فلما كانت الليلة ٩

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية الساحرة لما أخذت شيئًا من ماء البركة، وتكلَّمت عليه بكلام لا يُفهم، تحرَّك السمك ورفع رأسه، وصار آدميًّا في الحال، وانفكَّ السحر عن أهل المدينة، وصارت المدينة عامرة، والأسواق منصوبة، وصار كل واحد في صناعته، وانقلبت الجبال جزائر كما كانت، ثم إن الصبية الساحرة رجعت إلى الملك في الحال، وهي تظن أنه العبد، وقالت: يا حبيبي، ناولني يدك الكريمة أقبِّلها. فقال الملك بكلام خفي: تقربي مني. فدَنَتْ منه، وقد أخذ صارمه وطعنها به في صدرها، حتى خرج من ظهرها، ثم ضربها فشقَّها نصفين، وخرج فوجد الشاب المسحور واقفًا في انتظاره، فهنَّأه بالسلامة، وقبَّل الشابُّ يدَه وشكره، فقال له الملك: أتقعد في مدينتك أم تجيء معي إلى مدينتي؟ فقال الشاب: يا ملك الزمان، أتدري ما بينك وبين مدينتك؟ فقال الملك: يومان ونصف. فعند ذلك قال له الشاب: أيها الملك، إن كنتَ نائمًا فاستيقظ، إن بينك وبين مدينتك سنة للمُجِدِّ، وما أتيتَ في يومين ونصف إلا لأن المدينة كانت مسحورة، وأنا أيها الملك لا أفارقك لحظة عين. ففرح الملك بقوله، ثم قال: الحمد لله الذي مَنَّ عليَّ بك، فأنت ولدي؛ لأني طول عمري لم أُرزَق ولدًا. ثم تعانَقَا وفرحَا فرحًا شديدًا، ثم مشيا حتى وصلا إلى القصر، وأخبر الملك الذي كان مسحورًا أربابَ دولته أنه مسافر إلى الحج الشريف، فهيَّئُوا له جميعَ ما يحتاج إليه، ثم توجَّه هو والسلطان، وقلب السلطان ملتهب على مدينته، حيث غاب عنها سنة، ثم سافر ومعه خمسون مملوكًا، ومعه الهدايا.

ولم يزالَا مسافرين ليلًا ونهارًا سنة كاملة حتى أقبلَا على مدينة السلطان، فخرج الوزير والعساكر لمقابلته بعدما قطعوا الرجاء منه، وأقبلت العساكر وقبَّلت الأرضَ بين يديه، وهنَّئُوه بالسلامة، فدخل وجلس على الكرسي، ثم أقبل على الوزير وأعلمه بكل ما جرى على الشاب، فلما سمع الوزير ما جرى على الشاب هنَّأه بالسلامة، ولما استقر الحال أنعم السلطان على أناس كثيرين، ثم قال للوزير: عليَّ بالصياد الذي أتى بالسمك. فأرسل إلى ذلك الصياد الذي كان سببًا لخلاص أهل المدينة، فأحضره وخلع عليه، وسأله عن حاله، وهل له أولاد؟ فأخبره أن له ابنًا وبنتين، فتزوَّجَ الملك بإحدى بنتيه، وتزوَّجَ الشاب بالأخرى، وأخذ الملك الابنَ عنده، وجعله خازندارًا، ثم أرسل الوزير إلى مدينة الشاب التي هي الجزائر السود، وقلَّده سلطنتها، وأرسل معه الخمسين مملوكًا الذين جاءوا معه، وأرسل معه كثيرًا من الخلع لسائر الأمراء، فقبَّلَ الوزير يدَيْه، وخرج مسافرًا، واستقر السلطان والشاب؛ وأما الصياد فإنه قد صار أغنى أهل زمانه، وبناته زوجات الملوك إلى أن أتاهم الممات.

حكاية الحمَّال مع البنات

وما هذا بأعجب ممَّا جرى للحمَّال؛ فإنه كان إنسانًا من مدينة بغداد، وكان أعزب، وكان حمَّالًا، فبينما هو في السوق يومًا من الأيام متكئًا على قفصه، إذ وقفَتْ عليه امرأة ملتفَّة بإزار موصلي من حرير مزركش بالذهب، وحاشيتاه من قصب، فرفعت قناعها، فبان من تحته عيون سود بأهداب وأجفان، وهي ناعمة الأطراف، كاملة الأوصاف، وبعد ذلك قالت بحلاوة لفظها: هاتِ قفصك واتبعني. فما صدق الحمَّال بذلك، وأخذ القفص وتبعها إلى أن وقفت على باب دار، فطرقت الباب فنزل لها رجل نصراني، فأعطته دينارًا، وأخذت منه مقدارًا من الزيتون، ووضعته في القفص، وقالت له: احمله واتبعني. فقال الحمَّال: هذا واللهِ نهارٌ مبارك. ثم حمل القفص وتبعها، فوقفت على دكان فكهاني، واشترت منه تفاحًا شاميًّا، وسفرجلًا عثمانيًّا، وخوخًا عمانيًّا، وياسمينًا حلبيًّا، ونينوفرًا دمشقيًّا وخيارًا نيليًّا، وليمونًا مصريًّا، وأترجًّا سلطانيًّا، ومرسينًا ريحانيًّا، وتمر حنا، وأقحوانًا، وشقائق النعمان، وبنفسجًا، وجلنارًا، ونسرينًا، ووضعت الجميع في قفص الحمَّال، وقالت له: احمل. فحمل وتبعها حتى وقفت على جزار، وقالت له: اقطع عشرة أرطال لحمًا. فقطع لها، ولفَّت اللحم في ورق موز، ووضعته في القفص، وقالت له: احمل يا حمَّال. فحمل وتبعها، ثم وقفت على النقلي، وأخذت من سائر النقل، وقالت للحمَّال: احمل واتبعني. فحمل القفص وتبعها إلى أن وقفت على دكان الحلواني، واشترت طبقًا، وملأته من جميع ما عنده من مشبك، وقطائف بالمسك محشية، وصابونية، وأقراص ليمونية، وميمونية، وأمشاط، وأصابع، ولقيمات القاضي، ووضعت جميع أنواع الحلاوة في الطبق، ووضعته في القفص، فقال الحمال: لو أعلمتِني لجئتُ معي ببغل نحمل عليه هذه الأمور. فتبسَّمَتْ ثم وقفت على العطَّار، واشترت منه عشرة مياه من ماء ورد، وماء زهر، وماء خلاف، وغير ذلك، وأخذت قدرًا من السكر، وأخذت مرش ماء ورد ممسك، وحصى لبان ذكر، وعودًا وعنبرًا ومسكًا، وأخذت شمعًا إسكندرانيًّا، وضعت الجميع في القفص، وقالت: احمل قفصك واتبعني.

فحمل القفص وتبعها به إلى أن أتت دارًا مليحة، وقدامها رحبة فسيحة، وهي عالية البنيان، مشيدة الأركان، بابها بشقتين من الأبنوس، مصفَّح بصفائح الذهب الأحمر، فوقفت الصبية على الباب ودقَّتْ دقًّا لطيفًا، وإذا بالباب انفتح بشقتيه، فنظر الحمَّال إلى مَن فتح لها الباب، فوجدها صبية رشيقة القد، قاعدة النهد، ذات حسن وجمال، وقَدٍّ واعتدال، وجبين كغرة الهلال، وعيون كعيون الغزلان، وحواجب كهلال رمضان، وخدود مثل شقائق النعمان، وفم كخاتم سليمان، ووجه كالبدر في الإشراق، ونهدَيْن كرمانيتين باتفاق، وبطن مطوي تحت الثياب كطيِّ السجل للكتاب؛ فلما نظر الحمال إليها سلبت عقله، وكاد القفص أن يقع من فوق رأسه، ثم قال: ما رأيت عمري أبرك من هذا النهار. فقالت الصبية البوابة للدلالة والحمَّال: مرحبًا. وهي من داخل الباب، ومشوا حتى انتهوا إلى قاعة فسيحة مزركشة مليحة، ذات تراكيب وشازروانات ومصاطب، وسدلات وخزائن عليها الستور مرخيَّات، وفي وسط القاعة سرير من المرمر مرصَّع بالدر والجوهر، منصوب عليه ناموسية من الأطلس الأحمر، ومن داخله صبية بعيون بابلية، وقامة ألفية، ووجه يُخجِل الشمسَ المضيَّة، فكأنها بعض الكواكب الدرية، أو عقيلة عربية، كما قال فيها الشاعر:

مَنْ قَاسَ قَدَّكَ بِالْغُصْنِ الرَّطِيبِ فَقَدْ
أَضْحَى الْقِيَاسُ بِهِ زُورًا وَبُهْتَانَا
الْغُصْنُ أَحْسَنُ مَا نَلْقَاهُ مُكْتَسِيًا
وَأَنْتَ أَحْسَنُ مَا نَلْقَاكَ عُرْيَانَا

فنهضت الصبية الثالثة من فوق السرير، وخطرت قليلًا إلى أن صارت في وسط القاعة عند أختَيْها، وقالت: ما وقوفكم؟ حطوا عن رأس هذا الحمال المسكين. فجاءت الدلالة من قدامه، والبوابة من خلفه، وساعدتهما الثالثة، وحططن عن الحمَّال، وفرَّغن ما في القفص، وصفوا كل شيء في محله، وأعطين الحمَّال دينارين، وقلن له: توجَّهْ يا حمَّال. فنظر إلى البنات، وما هن فيه من الحسن والطبائع الحسان، فلم يَرَ أحسن منهن، ولكن ليس عندهن رجال، ونظر ما عندهن من الشراب والفواكه والمشمومات، وغير ذلك؛ فتعجب غاية العجب، ووقف عن الخروج، فقالت له الصبية: ما لك لا تروح؟! هل أنت استقلَلْتَ الأجرة؟ والتفتت إلى أختها وقالت لها: أعطيه دينارًا آخر. فقال الحمال: والله يا سيداتي إن أجرتي نصفان، وما استقلَلْتُ الأجرة، وإنما اشتغل قلبي وسري بكن، وكيف حالكن وأنتن وحدكن، وما عندكن رجال، ولا أحد يؤانسكن؟ وأنتن تعرفن أن المنارة لا تثبت إلا على أربعة، وليس لكنَّ رابع، وما يكمل حظ النساء إلا بالرجال كما قال الشاعر:

انْظُرْ إِلَى أَرْبَعٍ عِنْدِي قَدِ اجْتَمَعَتْ
جُنْكٌ وَعُودٌ وَقَانُونٌ وَمِزْمَارُ
figure
ولا زِلْنَ والحمَّال بينهن في رقصٍ وغناءٍ، وبسطٍ وانشراحٍ.

أنتن ثلاثة فتفتقرن إلى رابع يكون رجلًا لبيبًا حاذقًا وللأسرار كاتمًا، فقلن له: نحن بنات، ونخاف أن نودع السِّرَّ عند مَن لا يحفظه، وقد قرأنا في الأخبار شعرًا:

صُنْ عَنْ سِوَاكَ السِّرَّ لَا تُودِعْهُ
مَنْ أَوْدَعَ السِّرَّ فَقَدْ ضَيَّعَهُ

فلما سمع الحمال كلامهن قال: وحياتكن إني رجل عاقل أمين، قرأت الكتب، وطالعت التواريخ، أُظهِر الجميلَ، وأُخفِي القبيح، وأعمل بقول الشاعر:

لَا يَكْتُمُ السِّرَّ إِلَّا كُلُّ ذِي ثِقَةٍ
وَالسِّرُّ عِنْدَ خِيَارِ النَّاسِ مَكْتُومُ
السِّرُّ عِنْدِيَ فِي بَيْتٍ لَهُ عَلَقٌ
ضَاعَتْ مَفَاتِحُهُ وَالْبَابُ مَخْتُومُ

فلما سمعت البنات الشعرَ وما أبداه من الكلام، قلن له: أنت تعلم أننا غرمنا على هذا المقام جملة من المال، فهل معك شيء تجازينا به؟ فنحن لا ندعك تجلس عندنا حتى تغرم مبلغنا من المال؛ لأن خاطرك أن تجلس عندنا، وتصير نديمنا، وتطلع على وجوهنا الصِّباح الملاح. فقالت صاحبة الدار: إذا كانت بغير المال محبة فلا تساوي وزن حبة. وقالت البوابة: إن لم يكن معك شيء رُحْ بلا شيء. فقالت الدلالة: يا أختي، نكفُّ عنه، فواللهِ ما قصَّرَ اليومَ معنا، ولو كان غيره ما طوَّل روحه علينا، ومهما جاء عليه أغرمه عنه. ففرح الحمَّال، وقال: والله ما استفتحت بالدراهم إلا منكِ. فقلن له: اجلس على الرأس والعين. وقامت الدلالة وشدَّتْ وسطها، وصفت القناني، وروقت المدام، وعملت الحضرة على جانب البحر، وأحضرت ما يحتاجون إليه، ثم قدمت المُدام، وجلست هي وأختها، وجلس الحمال بينهن، وهو يظن أنه في المنام؛ ثم قدمت باطية المدام، وملأت أول قدح وشربته والثاني والثالث، ثم ملأت وناولت أختها الأخرى، ثم ملأت وناولت الحمَّال، فأخذ الحمَّال منها الكأس وأنشد هذا الشعر:

اشْرَبِ الرَّاحَ فَائِزًا بِالْعَوَافِي
إِنَّ هَذَا الشَّرَابَ لِلدَّاءِ شَافِ

وقال أيضًا هذا البيت:

لَا يَشْرَبُ الرَّاحَ إِلَّا مَنْ بِهِ طَرَبٌ
يَكُونُ بِالسُّكْرِ فِي أَفْرَاحِهِ رَاقِي

وبعد هذا الشعر قبَّل أيديهن وشرب معهن، ثم نزل عند صاحبة المحل وقال: يا سيدتي، أنا عبدك ومملوكك وخَدَّامك، وأنشد يقول:

عَلَى الْبَابِ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِكِ وَاقِفٌ
بِجُودِكِ وَالْإِحْسَانِ وَالشُّكْرِ عَارِفُ

فقالت: اشرب هنيئًا وعافية في مجاري الصحة. فأخذ الكأس وقبَّلَ يدها وترنَّمَ بقول الشاعر:

نَاوَلْتُهَا شِبْهَ خَدَّيْهَا مُشَعْشَعَةً
حَمْرَاءَ يَحْكِي سَنَاهَا ضَوْءَ مِقْبَاسِ
فَقَبَّلْتُهَا وَقَالَتْ وَهْيَ ضَاحِكَةٌ:
فَكَيْفَ تَسْقِي خُدُودَ النَّاسِ لِلنَّاسِ؟
قُلْتُ: اشْرَبِي فَهْيَ مِنْ دَمْعِي وَحُمْرَتُهَا
دَمِي وَمَازَجَهَا فِي الْكَأْسِ أَنْفَاسِي

فأخذت الصبية القدح وشربته ونزلت عند أختها، ولا زلن والحمَّال بينهن في رقص وغناء ومشمومات، ولم يزل الحمال معهن في عناق وتقبيل، وهذه تكلمه وهذه تجذبه، وهذه بالمشموم تضربه، وهو معهنَّ حتى لعبت الخمرة بعقولهم، فلما تحكَّمَ الشرابُ معهم قامت البوابة، وتجرَّدت من ثيابها وصارت عريانة، ثم رمت نفسها في تلك البحيرة، ولعبت في الماء، وأخذت الماء في فمها وبخت الحمَّال، ثم غسلت أعضاءها وما بين فخذيها، ثم طلعت من الماء ورمت نفسها في حجر الحمَّال، وقالت له: يا حبيبي، ما اسم هذا؟ وأشارت إلى فرجها، فقال الحمَّال: رحمك الله. فقالت: يوه يوه، أما تستحي! ومسكته من رقبته، وصارت تصكه، فقال: فرجك. فقالت: غيره. فقال: كسك. فقالت: غيره. فقال: زنبورك. فلم تزل تصكه حتى ذاب قفاه ورقبته من الصك، ثم قال لها: وما اسمه؟ فقالت له: حبق الجسور. فقال الحمال: الحمد لله على السلامة يا حبق الجسور.

ثم إنهم أداروا الكأس والطاس، فقامت الثانية وخلعت ثيابها، ورمت نفسها في تلك البحيرة، وعملت مثل الأولى، وطلعت ورمت نفسها في حجر الحمَّال، وأشارت إلى فرجها وقالت: يا نور عيني، ما اسم هذا؟ قال: فرجك. قالت: أَمَا يقبح عليك هذا الكلام! وصكته كفًّا طَنَّ له سائر ما في القاعة، فقال: حبق الجسور. فقالت: لا. والضرب والصك على قفاه، فقال لها: وما اسمه؟ فقالت له: السمسم المقشور.

ثم قامت الثالثة وخلعت ثيابها، ونزلت تلك البحيرة، وفعلت مثل مَن قبلها، ثم لبست ثيابها، وألقت نفسها في حجر الحمَّال، وقالت له أيضًا: ما اسم هذا؟ وأشارت الى فرجها، فصار يقول لها كذا وكذا، إلى أن قال لها وهي تضربه: وما اسمه؟ فقالت: خان أبي منصور. فقال: الحمد لله على السلامة يا خان أبي منصور.

ثم بعد ساعة قام الحمَّال ونزع ثيابه ونزل في البحيرة، وذكره يسبح في الماء، وغسل مثل ما غسلن، ثم طلع ورمى نفسه في حجر سيدتهن، ورمى ذراعَيْه في حجر البوابة، ورمى رجلَيْه في حجر الدلَّالة، ثم أشار إلى أيره، وقال: يا سيدتي، ما اسم هذا؟ فضحك الكل على كلامه حتى انقلبن على ظهورهن، وقلن: زبك. قال: لا. وأخذ من كل واحدة عضة، قلن: أيرك. قال: لا. وأخذ من كل واحدة حضنًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤