أريد أن أنشق فوح دمي …!

مقدمة المقدمة: مهدت للمقال بالمقدمة؛ إذ إن القانون منع التحدث عن جورج عبد المسيح، وهو المحكوم بالإعدام مرات كثيرة.

كان مطعم مطار بيروت مكتظًّا حين فتشت عن كرسي فلم أجد، وهممت الخروج، فإذا بفتى منفرد إلى طاولة يدعوني، ويقدم لي الكرسي الوحيد قبالته، وتعارفنا وسهرنا؛ فقرأ علي الكثير من كتاباته، وحدثني عن أسفاره، وأخبرني أنه مسافر إلى البرازيل، ورجاني أن أنشر له الحديث الذي تذيعه اليوم «صدى لبنان»، حديث أشرف عليه — كالعادة — رفيقي محمد يوسف حمود، ولا أدري كيف نسيت اسم محدثي ذاك.

ولكنه وعد أن يكتب لي ثانية.

***

«بلى، بلى، إني أعرف هذا الرجل، لقد اجتمعت به فيما سبق، أين …؟ أين …؟ مدينة بومباي …!»

بهذه الكلمات كنت أحدث نفسي حين واجهني جورج عبد المسيح لأول مرة.

وكدت لا أسمع الكلمات القصيرة التي تعارفنا بها. وظلت مدينة بومباي ماثلة أمام عيني حتى دخلنا غرفة صغيرة كأنها قفص، وراح جورج عبد المسيح يقدم كرسيًّا حاملًا غلاية قهوة، عرفت فيما بعد أنه أعدها بيديه، ونظف مرمدة سكاير، ثم نقل طاولة إلى حيث جلست، وكان يقوم بهذه الأعمال لا بتأدب من يتعمد الكياسة الاجتماعية، بل شأن من ألفت يداه تولي أموره.

وكنت متأكدًا من أنني لم أشاهد لهذا الرجل صورة من قبل، تُرَى كيف خُيِّلَ لناظري أنني اجتمعت به فيما سبق؟! «بومباي بومباي … ما علاقة جورج عبد المسيح بمدينة في الهند؟!»

وبعد أن نظف وأصلح وهندس، دار بظهره إليَّ في طريقه إلى كرسيه خلف طاولته، فإذا الشعر الكثيف يبدو كلبدة، وإذا بصخرين يموران فوق عضلات، في زندين وساعدين، تكاد تمزق الكُمَّين، وإذا هو يخطو على مهل، كأنه يمشي على وقع موسيقى هادئة.

وحدقت به فإذا هو أقصر مما ظننت وأضمر مما توقعت.

وتطلع بي من غير أن يعبس ومن غير أن يبتسم؛ فشخصتْ بي لمحة عينان فيهما حذر وفيهما يقين، تتألق بهما الشجاعة لا شرسة مبتذلة، بل صافية سامية هادئة.

وشعرت بشيء من الرهبة حين خلوت به في تلك الغرفة التي تشبه القفص، وتكلم جورج عبد المسيح؛ فإذا في صوته بحة وفيه هدير، ولاحت مدينة بومباي من جديد، وفجأة أدركت كيف يتآمر الشعور مع العقل اللاواعي؛ ففي مدينة بومباي رأيت الأسد لأول مرة وسمعت تهداره، وكان الأسد في قفص.

واستأذنني دقيقة ليكتب مقالًا، وما إن ذكر كلمة «أكتب» حتى شعرت بتيار يصخب في عروقي، ويثب موجة عارمة تنصب في فراغ كان هناك. وإذا بنفسي نقمة محرقة على هذا الجالس قبالتي — هي ثورة الرجولة على تأنث الخضوع، الذي تملكني لمحة، وإذا بي بركان من البغض والمقت والكراهية والازدراء يجيش على هذا الذي استحال عدوًّا في لحظة واحدة، وكأنما هو أراد أن يسهِّل مهمة الكراهية عليَّ حين انبرى «يكتب» في «حضرتي».

وأنست بهذا الهزء يطفو على تحرق العداء، ورحت أنظر إلى تلك اليد الضخمة، وطابة من عضلات تكوَّمت هضبة بين الإبهام والسبابة.

إنه «يكتب».

إنه لمشهد مضحك — جورج عبد المسيح «يكتب». هذه يد خلقت لتلتف حول معول لا قلم، أو لتغرف قنبلة.

إنه «يكتب» هذا الجورج عبد المسيح.

وأسرعت الصفحات أمامه تمتلئ، كيف يكتب هذا «الكاتب»؟ أهذا القلم حنفية تنفتح عن برميل؟ وشارة «الزوبعة» أمامه وخلفه وعلى الحيطان!

وسألته أن يطلعني على ما سطره بلهجة المعلم يطلب من التلميذ أن يقدم له «الفرض» الذي كتبه.

وقرأت ما كتبه جورج عبد المسيح، فكان ذلك بدء الطريق التي لا تنتهي.

منذ تلك اللحظة أيقنت أن من يصيب القليل من الشهرة، يستقطر غروره من أثرته خمرة تنفخ أوداجه؛ فتثمل عيناه، ويسفنكس هناك متعبدًا في صومعة ذاته.

•••

وكثر ترددي عليه بعد الزيارة الأولى، وتأرجحت عواطفي حياله من مقت وكراهية، إلى ود ومصافاة، وإني لأذكر ساعات كان أشهى ما لدي أن يغيب هذا الرجل عن فكري ونظري إلى الأبد، وها أنا اليوم — بعد ما يقرب من السنتين — أجدني أشغف ما أكون به أخوة وإعجابًا.

في يقيني أن لهذا الشعور سببين: أولهما أن قد ترفعت نفسي عن تلك الأثرة التي تستثير العداء لكل متفوق في السلطة أو القوة — أي مناحيها — من عقلي وجسدي، واتحدتْ في ولاء لإيمان صهرَ الجهودَ؛ فأصبح الواحد يجد في انتصارات رفيقه وكبره كبرًا لنفسه وانتصارات لها، والسبب الثاني أن سنتين من معاملة ومباحثة كشفت لي عن هذا الرجل، كل مناحي نفسه؛ فتمادى إعجابي به وودي له حين وضح قطعة إنسانية كاملة.

ولغير مناسبة، ولغير سبب، قصدت إليه أستنطقه هذا الحديث، وقد لا يكون لهذا الحديث من حافز إلا أني صرت أفهم هذا المواطن بعد أن اختبرته غاضبًا، راضيًا، ثائرًا، ساكنًا، واعظًا، متعظًا. وصار من الواجب أن تتعرف الأمة من جديد إلى هذا المواطن، وهو بعض ثروتها الوطنية الموارة في حناياها.

سألته السؤال التقليدي فأجابني: وُلِدْتُ في زاوية البيت، وبيتنا اليوم خربة فوق «عين المشرع» قرب «بيت مري».

– أبوك؟

– مات أبي إبان هربي في ٢ آذار ١٩٤٣.

– مِمَّنْ هربت؟

– من سلطات الحلفاء التي تمركزت في حلب، حكموا عليَّ بالإعدام بتهمة التجسس للألمان، وكنا، نحن القوميين الاجتماعيين، معتقلين عند الألمان الذين اتهمونا بالتجسس لهم. الحقيقة أن الإنكليز قبل زحفهم نحونا من فلسطين نفثوا قطيعًا من اليهود، الذين يتكلمون العربية، فجاءت تقاريرهم تقول: إننا نحن القوميين الاجتماعيين نؤلف قوة مقاتلة؛ فبادروا إلى شطبنا من هذه المنطقة الحساسة.

– وأمك؟

– هي في بيت مري، عمرها ٨٣ سنة، إنها لن تراني؛ فهي قد فقدت نظرها، أمي عمياء، لا تسلني عنها، لا أقدر أن أتكلم عن أمي، سل سواي يخبرك، عبد الله قبرصي مثلًا، أو أسد الأشقر، أو جورج مصروعة.

– قل لي شيئًا عن طفولتك، عن ثقافتك.

– أول محاضرة سمعتها كانت من أبي، كنا نحرث في الحقل، أي إن أبي كان يسوق الفدان، وأنا أضرب بالمعول خلفه، اقتلعت الكثير من جذور قاسية عميقة — جذور التيول — وحملتها إلى حقل جارنا العدو، ورميتها لكي تنشب في أرضه، ورجعت أخبر أبي فخورًا بما فعلت؛ فخلع أبي النير عن الفدان ومشى بي إلى فيئ شجرة، وهنالك جلسنا أستمع إلى أول محاضرة في حياتي. إن أبي لم يأمرني بأن أفعل شيئًا، ولكني بعد سماع محاضرته رحت إلى حقل جارنا وأحرقت جذور التيول. هذه أول معركة انتصرت فيها على نفسي.

– وغيرها من المعارك؟

– كثيرة، أذكر منها معركة الخوف في الحرب العالمية الأولى، وكان عمري ٦-٧ سنوات، وكان لي عم، اسمه جورج عبد المسيح أيضًا، حكم عليه الأتراك بالإعدام لانضمامه للحركة اللامركزية، وكان مختبئًا في الحرش قرب بيت مري، وكنت أذهب إليه في الليل، مارًّا بالثكنات العسكرية حاملًا الزوادة، وكثيرًا ما رأيت الوحوش تنهش جثث موتى الجوع، وصرت أستلذ الأخطار، وأتمهل في سفراتي الليلية. لي عم آخر اسمه يوسف عقل عبد المسيح مات في نيوزيلند متحرقًا، لقد قصَّر عمره عبيد الأتراك، وعبيد الإنكليز، وعبيد فرنسا.

– حدثني عن أنباء قتالك.

– كثيرة، فلسطين مثلًا، حاربنا سنة ٣٦ وسنة ٣٨، فرقة الزوبعة، قُتِلَ هناك سعيد العاص.

– أكان سعيد العاص قوميًّا اجتماعيًّا؟

– بالطبع كان قوميًّا اجتماعيًّا، أنا الذي كرسته، كنا في فرقة واحدة، ولكننا لم نكن معًا في المعركة التي قُتِلَ فيها. مات وشارة «الزوبعة» على صدره، وقد انتزعها ضابط بريطاني حملها إلى بيروت يفتخر بها، وقد هنأه يومئذ مواطنون أفاضل، اتهمونا فيما بعد أننا تحالفنا مع اليهود. بعض هؤلاء الأفاضل هم اليوم في بيروت، في مراكز السلطة والمال تحفل الجرائد بصورهم وأخبارهم ومواعظهم الوطنية. كان قائد فصيلي في فلسطين عبد الرحيم الحاج محمد. أذكر من الأبطال رفيقي بشير فلاحة «دمشقي»، وبشير الزعيم هو رئيس الأمن العام في اللاذقية اليوم، اسْتُشْهِدَ بعضنا في تلك المعارك — عشرة، اثنا عشر، لا أذكر، نحن لا نعد قتلانا. وبعد وقوف المعارك أردنا أن نقيم لشهدائنا حفلة في بيروت؛ فاعتقلنا الفرنساويون وحاكمونا وسجنوننا.

– حدثني عن سرحمول سنة ١٩٤٩.

– كنا في سرحمول ثمانية.

– قُتِلَ أحدكم — محمد ملاعب في تلك المعركة؟

– لا، لا، محمد ملاعب لم يقتل، إنه جُرِحَ في المعركة، ونقلوه إلى السجن مكبلًا ودمه ينزف، وأحذية ثقيلة ضخمة تدوسه في الشاحنة وفي باحة الأسر.

وهنا خرس لسان جورج عبد المسيح؛ فسمعت صرير أضراسه تجرش الذكريات، ورأيت قذائف الكلام تطلقها عيناه لا شفتاه، ثم أردف متحرقًا على محمد: في ساحة الأسر ضربوه وشتموه، وهناك رفع محمد ملاعب رأسه وضرب به الأرض، إن العشرات من مواطنينا رجال الدرك ما يزالون يروون المشهد الصارخ، كما يردده العشرات من رفقائنا، الذين كانوا يطلون آنذاك من وراء قضبان الحبس، إن القوميين الاجتماعيين كلهم يحسون في جباههم اليوم وإلى الأبد عزة جراح محمد ملاعب، وفي قلوبهم رجفة أرض بلاده حين هزها هذا الشهيد برأسه.

– ما هي أكبر حسرة في حياتك؟

– هي أنني لم استشهد حتى اليوم، أريد أن أموت بالرصاص، متخبطًا متضرجًا بدمي، أريد أن أنشق فوح دمي، أريد أن أراها تشخب متفجرة من عروقي، وأن تطول ساعة احتضاري، وأن لا يغيب وعيي لأتمتع برؤية نفسي كيف تموت لتحيا سوريا.

وسألته: كنت أتوهم أن مقتل سعادة كان لك أكبر صدمة عاطفية؟

– عن أية صدمة عاطفية تتكلم؟

لم أفجع بالزعيم إلا كما يُفْجَعُ الجندي بقائده، صرعته الخيانة في أوج المعركة، كنا — ولا نزال — في ذروة معركة إنقاذ هذه الأمة من مشعوذيها، من خونتها ولصوصها وطواغيتها، من مستغلي عمالها وفلاحيها وفقرائها وجهالها وضعفائها، من الذين اخترعوا المثالية وسيلة للأنانية؛ فتردوا بمسوح الأنبياء. أراد الزعيم ونريد، إنقاذ هذه الأمة من النظام، الذي صنف المواطنين طبقات، وطوائف، ووسم الشعب بميسم العبودية للأجنبي، ولعميل الأجنبي ولتجار الدين والوطنية.

– من هم أعداؤك؟

– ليس لي عدو، وأنا فرد لا أهمية له إلا بمقدار ما ينتج، في سبيل حركة تعبر عن الحياة وعن عظمة هذه الأمة. والحركة أعداؤها أعداء هذه الأمة، ونحن نعتقد أن في كل مواطن خيرًا أعتقته فيه حياة أمتنا، وأن حركتنا من مهماتها أن تكشف عن القوة والخير والجمال الكامنة في نفوس المواطنين. ليس لنا عدو، وكل من نفذ مبادينا فهو صديقنا، على أن يستحيل على فرد أن ينفذ كل مبادينا، ويفصح عن كل إيماننا إلا إذا انتظم وفعل.

– أصحيح أن في نفسك حسرة لابتعادك ورفقائك عن لبنان، ولبقاء المساجين القوميين في الحبوس؟

– نحن لا نعرف من الحسرة إلا الحسد، حسد الرفيق للرفيق يسَّرت الحوادث لأحدهما شرف التضحية واستثنت الآخرز أما الابتعاد والسجن والموت والفقر والاضطهاد فكلها مخاطر توقعناها وتحديناها، عندما تجندنا لخدمة الأمة، وما لم نفطن له نبهنا الزعيم إليه بقوله: «إن آلامًا عظيمة، آلامًا لم يسبق لها مثيل في التاريخ تنتظر كل ذي نفس كبيرة منا.» يتوهم البعيدون عنا أن أيام صراعنا وَلَّتْ، أقول لك: إن أيام الكفاح أمامنا لا خلفنا. اختبرنا الخونة والكذابين والدساسين، وعرفنا المغاور والسجون وميادين القتال. المبتعدون؟ أي مبتعدين؟ أما الذين منا عن لبنان مبتعدون، فمن هو في الكويت أو الموصل أو القامشلي؛ فهو في وطنه لا مغترب عنه، ومن هو عبر الحدود فهو معنا في الحركة، وأما الأسرى — أقول الأسرى — فلا نحن نلتاع عليهم، ولا هم يلتاعون، إنهم ينفذون واجبًا عاديًّا؛ وليس أسفنا إلا بقدر حرمان هذه الأمة من إنتاجهم الكامل، غير أنهم هم ينتجون لحد ما، والإنتاج من تبشير، وتثقيف، وتقوية نفس، هو من فروض القومية الاجتماعية.

– ما حالة الحركة القومية الاجتماعية في هذه الأيام — انتشارها وحيويتها وفعاليتها؟

– الحركة مثل كل حياة هي تنمو وهي تنتصر، وهي أبدًا تمر في أزمات خلال صراعها. ولكننا منتصرون، ولقد فعلنا حتى في نفوس أعداء أمتنا؛ إذ أصبحت أساليبهم في مقاومتنا أقل خساسة، وفي بعض القطاعات اقتصرت المقاومة على الصراع الفكري، وهذا ما نحترمه ونريده.

ولسبب ما تراءى في خاطري جان جلخ، يحاضر في مطعم العجمي، وفيليب ضرغام خلف مذياعه تحت شجرة العدلية، وتصورتهما يقرأان هذا الحديث ويعلقان عليه؛ فهرعت أنتقل إلى موضوع سياسي مثير.

قلت: ما موقفكم من العداء القائم بين المعسكرين الروسي والغربي؟ وهذا الحديث عن تفاهم مع تركيا؟

أجاب: إن تركيا التي استعمرتنا يشوقها أن تستعمرنا من جديد، وعبيد الاستعمار من الذين تستلذ رقابهم النيرَ لذة «فرودية» بدءوا يرحبون بهذه الفكرة. يهمنا من النزاع العالمي مصلحة أمتنا؛ ولن نضحي بهذا من أجل شرق ولا غرب، نحن أعداء الاستعمار ونقاوم الشيوعية؛ لأنها وسيلة استعمار روسي؛ ولأنها عقيدة مضللة باطلة، ولكننا لن نسمح للغربيين أن يستغلوا عداءنا هذا للشيوعية ليبيعونا بيعًا مصالح هي من حقنا، ولا تنسَ أن المواطن يبقى مواطنًا لنا حتى ولو ضللته الشيوعية، يدعي الغربيون أنهم يشتغلون من أجل عالم حر، ونحن لم نرَ من أعمالهم إلا اضطهادًا للحرية.

قلت: حدثني ماذا فعلت هذه الحركة؟

أجاب: إنها انتصرت فينا.

وكأنه لمح صورة جان جلخ وفيليب ضرغام تتخايل أمام عيني، فأوضح: اسمع، كل من اعتنق عقيدة النهضة طهرت نفسه، فلم يعد طائفيًّا ولا قبائليًّا ولا أنانيًّا يسخر المصلحة العامة لمصالحه الخاصة، وشعر بمسئولية نحو بلاده تحفزه للعمل من أجلها، واحترم نفسه؛ فانتفض مطرحًا عبوديته للأجنبي، وللإقطاعي ولتجار الوطنية والدين، وتعاون مع رفقائه ومواطنيه و… و…

فقاطعته: وهذا الصيت الذي انتشر من أنكم جماعة إرهابية؟

– نحن لا نؤمن بالعنف، ولكن قطار الحياة يمحق معترضه، نحن جنود لا قبضايات. إن القائمين على الأمر في لبنان اليوم يفهموننا، وإن كانوا يتجاهلون، هم يعرفون عنا بالاختبار والتجربة متى نعلن التعبئة ولماذا. نحن ننفذ إرادة أمتنا ومصالحها وميعادها مع العظمة، ليس منا من يبغي شيئًا لنفسه، ومن طلب شيئًا لنفسه فما هو بالقومي الاجتماعي. نحن أبدًا مستعدون للتضحية عن وعي في سبيل المصلحة العامة ولا نأبه للتوافه والحقارة.

الحياة صراع، والموت من شروط استمرار الحياة وتغذيتها. الحياة تفرض النمو وتنتدب للموت سلبًا وإيجابًا، من صفوفنا أو من خارج صفوفنا، مَن يفنى ليحيا فيزول، أو يزيل حاجزًا يعرقل الحياة. هذه نظرتنا للواجب، والقومي الاجتماعي ليس له من حقوق بأكثر من أي مواطن آخر، غير أن حركتنا تقسو عليه بأكثر من قسوتها على سواه؛ لأنه أشد وعيًا، فهو إذن أكثر مسئولية، تلك المرأة العمياء في بيت مري — أمي — لن أقوم بواجب البنوة نحوها؛ فأفي حق الأمومة إلا إذا كنت متفانيًا مع أبناء بلادي من أجلها، ومن أجل كل أم ووالد وولد في بلادي، في نابلس، في النبطية، في أهدن، أو في بغداد. أرملة الشهيد — شهيدنا عساف كرم وأيتامه — ليس لهم علينا أكثر مما لسائر أرامل وشهداء الأمة وأيتامهم في ذمتنا.

ودَوَّىْ في الغرفة سكون، فإذا بشارات الزوبعة التي من حوله تهم أن تعصف، فتداركتها بسؤال عادي: وكيف تقضي أيامك؟

– أكتب نحوًا من عشر ساعات، وأطالع خمس ساعات، وأحاضر ويأخذني التنظيم ساعات، وفي بعض الليالي أنام.

ودفعت إليه بورقة بيضاء وقلت له: اكتب عليها أسماء من تعتقد أنهم أفضل القوميين الاجتماعيين.

قال: ليس بيننا مفاضلة؛ مبادئنا وإيماننا وتعاليمنا ووسائلنا معروفة، مَنْ فعلت به صيرت منه المواطن الأمثل، لا يفضل أحدنا الآخر إلا بقدر ما فعلت فيه العقيدة.

قلت: اكتب لي أسماء مَنْ جعلت منهم العقيدة المواطن الأمثل.

فتناول الورقة، وكتب على صفحتيها: «أنطون سعادة».

– وأنت؟

فأجاب مهمدرًا: لا، لا أنا ولا سواي، أنت تعرف مئات، وأنا أعرف ألوفًا من رفقائنا قد تحسب أيًّا منهم المواطن الأمثل، ولكن هذه الورقة بيضاء إلا من اسم الزعيم، وستبقى بيضاء حتى تبلغ هذه الأمة هدفها، وهدفها يتصاعد ويسمو أبدًا كلما اقتربت منه. صاحب هذا الاسم مات راكعًا على رمل بيروت، ويداه مربوطتان بحبل — بهذا الحبل (وأراني قطعة منه راحت تلاعبها أصابعه).

قال ذلك من غير انفعال!

وسألته عن ثقافته، فأجاب أنه تخرج من الجامعة الأميركية سنة ١٩٣٣ شبه متخصص بالاقتصاد، وأنه تعلم الفرنسية في المدرسة وأتقنها في السجن، وأنه أسس وترأس «الجمعية الحورانية» في مدرسة بيت مري أو برمانا سنة ١٩٢٥، انتصارًا للثورة الحورانية ضد الفرنسيين، وأن أحد شعراء لبنان أعجب شديد الإعجاب بشعر منثور قرأه عليه جورج عبد المسيح، على أنه ترجمة عن الصينية، ولكنه كان من تأليفه. والأدب؟ «لن يبرز حتى يتركز الأساس الاقتصادي، والأديب يجب أن يشق أثلامًا ويبذر. وفي هذه الخمسين سنة قام أديب واحد في سوريا اسمه جبران خليل جبران، وفي لبنان اليوم شاعر واحد حي، وآخر هَمَّ بأن يكون شاعرًا. والنهضة القومية الاجتماعية؟ «إن أدبها بدأ بالظهور.»

والسياسة؟ إن القومي الاجتماعي يجب أن لا يهتم بها، والحركة القومية تعتبر السياسة لأجل السياسة ليست عملًا قوميًّا، وهي آخر ما تهتم به، ومبعث الاهتمام هو أن المقاليد في أيدي رجال عقيدتنا أقرب إلى التنفيذ لمصلحة الأمة منا في أيدي سواهم، مشتغلون بالسياسة أراخنة ينافسون الكوكا كولا والبيبسي كولا بالإعلان عن أنفسهم، نحن نعرفهم كلهم، وخبرناهم كلهم، وعاملناهم كلهم — كل أرخون منهم، لكل واحد رداء يزين ويضخم، ويخبئ شخصًا واحدًا اسمه «أنا». والشعب في تشوفه إلى الإصلاح والتقدم يرى الواحة في سراب الأراخين؛ فيكثر في فترات من الغفلة المنبهرون المعجبون المهللون — المخدوعون، وما هي إلا يقظة وعي حتى يعودوا لا منبهرين ولا معجبين ولا مهللين — لا مخدوعين.

والموسيقى؟ يعرف عنها، والفلسفة … ها … هنا لا تفتح كتابًا بل مكتبة، هو يعتقد أن أنطوان سعادة أعظم فيلسوف، ويتلوه زينون الروائي، ولكنه يناقش في عشرات آخرين من الفلاسفة إن كنت من تلامذتها وطاب لك التحدث عنها من غير أن تخاف جان جلخ أو فيليب ضرغام.

•••

وعدت أسائل نفسي ما الذي يميز هذا الرجل عن سواه؟ فكان الجواب سؤالًا ثانيًا «هل في هذا الرجل ما يميزه عن سواه؟»

لقد استمعت إلى جورج عبد المسيح يقصف نقدًا مدمرًا، ورأيته يتلقى قنابل النقد، وإنك لتقرأه بشوق وإمعان، وتستفيد منه معجبًا بعمق تفكيره وواقعيته، أصغيت إليه يروي بخيلاء صبيانية، كيف كسب في أربعة أشهر — أربعة أشهر فقط — مبلغًا صخمًا ١٢٠٠ ليرا (ألف ومائتي ليرا، لا أقل) متجرًا بالحطب، وكيف تطلع إلى شجرة فرازها بعينيه، وحكم: «إنها تزن أربعة قناطير»، وجاء الوزن — ويا للعبقرية — أربعة قناطير، وأصغيت إليه يشرح لي عبارة عمقت عن فهمي، وسمعت منه ألف «رفة جناح»: «هربوا وهم قاعدون» «لبخ خبيزة على وجع الرأس». «حاملة الجرة لا ترى الجرة»، وتطلعت إليه يستمع إلى جمع من الطلبة عادوا من سجن في مصر أيام فاروق (يا نديم دمشقية، يا ابن خال محمد البعلبكي، يا من كنت يومئذ في المفوضية اللبنانية في مصر، يسرني أنك ابن خال محمد البعبكي لا ابن خالي) يقصون أنباء سجنهم، ويشيرون إلى رفيق لهم خاط شفتيه بإبرة وخيط احتجاجًا على سجنهم، رأيته يستمع إلى الحديث من غير أن يلتفت إلى الطالب القومي الاجتماعي أو يظهر إعجابه، ورأيت وجهه يشرق حين لبس بدلة جديدة (بدلته الوحيدة عمرها خمس سنوات) أرسلها له هدية جورج حداد، مَنْ تقول؟ أي جورج حداد؟ نعم هو بذاته، ذلك الذي اقتلع أذني بأسنانه، نحن لا نحقد؛ على كل حال أذن واحدة تكفيني.

جورج عبد المسيح يصلح أن يكون موضوعًا لكتب لا لمقال.

ما الذي يميزه عن سواه؟ والجواب هو سؤال: هل في هذا الرجل ما يميزه عن سواه؟

من السخف أن نشبهه بالأسد. من السخف تشبيه الإنسان بالحيوان. الشجاعة؟ متى تخلص الإنسان من الخوف «وباعها»، يتساوى مع الذين باعوها. القوة الجسدية؟ أنت وأنا نعرف من هو أشد عضلات منه. الفكر؟ هو تلميذ فلسفة عميق التفكير، ولكنني أعرف من يضاهونه. الأدب؟ في بيروت عشرات من هم أعلى منه أدبًا بالمعنى الشائع. الإيمان؟ كلنا يؤمن بشيء، المرتشي يؤمن بالرشوة، وتاجر الوطنية يؤمن بالتدجيل.

إذن ما الذي يميزه؟

لا شيء، إلا أنه آمن بعقيدة نظمت تفكيره، ونسقت أعماله، عقيدة ارتكزت على العلم والقيم الإنسانية — أو بعبارة ثانية عقيدة صحيحة.

قالت له هذه العقيدة: اطلب القوة في نفسك وانتظم مع رفقائك. قالت له: أعطِ. وقالت له: ولاؤك الأول والأخير لأمتك ومصالحها. قالت له: أنت لا شيء وحدك، والمجتمع كل شيء معك؛ فشعر أنه كل شيء لأنه المجتمع. قالت له: كن شجاعًا ولا تكن أزعر بهوارًا، واغسل نفسك من أدران التفكير الحقير، وأوهام الطائفية، والإقطاعية، وعلم الغيب. ما استهوته بالخبز، ولا بممتلكات سواه، ولا أوغرت صدره على جيرانه فلم تغر بهيميته. بل قالت له: كلكم مواطنون متساوون — رجالًا ونساء — حقًّا في الكسب، وواجبًا في الإنتاج. لم تحتقر المادة ولم تؤلمه الروح؛ لأن الحياة كما نفهمها وكما هي، هي مادة وهي روح (هذه هي المدرحية).

لم تعده العقيدة بالحل الرخيص، ولا الطريق المختصر، ولم تقلده رقية من نشوة مبهمة، بل استهاجت القوى التي تؤمن أنها كامنة فيه؛ فهبت فيه الرجولة الواعية، الرجولة التي جاءت لتعطي وتصارع، لا الحقارة التي هرعت تحدوها الغريزة العمياء، لتنهب وتتمتع، فحين اشرأب الكبر في نفسه صار جورج عبد المسيح.

لا، لا، جورج عبد المسيح هو رجل عادي، آمن بشيء يؤيده العلم؛ فانتفضت عناصر نفسه، وانتظمت، بطولة فكر، وجرأة.

في يقيني أن في وسع أي واحد من مواطني هذه الأمة أن يصبح كجورج عبد المسيح، أو أفضل منه. تلك الورقة التي خط عليها الأمين عبد المسيح اسم أنطون سعادة … لن تبقى بيضاء. إن السطر الأول، والاسم الأول، والقومي الاجتماعي الأول لن يكون السطر الأخير ولا الاسم الأخير.

قطعة الحبل التي تقلبها جورج عبد المسيح، خيوطها أبدًا تتكاثر وتتفولذ، ذلك الحبل الذي التف على معصمي مَنْ آمن أن موته شرط لانتصار قضيته، سينشل الغرقى كلهم من مهاوي وادي أبو جميل إلى مشارف ضهور الشوير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤