الفصل الخامس عشر

خاتمة: السبيل نحو سويسرا

لقد بدأنا هذا الكتاب بثلاثة أسئلة: لماذا استطاعت سويسرا تحقيق هذا المستوى من النجاح؟ وهل هذا النجاح قابل للاستمرار؟ وماذا يُمكن أن يتعلَّم الآخرون من التجربة السويسرية؟ وخلصنا إلى الاعتقاد أنه ليس هناك تفهُّم واضح ومتعمِّق لمقوِّمات سويسرا في الخارج، فالعديد من الأشخاص تعرَّفوا على هذا البلد من خلال مشاركتهم في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس مثلًا، أو أثناء قضاء بضعة أيام من العطلة في الجبال، إلا أن هذه الزيارات غير المخصَّصة للدراسة لا يُمكن أن تُتيح التوصل إلى تفهُّم عميق للبلد، بل ربما تؤدِّي إلى فهم خاطئ، أو في أحسن الأحوال إلى فهم سطحي.

***

إليكم فيما يلي تذكيرًا سريعًا بالإنجازات التي حقَّقَتْها سويسرا: ليس هناك بلدٌ آخَر بحجم سويسرا قد حقَّقَ ما حقَّقته من مستوًى عالٍ للدخل المتوافر للإنفاق مع المحافظة على التوازن في توزيع المكافآت بشكلٍ عادل نسبيًّا؛ ولا بلدٌ آخَر بحجم سويسرا — أو بما يقاربه — يحتلُّ قدرًا مماثلًا من المراكز القيادية في العديد من الصناعات؛ ولا بلدٌ متقدِّمٌ آخَر استطاع تجنُّبَ إثقالِ كاهل الأجيال القادمة بالديون الكبيرة بإيهام الشعب أنه قادرٌ بمفرده على مُواجَهةِ تكاليف معاشات التقاعد والرعاية الصحية بقدرِ ما نجحت سويسرا في ذلك؛ ولا بلدٌ آخَر يُدرك أفرادُ شعبه — بلا أدنى شك — أن أصواتهم مسموعة ولها ثِقَلها. وفي وقتٍ تراجعَتْ فيه أهميةُ الرأي العام إلى أدنى المستويات بين السياسيين وهيئات القطاع العام في معظم الديمقراطيات الغربية، تظهر فعاليةُ النظام السويسري في الحكم كمؤشِّر قوي لنجاح سياساتها.

ويُبرِز تاريخ نشوء وتطوُّر الصناعات والشركات في هذا الكتاب مجموعةً متنوعة وواسعة من الأسس التي قامت عليها المعجزة الاقتصادية السويسرية، فمنذ بداية الثورة الصناعية، لعبت الشركات السويسرية ورجال الأعمال أدوارًا ريادية، وقدَّمت مساهمات حيوية لتطوير العديد من القطاعات الصناعية، ومنها قطاع صناعة آلات النسيج الكهربائية والميكانيكية. وبسبب صِغَر حجم السوق المحلية، كانت الشركات السويسرية رائدةً في تطوير أسواق تصدير في جميع أنحاء العالم، هذا وقد لعب السويسريون دورًا بارزًا أيضًا خلال القرن العشرين في قطاع الصيدلة باختراعِ مجموعةٍ كبيرة من الأدوية القيِّمة، منها ما هو لتهدئة الأعصاب (الفاليوم)، وتحسين التغذية (فيتامين سي)، وتأمين عمليات زراعة الأعضاء (السيكلوسبورين)، وتقليل مخاطر التعرُّض للسكتة القلبية (ديوفان)، وحتى علاج أنواع معيَّنة من مرض السرطان (جليفيك)، وجميع هذه الأدوية كان لها تأثيرٌ عميق على الصحة في جميع أنحاء العالم. كما كانت الشركاتُ السويسرية — ولا تزال — رائدةً في مجال الخدمات اللوجستية، سواء كان ذلك على مستوى نقل البضائع بالسكك الحديدية أو بواسطة الشحن البحري أو الجوي، كما ثابَرَ السويسريون في تحدِّي ظروفٍ جغرافيةٍ قاسية من خلال حفر الأنفاق الطويلة وإقامة السدود الضخمة وحتى تشييد جسر جورج واشنطن، كما أن الشركات المُقِيمة في سويسرا تتمتع بحصةٍ مهيمنة في قطاع تجارة السلع الأساسية على الصعيد الدولي، ومنها النفط الخام (٣٥ في المائة)، والسكر (٥٠ في المائة)، والنحاس (٥٠ في المائة)، والزنك (٦٠ في المائة)، والحبوب (٣٥ في المائة). وهناك احتمالٌ كبير بأن تكون آلة تعزيز السمع التي ترتديها، أو الورك الذي قمتَ باستبداله، أو المصعد الذي تستقِلُّه للوصول إلى مكتبك، قد صُمِّم أو صُنِع في سويسرا.

وفي مجالٍ مختلف تمامًا، اخترع السويسريون الألعابَ الرياضية الشتوية، وحوَّلوها إلى مجالِ عملٍ تجاري؛ إذ تقول الأسطورة إن يوهانس بادروت راهَنَ خلالَ فصل الصيف مع عددٍ من زبائنه البريطانيِّين الأكثر ولعًا بالمغامرة، أنهم إذا عادوا في فصل الشتاء لمدة أسبوعين إلى نُزُل كولم الذي يُدِيره في سانت موريتز فسيكون بإمكانهم ارتداء القمصان ذات الأكمام القصيرة ولو ليومٍ واحد، وإذا لم يكن لهم ذلك، فهو يتعهَّد بأن يسدِّد لهم نفقات سفرهم، وأن يُقِيموا في نُزُله دون مقابل. لم يكن الحظ حليفَ يوهانس إذ تساقَطَ الثلج بلا انقطاع، وفي أحد الأيام قرَّرَ الزبائن أن يتسلَّوا قليلًا بالتزحلُق إلى أسفل منحدر سيليرينا على صواني الشاي الفضية، راسمين بذلك مسارَ التزحلُق الذي ما زال مُستخدَمًا حتى اليوم لرياضة «كريستا رَن»، بعد ذلك ظهَرَ سيزار ريتز الذي صدَّرَ البراعةَ والخبرة السويسرية في إدارة الفنادق، ووضَعَ معاييرَ الفخامة المعترَف بها في جميع أنحاء العالم، لكن الشيء الوحيد الذي لم يخترعه السويسريون هو ساعة الوقواق (التي في الواقع صنَعَها الألمان).

figure

هناك ميزة رئيسية كامنة وراء نجاحات الشركات السويسرية، ألا وهي موهبة التجديد والابتكار، ويُفيد تقريرٌ أعَدَّه معهد إي إم دي حول القدرة التنافُسية على المستوى العالمي، أن سويسرا تتميَّز بأكبر عدد من براءات الاختراع المسجَّلة بالنسبة إلى عدد سكَّانها، وأنها قد فازت بعدد من جوائز نوبل — بالنسبة إلى عدد سكانها — يفوق أيَّ بلدٍ آخَر في العالم، كما أن النسبة التي تُنفَق على البحوث والتطوير من عائدات الشركات تفوق ما هي عليه في معظم الاقتصادات المنافِسة، وتحتلُّ سويسرا المركزَ السادس بين البلدان التي تُنفِق نسبةً عالية من ناتجها المحلي الإجمالي على أعمال البحث والتطوير.

ولعل هذه النزعة القوية لدعم الابتكار قد ساعدت العديد من الشركات السويسرية في الحفاظ على قدرتها التنافسية العالمية في مواجهة المنافسة القائمة على أساس الأسعار المتدنية، ودفعتها نحو التركيز على المنتجات ذات القيمة المُضافة العالية؛ حيث لا تكون تكاليفُ اليد العاملة ذاتَ أهميةٍ حاسمة، وفي العديد من الحالات، ثبت أن الاستثمارَ الطويلَ الأمد في العلامات التجارية هو قرارٌ حكيم، فشركةُ نستله لديها أكثر من ٢٥ علامة تجارية تحقِّق كلٌّ منها مبيعاتٍ تفوق المليارَ دولار أمريكي، كما أن ساعات العلامة التجارية رولكس تتميز بجودةٍ لا تُضاهيها أيُّ علامة أخرى.

لقد استفادَت الشركات السويسرية من بيئة سياسية مؤاتية ومُستقرة على مدى فترة طويلة من الزمن، فأيُّ بلدٍ تتعايش فيه ٤ مجموعات عِرْقية ومزيجٌ من الخلفيات الدينية المتعدِّدة، ليس من المقدَّر له أن يكون بهذا المستوى من الاستقرار، وأيُّ بلدٍ تُطوِّقه قوًى طموحةٌ من جميع الجهات ليس من السهل أن يَبقى في منأًى عن الصراعات.١ إلا أن سويسرا استطاعت تحقيق الاثنين معًا؛ مما عاد على قطاعها الصناعي بفوائد جمة.

ومهما تكن الأهمية النسبية لكل واحد من هذه العناصر الفردية في هذا المزيج من الاستراتيجيات والعوامل البيئية، فإن أداء سويسرا قد تفوَّق — بشكل عام — على أداء نظرائها من البلدان الأخرى. ومثالًا على ذلك، فإن الاستثمار في محفظة مكوَّنة من شركات سويسرية في عام ١٩٩٠ كان من شأنه أن يُحوِّل مبلغ مليون فرنك سويسري إلى ٦٫٣٤ ملايين فرنك الآن؛ أيْ ما يُعادل تقريبًا ضِعْف العائد على استثمار المبلغ نفسه في محفظةٍ تضمُّ عددًا مماثلًا من الشركات غير السويسرية. هذا مع العلم أن مثل هذا التفوق كان من الممكن تحقيقه في ظلِّ مستوى مجازَفةٍ أدنى بنسبة ٥٠ في المائة (مُقاسًا بناءً على تأثيرِ نسبةِ المُضاعَفة بين حجم الدَّيْن وقيمة الأسهم في ميزانيات الشركات).

ولعلَّ أكبر إنجاز تُحْسَد عليه البلاد يكمن في إدارة فوائد ازدهارها وإصرارها على توزيعها على أفراد المجتمع بقدرٍ أعلى من العدالة والمساواة مُقارَنةً بالعديد من البلدان الصناعية الأخرى. فظهورُ طبقة وسطى قوية في مجتمعٍ ما هو الهدفُ الأسمى لأي اقتصادٍ حر يعمل بشكل جيد، لكنَّ هناك شعورًا بأن أهمية هذا الهدف تتراجع في العديد من البلدان؛ حيث تسود اليومَ عقليةُ «البقاء للأقوى»، وهذه العقلية تهدِّد بتقويض المجتمعات الديمقراطية.

إن سجل النجاحات الفردية والمؤسساتية هو الذي يضع سويسرا في طليعة الاقتصادات التنافسية في العالم (بحسب تقدير المنتدى الاقتصادي العالمي لعام ٢٠١٠-٢٠١١)، هذا مع الاستمرار في الحفاظ على أعلى تصنيف عالمي للجودة الشاملة لنوعية الحياة (بحسب تصنيفات مركز ميرسر لعام ٢٠١٠، انظر الجدول التالي).

هل يُمكن لقصة النجاح هذه أن تستمر؟

ليس هناك نمطُ سلوكٍ أو نموذج يُمكِن أن يبقى على حاله دون تغييرٍ إلى ما لا نهاية، فالتراجُع أو التقهقر يحدث عندما تفشل النُّظُم البشرية في التكيُّف مع الظروف والأحوال المتغيِّرة، غير أن هذا التراجُع والاضمحلال ليس بالضرورة عاملًا سيئًا؛ إذ لا بد لما هو قديم أن يُفسح المجالَ أمام الجديد، والسويسري يتميَّز بعزيمة المثابرة من أجل البقاء، ولربما تكون تلك السمة موروثةً بسبب الطبيعة الجبلية المعزولة التي نشأ فيها المجتمع السويسري. كما أن البلدان الصغيرة هي — بأيِّ حال من الأحوال — أكثر تعرُّضًا للمؤثِّرات من البلدان الكبيرة، وربما يكون ذلك سببًا لاتسام العقلية السويسرية ببعض عوامل النزعة إلى الشك والارتياب، وكما قال ستيف جوبز في إحدى المناسبات: «المصابون بجنون الاضطهاد هم أكثر الناس قدرةً على النجاة.» وهذا ما قد يُساعد على تفسير قدرة السويسريِّين على تحويل الفشل إلى نجاح (ولعل أفضل شاهِد على ذلك يتمثَّل في النهضة الاستثنائية التي شهدها قطاعُ صناعة الساعات السويسري والطفرة التي تلتها)، والسماح للشركات المتعثِّرة أن تُحَلَّ بطريقةٍ ملائمة (مثل شركة الطيران السويسرية) بدلًا من تركها تتخبَّط في مشكلاتها دون جدوى. أمَّا بالنسبة إلى قطاع صناعة النسيج السويسري، فقد تقلَّصَ وأصبح لا يتعدى جزءًا صغيرًا مما كان عليه سابقًا بسبب المنافسة من طرف مُنتِجِي السلع المُماثِلة المُنخفِضة التكلفة في الاقتصادات الناشئة، ولعلَّ الاستثناءات الهامة الوحيدة هي تلك الشركات التي نجَحَت في تغيير نشاطاتها والتحول إلى نشاطات ذات صلة مثل مجموعة ريتر للنسيج التي طوَّرت مشروعًا جديدًا في مجال التجهيزات الداخلية للسيارات، أو المجموعة الصغيرة من شركات الأنسجة التي ركَّزت نشاطاتها على صناعة الأزياء المتميِّزة مثل: فورستر وروهنر وجاكوب شليبفر، وقد تقبَّل السويسريون هذا التراجع في الأعمال دون تذمُّر، في حين لجأت بعض الدول الصناعية القوية — في كثير من الأحيان — إلى إنكار الواقع وصرفِ النظر عن تطوُّرات الأحداث، ودعمت صناعات كان من الأحرى بها أن تتركَها تَندثِر وتزول.

التصنيفات الدولية لسويسرا.*
المنتدى الاقتصادي العالمي آي إم دي مركز ميرسر
١ سويسرا سنغافورة فيينا
٢ السويد هونج كونج زيورخ
٣ سنغافورة الولايات المتحدة جنيف
٤ الولايات المتحدة سويسرا فانكوفر، أوكلاند
٥ ألمانيا أستراليا
٦ اليابان السويد دوسلدورف
٧ فنلندا كندا فرانكفورت، ميونيخ
٨ هولندا تايوان
٩ الدنمارك النرويج بيرن
١٠ كندا ماليزيا سيدني
المصادر: تقرير «سويسرا الخلَّاقة» للمنتدى الاقتصادي العالمي، تقرير التنافسية العالمي لعام ٢٠١٠-٢٠١١، معهد آي إم دي: الكتاب السنوي للتنافُسية العالمية لعام ٢٠١٠، تصنيفات مركز ميرسر بخصوص جودة نوعية الحياة لعام ٢٠١٠.

يُعَدُّ تدني مستوى تدخُّل الحكومة أمرًا مفيدًا فيما يتعلق بتأسيس الشركات، وكذلك في تركها عرضةً للانهيار والزوال، فهل كان باستطاعة قسم التخطيط في الحكومة التنبؤ بأن ساعةً مصنوعة من البلاستيك (سواتش)؟ بإمكانها إنقاذ قطاع صناعة الساعات السويسري برمته، أو أن القهوة المُعبَّأة في كبسولات من الألومنيوم (نِسبرسو) ستلقى نجاحًا عالميًّا؟

لقد تعلَّمَ السويسريون أيضًا أن النجاح غالبًا ما يسبقه الفشل، فكان ليو شتيرنباخ — مثله مثل معظم العلماء — قد أمضى جزءًا هامًّا من حياته يُثبِت لنفسه أنه على خطأ حتى اكتشَفَ مصادفةً الفاليوم الذي أصبح الدواءَ الأكثرَ مبيعًا في العالم طوالَ أكثر من عقد من الزمن، وفريق التطوير في شركة نستله أمضى قرابةَ عقدٍ من الزمن في محاوَلةِ إقناعِ مديرها التنفيذي بجدوى مُنتَج نِسبرسو الذي يُحقِّق الآن أرباحًا تبلغ ٣ مليارات فرنك سويسري، ويتمتَّع بأعلى هامش ربح من بين مُنتَجات شركة نستله البالغ عددها ٤ آلاف مُنتَج. كانت نتائج اختبار السوق في أوساكا وسان أنطونيو غير مشجِّعة إطلاقًا لشركة سواتش، إلى أن نجح مدير المخازن الكُبرى «بلومينجديل» في نيويورك في إقناع الرئيس التنفيذي لشركة سواتش أن ساعة المعصم يجب أن تُباع على أساس أنها من متمِّمات «إكسسوار» الموضة، والإقلاع عن عَدِّها أداةً لقياس الوقت بالدرجة الأولى.٢
لا شكَّ أن كل جيل يواجه أزمات خاصة به، واليومَ يواجه ما لا يقلُّ عن قطاعين من الصناعات السويسرية الحيوية تهديدًا جديًّا في بقائه، وذلك بسبب التغيُّرات التي تشهدها البيئةُ العالمية اليومَ، ومن بينها قطاعُ إدارة الثروات الذي لا يزال القطاعُ السويسري الأكثرَ مساهَمةً في توفير فرص العمل ومداخيل الضرائب، إلا أنه قطاع كان يعتمد على هوامش ربح عالية أمكن الحصول عليها من عملاء متساهلين نسبيًّا عندما كانت العوائد الاستثمارية عالية، وكان من الجائز تَقاضي رسوم مقابلَ جوِّ التكتم والسرية التقليدي الذي كانت تتمتَّع به سويسرا. غير أن مقومات هذا السلوك بدأت تتداعى بسرعة، ومن الصعب أن نتصوَّر كيف يمكن لقطاع إدارة الثروات أن يستمر في الازدهار بمستوياته الحالية في مُواجَهة العملاء الأكثر حرصًا على الطريقة التي تُدار بها ثرواتهم، والعوائد الأكثر تدنيًا، والضغوطات المتزايدة التي تُمارسها الحكومات الأجنبية بخصوص التهرُّب الضريبي من قِبَل مواطنيها الذين يتعاملون مع المصارف السويسرية. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن قطاع إدارة الثروات السويسري يترنَّح على شفير الهاوية، وقد أشار براد هنتز — رئيس قسم الأبحاث المصرفية في معهد ستانفور سي برينشتاين — إلى هذا الشأن بقوله: «ستكون هناك دائمًا حاجةٌ إلى مركز مصارف آمِن ومستقِر، ولا يَخفى على أحدٍ أن سويسرا هي المكان الأفضل لذلك.» وعلاوةً على ذلك، فإن الثروات الخاصة في العالم ما زالت تنمو بشكل متواصِل، وهي بحاجةٍ إلى إيجاد مكان يأويها، ولكنَّ كُلًّا من مصادر الأموال والأرباح التي تحقِّقها تشهد تغيُّرًا متسارعًا؛ ومن ثَمَّ على هذا القطاع إعادةُ تنظيمِ أسلوبِ عمله لكي يستطيع مجابَهةَ هذه الظروف المختلفة جذريًّا والتعامل معها.٣

إن قطاع الصيدلة الذي يُعَدُّ أحدَ المقومات الهامة للازدهار السويسري يواجه بدوره أيضًا نفس التحديات المذكورة. لقد كان السويسريون دائمًا على استعدادٍ للاستثمار في مجالات البحوث أكثرَ من غيرهم من المنافسين في العالم، وفي الواقع كان كرم شركة روش في مجال تمويل البحوث غير مسبوق ولا مثيلَ له، غير أن قطاع الصيدلة برمته يشكو من انخفاض الإنتاجية في مجالات البحوث من ناحية، ومن تصاعد تكلفة الاكتشافات من الناحية الأخرى؛ مما يُؤدِّي من ثَمَّ إلى تقلُّص الفائدة والعائد من أعمال التطوير والابتكار، وفي نفس الوقت تواجِهُ برامجُ الصحة المموَّلة من طرف القطاع العام في جميع أنحاء العالم صعوباتٍ في تسديدِ أثمانِ الأدوية، في حين أن مُصنِّعي الأدوية المكافئة يكسبون حصةً مُتزايِدة وغير مسبوقة في السوق نظرًا إلى أن فترة حماية براءات الاختراع الرئيسية قد انتهت. ولا شك بأن الشركات السويسرية تُدرِك هذه التطورات وتتجاوَب معها، فشركة نوفارتِس — على سبيل المثال — هي اليومَ ثاني أكبرِ شركةٍ في العالم لتصنيع الأدوية المكافِئة، وشركتا روش ونوفارتِس قد سبقتا الشركات المنافسة الأخرى خلال المراحل الأولى من التحول، وكما هو الحال بالنسبة إلى قطاع إدارة الثروات، لا بد لقطاع صناعة الأدوية أن يتكيَّف مع المتغيِّرات لمُلاءَمةِ عصرٍ يشهد تراجعًا في النمو والربحية.

لقد بيَّنَ هذا الكتاب أن سويسرا قد واجهَتْ في السابق تحديات مماثلة ونجحت في تخطيها، وأثبتت قدرتها على التكيُّف بشكلٍ جيد مع الظروف المتغيرة. وفي عالم الأعمال التجارية الحديثة، ليس هناك قصة يُمكن أن تجسِّد ما سبق ذكره بوضوحٍ أفضل من قصةِ انتعاشِ قطاعِ صناعةِ الساعات السويسري خلال التسعينيات. كان لبُّ الموضوع يقوم على فكرةٍ ثورية، أَلَا وهي أن تلك الساعات الزهيدة الثمن يُمكن أن تصبح إكسسوارًا موسميًّا في عالم الموضة، مما يُتيح رفع أسعار بيعها إلى حدٍّ ما، بالرغم من أن تكنولوجيا الكوارتز الجديدة كانت تُساهم في تحقيقِ انخفاضٍ حادٍّ في تكاليف صناعة الساعات. ولكن هذه الفكرة لم تكن وليدة ساعتَها، ولا هي نشأت من مخيِّلة شخص عبقري واحد، بل كانت فكرة أُثِيرت وأُخِذت بعين الاعتبار ونُوقِشت، ثم صُمِّمت وسُوِّقت من طرف العديد من الأشخاص، ومنهم ماكس إيمجروث مدير شركة أوميجا السابق، ومارفين تراوب المدير التنفيذي المتقاعِد، ومديرا مجموعة سواتش نيكولا حايك وإرنست تومكيه. ربما كانت الفكرة بسيطة، إلا أن الجهود التي بُذِلت لتنظيم العمل وإيجاد التمويل اللازم لتحقيقها بشكلٍ مُثمر، كانت جهودًا استثنائية، وكان لا بد من اعتماد تكنولوجيات تصنيع جديدة، كما توجَّبَ الاستثمار في أساليب جديدة للتسويق، والأهم من ذلك أنه كان على البنوك ورجال الصناعة والهيئات الحكومية أن تقتنع بضرورة الموافَقة على عمليةِ إعادةِ هيكلةٍ محفوفة بقدرٍ عالٍ من المخاطر، ثم — في أوقات فراغهم — عملَ هؤلاء المسئولون على تعزيز ومواصلة صنع الساعات الميكانيكية الفاخرة والترويج لها بين صفوف الأثرياء ومُحِبِّي البذخ.

إن إعادة إحياء قطاع الساعات الميكانيكية وساعات سواتش على حدِّ سواء كان نتيجة لحسن البصيرة والتفهم التام لأوضاع السوق. ربما كانت التكنولوجيا في البداية أمرًا ثانويًّا، إلا أنه حتى اليوم لم يستطِع أحد تقليد ساعات سواتش، ولا يعود ذلك إلى أسلوب التسويق الذي تنتهجه هذه العلامة، بل لأن هندسة نظام صبِّ البلاستيك وحقنه في قالبٍ هي طريقة معقدة جِدًّا وتكلفتها باهظة بشكلٍ يحدُّ من القدرة على تقليدها.

هناك أيضًا شركات سويسرية أخرى استطاعت أن تَنتعِش من جديد في ظروف صعبة من خلال اعتمادِ تقنياتٍ جديدة لمُنتَجات تقليدية قديمة وعريقة، ففي السبعينيات كانت فوناك — المعروفة سابقًا باسم إلكتروأكوستيك — شركةً متوسِّطةَ الحجم تحقِّق أرباحًا معتدلة، وكانت تقوم بإدخال تحسينات تكنولوجية متواضِعة — ولكن بشكل مُنتظِم — على مجموعةِ منتجاتها من أدوات المساعدة على السمع، لكن عندما بدأت التكنولوجيا الرقمية بتغيير طريقة معالجة الإشارات الصوتية، تحوَّلت فوناك إلى شركة عالَمية كبيرة من خلال إدراكها بأن المعالجة الذكية للصوت توفِّر مزايا وفوائدَ لا حصرَ لها لعملائها في هذا المجال التخصُّصي. وقصة النجاح هذه تَنطبِق أيضًا على شركتَيْ سينثيز وستراومان اللتين تفوَّقَتا على باقي الشركات المنافِسة في مضمار التجديد والتطوير للمُنتجات؛ مما أتاح لكلٍّ منهما أن تحتلَّ مركزَ الطليعة في مجالِ عملها في قطاع الأعضاء الاصطناعية وزراعة الأسنان، كانت مُنتَجاتُ شركات فوناك وسينثيز وستراومان في الواقع بمثابةِ اختراعاتِ العصر في ذلك الوقت، وهذا دليلٌ آخَر على أن سويسرا لا تزال أرضًا خصبةً للأفكار الجديدة وروح الابتكار.

تعتمد الرأسمالية كثيرًا على الابتكار، سواء أكان ذلك في مجال الإبداع أم في مضمار التكيُّف مع مُتغيِّرات العصر، وقد كانت هذه النجاحات في مجال الابتكار ولا تزال في صميم قصة نجاح سويسرا. وعلى سبيل المثال: في القرن التاسع عشر، جلَبَ المهندسون السويسريون في فينترتور المُعَدَّات ومخطَّطات ماكينات النسيج من بريطانيا، وكيَّفوها لأغراضٍ جديدة مثل غزل الحرير ونسجه؛ ومن ثَمَّ أنشئوا صناعة جديدة.

ونحن نريد القول بأن قصصَ النجاح هذه — على الرغم من اختلاف مضمونها وسياقها، وبصرف النظر عن طرق تطبيقها — هي قصصٌ تضافرت معًا لتحقيقِ ما هو أكبرُ بكثيرٍ من مجمل قيمة نجاحاتها الفردية؛ ومن ثَمَّ فإن سويسرا قد أصبحَت بحد ذاتها — وبحقٍّ وجدارةٍ — علامةً تجارية تمتلك خصائص مشابهة لمنتجاتها الأكثر رواجًا مثل نسكافيه ورولكس وفنادق ريتز.

فما الذي يُكوِّن علامة تجارية؟ هناك العديد من الجوانب التي ينبغي اعتبارها، أوَّلًا: العلامة التجارية هي عبارة عن تعهُّد، أو على الأقل القناعة بأنها تُشكِّل تعهُّدًا ما؛ فالعملاء لا يُمكنهم اختبار جميع المُنتَجات التي يقومون بشرائها، بل يَعتمدون على تجارتهم الخاصة مع العلامة في السابق، أو على توصياتِ عملاءَ آخَرين، ومن خلال التجربة المستمرة والموثوق بها على مدى فترةٍ طويلة من الزمن، تنمو ثقةُ العميل بالوعد الذي تعهَّدت به العلامة التجارية، والثقة تُقلِّل من تعقيد الأمور كما تُقلِّص الوقت الذي يستغرقه اتخاذُ القرار من طرف العميل بخصوص شراء المُنتَج أو عدمه، وغالبًا ما لا يستند هذا القرارُ على مميزات محدَّدة، إنما على مجموعة من الأحاسيس التي يولِّدها المُنتَج لدى العميل، فالشبان لا يشترون الساعات السويسرية الباهظة الثمن لأنها تُتيح لهم معرفةَ الوقت بشكلٍ أفضل؛ بل لأنها تناشد تطلُّعاتهم، والعلامة التجارية لا بد أن تُميِّز نفسها عن بقية المُنتَجات البديلة المُماثلة التي تملأ الأسواق.

وفي ضوء كل هذه المفاهيم، بات اسم سويسرا يُشكِّل تمايزًا بصفته علامة تجارية بأتمِّ معنى الكلمة، وقد يكون ذلك أثمنَ مزايا التفوُّق النسبي التي تتمتَّع بها البلاد وأكثرها ثباتًا وقابليةً للبقاء والاستمرار.

هل النجاح السويسري قابل للاستمرار؟

لقد تَشكَّلت الشركات والمؤسسات نتيجةً لظروف تاريخية وأحداث ليس من المحتمل أن تتكرَّر في الأجيال اللاحقة، وعلاوةً على ذلك، فإن كل جيل جديد يواجه مجموعةً مختلفة ومتفاوتة من الفرص والتحديات التي تحكمها إلى حدٍّ كبير الظروفُ الآتية، وعليه أن يتعامل معها، وهنا لا بد من الاستشهاد بالتحذير الاستثماري القديم القائل: «إنَّ الإنجازات السابقة ليست ضمانًا لإنجازات مستقبلية مماثلة.»

لقد مرَّ بالكاد ربع قرن منذ أن أصبحت الإنترنت مُتوافِرةً وسهلة الاستخدام بفضل اختراع الشبكة العنكبوتية العالمية على يد تيم بيرنرز لي في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية «سيرن» في جنيف. وخلال تلك الفترة أصبحت الهواتف النقالة شائعة، كما تمَّ مسح وتحديد التسلسل الكامل للجينوم البشري؛ ونتيجةً لذلك، فإن العديد من الصناعات المترسِّخة مثل طباعة الصحف والموسيقى وشبكات الهاتف البعيدة المدى قد اندثرت، أو أُعِيدت هيكلتها، لتقوم بنشاطات مختلفة جِدًّا عما كانت عليه سابقًا، وبعض الشركات التي كانت رائدةً في عصرها باتت تكافح الآن من أجل البقاء، مثل: شركة نوكيا، وشركة ريسيرتش إن موشَن (بلاك بري).

ومن ثَمَّ أصبح من الصعب تلافي التأثير بالجوانب الهائلة العدد التي يختلف بها العالم المعاصر جذريًّا عما كان عليه في السابق، وقد لا يكون ذلك في صالح سويسرا. لنَعُدَّ — على سبيل المثال — اتجاهاتِ التحولات الديمغرافية الحالية، ففي الفترة ما بين عامَيْ ١٨٠٠ و١٩٦٠، عندما كانت المُعجِزة الاقتصادية السويسرية بصدد التطوُّر، نما عدد سكان العالم من ١ مليار إلى ٣ مليارات نسمة، وكانت سياسات وثقافات غرب أوروبا وشمال أمريكا هي المُهيمنة، أمَّا في السنوات الخمسين الماضية، فقد نما عدد سكان العالم بشكل مطَّرِد ليصل إلى ٧ مليارات نسمة، منهم ٦ مليارات يعيشون خارج غرب أوروبا وشمال أمريكا، وملياران منهم تحت سن العشرين.

هذا يعني أن على سويسرا — والعديد من الاقتصادات المتقدِّمة الأخرى — أن تعرف كيف تواجه انخفاض النمو فيها؛ ومن ثَمَّ كيف تتعامل مع انحسارِ آفاقِ الفرص المتاحة، وبشكلٍ عام — في البلدان الأكثر كثافةً سكانية — هناك نسبةٌ كبيرة من السكان تسخِّر طاقاتها للعمل والادخار، أمَّا في سويسرا، فعدد السكان المسنِّين في تزايُدٍ مما يجعل نسبة الأشخاص العاملين تَنخفِض باستمرار؛ ومن ثَمَّ فهي تُواجِه عبئًا متزايدًا لتكاليف الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي. وقد تفاعلت سويسرا بالفعل في هذه التغيرات بقبول المزيد من المهاجرين، ففي الخمسينيات كانت نسبة المهاجرين من عدد السكان المقيمين حوالي ٦ في المائة، بينما أصبحت اليوم ٢٢ في المائة، أمَّا الهدف من وراء ذلك فقد تركَّزَ على زيادةِ نسبةِ اليد العاملة الشابة في البلاد، ولكن — كما هو الحال في جميع البلدان الأخرى — هناك حدود سياسية تتحكَّم بمسألة الهجرة.

في هذه الأثناء يواجه العالم بأسرِه عددًا من التحديات التي يبدو أنها تتطلَّب تدخُّلَ الحكومات بدرجةٍ أكبر بكثير مما كانت عليه في السابق، سواء على الصعيد الوطني أم الدولي، ومثالًا على ذلك: لا بد من الإشارة إلى التدخل الهائل للحكومات في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالَمية في عامَيْ ٢٠٠٧ و٢٠٠٨؛ إذ لم يكن في متناولِ أيِّ حكومةٍ وطنية أن تستوعب الأزمةَ بمفردها، ولم يكن بإمكانِ أيِّ حكومة واحدة — مهما كان نظامها المالي قويًّا — أن تحتوي أزمةَ منطقةِ اليورو، وهذا يُمثِّل تحديًا خاصًّا أمام سويسرا التي عادةً ما تواجه المبادرات الحكومية البحتة بقدرٍ كبير من الريبة والتحفظ، والتي فضَّلَت دائمًا البقاءَ خارج التحالفات والمنظَّمات الرسمية التي يحلو للدول القومية الأخرى تكوينها والانتماء إليها. غير أن سويسرا، بالرغم من تمسُّكها بروح الاستقلالية، بحاجةٍ أيضًا إلى حماية مصالحها من عواصف التغيير والأزمات المتعاقِبة الناجمة عنها، ولعل المثال الأكثر وضوحًا (والأكثر إيلامًا لسويسرا) على ذلك يتجسَّد في فترةِ ما بعد الأزمة الاقتصادية لعام ٢٠٠٨، عندما وجد السويسريون أنفسَهم فجأةً أمام قطاعٍ مصرفي مُثقَل بالتزامات كان من شأنها أن تؤدِّي إلى إفلاس الدولة؛ فواحد من أكبر مصرفَيْن في البلد — وهو بنك يو بي إس — كان لا بد من إنقاذه من طرف الحكومة بمبلغ يُقارب ٤٠ مليار فرنك سويسري، أمَّا المصرف الثاني — وهو كريدي سويس — فقد نجا فقط بفضل إيجاد بعض المستثمرين الشجعان من الخارج لإنقاذه من الإفلاس.

وفي غضون ذلك، بدأت تظهر بعض التصدعات في المقومات الأساسية الصلبة التي كوَّنت سمعةَ سويسرا. إضافةً إلى ذلك، فإن المبدأ القديم القائم على التوفيق والتوازن بين الطموح والواجبات تجاه الأسرة والمجتمع والدولة بات حاليًّا بصدد التحول؛ فالأشخاص باتوا يتزوَّجون في سن متأخِّرة، وعدد أطفالهم في تراجُع، ونِسَب طلاقهم في ارتفاع، والتزامهم تجاه المجتمعات التي يعيشون فيها لم يَعُد كما كان في السابق، والولاء للجيش التطوعي السويسري، الذي طالما شكَّلَ أحدَ أحجار الزاوية لمفهوم الوطنية، والذي تُصقَل فيه القِيَم التقليدية السويسرية في نفوس الشبان السويسريِّين، هو في طريقه إلى الانحسار والزوال، ونسبةُ عدد أعضاء الحكومة الذين يتطوَّعون للخدمة مجَّانًا — بدل الحصول على راتب — انخفضَتْ بمقدار كبير، أمَّا النظام التعليمي السويسري المرموق، الذي يُعلِّق أهميةً كبرى على التدريب المهني ذي القيمة العالية، والذي بحسب رأي الكثيرين يشكِّل العمودَ الفقري لنجاح سويسرا المنقطع النظير؛ فهو بدوره أيضًا بات مهدَّدًا بعاملَيْن اثنين: أوَّلًا أن التدريب المهني التقليدي يَفقد جدواه في فترةٍ وجيزة نظرًا إلى أن التكنولوجيا الحديثة تتغيَّر وتتقدم بسرعة عالية، فمثلًا على ميكانيكيِّي السيارات اليومَ معرفة المزيد عن برامج الكمبيوتر أكثرَ من معرفتهم للهندسة الميكانيكية، ولا يَخفى على أحدٍ ما آلَتْ إليه مهنة وكلاء السفر. ثانيًا: كما هو الحال في أماكن أخرى، هناك تضخُّم في مجال التحصيل العلمي، فالسعي للحصول على درجات جامعية أصبح أكثر انتشارًا بسبب الاعتقاد — غير الصائب أحيانًا — أن التعليم العالي يؤدِّي إلى تحسين إمكانات التقدُّم والارتقاء مهنيًّا في الوظيفة.

إن مدى فعالية الديمقراطية السويسرية يُواجِه بدوره أيضًا تحدِّيًا بسبب الاضطرابات التي تلازم سرعةَ تشكيلِ وانتشارِ المعلومات والآراء حول الشئون العامة، وفي هذا المضمار صاغ يورجن هابرماس — الفيلسوف والاختصاصي في علم الاجتماع — المُصطلحَيْن التاليَيْن: «المجال العام» و«الديمقراطية التداولية»، ويَرْتَئي هابرماس أن فعاليةَ أيِّ ديمقراطية تَعتمِد على قدرتها على تسهيل النقاش والحوار، وأن وسائل الإعلام هي عناصر تلعب دورًا حاسمًا في هذه العملية، وفي العالَم المثالي تدور المداولات بين المواطنين الناشطين في «المجال العام»، وعلى السياسيين أن يَنتهِجوا نهج المواطنين، ومن المسلَّم به أن النظام الديمقراطي السويسري يُطبِّق هذا المبدأ بشكل جيد.

ولكن — كما هو الحال في أماكن أخرى — حصلت تجزئة كبيرة في وسائل الإعلام السويسرية صاحَبَتْها عواملُ سلبية كانت مُتوقَّعة، فوسائل الإعلام العصرية الشائعة — سواء أكانت المسموعة منها أم المقروءة أم الإنترنت — باتت تَستهدِف أسواقًا معينة ومجموعات ذات مصالح معيَّنة (وهذه ظاهرة يُمكن تسميتها «البث المحدود») وتُروِّج لآراء هذه المجموعات بعبارةٍ مُبسَّطة، وفي أحيانٍ كثيرة بعبارات حادة، بدلًا من السعي لبناء تَوافُق في الآراء، وترك المجال أمام تبنِّي الأحكام السليمة.

في الواقع، تُعاني وسائل الإعلام السويسرية من مُعوِّقات يشكو منها كل بلد صغير الحجم، وهي التكتُّل المُفرط للملكية والولاء للجماعات ذات المصالح المُشتركة القوية. فصحيفة «نويه زورخر تسايتونج»، معروفة في الأماكن الناطقة بالألمانية بجودةِ تحاليلها للشئون الخارجية، وتُقدِّم غالبًا وجهاتِ نظرٍ مُثيرة للاهتمام ومختلفة عن وجهات النظر الأنجلوساكسونية، غير أن انتقاداتها للشركات والأفراد في موطنِها تبقى محدودة بحكم التقارب بين الشخصيات والعلاقات الودية التي تربطها بهم، فعلى سبيل المثال، إن تغطيتها لإفلاس شركة الطيران السويسرية سويس آير، ومُشارَفة مصرف يو بي إس على الإفلاس، لم تكن مُصاغة بلهجةٍ انتقادية ملحوظة.

أمَّا على مستوى الشركات، فالغالبية العظمى من المديرين التنفيذيين في الشركات السويسرية الكبرى هم من أصول أجنبية، والمبدأ السليم المُعتمَد كان قائمًا على أساس إيجاد الشخص المناسب للمنصِب المناسِب مهما كانت جنسيته، ولكن من الصعب الاعتقاد بأن سويسرا — بالرغم من كونها بلدًا صغيرًا — يمكنها توفير المرشحين ذوي الكفاءات الأفضل للمناصب الشاغرة، وحتى لو كان ذلك مُمكنًا على المستوى الفردي، فإنه يطرح تحديات على مستوى المجموعة. وفي هذا الصدد قال هانس يورج رودلوف، الرئيس السويسري لشركة باركليز كابيتال الذي يرى الأمر من منظور مقابل بحكم أنه سويسريٌّ يعمل في الخارج: «لن يولي مديرٌ تنفيذي أجنبي على رأس مصرف كريدي سويس مثلًا نفسَ القدر من العناية والحرص في إدارة المصرف مثل مديرٍ تنفيذيٍّ سويسري.»٤

على مدى الفترة الطويلة التي تُغطيها دراستنا هذه، كان على سويسرا أن تبحث عن الفرص وتستغلها ببراعة أينما أُتِيحت. لقد نشأت الأعمال على المستوى المحلِّي، وكان نموها عُضويًّا بالاعتماد على قدراتها الذاتية؛ ومن ثَمَّ تحوَّلت تدريجيًّا — بعناية وحذر — إلى شركات دولية، وبعد ذلك إلى شركات متعدِّدة الجنسيات، إلا أن جذورها بقيت متأصِّلةً في بلدها الأم.

واليوم، تتطوَّر الأسواق والتكنولوجيات بسرعةٍ أكبر بكثيرٍ مما كانت عليه سابقًا؛ فعلى سبيل المثال: لم تكن شركة جوجل موجودة منذ ١٥ عامًا، لكن قيمتها حاليًّا تفوق قيمة شركة نستله، وموظفوها المعروفون باسم «زوجلرز» (الناشطون في زيورخ؛ أكبر مركز هندسة تابع للشركة خارج الولايات المتحدة) يعملون في مجموعات، ولكن ليس من الواضح ماذا يُنتجون وفي أي مكان.

يعتقد روبرت لوكاس — الحائز على جائزة نوبل — بأن صراعًا عالميًّا سيظل قائمًا في مجال البحث عن الكفاءات، وأن تجمُّعَ هذه الكفاءات وتآلُفها هو المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي. وعلى الرغم من أن قوةَ دولةٍ ما كانت تُقاس تاريخيًّا بمساحة أراضيها وعدد سكانها وقدراتها العسكرية ومواردها الطبعيية، فإن هذه المعايير باتَتْ عواملَ من الماضي لا قيمةَ لها ولا جدوى منها، فاليومَ تُقيَّم قدراتُ بلدٍ ما أكثرَ فأكثر وفقًا لمقياسَيْن فقط لا ثالثَ لهما: التجارة والكفاءة، وهذا ما يُفضِي إلى استنتاجِ أنَّ المهمة الحاسمة أمام سويسرا تكمن في الاستمرار في تطوير المواهب واستقطابها والمحافظة على حصةٍ كبيرة من ألمع وأفضل العقول في العالَم بالنسبة إلى حجمها. من عادات الطبيعة البشرية أن الأشخاص الموهوبين يحبون التواصُل والاختلاط أو التجمُّع مع أمثالهم، وسويسرا تتمتَّع بمقومات جيدة وصِيتٍ ذائع بأنها مكانٌ يطيب فيه العيشُ والعملُ على حدٍّ سواء، والواقع بأن نسبة الأجانب فيها تَفُوق ما هي عليه في أيِّ بلدٍ متقدِّم آخَر، مما يجعل من السهل على الوافدين الجدد أن يتأقلَمُوا ويَندمِجوا بسرعة في المجتمع.٥ وكما هو الحال في بلدان أخرى، سيتم تقييم سويسرا على أساس قدرتها على أن تكون بمثابة «حاملة طائرات»؛ أيْ موقع محوري لخدمة الحركة المتزايدة لوصول ومغادرة الأشخاص والشركات المتعدِّدة الجنسيات، ولكن من غير المرجح أن تبقى سويسرا الملاذ نفسه الذي طَوَّر وما زال يحتفظ بأنواع من الشركات المحلية التي استطاعت احتلالَ مراكزِ الريادة في العديد من القطاعات في جميع أنحاء العالم.

الشركات أيضًا ترغب في التجمع والتآلف بعضها مع بعض، حتى بين المتنافِسين المباشِرين. تهيمن سويسرا على تجارة وتداول السلع الأساسية، وأكبر تجَّار الحبوب يحتفظون بمَقرَّات عمليات كبرى في سويسرا، كما أن أكبر مركز عمليات لشركة ميدترونيك خارج الولايات المتحدة يقوم في سويسرا، وذلك يعود إلى وجود عددٍ لا بأسَ به من المهندسين المتخصِّصين في الهندسة الدقيقة نتيجةً لمستوى التطور العالي في قطاع صناعة الساعات في سويسرا، وحقيقة أن شركة جوجل قد اختارت سويسرا مقرًّا لأكبرِ مركزِ هندسةٍ تابعٍ لها خارج الولايات المتحدة، وأن موظفيها يصنِّفون مدينة زيورخ بأنها أكثر مكان مرغوب فيه للعمل، هو أمرٌ إيجابي جِدًّا يساهم في تعزيز مكانة سويسرا بصفتها وجهةً مفضَّلة للشركات والكفاءات على حدٍّ سواء.

ومن ثَمَّ؛ نعم، إن معجزةَ النجاح الاقتصادي الذي تمكَّنَتْ سويسرا من تحقيقه قابلةٌ للاستمرار، على الرغم من أن ذلك لا يعني أنه سيستمر إلى ما لا نهاية، فقد حوَّلَ السويسريون قدرتَهم على التكيُّف إلى عادة، وجاهدوا ليصبح النجاحُ الاستثنائي مجردَ روتين لديهم، ولكن التحدي المستقبلي يكمن في قدرتهم على الاستمرار في تحقيق نفس المستوى من الأداء في مُواجَهةِ خلفيةٍ وتاريخٍ من النجاح الذي من المرجح أن يولِّدَ شعورًا بالاكتفاء الذاتي والرضا عن النفس في أي مكان. وعلى الرغم من أن السويسريين قد اخترعوا العديد من الأشياء الرائعة في تاريخهم الطويل، فإنهم للأسف لم يخترعوا بعدُ علاجًا لآفة الرضا عن النفس.

السبيل نحو سويسرا

كان لانت بريتشيت — الذي عمل سابقًا في البنك الدولي، ويعمل الآن أستاذًا في جامعة هارفرد — قد كتب مقالًا بمشاركة مايكل وُلكوك في عام ٢٠٠٢ تحت عنوان «السبيل نحو الدنمارك».٦ وفي هذا المقال تبدو الدنمارك مكانًا أسطوريًّا خياليًّا يتميَّز بالاستقرار، ويتمتَّع بالديمقراطية والازدهار والسلام والشمولية، وفيه مستويات منخفِضة من الفساد السياسي والتبذير المالي، وهذه الصورة كان من شأنها أن تولِّد لدى أيِّ شخصٍ في العالم الرغبةَ في إيجاد سبيل للوصول إلى هناك، أو بمعنًى آخَر: إلى تحقيقِ مستوياتٍ مماثِلة من الرفاهية والعيش الرغيد في بلده.

وسويسرا ليست بأي حال من الأحوال بلدًا مثاليًّا، إلا أنها يُمكن أن تفي بالمعايير التي كانت في مُخيِّلة كلٍّ من بريتشيت ووُلكوك، وهذا ما يُثير التساؤل حول ما إذا كانت مجموعة الظروف الجغرافية والتاريخية الشاقة، والشخصيات والمواقف التي نشأت سويسرا على أساسها يمكن استنساخها. هل يُمكن لبلدٍ واحد بمفرده أن يُشكِّل نموذجًا يُحتذَى به للبلدان الأخرى؟

لقد وصفنا في هذا الكتاب العواملَ التي ساهمت في تمكين سويسرا من تحقيق هذا الأداء المتفوق في العديد من المجالات والذي لا يُمكن إنكاره، وهذه العوامل الرئيسية تشمل الاعتماد على الذات والانضباط ولا مركزية الحكم والواقعية، إلى جانب التكافل الاجتماعي، والانفتاح على الأفكار والأشخاص من الخارج. إلا أن هذه السمات موجودة أيضًا في بلدان ناجحة أخرى، وربما تَبرُز هذه السمات بطريقةٍ مثمرة أكثر في سويسرا نظرًا لتاريخها وظروفها الطبيعية، ومن بين أبرز هذه السمات: الطبيعة الجبلِّية الصعبة ولكن المفيدة في الآنِ نفسِه بسببِ موقعها الجغرافي، والتاريخ الطويل الحافل باستقبال اللاجئين من دول الجوار، وتلافي الدخول في الحروب والصراعات السياسية على السلطة مع البلدان الأخرى. ولا يُمكن لأي بلدٍ آخَرَ استنساخُ مجموعةِ ظروفٍ مطابِقة لتلك التي صنعت سويسرا كما هي اليوم؛ ومن ثَمَّ يُمكن لنجاحِ دولةٍ ما أن يكون نموذجًا جزئيًّا فقط للدول الأخرى.

لكن هناك عناصر أخرى عادت بالفائدة على المجتمع السويسري تستحق التوقف عندها، فمَن يستطيع المُجادَلة ضد المعادلة الأخلاقية البسيطة التي يتحلَّى بها السويسريون، والتي تقوم على أساسِ أن الجهد والعمل يؤديان بهم لا محالةَ إلى النجاح، وأنه لا مكانَ للتساهل أو الكسل؟ أو مَن يستطيع أن يُجادل ضد القول المأثور حول مبدأ ضرورة أن يعيش المرء ضمن حدود إمكانياته؟ قد يبدو هذا السياق نمطيًّا أو مبتذلًا، ولكن هذه الأمور بدأت تكتسب أهميةً سياسية متسارعة، خصوصًا عندما تقرِّر الحكومات بوتيرةٍ متسارِعةٍ أن تعيش على حساب الأجيال القادمة، فلماذا لا يَحظى المعلمون في المجتمعات الأخرى بالرواتب الجيدة والتقدير العالي للدور الذي يلعبونه في بناء المجتمع؟ وهل إعادة توزيع المكافآت العامة أهم من تلقين مبدأ الاعتماد على الذات؟ وهل الحد من التدخُّل الحكومي أفضل من عدمه؟ وهل البتُّ في القضايا أهم من عملية اختيار السياسيين الذين سيبتُّون فيها؟ وراء كل هذه الأسئلة هناك ملاحظات تدخل في صميم النظام السويسري، وهي مُتوافِرة لأي أمة ترغب في أخذها بعين الاعتبار أو استخدامها معيارًا للقياس والمقارنة.

كما أن سويسرا يُمكن أن تكون نموذجًا لجيرانها من الدول، فالدول الأوروبية تكافح من أجل إيجادِ صيغةٍ لإدارة الاتحاد بسياسةٍ لا مركزية، بشرط أن تكون فعَّالة اقتصاديًّا وماليًّا لجميع الأطراف، وسويسرا — مثلها مثل الاتحاد الأوروبي — عليها أن تتعامل مع لغاتٍ متعدِّدة هي الفرنسية والألمانية والإيطالية وحتى الرومانشية، وكلها لغات وطنية رسمية، والإنجليزية أصبحت — كما في أماكن أخرى في أوروبا — لغة عامة مشتركة نوعًا ما، خصوصًا في مجال الأعمال التجارية والتعاملات الثقافية، والكانتونات المحلية أيضًا — مثلها مثل البلدان الأوروبية — ليست متحمِّسةً لقبول حكومة مركزية قد تهدِّد مَصالِحَها. لقد كان على هاملتون أن يُكافح ضد جيفرسون في أمريكا، وتجربة بسمارك لتوحيد ألمانيا لا تَختلِف عن ذلك كثيرًا، والكانتونات السويسرية والبلديات قاومت الدستور السويسري رافضةً مبدأَ إقامة البنك الوطني السويسري، وما زالت تتمتَّع بسلطات واسعة من الحكم الذاتي، ولا ترغب في أن تتدخَّل السلطات الاتحادية في شئونها، وتمامًا مثل بلدان الاتحاد الأوروبي، لديها الآن عملةٌ موحَّدة وسوق واحدة. ويتطلَّب القانون السويسري أن تبقى ميزانية الحكومة الاتحادية متوازنة، وأيُّ زيادة في الضرائب يجب أن تخضع لاستفتاءٍ عمومي، كما تُخصَّص نسبة ٧٠ في المائة من عائدات الضرائب للإنفاق على الصعيد المحلي والبلدي، ولا يبقى للسلطة الاتحادية إلا نصيبٌ ضئيل منها. هذه هي المعادلة التي مكَّنت سويسرا من اتخاذِ قراراتٍ لا تُرضِي نسبةً كبيرة من الشعب، إلا أنها كانت ضروريةً لتوفيرِ بيئةٍ جيدة لتعزيز روح المبادرة وتكوين الثروات، وجعْل مواطنيها يشعرون بالراحة والقوة، هل على الاتحاد الأوروبي أن يطمح لأكثر من ذلك … أو إلى أقل منه؟

ليس هناك نموذج واحد يُمكن لصنَّاع القرار في المجال السياسي أن يَتبعوه، كما أن اعتماد المقترحات الواردة في مقال «السبيل نحو الدنمارك» وإسقاطها على سويسرا لا يشكِّل بدوره وصفةً كاملة أو مضمونة للنجاح، ولكن هناك أمثلة لا تُحْصَى ولا تُعَد من النجاحات الفردية التي يُمكن اقتباسها ودراستها وتكييفها، وفي النهاية فإن الاقتباس والتحسين والتكييف هي أمورٌ سبَقَ للسويسريين أنْ أجادوها وما زالوا يتقنونها.

ملاحظة ختامية عن سويسرا

إنَّ الهدف الرئيسي من هذا الكتاب — كما وَرَد في بداية هذا الفصل — هو السعي إلى تحسين فَهم الخارج للطرق والأساليب التي استطاعت سويسرا بفضلها تحقيقَ نجاحاتِها الاستثنائية، ولكن خلال هذه العملية، تنبَّهْنا إلى وجودِ أشخاصٍ آخَرين يُمكِن أن يهتمُّوا بمحتوى الكتاب، وهم السويسريون أنفسهم.

ليس هناك وجود للإنسان السويسري الخالص؛ أيْ ما معناه هوية سويسرية موحَّدة ومتجانسة كما هو الحال بالنسبة إلى الجنسيات الأخرى، فالهُوِيَّة السويسرية هي نتيجةُ ظروفٍ وأحوالٍ وأحداث متفاوِتة انصهرَت في بوتقة واحدة، وساهَمَ في صنعها ذهابَ ومجيءَ أشخاصٍ موهوبين، وهي فُسيفساء دقيقة ومعقَّدة من الإنجازات التي حقَّقوها في مواجهة مقاومة ضارية وظروف استثنائية صعبة التذليل، ولعل أفضل وسيلة لدى السويسريين للتعريف بأنفسهم هي من خلال عملهم والازدهار الذي يُحقِّقونه من ورائه؛ فهويتهم هي مزيجٌ من الفروقات والخصوصيات والقيود والمُعوِّقات التي تَنصهِر معًا لتكوِّن وحدةً متجانسة ومتكاملة.

نرجو أن يكون هذا الكتاب قد ساهَمَ في تحسين معرفة السويسريِّين أنفسِهم لهويتهم، وإذا كان الأمر كذلك، نكون قد حقَّقْنا شيئًا ذا قيمة لم نخطِّط له في بداية عملنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤