فلما كانت الليلة ١٥

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصعلوك الثالث قال للصبية، والجماعةُ مُكتَّفون، والعبيد واقفون بالسيوف على رءوسهم: ثم إني سميت الله ودعوته، وابتهلت إليه، وحاولت الطلوع على الجبل، وصرتُ أتمسك بالنقر التي فيه حتى أسكَنَ اللهُ الريحَ في تلك الساعة، وأعانني على الطلوع، فطلعت سالمًا على الجبل، وفرحت بسلامتي غاية الفرح، ولم يكن لي دأب إلا القبة، فدخلتها وصليتُ فيها ركعتين شكرًا لله على سلامتي، ثم إني نمتُ تحت القبة فسمعت قائلًا يقول: يا ابن خصيب، إذا انتبهْتَ من منامك، فاحفر تحت رجليك قد قوسًا من نحاس، وثلاث نشابات من رصاص، منقوشًا عليها طلاسم، فخذ القوس والنشابات، وارم الفارس الذي على القبة، وأَرِحِ الناسَ من هذا البلاء العظيم، فإذا رميتَ الفارس يقع في البحر، ويقع القوس، فخذ القوس من يدك وادفنه في موضعه، فإذا فعلتَ ذلك يطفو البحر ويعلو حتى يساوي الجبل، ويطلع عليه زورق فيه شخص غير الذي رميته، فيجيء إليك وفي يده مجداف، فاركب معه ولا تُسَمِّ الله تعالى، فإنه يحملك ويسافر بك مدة عشرة أيام إلى أن يُوصِلَك إلى بحر السلامة، فإذا وصلتَ هناك تجد مَن يوصلك إلى بلدك، وهذا إنما يتمُّ لك إذا لم تُسَمِّ الله.

ثم استيقظت من نومي، وقمت بنشاط وقصدتُ الماء كما قال الهاتف، وضربت الفارس، رميته فوقع في البحر، ووقع القوس من يدي، فأخذت القوس ودفنته، فهاج البحر وعلا حتى ساوى الجبل الذي أنا عليه، فلم ألبث غير ساعة حتى رأيت زورقًا في وسط البحر يقصدني، فحمدتُ الله تعالى، فلما وصل إليَّ الزورق وجدت فيه شخصًا من النحاس في صدره لوح من الرصاص، منقوش بأسماء وطلاسم، فنزلت في الزورق وأنا ساكت لا أتكلم، فحملني الشخص أول يوم والثاني والثالث إلى تمام عشرة أيام، حتى رأيت جزائر السلامة؛ ففرحتُ فرحًا عظيمًا، ومن شدة فرحي ذكرتُ اللهَ، وسمَّيْتُ، وهلَّلْتُ، وكبَّرْتُ، فلما فعلتُ ذلك قذفني من الزورق في البحر، ثم رجع إلى البحر، وكنت أعرف العوم، فعمت ذلك اليوم إلى الليل، حتى كَلَّتْ سواعدي، وتعبت أكتافي، وصرتُ في الهلكات، ثم تشهَّدْتُ وأيقنتُ بالموت، وهاج البحر من كثرة الرياح، فجاءت موجة كالقلعة العظيمة فحملتني وقذفتني قذفةً صرت بها فوق البر لما يريد الله، فطلعت البر، وعصرت ثيابي، ونشفتها على الأرض وبِتُّ، فلما أصبحت لبست ثيابي، وقمت أنظر أين أمشي، فوجدت غوطة، فجئتها ودرتُ حولها، فوجدتُ الموضع الذي أنا فيه جزيرة صغيرة، والبحر محيط بها، فقلت في نفسي: كلما أخلص من بلية أقع في أعظم منها!

فبينما أنا متفكر في أمري وأتمنى الموت، إذ نظرت مركبًا فيها ناس، فقمتُ وطلعتُ على شجرة، وإذا بالمركب التصقت بالبر، وطلع منها عشرة عبيد معهم مساحي، فمشوا حتى وصلوا إلى وسط الجزيرة، وحفروا في الأرض، وكشفوا عن طابق، فرفعوا الطابق وفتحوا بابه، ثم عادوا إلى المركب، ونقلوا منها خبزًا ودقيقًا وسمنًا وعسلًا وأغنامًا وجميع ما يحتاج إليه الساكن، وصار العبيد متردِّدين بين المركب، وباب الطابق، وهم يحولون من المركب وينزلون في الطابق، إلى أن نقلوا جميعَ ما في المركب، ثم بعد ذلك طلع العبيد ومعهم ثيابٌ أحسن ما يكون، وفي وسطهم شيخ كبير هَرِم قد عمَّرَ زمنًا طويلًا، وأضعفه الدهر حتى صار فانيًا، ويد ذلك الشيخ في يد صبي قد أُفرِغ في قالب الجمال، وأُلبِس من الحُسْن حلةَ الكمال، حتى إنه يُضرَب بحسنه الأمثال، وهو كالقضيب الرطب يسحر كلَّ قلب بجماله، ويسلب كل لب بكماله، فلم يزالوا يا سيدتي سائرين حتى أتوا إلى الطابق، ونزلوا فيه، وغابوا عن عيني.

فلما توجَّهوا قمتُ ونزلت من فوق الشجرة، ومشيت إلى موضع الردم، ونبشتُ الترابَ ونقلته، وصبَّرت نفسي حتى أزلتُ جميعَ التراب، فانكشف الطابق، فإذا هو خشب مقدار حجر الطاحون، فرفعته فبانَ من تحته سلم معقود من حجر، فتعجبت من ذلك، ونزلت في السلم حتى انتهيت إلى آخره، فوجدت شيئًا نظيفًا، ووجدت بستانًا وثانيًا وثالثًا إلى تمام تسعة وثلاثين، وكل بستان أرى فيه ما يكلُّ عنه الوصفُ من أشجارٍ وأنهارٍ وأثمارٍ وذخائر، ورأيت بابًا فقلت في نفسي: ما الذي في هذا المكان؟ فلا بد أن أفتحه وأنظر ما فيه. ثم فتحتُه فوجدتُ فيه فرسًا مسرجًا ملجمًا مربوطًا، ففككتُه وركبتُه، فطار بي إلى أن حطَّني على سطحٍ وأنزلني، وضربني بذيله فأَتْلَفَ عيني وفرَّ مني، فنزلت من فوق السطح فوجدتُ عشرة شباب عور، فلما رأوني قالوا: لا مرحبًا بك. فقلت لهم: أتقبلونني أجلس عندكم؟ فقالوا: والله لا تجلس عندنا. فخرجت من عندهم حزين القلب، باكي العين، وكتب الله لي السلامة حتى وصلْتُ إلى بغداد، فحلقت ذقني وصرت صعلوكًا، فوجدت هذين الاثنين الأعورين، فسلَّمْتُ عليهما وقلتُ لهما: أنا غريب. فقالا: ونحن غريبان. فهذا سبب تلف عيني وحلق ذقني. فقالت له: ملِّسْ على رأسك ورُح. فقال: والله لا أروح حتى أسمع قصة هؤلاء.

figure
وجدتُ فَرَسًا مُسرَّجًا مُلجَّمًا مربوطًا، ففكَكْتُه وركبتُه، فطار بي.

ثم إن الصبية التفتت إلى الخليفة وجعفر ومسرور، وقالت لهم: أخبروني بخبركم. فتقَدَّمَ جعفر، وحكى لها الحكاية التي قالها للبوابة عند دخولهم، فلما سمعت كلامه، قالت: وهبت بعضكم لبعض. فخرجوا إلى أن صاروا في الزقاق، فقال الخليفة للصعاليك: يا جماعة إلى أين تذهبون؟ فقالوا: وما ندري أين نذهب. فقال لهم الخليفة: سيروا وبيتوا عندنا. وقال لجعفر: خذهم وأحضرهم لي غدًا حتى ننظر ما يكون. فامتثَلَ جعفر ما أمره به الخليفة، ثم إن الخليفة طلع إلى قصره، ولم يجئه نوم في تلك الليلة، فلما أصبح جلس على كرسي المملكة، ودخلت عليه أرباب الدولة، فالتفَتَ إلى جعفر بعد أن طلعت أرباب الدولة، وقال: ائتني بالثلاث صبايا والكلبتين والصعاليك. فنهض جعفر، وأحضرهم بين يدَيْه، فأدخل الصبايا تحت الأستار، والتفَتَ لهن جعفر، وقال لهن: قد عفونا عنكن لما أسلفتن من الإحسان إلينا ولم تعرفننا، فها أنا أعرفكن وأنتن بين يدي الخامس من بني العباس هارون الرشيد، فلا تخبرْنَه إلا حقًّا. فلما سمع الصبايا كلام جعفر عن لسان أمير المؤمنين تقدَّمَتِ الكبيرة، وقالت: يا أمير المؤمنين، إن لي حديثًا لو كُتِب بالإبر على آماق البصر لَكان عبرةً لمَن اعتبر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤