فلما كانت الليلة ١٨

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة أمر أن تُكتَب هذه القصة في الدواوين، ويجعلوها في خزانة الملك، ثم إنه قال للصبية الأولى: هل عندكم خبرٌ بالعفريتة التي سحرت أختَيْك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، إنها أعطتني شيئًا من شعرها، وقالت: متى أردتِ حضوري فأحرقي من هذا الشعر شيئًا، فأحضر إليك عاجلًا، ولو كنتُ خلفَ جبل قاف. فقال الخليفة: أحضري لي الشعر. فأحضرته الصبية فأخذه الخليفة، وأحرق منه شيئًا، فلما فاحت رائحته اهتز القصر، وسمعوا دويًّا وصلصلة، وإذا بالجنية حضرت وكانت مسلمةً، فقالت: السلام عليك يا خليفة الله. فقال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فقالت: اعلم أن هذه الصبية زرعت معي جميلًا ولا أقدر أن أكافِئَها عليه؛ فهي أنقذتني من الموت، وقتلت عدوي، ورأيت ما فعله معها أختاها، فما رأيت إلا أني أنتقم منهما فسحرتهما كلبتين بعد أن أردتُ قتلهما، فخشيت أن يصعبَا عليها، وإنْ أردتَ خلاصهما يا أمير المؤمنين أخلِّصهما كرامةً لك ولها، فإني من المسلمين. فقال لها: خلِّصيهما، وبعد ذلك نشرع في أمر الصبية المضروبة، ونفحص عن حالها، فإذا ظهر لي صدقها أخذت ثأرها ممَّن ظلمها. فقالت العفريتة: يا أمير المؤمنين، أنا أدلك على مَن فعل بهذه الصبية هذا الفعل وظلمها وأخذ مالها، وهو أقرب الناس إليك. ثم إن العفريتة أخذت طاسة من الماء وعزمت عليها، ورشَّت وجه الكلبتين، وقالت لهما: عودَا إلى صورتكما الأولى البشرية. فعادتا صبيتين سبحان خالقهما، ثم قالت: يا أمير المؤمنين، إن الذي ضرب الصبية ولدك الأمين، فإنه كان يسمع بحسنها وجمالها. وحكت له العفريتة جميع ما جرى للصبية، فتعجب وقال: الحمد لله على خلاص هاتين الكلبتين على يدي. ثم إن الخليفة أحضر ولده الأمين بين يديه، وسأله عن قصة الصبية الأولى، فأخبره على وجه الحق، فأحضر الخليفة القضاة والشهود، والصعاليك الثلاثة، وأحضر الصبية الأولى وأختيها اللتين كانتا مسحورتين في صورة كلبتين، وزوَّجَ الثلاث للثلاثة الصعاليك الذين أخبروهم أنهم كانوا ملوكًا، وعملهم حجابًا عنده، وأعطاهم ما يحتاجون إليه، وأنزلهم في قصر بغداد، وردَّ الصبيةَ المضروبة لولده الأمين، وأعطاها مالًا كثيرًا، وأمر أن تُبنَى الدار أحسن ما كانت، ثم إن الخليفة تزوَّجَ بالدلالة، ورقد في تلك الليلة معها، فلما أصبح أفرد لها بيتًا وجواري يخدمنها، ورتَّبَ لها راتبًا، وشيَّد لها قصرًا.

figure
فأحرق الخليفةُ منه شيئًا، فاهتزَّ القصر وسَمِعوا دَوِيًّا، وإذا بالجنِّيَّة حضرت.

حكاية الصبية والتفاح وريحان العبد

ثم قال لجعفر ليلةً من الليالي: إني أريد أن ننزل في هذه الليلة إلى المدينة، ونسأل عن أحوال الحكام المتولِّين، وكل مَن شكا منه أحدٌ عزلناه. فقال جعفر: سمعًا وطاعةً. فلما نزل الخليفة وجعفر ومسرور وساروا في المدينة، ومشوا في الأسواق، مروا بزقاق فرأوا شيخًا كبيرًا على رأسه شبكة وقفة، وفي يده عصًا، وهو ماشٍ على مهله، وينشد هذه الأبيات:

يَقُولُونَ لِي أَنْتَ بَيْنَ الْوَرَى
بِعِلْمِكَ كَاللَّيْلَةِ الْمُقْمِرَهْ
فَقُلْتُ دَعُونِيَ مِنْ قَوْلِكُمْ
فَلَا عِلْمَ إِلَّا مَعَ الْمَقْدِرَهْ
فَلَوْ رَهَنُونِي وَعِلْمِي مَعِي
وَكُلَّ الدَّفَاتِرِ وَالْمَحْبَرَهْ
عَلَى فَوْتِ يَوْمٍ لمَا أَدْرَكُوا
قَبُولَ الرَّهَانِ إِلَى الْآخِرَهْ
فَأَمَّا الْفَقِيرُ وَحَالُ الْفَقِيرِ
وَعَيْشُ الْفَقِيرِ فَمَا أَكْدَرَهْ
وَفِي الصَّيْفِ يَعْجَزُ عَنْ قُوتِهِ
وَفِي الْبَرْدِ يَدْفَأُ عَلَى الْمِجْمَرَهْ
تَلِيهِ الْكِلَابُ إِذَا مَا مَشَى
فَكُلُّ لَئِيمٍ غَدَا يَنْهَرَهْ
إِذَا مَا شَكَا حَالَهُ لِامْرِئٍ
وَبَيَّنَ عُذْرًا فَلَنْ يَعْذِرَهْ
فَكُلُّ فَقِيرٍ غَدَا مَسْخَرَهْ
فَقُودُوا الْفَقِيرَ إِلَى الْمَقْبَرَهْ

فلما سمع الخليفة إنشادَه قال لجعفر: انظر هذا الرجل الفقير وانظر هذا الشعر؛ فإنه يدل على احتياجه. ثم إن الخليفة تقدَّمَ إليه وقال له: يا شيخ، ما حرفتك؟ قال: يا سيدي، صياد وعندي عائلة، وخرجت من بيتي من نصف النهار إلى هذا الوقت ولم يقسم الله لي شيئًا أقوت به عيالي، وقد كرهت نفسي وتمنَّيْتُ الموتَ. فقال له الخليفة: هل لك أن ترجع معنا إلى البحر، وتقف على شاطئ دجلة، وترمي شبكتك على بختي، وكل ما طلع أشتريه منك بمائة دينار؟ ففرح الرجل لما سمع هذا الكلام، وقال: على رأسي أرجع معكم. ثم إن الصياد رجع إلى البحر، ورمى شبكته، وصبر عليها، ثم إنه جذب الخيط وجر الشبكة إليه، فطلع في الشبكة صندوق مقفول ثقيل الوزن، فلما نظره الخليفة جسَّه، فوجده ثقيلًا، فأعطى الصياد مائة دينار وانصرف، وحمل الصندوق مسرور هو وجعفر، وطلعَا به مع الخليفة إلى القصر، وأوقد الشموع والصندوق بين يدي الخليفة، فتقدَّمَ جعفر ومسرور وكسروا الصندوق، فوجدوا فيه قفة خوص مخيطة بصوف أحمر، فقطعوا الخياطة فرأوا فيها قطعة بساط، فرفعوها فوجدوا تحتها إزارًا، فرفعوا الإزار فوجدوا تحته صبية كأنها سبيكة فضة، مقتولة ومقطَّعة، فلما نظرها الخليفة جرَتْ دموعه على خده، والتفت إلى جعفر وقال: يا كلب الوزراء، أتُقتَل القتلى في زمني، ويُرمَوْنَ في البحر، ويصيرون متعلِّقين بذمتي؟ والله لا بُدَّ أن أقتصَّ لهذه الصبية ممَّن قتلها وأقتله. وقال لجعفر: وحق اتِّصال نسبي بالخلفاء من بني العباس، إن لم تأتني بالذي قتل هذه لأنصفها منه، لَأصلبنَّك على باب قصري أنت وأربعين من بني عمك. واغتاظ الخليفة، فقال جعفر: أمهلني ثلاثة أيام. قال: أمهلتك. ثم خرج جعفر من بين يدَيْه، ومشى في المدينة وهو حزين، وقال في نفسه: من أين أعرف مَنْ قَتَلَ هذه الصبية حتى أحضره للخليفة؟! وإنْ أحضرْتُ له غيره يصير معلَّقًا بذمتي، ولا أدري ما أصنع!

ثم إن جعفر جلس في بيته ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أرسل إليه الخليفة يطلبه، فلما تمثَّلَ بين يدَيْه قال له: أين قاتل الصبية؟ قال جعفر: يا أمير المؤمنين، هل أنا أعلم الغيب حتى أعرف قاتِلَها؟! فاغتاظ الخليفة، وأمر بصلبه على باب قصره، وأمر مناديًا أن ينادي في شوارع بغداد: مَن أراد الفرجة على صلب جعفر البرمكي وزير الخليفة، وصلب أولاد عمه على باب قصر الخليفة فَلْيخرج ليتفرج. فخرجت الناس من جميع الحارات ليتفرجوا على صلب جعفر، وصلب أولاد عمه، ولم يعلموا سبب ذلك، ثم أمر بنصب الخشب فنصبوه، وأوقفوهم تحته لأجل الصلب، وصاروا ينتظرون الإذن من الخليفة، وصار الخلق يتباكَوْن على جعفر، وعلى أولاد عمه، فبينما هم كذلك وإذا بشاب حسن نقي الأثواب يمشي بين الناس مسرعًا إلى أن وقف بين يدَيِ الوزير، وقال له: سلامتك من هذه الوقفة يا سيد الأمراء، وكهف الفقراء، أنا الذي قتلتُ القتيلةَ التي وجدتموها في الصندوق، فاقتلني فيها واقتصَّ لها مني. فلما سمع جعفر كلام الشاب وما أبداه من الخطاب، فرح بخلاص نفسه وحزن على الشاب.

فبينما هم في الكلام وإذا بشيخ كبير يفسح الناس، ويمشي بينهم بسرعة إلى أن وصل إلى جعفر والشاب، فسلَّمَ عليهما ثم قال: أيها الوزير، لا تصدِّق كلامَ هذا الشاب، فإنه ما قتل هذه الصبية إلا أنا، فاقتص لها مني. فقال الشاب: أيها الوزير، إن هذا شيخ كبير خرفان لا يدري ما يقول، وأنا الذي قتلتها، فاقتصَّ لها مني. فقال الشيخ: يا ولدي، أنت صغير تشتهي الدنيا، وأنا كبير شبعت من الدنيا، وأنا أفديك وأفدي الوزير وبني عمه، وما قتل الصبية إلا أنا، فبالله عليك أن تعجِّل بالاقتصاص مني.

فلما نظر إلى ذلك الأمر تعجَّبَ منه، وأخذ الشاب والشيخ وطلع بهما عند الخليفة، وقال: يا أمير المؤمنين، قد حضر قاتل الصبية. فقال الخليفة: أين هو؟ فقال: إن هذا الشاب يقول أنا القاتل، وهذا الشيخ يكذِّبه ويقول: لا، بل أنا القاتل. فنظر الخليفة إلى الشيخ والشاب وقال: مَن منكما قتل هذه الصبية؟ فقال الشاب: ما قتلها إلا أنا. وقال الشيخ: ما قتلها إلا أنا. فقال الخليفة لجعفر: خذ الاثنين واصلبهما. فقال جعفر: إذا كان القاتل واحدًا فقتل الثاني ظلم. فقال الشاب: وحق مَن رفع السماء وبسط الأرض إني أنا الذي قتلتُ الصبية، وهذه أمارة قتلها. ووصف ما وجده الخليفة، فتحقَّقَ عند الخليفة أن الشاب هو الذي قتل الصبية؛ فتعجَّبَ الخليفة وقال: ما سبب قتلك هذه الصبية بغير حق، وما سبب إقرارك بالقتل من غير ضرب، وقولك اقتصوا لها مني؟

فقال الشاب: اعلم يا أمير المؤمنين أن هذه الصبية زوجتي وبنت عمي، وهذا الشيخ أبوها وهو عمي، وتزوَّجْتُ بها وهي بِكْر، فرزقني الله منها ثلاثةَ أولاد ذكور، وكانت تحبني وتخدمني، ولم أرَ عليها شيئًا، فلما كان أول هذا الشهر مرضت مرضًا شديدًا، فأحضرت لها الأطباء حتى حصلت لها العافية، فأردتُ أن أُدخِلها الحمام، فقالت: إني أريد شيئًا قبل دخول الحمام لأني اشتهيته. فقلتُ لها: وما هو؟ فقالت: إني أشتهي تفاحةً أشمها، وأعضُّ منها عضة. فطلعت من ساعتي إلى المدينة، وفتَّشْتُ على التفاح ولو كانت الواحدة بدينار فلم أجده، فبِتُّ تلك الليلة وأنا متفكِّر، فلما أصبح الصباح خرجت من بيتي ودرتُ على البساتين واحدًا واحدًا، فلم أجد فيها، فصادفني خولي كبير فسألته عن التفاح، فقال: يا ولدي، هذا شيء قَلَّ أن يوجد لأنه معدوم، ولا يوجد إلا في بستان أمير المؤمنين الذي في البصرة، وهو عند الخولي يدَّخره للخليفة. فجئت إلى زوجتي وقد حملتني محبتي إياها على أن هيَّأْتُ نفسي، وسافرت خمسة عشر يومًا ليلًا ونهارًا في الذهاب والإياب، وجئت لها بثلاث تفاحات اشتريتها من خولي البصرة بثلاثة دنانير، ثم إني دخلتُ وناولتُها إياها فلم تفرح بها، بل تركتها إلى جانبها، وكان مرض الحمى قد اشتدَّ عليها، ولم تَزَل في ضعفها إلى أن مضى لها عشرة أيام، وبعد ذلك عوفيت، فخرجتُ من البيت، وذهبت إلى دكاني، وجلست في بيعي وشرائي، فبينما أنا جالس في وسط النهار، وإذا بعبدٍ أسود مَرَّ عليَّ وفي يده تفاحة يلعب بها، فقلت له: من أين أخذتَ هذه التفاحة حتى آخذ مثلها؟ فضحك وقال: أخذتها من حبيبتي، وأنا كنتُ غائبًا، وجئتُ فوجدتها ضعيفة، وعندها ثلاث تفاحات، فقالت: إن زوجي الديوث سافَرَ من شأنها إلى البصرة، فاشتراها بثلاثة دنانير. فأخذت منها هذه التفاحة.

figure
خرج من بيته ودار على البساتين واحدًا واحدًا، فلم يجد فيها تفَّاحًا.

فلما سمعتُ كلامَ العبد يا أمير المؤمنين اسوَدَّتِ الدنيا في وجهي، وقفلت دكاني، وجئت إلى البيت وأنا فاقد العقل من شدة الغيظ، فلم أجد التفاحة الثالثة، فقلت لها: أين الثالثة؟ فقالت: لا أدري، ولا أعرف أين ذهبت. فتحقَّقْتُ قولَ العبد، وقمتُ أخذت سكينًا وركبت على صدرها ونحرتها بالسكين، وقطعت رأسها وأعضاءها، وحطَطْتُها في القفة بسرعة، وغطيتها بالإزار، وحططْتُ عليها شقة بساط، وأنزلتها في الصندوق وقفلته، وحملتها على بغلتي، ورميتها في الدجلة بيدي، فبالله عليك يا أمير المؤمنين أن تعجِّل بقتلي قصاصًا لها، فإني خائف من مطالبتها يومَ القيامة، فإني لما رميتها في بحر الدجلة، ولم يعلم بها أحدٌ، رجعت إلى البيت فوجدتُ ولدي الكبير يبكي، ولم يكن له علم بما فعلتُ في أمه، فقلت له: ما يُبكِيك؟ فقال: إني أخذت تفاحةً من التفاح الذي عند أمي، ونزلتُ بها إلى الزقاق ألعب مع إخواني، وإذا بعبدٍ أسود طويل خطفها مني، وقال لي: من أين جاءتك هذه؟ فقلتُ له: هذه سافر أبي وجاء بها من البصرة من أجل أمي وهي ضعيفة، واشترى ثلاثَ تفاحات بثلاثة دنانير. فأخذها مني وضربني وراح بها، فخفت من أمي أن تضربني من شأن التفاحة.

فلما سمعتُ كلامَ الولد علمتُ أن العبد هو الذي افترى الكلام الكذب على بنت عمي، وتحقَّقْتُ أنها قُتِلَتْ ظلمًا، ثم إني بكيتُ بكاءً شديدًا، وإذا بهذا الشيخ وهو عمي والدها قد أقبَلَ، فأخبرته بما كان، فجلس بجانبي وبكى، ولم نزل نبكي إلى نصف الليل، وأقمنا العزاء خمسة أيام، ولم نزل إلى هذا اليوم ونحن نتأسَّف على قتلها، فبحرمة أجدادك أن تعجِّلَ بقتلي، وتقتصَّ لها مني. فلما سمع الخليفة كلام الشاب تعجَّبَ، وقال: واللهِ لا أقتل إلا العبدَ الخبيث. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤