در المعرفة وبلوطها!

هذا المقال كُتب ردًّا على مغالطات شاعر.

***

كثيرًا ما يجدب الفكر حين يخصِب اللفظ، ورُبَّ أديب أحسن إلى نفسه لو اقتصرت جهوده على الإنتاج في نطاق مواهبه؛ فراح ينظم الشعر، ويترسل في الإنشاء الفخم، فلا يتوهم إذ ذاك، ولا يوهم قراءه أن في جزالة اللفظ بديلًا عن وضوح التفكير، وفي تصيد النقاش معذرة عن الإنتاج في حقل، يتحتم على المشتغلين به مجابهة الحرمان والتضحية والصلابة — وهذه الفضائل ما هي من مرادفات الشاعرية، والبلاغة والترسل.

في «نهار» سابق ظهر مقال وقَّعه «ثعلبة» — مقال يلاطم أوله آخره، ووسطه حائر يتلفت بين طرفيه — يتساءل فيه كاتبه — بين مد الإنشاء وجزر التفكير — عن العقيدة والطقوس، ثم هو يذكر شيئًا عن بعض العقاقير. أما الطقوس، فنحن لم نتحدث عنها لسبب بسيط، وهو أنه ليس عندنا طقوس، فلماذا جاء صاحبنا على ذكرها؟ وأما الأدوية فكل ما أعرف عنها أن بعض البرشانات السامة تطلوها حلاوة ملونة، وأما العقيدة التي يريد شرحها، فقد شرحها مبدعها في اثني عشر كتابًا، وشرحها معتنقوها في ألوف من الصفحات، خلال عشرين سنة من جهاد وتضحية ودروس ونقاش وبحوث، فهل يريدني المستفهم أن أقضي العمر مرددًا: «يا ليل»؟ وهل هو حقًّا يتوخى البحث في جوهر العقيدة؟ إذن فلماذا لا يمد يده، ويتناول مجلدًا يقرأ فيه الأصل والشرح؟ بل لماذا لا يمعن النظر في القطع، التي نشرتها «النهار» و«كل شيء» و«الأحد»؛ فيجد أني أوضحت الواضح في عبارات، لا تسبح في «مياه البحيرة»، ولا تتزين «بالدر والياقوت: در المعرفة، وياقوت المحبة»، ثم هو ينكر عليَّ أن أبحث «في أعمال هؤلاء الذين ساروا على هذه الطرق، واجتازوا تلك المسالك»، ويرجو «أن لا نتعب الأقلام في التحدث عن المؤمنين بالعقيدة»، يا جميل، يا حلو، يا لطيف، الله يخزي العين! يعني أن كل ما في الأمة هو دستور الأمة، أما تنفيذه والقائمون على تنفيذه فليس لهم أهمية، يا لسمو التفكير! يعني أنه يجب على المزارع أن يفني السنين، متحدثًا عن كتاب «زراعة التفاح»، أما جنينة ريشار عبد النور في «المديرج» فلا تستحق الالتفات.

هذا هو المميز الأساسي للعقيدة الاجتماعية؛ إذ إنها إيمان يمارسه معتنقوه، وغيرها من العقائد إيمان يتغنى به من ينادون عليه، وقد سطعت هذه الحقيقة في ٢٢ الشهر الماضي — يوم الاستقلال — إذ إنه في الساعة التي كان فيها الذين يفهمون العقيدة طقوسًا من أغانٍ، ومشاعل، وخطب، واستعراضات، وإذاعات، وافتتاحيات، يملئون بها شوارع بيروت، كان فتيان من القوميين الاجتماعيين يتفقدون قبرًا منسيًّا، لرفيق لهم استشهد وحده في معركة الاستقلال (عين عنوب – بشامون)، واسمه سعيد فخر الدين، كان يبحث في ذلك اليوم كبير أولاد الشهيد عن عمل يرتزق منه، وفي اليوم الذي ابتعد به سائر أولاد الشهيد سعيد فخر الدين عن المدرسة؛ لأن حكومة هذا المجتمع قطعت عنهم المنح، كان المؤمنون بنظرية «ثعلبة» يبحثون في مغزى الاستقلال، ويمجدون أبطاله، أما القوميون الاجتماعيون فما تغنوا، بل مارسوا إيمانهم؛ فاتخذوا الخطوات العملية لتأمين عيش أولاد الشهيد، وتجسيد العزة الوطنية في بناء ضريح لمن فهِم «جوهر العقيدة» ومارسها استشهادًا.

هذا هو الفرق بين «در المعرفة» وبلوطها، ولك مني «ياقوت المحبة» يا «ثعلبة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤