الفصل العشرون

إفادة جيرتر

لم ينَمْ دكتور أوبيرزون في سريره منذ خمسةٍ وثلاثين عامًا. فقد اعتاد النومَ على كرسي، واستبدل غفوات النعاس بجرعات غزيرة من مؤلفات كُتَّابِه المفضَّلين. وفي أغلب الأحيان كانت الكتب تدور حول الروح، والإرادة الحرة، والقضاء والقدَر، مع الانغماس أحيانًا في مؤلَّفات نيتشه على سبيل الترفيه. في الظروف العادية كان سيحتاج إلى كل الفلسفات التي يُمكنه إتقانها؛ ليُواجه الخراب الذي حلَّ به. فإن تدمير مخزنه الذي لم يكن مؤمَّنًا عليه، لأي غرضٍ أو مقصد، كان بمثابة ضربة القدَر القاصمة لولا الفرصةُ الذهبية التي يضعها صوب عينيه.

وصل فيلا الوسيم الذي كان نصف أنجولي نصف برتغالي، إلى إنجلترا وظلَّ بصحبة الدكتور طَوال المساء. في تلك اللحظة كان في طريقه إلى ليفربول للَّحاق بالسفينة المتجهة إلى الساحل، وترك مع رئيسه سِجلًّا بالادعاءات المثبَتة في مونتو دورو، بعدما أعاد تسمية الجبل الجديد تسمية جذابة. كانت هناك ملايينُ؛ ثروة لا تُحصى. ولم يفصل الدكتورَ عن حصد هذه الثروة الهائلة إلا حياةُ شخص واحد، لم تكن لديه رغبةٌ فورية في التخلص منها. كان الدكتور رجلًا أعزبَ، سئم النساء. ولكنه كان مستعدًّا لاتخاذ خطوة القتل إذا كان ذلك سيضمن له تضاعُفَ ثروته. وسيمنحه موتُ ميرابيل فرصةً واحدة، ولكن إذا نجح في إقناعها وهي على قيد الحياة، تتضاعف هذه الفرصة مائة مرة.

فتح الكتاب الذي كان يقرؤه على الصفحة الأخيرة، وأخرج الورقةَ المطوية. كانت تصريحًا خاصًّا للزواج، ومسجَّلًا على النحو الواجب لدى مكتب تسجيل جرينتش بتاريخ اليوم السابق على توظيف الفتاة في شركته. كان هذا هو سلاحَه الثانيَ والأقوى. فبهذه الورقة من الممكن أن يُصبح متزوجًا قانونيًّا منذ ما يقرب من الأسبوع. وكان هذا التصريح ساريًا لمدة شهرين على الأقل، وتَفصله خمسةُ أيام فقط عن حتميةِ اتخاذ القرار. إذا انقضى الوقت، يمكن أن تعيش ميرابيل. فإنَّ قتل امرأةٍ تبحث عنها الشرطةُ بدمٍ بارد، ومن شأن اسمه أن يرتبطَ باختفائها، يختلف تمامًا عن النوع الآخر من القتل الذي يُفضِّله؛ وهو صرعُ رجال غرباء في الشوارع المزدحمة. إنها لا تصلح ضحيةً للأفعى — حتى الآن.

طوى الورقةَ بعناية، وأعادها إلى الكتاب وقلب الصفحة، عندما سمع طرقاتٍ رقيقةً على الباب، فاعتدل في جِلسته.

«ادخل، يا فايفر، تقدم!»

فُتح الباب بهدوء، ودخل رجلٌ إلى الغرفة في وجَل، اندهش دكتور أوبيرزون لرؤيته.

كانت هذه المرةَ الأولى التي يخرج فيها عن هدوئه المعتاد، فتلعثمَ صائحًا: «جيرتر!»

ابتسم جيرتر وأومأ برأسه، وعيناه المستديرتان مثبَّتتان على الشُّرَّابة المتدلية من قبعة التدخين الخاصة بالدكتور.

«لقد عدتَ … وفشلتَ، أليس كذلك؟»

قال الرجل بلهجةٍ متقطعة: «أظن … أن الرجل الأمريكي … قد مات، يا سيدي الدكتور». وتابع: «وفايفر المتميز جدًّا هو الآخر … مات!»

طرَف الدكتور بعينَيه مرتين.

وقال منزعجًا: «مات؟» ثم أضاف: «مَن أخبرك بهذا؟»

«لقد رأيته. حدث شيءٌ ما … للأفعى. تعرَّض فايفر للدغةِ الأفعى.»

ظلَّت نظراتُ العجوز الحادة مثبَّتةً عليه.

وقال بهدوء: «هكذا إذن!»

ارتجف جيرتر، وهو لا يزال مبتسمًا تلك الابتسامةَ السخيفة، وقال: «مات بسرعة جدًّا … بالطريقة المعتادة.»

ردَّد الدكتور مرة أخرى: «هكذا إذن!» وتابع: «فشل كلُّ شيء، ونجا الأمريكي الذي لا قيمة له، ومات فايفر الذي … لا غِنى عنه!»

قال جيرتر دون أن يرفع بصره أو يَخفضه: «فليرحَمْه الله برحمتِه! كنت أُفكر في ذلك طَوال الطريق وأنا عائدٌ يا دكتور … كم كان من الأفضل لو ظلَّ فايفر على قيد الحياة بدلًا مني. رغم أن أعصابي متوترةٌ للغاية.»

قال الدكتور للمرة الرابعة، وهو يمد يده إليه: «هكذا إذن!»

أدخل جيرتر يده في جيب الصديري وأخرج علبةَ سجائر ذهبية. فتحها الدكتور، ونظر إلى السجائر الخمس المصطفَّة فوق الحامِلَين الطويلَين اللذين يرقدان بدقةٍ في مكانهما الصحيح، ثم أغلق العلبة بلمسةٍ واحدة ووضعها فوق المنضدة.

«ماذا أفعل بك، يا جيرتر؟ ستأتي الشرطةُ غدًا لتفتيش هذا المنزل.»

«هناك القبو، يا سيدي الدكتور؛ إنه مكانٌ مريح للغاية. وأنا أفضِّل ذلك.»

أصدرَ الدكتور أوبيرزون إيماءةً مثل صبيٍّ يمحو شيئًا مكتوبًا فوق أحد الألواح.

وقال: «هذا غير ممكن؛ إنه مشغول. يجب أن أعثرَ لك على مكان جديد.» استمرَّ في التحديق والتأمل. ثم قال: «هناك القارب.»

لم تتلاشَ ابتسامةُ جيرتر.

كان القارب صندلًا صغيرًا، سُحب إلى الرصيف الخاص بمصنع أوبيرزون آند سميتس، وظل قابعًا هناك سنواتٍ، وصار ملعبًا للفئران، ومأوًى للمشرَّدين. وأدرك الدكتور ما كان يدور في عقل الرجل.

«ربما تستريح هناك. سأعطيك بعضَ الغاز لقتل الفئران، وسيكون ذلك مؤقتًا لخمسة أو ستة أيام فقط.»

«حسنًا، يا سيدي الدكتور.»

«وبالنسبة إلى هذه الليلة فيُمكنك النوم في المطبخ. فأنا لا أتوقَّع …»

سمع صوت طرقاتٍ مدوِّية على الباب الخارجي. فتبادل الرجلان النظرات، ولكن ما زال جيرتر يبتسم.

قال الدكتور بهدوء: «أظن أنها الشرطة.»

هبَّ واقفًا، ورفع مقعد الأريكة الطويلة الصلبة، وكشف عن تجويفٍ عميق، انزلق جيرتر داخله، وبعدها عاد مقعد الأريكة لما كان عليه. بعد ذلك، توجَّه الدكتور إلى الباب وأدار المفتاح في الباب.

«صباح الخير، أيها المفتش ميدوز.»

سأله ميدوز: «هل يمكنني الدخول؟»

وقف خلفه ضابطان من الشرطة، أحدهما يرتدي زيَّه الرسمي.

«بالتأكيد. هل ترغب في رؤيتي؟» أمسك الباب بحرصٍ ليظل مفتوحًا، دخل ميدوز وحده، وسبق الدكتور إلى غرفة المكتب.

قال ميدوز باقتضاب: «أريد ميرابيل ليستر». وتابع: «لقد اختُطِفَت من منزلها في وقتٍ مبكر من صباح اليوم، ولديَّ معلومات تقول بأن السيارة التي اختطفتْها توجهَت إلى هذا المنزل. وهناك آثارُ إطارات السيارة في الوحل بالخارج.»

قال الدكتور بهدوء: «إذا كانت هناك آثارُ إطارات سيارة، فإنها آثارُ سيارتي.» وعدَّد له السيارات التي يمتلكها. «وهناك أمرٌ آخر، أيها المفتش ميدوز؛ بالنسبة إلى السيارات التي تأتي إلى هنا ليلًا، فأنا أمتلك حاسةَ سمع قويةً، وسمعتُ العديد من السيارات تقطع طريق هانجمان — ولكن ليس في أرضي. بالإضافة إلى أنني واثقٌ أنك لم تأتِ لتُخبرني عن فتيات مختطَفات، وإنما لتُخبرني عن الوغد الذي أحرَق مخزني. فهذا ما توقعتُه منك.»

قال ميدوز بلهجةٍ عُدوانية: «ما تتوقعه مني يختلف تمامًا عما ستنالُه». وأضاف: «والآن أخبرني يا أوبيرزون! نحن نعلم لماذا تريد هذه الفتاة — فقد انفضحَت المؤامرةُ بأكملها. أنت تظن أنك ستمنعها من تقديمِ مطالَبةٍ للحكومة البرتغالية لتجديد الامتياز الممنوح لوالدها في يونيو ١٩١٢.»

لعل الدكتور أصابته الصدمةُ لعلمه بانفضاح سرِّه، ولكنه لم يُظهر صدمته. ولم تتغيَّر ملامحه.

«أنا لا أعلم شيئًا عن هذه الأمور. هذا محضُ خيال، قصة خرافية. ولكن لا بد أن تكون حقيقيةً يا سيدي المفتش ميدوز، ما دمت أنت قائلَها. ولكن لا؛ أعتقد أنَّ مجرمي كورزون ستريت، ومعتادي القتل والجرائم، ممن لديهم سِجلات شائنة، نجَحوا في خِداعك. هل ترغب في تفتيش منزلي؟ إنه امتيازٌ أمنحه لك وحدك.» ولوَّح بيده. ثم استطرد: «لن أطلب منك تقديمَ إذن التفتيش. المنزل أمامك من القبو وحتى السقيفة.»

لم يُفاجَأ عندما أخذ ميدوز كلمته على محمل الجِد، وخرج إلى الرِّواق واستدعى مُعاونيه. فتَّشوا كل غرفة على حدة، واستقبل الطباخُ العجوز والفتاةُ الدنماركية المتوسطة الذكاء، هذه الزيارةَ كحدثٍ عاديٍّ، ومعهم كلُّ الحق في ذلك؛ لأنها كانت المرةَ الثانية التي تزور فيها الشرطة المنزل خلال أسبوعين.

قال ميدوز: «والآن، سنُلقي نظرة على غرفتك، إن لم يكن لديك مانع.»

وقعَت عيناه سريعًا على سحارة الأريكة العثمانية المواجهة للحائط، وحقيقةُ أن الطبيب كان جالسًا فوقها زادت من شكوكه.

قال: «سأبحث هنا، إذا سمحت لي.»

نهض أوبيرزون، ورفع المحقِّق الغِطاء. ووجدها فارغة. كانت الأريكة العثمانية موضوعةً في مواجهة الحائط، وتوجد في أسفلها فجوة عميقة. وقد انزلق جيرتر عبرها منذ وقتٍ طويل عبر الظهر الزائف.

قال أوبيرزون: «أرأيت! لا يوجد شيء». وتابع: «ربما تودُّ الآن تفتيشَ مصنعي؟ لعلي أخفيتُ شيئًا بين العوارض الخشبية والقوائم المحترقة. أو لعله الصندل الموجود على الرصيف؟ مَن يدري ماذا وضَعتُ بين الفئران؟»

قال ميدوز: «إنك شديدُ الذكاء، وأنا أصرِّح بأنني لستُ ندًّا لك. ولكن هناك ثلاثة رجال في هذا البلد هم مَن يصلحون كأندادٍ لك! سأتحدث معك بصراحة، يا أوبيرزون. إنني أودُّ أن أضعك حيث يُمكنني تقديمُك لمحاكمة عادلة، وَفقًا لقانون هذا البلد، وسأقاوم قدرَ استطاعتي أيَّ رجل يحاول تطبيق القانون بيدَيه. ولكن سواءٌ أكنتَ بريئًا أم مذنبًا، لن أضعَ نفسي مكانك فيما يخصُّ كل الأموال الموجودة في أنجولا!»

قال الدكتور بأدب: «وماذا تريد إذن؟»

«اترك الفتاة، وأنا أظن أن نِصف الخطَر الذي يُداهمك سيزول. أقول لك إنك تَفوقني ذَكاءً. وهذا قولٌ غبي ليقولَه ضابطُ شرطة، ولكنني لا أستطيع اكتشافَ الحقيقة وراء أفعاك. بينما هم يكشفونك.»

انعقد حاجبا الرجل العجوز.

وقال بلطف: «حقًّا؟» ثم أضاف: «وعن أيِّ أفعى تتحدث؟»

لم يُضف ميدوز شيئًا. لقد أعطاه تحذيرًا، وإذا لم يستغله أوبيرزون فسيُصبح الخاسرَ.

لا أحدَ يشكُّ، خاصة ميدوز، أنَّه على الرغم من جميع القوانين التي وضعها البشر، وبعيدًا عن جميع آليَّات تنفيذ العدالة التي ابتكرتها عبقرية البشر، فإن العقاب المحتوم ينتظر أوبيرزون وكان وشيكًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤