فلما كانت الليلة ٦١

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن كسرى كتب لابنه وهو في جيشه: لا توسعنَّ على جيشك فيستغنوا عنك، ولا تضيِّق عليهم فيضجروا منك، وأعطِهم عطاءً مقتصدًا، وامنحهم مَنحًا جميلًا، ووسِّع عليهم في الرخاء، ولا تضيِّق عليهم في الشدة. ورُوِي أن أعرابيًّا جاء إلى المنصور وقال له: جوِّعْ كلْبَك يتبعك. فغضب المنصور من الأعرابي لما سمع منه هذا الكلام، فقال أبو العباس الطوسي: أخشى أن يلوِّح له غيرك برغيف فيتبعه ويتركك. فسكن غيظ المنصور، وعلم أنها كلمة لا تخطئ، وأمر للأعرابي بعطية.

واعلم أيها الملك أنه كتب عبد الملك بن مروان لأخيه عبد العزيز بن مروان حين وجهه إلى مصر: تفقَّدْ كتابَك وحجابَك، فإن الثابت يخبرك عنه كتابك، والتوسيم تعرفك به حجابك، والخارج من عندك يعرفك بجيشك. وكان عمر بن الخطاب إذا استخدم خادمًا شرط عليه أربعة شروط: ألا يركب البراذين، وألا يلبس الثياب النفيسة، وألا يأكل من الفيء، وألا يؤخر الصلاة عن وقتها. وقيل: لا مال أجود من العقل، ولا عقل كالتدبير والحزم، ولا حزم كالتقوى، ولا قربة كحُسْن الخلق، ولا ميزان كالأدب، ولا فائدة كالتوفيق، ولا تجارة كالعمل الصالح، ولا ربح كثواب الله، ولا ورع كالوقوف عند حدود السنة، ولا علم كالتفكُّر، ولا عبادة كالفرائض، ولا إيمان كالحياء، ولا حسب كالتواضع، ولا شرف كالعلم؛ فاحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، واذكر الموت والبلاء. وقال علي: اتقوا أشرارَ النساء، وكونوا منهن على حذر، ولا تشاوروهن في أمر، ولا تضيِّقوا عليهن في معروف؛ حتى لا يطمعن في المكر. وقال: مَن ترك الاقتصاد حار عقله. وقال عمر — رضي الله عنه: النساء ثلاثة؛ امرأة مسلمة تقية ودود ولود، تُعِين بعْلَها على الدهر، ولا تعين الدهْرَ على بعْلِها، وأخرى تُراد للولد لا تزيد على ذلك، وأخرى يجعلها الله غلًّا في عنق مَن يشاء. والرجال أيضًا ثلاثة: رجل عاقل إذا أقبل على رأيه، وآخَر أعقل منه؛ وهو مَن إذا نزل به أمر لا يعرف عاقبته، فيأتي ذوي الرأي فينزل عند آرائهم، وآخَر حائر لا يعلم رشدًا، ولا يطيع مرشدًا. والعدل لا بد منه في كل الأشياء، حتى إن الجواري يحتجن إلى العدل؛ وضربوا لذلك مثلًا في قطَّاع الطريق المقيمين على ظلم الناس، فإنهم لو لم يتناصفوا فيما بينهم، ويستعملوا الواجب فيما يقسمونه لاختلَّ نظامهم. وبالجملة: فسَيِّدُ مكارمِ الأخلاقِ الكرمُ وحُسْنُ الخلق. وما أحسن قول الشاعر:

بِبَذْلٍ وَحِلْمٍ سَادَ فِي قَوْمِهِ الْفَتَى
وَكَوْنُكَ إِيَّاهَ عَلَيْكَ يَسِيرُ

وقال الآخَر:

فَفِي الْحِلْمِ تَقْدِيسٌ وَفِي الْعَفْوِ هَيْبَةٌ
وَفِي الصِّدْقِ مَنْجَاةٌ لِمَنْ كَانَ صَادِقَا
وَمَنْ يَلْتَمِسْ حُسْنَ الثَّنَاءِ بِمَالِهِ
يَكُنْ بِالنَّدَى فِي حَلْبَةِ الْمَجْدِ سَابِقَا

ثم إن نزهة الزمان تكلَّمت في سياسة الملوك حتى قال الحاضرون: ما رأينا أحدًا تكلَّم في باب السياسة مثل هذه الجارية، فلعلها تُسمِعنا شيئًا من غير هذا الباب. فسمعت نزهة الزمان ما قالوه وفهمته، فقالت: وأما باب الأدب، فإنه واسع المجال؛ لأنه مجمع الكمال؛ فقد اتفق أن بني تميم وفدوا على معاوية ومعهم الأحنف بن قيس، فدخل حاجب معاوية عليه ليستأذنه لهم في الدخول، فقال: يا أمير المؤمنين، إن أهل العراق يريدون الدخول عليك ليتحدثوا معك، فاسمع حديثهم. فقال معاوية: انظروا مَنْ بالباب. فقالوا: بنو تميم. قال: ليدخلوا. فدخلوا ومعهم الأحنف بن قيس، فقال له معاوية: اقرب مني يا أبا بحر بحيث أسمع كلامك. ثم قال: يا أبا بحر، كيف رأيك لي؟ قال: يا أمير المؤمنين، افرق الشعر، وقص الشارب، وقلِّم الأظافر، وانتفِ الإبط، واحلق العانة، وأدم السواك؛ فإن فيه اثنتين وسبعين فضيلة، وغُسْلُ الجمعة كفَّارةٌ لما بين الجمعتين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤