسع والعشرين من مايو.»

كانت هذه معلومةً مهمة، تسهِّل البحث، حسب اعتقاد مانفريد.

قال، وهو يرفع نظره عن دفتر ملاحظاته: «ستخبرني عن الحصن، أليس كذلك؟»

تردَّد باربرتون.

ثم قال معترفًا: «كنت لأفعل، ولكن لست واثقًا من أنني سأفعل الآن، حتى أعثر على هذه الفتاة. ولا تنسَ»، ثم ضرب على الطاولة ليؤكد كلماته «هذه العصابة عنيفة!»

سأله مانفريد بروح دعابة: «أي عصابة؟» كان يعرف «عصابات» كثيرة، وتساءل عما إذا كان زائره يتحدَّث عن عصابة تشغل تفكيره هو نفسه.

قال السيد باربرتون الذي تحدَّث بتروٍّ شديد، وكان من الواضح أنه يزنُ كل كلمة يتفوه بها خشيةَ أن يشيَ بسرِّه دون قصد: «العصابة التي أتحدث عنها.»

بدا أن هذه هي آخر مطالبه؛ إذ إنه قام ووقف على نحوٍ مرتبك قليلًا، وأخذ يُفتش جيبه الداخلي.

قال مانفريد، مخمنًا نيَّته: «لا يتوجب عليك دفعُ أي نقود». ثم أضاف: «ربما، حين نُحدد مكان الآنسة ميرابيل ليستر التي تبحث عنها، سنطلب منك أن تردَّ لنا النفقات التي أنفقناها.»

شرع الرجل يقول: «يمكنني تحمُّل النفقات …»

«ونحن يمكننا الانتظار.» ظهر بريق التسلية مرةً أخرى في عينيه العميقتين.

بينما ظلَّ السيد باربرتون واقفًا في مكانه.

«ثمة شيء آخر أودُّ أن أطلبه منك. أنت تعرف كلَّ ما يدور في هذه البلاد، أليس كذلك؟»

قال الآخرُ بجدية تامة: «ليس كل شيء بالضبط.»

«هل سبق لك أن سمعت عن رجال العدالة الأربعة؟»

كان سؤالًا مفاجئًا. مالَ مانفريد إلى الأمام كما لو أنه أخطأ السمع.

«الأربعة؟»

«رجال العدالة الأربعة — الثلاثة، في واقع الأمر. أودُّ أن أتواصل مع هؤلاء الرجال.»

أومأ مانفريد برأسه.

ردَّ قائلًا: «أظن أنني سمعت عنهم.»

«إنهم بمكانٍ ما في إنجلترا الآن. لقد حصلوا على عفو: لقد رأيت هذا في جريدة كيب تايمز — الجريدة التي اقتطعتُ منها الإعلان.»

قال مانفريد ودار حول الطاولة وفتح الباب: «آخر شيء سمعته عنهم، أنهم كانوا في إسبانيا». ثم أضاف: «لماذا تريد أن تتواصلَ معهم؟»

قال السيد باربرتون على نحوٍ مؤثِّر: «لأن العصابة خائفةٌ منهم؛ هذا هو السبب.»

سار مانفريد مع ضيفه إلى عتبة السُّلم.

قال مبتسمًا: «لقد أغفلت معلومةً مهمة، ولكن لن أسمحَ لك بالمغادرة حتى تخبرني. ما عنوانك؟»

«فندق بيتورث، نورفولك ستريت.»

نزل باربرتون على السُّلم؛ كان الخادم ينتظر في القاعة ليقوده إلى الخارج، دسَّ السيد باربرتون الذي كان يجهل أن مثل هذه الأمور معتادةٌ في البيوت الأرستقراطية، عملةً فِضية في يده. تمتم الرجل المتجهِّم معربًا عن شكره: زاد قليلًا في انحناءة رأسه لأسفل، كان موقفه مراعيًا أكثر قليلًا.

أغلق الباب الأمامي وأوصده وصعد السُّلم ببطء متوجهًا إلى غرفة المكتب. كان مانفريد جالسًا على المكتب العتيق، يُشعل سيجارة. جاء السائق-الخادم عبر الستائر الرمادية ليأخذ الكرسيَّ الذي جلس عليه السيد باربرتون.

قال بويكارت، كبير الخدم: «أعطاني نصف كراون؛ يا له من رجل كريم». وتابع: «لقد أعجبني، يا جورج.»

قال السائق الذي كان اسمه الحقيقي ليون جونزاليس: «تمنيت لو أني رأيت قدمَيه.» تحدَّث بنبرة نادمة. ثم قال: «هو ينحدر من مقاطعة ويست ساسكس، وفي عائلته ضرْبٌ من الجنون. الفَصُّ الأيسر متكاسلٌ قليلًا والوجه غير متماثل.»

تمتم مانفريد، وهو ينفث سحابة دخان في اتجاه السقف، قائلًا: «المسكين!» ثم أضاف: «يا لها من تجربة رائعة أن يُقدِّم المرء أصدقاءه لك، يا ليون.»

قال ليون، وهو يمد يده ويأخذ سيجارًا من العلبة الذهبية المفتوحة والموجودة على الطاولة: «لحسن الحظ، ليس لديك أصدقاء». وتابع: «حسنًا، ما رأيك في لغز السيد باربرتون؟»

هز جورج مانفريد رأسه.

«لقد كان غامضًا، وغير مرتَّب، مع رغبته في أن يصبح دِبلوماسيًّا. ماذا عن اللغز الخاص بك، يا ليون؟ لقد كنت بالخارج طوال اليوم … هل توصلت إلى حل؟»

أومأ جونزاليس.

قال بويكارت، وهو محلِّل متأنٍّ وواثق من نفسه: «باربرتون خائفٌ من شيءٍ ما». وتابع: «إنه يحمل مسدسًا بين بنطاله والصديري — هل رأيت ذلك؟» أومأ جورج برأسه.

«السؤال هو مَن هي العصابة، أو أيَّ عصابة يقصد؟ السؤال الثاني هو أين الآنسة ميرابيل ليستر، ومَن تكون؟ والسؤال الثالث هو لماذا أحرقوا قدمَي باربرتون؟ أظن أن هذا كل شيء.»

اندفع وجه جونزاليس الذي بدا عليه الاهتمامُ عبر سحابة دخان.

قال: «سأجيب عن أغلب الأسئلة وسأطرح اثنين آخرَين». وتابع: «ميرابيل ليستر تسلَّمتْ وظيفةً اليوم في شركة أوبيرزون — سكرتيرة مختبر!»

قطَّب جورج مانفريد جبينه.

«مختبر؟ لم أكن أعرف أنَّ لديه مختبرًا.»

«لم يكن لديه قبل ثلاثة أيام مضت — لقد أُعدَّ في غضون اثنتين وسبعين ساعة على أيدي خبراء يعملون ليلًا ونهارًا؛ وكانت تكلفة تجهيزه ألفًا وسِتَّمائة جنيه — وقد خرج إلى النور ليُعطيَ أوبيرزون مبررًا من أجل توظيف ميرابيل ليستر. لقد أرسلتني لأستفسر عن ذلك الإعلان الغريب الذي أربكَنا يوم الإثنين بأكمله — ولقد استفسرت عنه بالفعل. كان مُصرًّا لجلب الآنسة ليستر إلى مؤسسة أوبيرزون. ولقد اتفقنا جميعًا حين اكتشفنا مَن صاحب الإعلان، أن أوبيرزون يعمل من أجل شيءٍ ما — راقبت مكتبه يومَين، وكانت هي المتقدمة الوحيدة للوظيفة — وكان خطابها هو الخطابَ الوحيد الذي ردُّوا عليه. تناول أوبيرزون الغداء معها في فندق ريتز كارلتون — وباتت ليلتَها في تشيستر سكوير.»

ساد الصمت ليكسره بويكارت.

فسأله بنبرةٍ لطيفة: «وما السؤال الذي ستطرحه؟»

قال مانفريد وهو يهزُّ رأسه: «أظن أنني أعرف». وتابع: «السؤال هو: كم تبقَّى من الوقت في حياة السيد سامويل باربرتون؟»

قال جونزاليس بنبرةٍ تنم عن الرضا: «بالضبط». ثم أضاف: «لقد بدأت تفهم عقلية أوبيرزون!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤