الفصل الرابع

تجَّار سويسرا الصامتون

إن عامل العزلة في سويسرا مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بموقعها الجغرافي، وكان سببًا في صقل ثقافتها السياسية الفريدة من نوعها وبروز طابعها الحيادي. غير أن هذه العُزْلة المادية لم تَحُلْ دون إقامة العلاقات الإنسانية والتجارية أو القدرة والحاجة للوصول إلى جميع أنحاء العالم في مجالَي الأعمال والسياسة. وقد لعب هذا العامل دورًا أكبرَ بكثيرٍ مما يُتوقَّع أن يخوِّله حجم هذا البلد الصغير ذي الطبيعة الجبلية، وإلا فكيف يُمكِن تفسير هذه الهيمنة الملحوظة في التجارة العالمية لمؤسساتٍ ورجالِ أعمالٍ يتخذون من سويسرا مقرَّاتٍ لهم؟

***

في الواقع، قد تكون ميزة العزلة الطبيعية في سويسرا هي التي ساهمت في دفع التجارة السويسرية والتجار السويسريين إلى الوصول إلى أبعد أصقاع الأرض، وجعلت من سويسرا اليومَ محورًا رئيسيًّا في تجارة السلع الأساسية؛ فنظرًا لكونها بلدًا فقيرًا من حيث الموارد الطبيعية والقدرة الإنتاجية المحلية، احتاجت سويسرا دائمًا إلى اقتناص الفرص التي تُوفِّرها المصادر الطبيعية العالمية، وكاقتصادٍ مفتوحٍ ومستقرٍّ وشديدِ التحفُّظ، وفَّرت سويسرا لعددٍ من أكثر تجَّار هذه المصادر الطبيعية ديناميكيةً في العالم فرصًا لم يسبق لها مثيل. تقول الأسطورة إن سويسرا هي أرضُ جبالٍ جرداء وشعب يتعايش بانعزالية فيما بينه، وكما في كل الأساطير، هناك جانبٌ من الحقيقة في ذلك، غير أنها أيضًا أرض العديد من المؤسسات الرائدة ورجال الأعمال المتميزين (مع أن ذلك غالبًا ما يبقى مكتومًا) الذين استطاعوا — خلال المائة عام الماضية أو ما يقارب — السيطرةَ على أسواق البن والكاكاو والمعادن والنفط والغاز والفحم في التجارة العالمية. وهي بالتأكيد أرض رجال الأعمال النبلاء المتحفِّظين أصحاب الأفكار الكالفينية، إلا أنها أيضًا أرضُ مجموعةٍ استثنائية من رجال الأعمال الجريئين والمغامرين في عالم التجارة، وكما سيَرِد لاحقًا، كان على رأسهم مارك ريتش (Rich تعني غنيًّا بالإنجليزية) — أيْ إنه اسمٌ على مسمًّى — وهو أشهر رجال الأعمال السويسريين على الإطلاق، بالرغم من أن هذه صفة لا يستحسنها الجميع بالضرورة.

روح التداول التجاري بالوساطة

عادةً ما تتم عمليات التداول تحت غطاء الكتمان، ومن الصعب الحصول على أرقامٍ محدَّدة عن أنشطةِ أكبرِ الوسطاء في التدفقات العالمية التجارية، ولكن من المؤكد أن الشركات السويسرية ناجحةٌ للغاية في تحقيق المكاسب والحفاظ على نصيب الأسد من أرباح التجارة العالمية للسلع الأساسية؛ هذا إن لم تكن سويسرا البلد المهيمن في هذا المجال. وبالرغم من أن عدد سكان سويسرا بالكاد يفوق الواحد في الألف من سكان العالم، فإن البلاد لها وزنها في التجارة العالمية للسلع الأساسية.

وبحسب تقديرات أحد البنوك الفرنسية الكبرى، فإن ثلث عمليات التداوُل في التجارة العالمية للبترول يمرُّ عبرَ شركاتٍ قائمة في جنيف مثل جنفور وفيتول ومركوريا، كما أن ما يُعادِل ثلثَ التجارة العالمية للحبوب والحبوب الزيتية والسكر تُدِيره شركاتٌ تتخذ من جنيف مقرًّا لها، في حين أن مدينة تسوج الصغيرة نسبيًّا تُعتبَر مركزَ التجارة العالمية لمعادن المناجم، وهي موطن شركة جلينكور، إحدى أكبر شركات تسويق الألمنيوم والنحاس والزنك في العالم، والتي تتراوح حصتها بين ٢٠ و٦٠ في المائة من كميات المعادن المتداولة دوليًّا، التي لا غنى عنها في مجال الصناعة. ومنذ عملية الاندماج مع شقيقتها شركة إكستراتا أصبحت من أكبر شركات استخراج المعادن في العالم بأَسره. كما أن سُدس تجارة القطن العالمية يتم التداول به في مدينة فينترتور التي تُعَد — جنبًا إلى جنب مع تسوج — موطنَ شركاتٍ مثل مجموعة فولكافيه وشركة برنار روثفوس إنتركافيه التي تلعب دورًا هامًّا في تجارة البن في العالم.

كل ما سبق هو للتذكير بأن التقاليد السويسرية التي تحرص على مراقبةِ فروق الأسعار بلا هوادة، وتعمل دائمًا بصورة مستقلة؛ أدت — بشكلٍ طبيعي — إلى توافُر الصفات التي تحتاجها روح الوساطة، غيرَ أن لمهمة الوسيط المستقل أَوْجُهًا أخرى عديدةً ومتفاوتة.

الخدمة العسكرية جزء من التقاليد السويسرية

كان الجنود السويسريون من أول وأثمن الصادرات التجارية السويسرية، وكان البعض من أوائل الروَّاد السويسريين في التجارة الأجنبية من الشبان الذين كانوا يعملون مرتزقةً تحت لواء حكَّامٍ أجانب، وكانت سمعتهم التي كوَّنوها بصفتهم مقاتلين بلا رحمة في العديد من الحملات قد جعلت من شدة بأسهم سلعةً ثمينة، وكان الطلب عليهم كبيرًا من أمثال مترنيخ ونابليون في أوروبا، ومن طرف طُغاةٍ باحثين عن السلطة حتى في مناطقَ بعيدة مثل إندونيسا. وإلى جانب قوتهم، كان الجميع يكنُّ لهم الاحترام لولائهم وقدرتهم على التكيُّف؛ فقد تعلَّموا اللغات والتقاليد المحلية، وتصرفوا بطريقةٍ هادئة ومتواضعة، كما اندمجوا في تلك المجتمعات حتى إن بعضهم تزوَّجَ من نساءٍ محليات. وبرز من هؤلاء المحاربين رجالُ أعمال كانت تربطهم صلاتٌ وثيقة بقادة الحرب والأمراء والملوك، وهي صلات غالبًا ما أصبحت أساسًا للتواصل التجاري المستمر.

لقد ذاعت سمعةُ المرتزقة لبسالتهم وبراعتهم العسكرية الفائقة منذ زمنٍ طويل، حتى قبل أن يرى النورَ البلدُ المعروف باسم سويسرا اليومَ، وكذلك كان الرابط بين التجارة الخارجية والمغامرات العسكرية الخارجية قد نشأ في وقتٍ مُبكر أيضًا. ومن المؤكد أن تنظيم تجارة السلع الأساسية عَبْر مسافاتٍ شاسعة وبعيدة هو أمرٌ جوهري لتحقيق النجاح في الحملات العسكرية، ويعود تاريخُه إلى العصور القديمة؛ ففي زمن الإمبراطورية الرومانية، كانت «هيلفيتيكا» — الاسم الذي كان يُطلَق على المنطقة — قد أصبحت مركزًا هامًّا للتجارة.

إلا أن الأنشطة التجارية في أوروبا لم تبدأ بالازدهار إلا بعد حلول القرن الحادي عشر، وكان ذلك نتيجةً للنمو السكاني وتأسيسِ بلداتٍ ومدنٍ جديدة. ولقد استفادت المنطقة التي تكوِّن سويسرا حاليًّا من ذلك الازدهار ولو بطريقة غير مباشِرة؛ فقبل حلول القرن الثالث عشر، لم يكن السويسريون تجارًا بارعين، بل كانوا تجارَ تجزئةٍ يزوِّدون محلاتهم الصغيرة بالسلع والبضائع من التجار الأجانب العابرين، ولم تكن سوى بعض المدن، مثل بازل وجنيف وزيوريخ، تُزاوِل نشاطًا تجاريًّا يتجاوز الحدود المحلية. ويمكن التخمين أن العبقرية السويسرية في ميدان التجارة قد انتظرت ظهور الكونفيدرالية السويسرية بتقاليدها الديمقراطية واستقلالها وسيادة القانون فيها قبل أن تزدهر، غير أن هذا التخمين لا يمتُّ للحقيقة بصلة، بل على العكس تمامًا كانت السلطة السياسية في سويسرا آنذاك لا تتعدى مجموعةً من المدن المزدهرة ولكن المتشبثة باستقلاليتها التامة؛ مثل: بازل وجنيف وسانت جالن وزيورخ، كما أن الافتقار إلى مساحة كبيرة من الأرض الخصبة حالَ دونَ ترسيخِ نظامٍ إقطاعي للتنظيم الاجتماعي، وكانت النقابات الحِرَفية هي الهيئات الأساسية التي تنظِّم المجتمع وتتحكم بالعمالة عَبْر فرض شروطٍ صارمة للعضوية فيها، وتسيطر على التجارة من خلال التحكم بالأسعار.

حينما تجري مياه الأنهار تُثمِر التجارة

أصبحت بازل المركزَ التجاري الأكثر أهميةً بفضل موقعها الجغرافي الذي تُحسَد عليه؛ فالمدينة تمتد على الجانبَين الناطقَين بالفرنسية والألمانية من أوروبا، وفي استطاعة سكانها أن يمارسوا نشاطاتهم التجارية باستعمال اللغتَين بكل سهولة. لقد كان نهر الراين عبر التاريخ القلبَ النابض لأوروبا الوسطى في ميدان التجارة. وتُعتبَر مدينة بازل محظوظةً للغاية؛ لأن هذا النهر يتدفق عَبْرها شمالًا نحو المراكز الصناعية الأكثر أهميةً في المنطقة؛ مثل ستراسبورج ودوسلدورف وإسِّين وروتردام، والجميع يعرف أهمية الأنهار في توفير الخدمات اللوجستية؛ فقد كانت الأنهار بمثابة الرئتَين في المجتمعات الصناعية الأولى، وهي التي تحدِّد طبيعة التجارة الحيوية واتجاهها وسرعتها. ومن بين شبكات الأنهار الكبرى في العالم التجاري مثل الجانج والمسيسيبي والفولجا ويانجتسي، فالراين هو النهر الوحيد الذي يتدفق نحو الشمال والذي تقع مدينة بازل ضمن حدود مساره القابلة للملاحة. وبازل هي — بلا أدنى شك — الميناء الذي لم تحلم سويسرا أن تحتضنه يومًا بين ربوعها؛ فالبضائع تُوضَع ببساطة على بارجةٍ وتصل بلا أدنى مجهود إلى جهاتٍ مختلفة تقع على طول مجرى الراين البالغ ١٢٠٠ كيلومتر. كما أن الجسور أيضًا كانت ذات أهميةٍ استراتيجية كبيرة؛ فعندما بُنِيَ جسر ميتلر بروك (جسر الوسط) في بازل في عام ١٢٢٥ أصبحت المدينة مركزًا تجاريًّا هامًّا للبضائع التي كانت تُنقَل على الأرجل أو على الخيول. وقد شكَّلت هذه الدروب لاحقًا الأساسَ لنظام السكك الحديدية الواسع النطاق القائم حاليًّا في أوروبا، والذي بفضله ازدهرت بازل وكانت دونَ منازِعٍ أغنى مدن سويسرا، وواحدة من أغنى المدن في أوروبا.

أمَّا مدينة زيورخ، فقد تطوَّرت في وقتٍ لاحق وببطءٍ أكبر، ولم تكتسب أهميةً كبيرة قبل أواخر القرن التاسع عشر، عندما نجح ألفريد إيشَّر — مؤسس بنك كريدي سويس — في إقناع نظرائه من السياسيين في سانت جالن وفينترتور وبيرن ببناءِ خطِّ سككٍ حديدية يمرُّ عَبْر ما كان يُسَمَّى في ذلك الوقت «مدن الدرجة الثانية»؛ ما أدَّى إلى تحويلِ مجرى التجارة وتحييدها عن بازل. وقد لعبت زيورخ منذ البداية دورًا بالغ الأهمية في تجارة الحرير؛ ففي عام ١٢١٨ وقبل أن ترى الكونفيدرالية السويسرية النور، كانت زيورخ — إلى جانب أماكنَ أخرى مثل هامبورج — تحظى بمكانة «مدينةٍ حرة» في ظل الإمبراطورية الرومانية المقدسة. ومن المرجَّح أن الإعفاء الضريبي الإمبراطوري الذي كانت تحظى به بحُكم مكانتها هذه قد ساعدها على بناء قدرةٍ إنتاجية كبيرة بالنسبة إلى ذلك الوقت في تصنيع منسوجات الحرير وشحنها وإيصالها إلى مواقعَ أبعدَ من الأماكن المجاورة لها. وفي عام ١٢٥٠ صُدِّرَ قماش الحرير من زيورخ إلى جنوب ألمانيا ومنطقة اللورين، كما إلى جنوب فرنسا وبريطانيا، وإلى فيينا وبراج والمجر وبولندا، لكن انضمام زيورخ إلى الكونفيدرالية السويسرية في عام ١٣٥١، كانت له نتائجُ مدمرة على تجارة الحرير؛ إذ فقدت المدينة أسواقَها بين صفوف الطبقة الأرستقراطية في الإمارات والممالك المحيطة التي كانت تنظر إلى التجربة الديمقراطية السويسرية نظرةً تَشُوبها الريبة. ولم يتغير الوضع إلا عندما نشر أولريخ تسفينجلي الإصلاحَ الديني في زيوريخ في عشرينيات القرن السادس عشر، وأصبحَتِ المدينة — بالتعاضُد مع جنيف — ملجأً للبروتستانت الفارِّين من الاضطهاد، والذين عملوا بعد ذلك على إعادة إحياء قطاع صناعة الحرير وساهموا في توسيعه.

رجال الأعمال من العسكريين

مع انتعاش قطاع التجارة، استمرت تجارة المرتزقة، التي غالبًا ما كانت تسير جنبًا إلى جنب مع العلاقات التجارية في الازدهار. ويُقدَّر أن ما بين القرن الرابع عشر ومنتصف القرن التاسع عشر خدم ما يُقارب مليونَيْ رجلٍ سويسري في صفوف جيوش بلدانٍ أوروبية أخرى، وأحيانًا في صفوف قواتٍ استعمارية إمبريالية تابعة لبريطانيا وفرنسا وهولندا. لم يكن الفقر هو الدافع الوحيد وراء هذه المستويات المرتفعة للخدمة العسكرية خارج حدود البلد، بل إن القيود الصارمة التي فرضتها النقابات في المدن قد حدَّت من فُرَص الترقية وتحقيق الذات؛ ممَّا دفع بالعديد من الشبان إلى الهجرة إلى بلدانٍ أخرى. كان الابن الأوَّل هو الذي يَرِث مزرعة العائلة؛ ولهذا كان على الأبناء الآخرين أن يبحثوا عن أسبابِ رزقهم في أماكنَ أخرى. وقد وصلت معدلات الخدمة في الخارج ذروتها في القرن الثامن عشر؛ حيث كان ٣٥٠ ألفًا من المرتزقة السويسريين يعملون في الخارج، في الوقت الذي كان فيه عددُ السكان المقيمين لا يتعدَّى مليونًا وسبعمائة ألف نسمة.

وحتى منتصف القرن السابع عشر، كانت الأعمال التجارية تحت سيطرة المرتزقة المستقلين ورجال الأعمال من العسكريين الذين يديرون مشاريعهم الخاصة، ويُوفِّرون خدماتِ فِرَقٍ كاملة من الجنود، وكان عددٌ منهم يستغل اتصالاته ومعارفه لإقامة إمبراطورياتِ أعمالٍ كبيرة الحجم. ولعل أحد الأمثلة على رواد القرن السابع عشر في هذا المجال هو كاسبار يودوك فون شتوكالبر، الذي كان يبيع خِدمات المرتزقة السويسريين للقيام بمهماتٍ قتالية لصالح الجيش الفرنسي من مقره في مدينة بريج، ولم يكن نشاطه يقتصر على ذلك؛ فبصفته مالكًا أو مساهمًا في ستة مناجم وتاجرَ معادن ومرابيَ مالٍ ومحتكِرًا لتجارة الملح المحلية وللنقل عَبْر ممر سيمبلون، تمكَّنَ من جمع ثروةٍ هائلة.

يكشف مثال شتوكالبر كيف أن أعمال المرتزقة كانت تسيطر عليها الطبقاتُ الحاكمة في الكانتون التي كانت تستغلُّ نفوذَها السياسي لتحقيق طموحاتها التجارية، وكانت حاجات ومتطلَّبات الاقتصاد الداخلي — في معظمها — أمورًا ثانويةً بالنسبة إلى الطبقة الحاكمة، وإلا فلماذا بعث كانتون زيورخ — على سبيل المثال — فوجًا كاملًا من الجنود إلى فرنسا في عام ١٧٥٢ بالرغم من أن قطاع التصنيع كان في حاجةٍ ماسَّةٍ لهم بصفتهم قوًى عاملة.

ولكن سوق المرتزقة بدأت بالاندثار تدريجيًّا، ليس فقط بسبب انخفاض أجور الخدمة العسكرية وبداية ارتفاع الأجور في صناعة النسيج، بل أيضًا لأن التجنيد الإجباري للخدمة العسكرية كان قد بدأ في العديد من البلدان الأوروبية. وأخيرًا في عام ١٨٥٩ صدر قانون يمنع تجنيد المرتزقة ويضع حدًّا لهذه التجارة.

السويسريون في صميم شبكات العلاقات التجارية العالمية

لم تكن التجارة السويسرية تقتصر على الخدمة العسكرية للمرتزقة، بل كان هناك ازدهارٌ موازٍ في ميدان التجارة العامة التي لم يكن يُدِيرها حصريًّا التجار الأثرياء، بل أيضًا رجالٌ ذوو أصولٍ متواضعة كانوا قد جالوا العالَم وبنَوْا شبكاتِ اتصالٍ غنيةً بالعلاقات التجارية.

عرفت سويسرا على مر الزمن أعلى النِّسَب في النوعَين الرئيسيَّين من الهجرة، وهما: السويسريون الذين يعملون في الخارج، والأجانب الذين يعملون في سويسرا. ويُعتبَر العمَّال المهاجرون مصدرَ قوة في مجال التصنيع؛ لأن السبيل الوحيد لتسلُّق السلم الاجتماعي يمرُّ بوجوبِ تحقيقِ الإنجازات؛ حيث إن سُبُل المساعدة المتاحة لهم محدودة؛ لأنهم في بلد غير بلدهم؛ ومن ثَمَّ تُتاح للمهاجرين إمكانياتٌ كبيرة، ولكنها في الوقت نفسه تشكِّل عوائقَ ينبغي تجاوُزها؛ فمن ناحية عليهم استغلال كل طاقاتهم في العمل من أجل البقاء، ومن ناحيةٍ أخرى عليهم تحقيق الأداء المطلوب لكسْبِ احترامِ الآخرين. وهم لا يُركِّزون على الماضي، بل يصبُّون كلَّ اهتمامهم على المستقبل، ولطالما كانت هذه الطاقة الثنائية الأهداف سِمةً مميزةً في تنظيمِ نسَقِ المشاريع وفي تكوين الصناعة السويسرية منذ بداياتها حتى يومنا هذا.

جينات الهاجينوت تجري في عروق السويسريين

كانت أول موجةِ هجرة — وربما أهمها على الإطلاق — هي تلك التي أعقبت مذبحة عيد سان بارثلوميو بباريس في عام ١٥٧٢؛ إذ هرب الهاجينوت أفواجًا إلى سويسرا وهولندا وبروسيا على وجه الخصوص، حاملين معهم أخلاقياتِ عملٍ قويةً ومهاراتٍ حِرَفيةً عاليةَ المستوى، إلى جانبِ مستوًى تعليميٍّ جيد وقدرة على الإبداع. كان عددٌ لا بأسَ به منهم قد أتى من المدن الساحلية الفرنسية؛ وبذلك كانوا قد اكتسبوا خبرةً واسعة في ميدان التجارة، وكانوا يعملون على هامش المجتمع ويكنُّ بعضهم لبعض ولاءً لا نزاعَ فيه، وكانت التجارة وسيلتهم للارتقاء وتحقيق الذات داخل المجتمع، كما أنها لم تكن تتطلَّب رأسَ مالٍ كبيرًا، بل علاقاتٍ جيدة وعملًا دءوبًا فقط، ولا شكَّ أنهم كانوا يحقِّقون الازدهارَ أينما حلُّوا. والجدير بالذكر أن إلوتير إرينيه دو بون وجون روكفيلر وهنري دافيد ثورو ووارين بافيت، جميعهم منحدرون من الهاجينوت، وفي سويسرا (كما سيَرِد لاحقًا في الأقسام المَعْنيَّة من هذا الكتاب) كان المهاجرون الهاجينوت من بين مؤسسي البنوك الخاصة في جنيف وشركات صناعة الساعات وصناعة الأدوية في بازل، كما أن أصحابَ أسماءٍ معروفةٍ مثل بريجيه وهنتش هم أيضًا من سلالة الهاجينوت.

وبعد انتهاء الحرب النابليونية في عام ١٨١٥، حملت الهجرة أعدادًا كبيرةً من السويسريين إلى الخارج، وهذا ما ساعَدَ على تقوية العلاقات التجارية. لم تُوفَّق سويسرا في استيعاب الزيادة الحادة في عدد السكان التي شهدتها حوالي عام ١٧٧٠؛ ما أدَّى إلى فتراتِ مجاعةٍ متكررة، وبين عامَيْ ١٨١٦ و١٨١٧ هاجَرَ ما يقارب ٠٫٥ في المائة من سكان البلاد، وذهب الكثير منهم إلى أمريكا؛ حيث استقر هناك أكثر من ثلث المهاجرين السويسريين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأُسِّست «مدنٌ سويسرية» كاملة وبأسماءٍ سويسرية مثل نيو بيرن (بيرن الجديدة)، أو نيو جلاروس (جلاروس الجديدة)، وربما كانت أهمها نيو هيلفيتيكا (هيلفيتيكا الجديدة) التي أُسِّست في كاليفورنيا بين عامَيْ ١٨٣٩ و١٨٤٠. كما انتشَرَت مثل هذه المستعمرات السويسرية أيضًا في العديد من البلدان الأخرى، موفِّرةً ملاذًا لفُرَادى المغامرين الذين كانوا دائمًا في طليعة التجارة الخارجية.

حصة للرب وأخرى للعبد

كانت إمكانية حصول سويسرا على حصةٍ كبيرة من التوسُّع الكبير في التجارة العالمية التي شهدها القرن التاسع عشر أمرًا يتطلب أكثرَ من مجرد وجود أفرادٍ مستقلين؛ ففي عالَمٍ تهيمن عليه الإمبراطورية البريطانية الناشطة التي بُنِيَت على أساس التحكُّم بالتجارة البحرية العالمية، كان لا بد لسويسرا أن تنظِّم صفوفَها كي يكون لها أثرٌ في التجارة، وكانت إحدى المنظمات السويسرية الرائدة التي مارَسَتْ عملياتٍ تجاريةً بين القارات هي بعثة بازل. تأسست جمعية بازل الإنجيلية في عام ١٨١٥، وكان يدعمها أثرياءُ وأتقياءُ من المدينة، وكان هدفُهم هدايةَ الوثنيِّين إلى الدين، وأيضًا «نشر الحضارة عبر العمل الخيري». لا شكَّ أن الدوافع كانت إنسانية، أمَّا الخطة فقد كانت عمليةً ومحددة؛ إذ حرصت البعثة على المساهمة في إلغاء العبودية، وهذه مسألة كانت في تلك الفترة تُثير الجدلَ بشكلٍ متزايد في العالم الغربي، وكانت نيَّتُهم أن يحقِّقوا هدفَهم هذا عن طريق المبادلات التجارية. ومع أن المملكة المتحدة كانت قد حظرت تجارةَ الرقيق في عام ١٨٠٧، غير أن ممارسة الاسترقاق وتجارة العبيد استمرت خارج سيطرة بريطانيا إلى أن أُلغِيَتْ نهائيًّا في عام ١٨٣٣. كانت قبائلُ عديدة في غرب أفريقيا تشارك مباشَرةً في توريد الرقيق، وكان الخيِّرون في بازل يعملون عبر ما سُمِّيَ ﺑ «مهمة تشجيع الصناعة» على إحلالِ بنيةٍ اقتصادية جديدة محلَّ تجارة الرقيق؛ ولهذا الغرض بادروا بإرسال نجَّارين وحدَّادين وصانعي عربات ومزارعين إلى غرب أفريقيا للعمل مُبشِّرين، ولتدريب أعدادٍ من السكان المحليين على هذه المِهَن.

عالَم الكاكاو والبن والذهب

وصل أوائل المبشرين إلى ساحل الذهب (غانا اليوم) في عام ١٨٢٨، وكانوا يعتزمون إقامةَ أعمالٍ للاتِّجار بالبهارات والعاج والأخشاب. وابتداءً من عام ١٨٥٥ باشَرَتِ البعثةُ إدارةَ أول متاجر لها، وكانت تقوم باستيراد السلع من ألمانيا والمملكة المتحدة وتصدير كمياتٍ صغيرة من البن. مرَّتِ الأعوام وازدهرت هذه التجارة، ليس في أفريقيا فحسب بل أيضًا في جنوب الهند؛ حيث كانت العمليات التجارية قد بدأت في عام ١٨٣٤، وكانت بعض هذه المشاريع قد ساعدت على تشكيل مصير الدول؛ ففي عام ١٨٩٣ شَحنَت بعثة بازل أول كيس كاكاو من ساحل الذهب نحو أوروبا، وفي أوائل القرن العشرين أصبحت تلك المستعمرة أكبرَ مُنتِجٍ للكاكاو في العالم.

figure
بالم، أول سفينة شراعية تابعة لبعثة بازل لنقل البضائع من أفريقيا.

لقد ساعدت بعثة بازل أصحابَ المزارع والتجار وزعماء القرى من الأفريقيين على تحقيقِ نوعٍ من الازدهار، كما ساعدت أيضًا صناعةُ الشوكولاتة السويسرية التي كانت في أوج ازدهارها في تلك الحِقْبة. ولسنواتٍ طويلةٍ ظلَّ ساحلُ الذهب تحت سيطرة سويسرا بصفتها مصدرًا وحيدًا للكاكاو؛ هذه المادة الأولية الحيوية لمصانع الشوكولاتة. وفي عام ١٩١٧ قُسِّم النشاط التجاري لبعثة بازل التي كانت توظِّف قرابة ٦٥٠٠ شخصٍ حول العالم؛ حيث فُصِل هذا النشاط التجاري عن البعثة الإنجيلية، وأُعِيد تنظيمه ليصبح في نهاية المطاف شركة بازل التجارية، بالرغم من أن هذه الأنشطة كانت في الواقع تُدار فعليًّا من طرف شركةٍ تابعة تُسَمَّى يونيون تريدينج كومباني.

نهاية حِقْبة من الزمن

تطوَّرت شركة بازل التجارية لتصبح واحدةً من أهم الشركات التجارية السويسرية في القرن العشرين، وظلت تعمل بالطريقة الاستعمارية الكلاسيكية التي تتمثَّل بشحْنِ المنتجات المُصنَّعة من أوروبا، وبالخصوص المرافق الأساسية والمواد الغذائية، وفي المقابل تأخذ المنتجاتِ الزراعيةَ مثل زيت النخيل والقطن والكاكاو. ولكن في أواخر الستينيات من القرن الماضي واجهَتِ الشركة صعوباتٍ ماليةً بسبب الانهيار الاقتصادي الذي أتى تدريجيًّا ولكنه كان حتميًّا عقِبَ استقلالِ العديد من بلدان غرب أفريقيا.

لفترةٍ من الزمن، ركَّزت الشركات — التي اندمجت معًا في هذه الأثناء وأصبحت مجموعةً تجارية — اهتمامَها على تجارة التجزئة في سويسرا، وبحلول عام ١٩٩٠ كانت المجموعة تشغِّل ما يقارب ٨٠٠٠ موظف، وبلغت مبيعاتها ٢٫٨ مليار فرنك سويسري. أمَّا اليوم فقد أصبحت شركة بازل التجارية شركةً إدارية بحتة تقدِّم خدماتها لفروعٍ أخرى من شركة ويل إنفيست، وهي الشركة التي استحوذَتْ على شركة بازل التجارية في عام ٢٠٠٠. وحسبما يفيد موقعها الإلكتروني، توظِّف الشركة حاليًّا سبعة موظفين إداريين، واثنَي عشر عاملَ نظافة، خمسة منهم بدوامٍ كامل وسبعة بنصف دوام، هذا كلُّ ما تبقَّى ممَّا كان سابقًا أهمَّ شركةٍ تجارية سويسرية على الإطلاق.

كيف أطلقت التجارة الحرة العِنان لسويسرا لتتحرَّر بدورها؟

بعد مرور بضعة أعوام على ذهاب المُبشِّرين من بازل إلى أفريقيا حاملين معهم «مهمتهم الصناعية»، خامرت أيضًا بعضَ الشبَّان من زيورخ وفنترتور المتعطشِين للمغامرة فيما وراء البحار فكرةُ إقامةِ علاقاتٍ تجارية مع أماكنَ نائيةٍ في الخارج، وكانت تلك فرصةً مناسبة؛ إذ إن سيطرة الدول العظمى على مجال الملاحة البحرية وبعثات الاستشكاف دامت طَوالَ قرونٍ عدة، ومنها البرتغال وإسبانيا وفرنسا وهولندا وبريطانيا التي كانت تُحكِم قبضتها على مسار التدفقات التجارية عن طريق نقلها بسُفُنها الخاصة. إلا أنه في عام ١٨٤٩ ألغت المملكة المتحدة — أهمُّ قوةٍ تجارية في العالم آنذاك — مرسومَ أوليفر كرومويل للملاحة البحرية الصادر عام ١٦٥١، الذي كان ينصُّ على أن استيراد البضائع إلى بريطانيا من خارج أوروبا يتم حصريًّا على مَتْن السفن البريطانية. كانت المملكة المتحدة قد تبنَّتْ حديثًا مفهومَ التجارة الحرة التي أوجدت فرصًا جديدةً خاصة أمام التجار القادمين من البلدان غير الساحلية، وهذا ما فتح أسواقًا أدرك السويسريون أن في وسعهم تحقيقَ أرباحٍ فيها.

وكان من بين هؤلاء الذين استغلوا الفرص الجديدة المُتاحة رجلان من فينترتور، هما سلُمون فولكَرت وأخوه الصغير يوهان جورج الذي لم يكُن عمره آنذاك يتجاوز العشرين عامًا، والذي كان يعمل في الهند في شركة الإخوة فولكرت التي تأسَّست عام ١٨٥١، وكانت مهمتُه إدارةَ مكتب بومباي، وهذا ما قام به حتى وفاته بعد عشر سنوات. أمَّا سلُمون فقد بقيَ في سويسرا، وسويًّا كانا قد وسَّعا أعمالهما التجارية في جميع أنحاء شبه القارة الهندية لتشمل كولومبو (التي باتت اليوم سريلانكا)، وكوشين (على ساحل مالابار التي أصبحت اليومَ ولايةَ كيرالا الهندية)، وكراتشي في الباكستان. في البداية كانت الشركة تستورد القطنَ الذي يشكِّل المادةَ الأولية الأساسية لصناعة الغزل والنسيج في شرق سويسرا، وفي وقت لاحق، أضافَتِ المنتجاتِ الاستوائيةَ كالزيت والأصباغ الطبيعية والمطاط والشاي والبن والبهارات. وفي بومباي بدأت الشركة ببيع الورق والصابون وعلب الكبريت، ثم وسَّعت نشاطها ببيع الساعات والمنسوجات والآلات المستوردة من سويسرا. كانت الأعمال تسير بشكلٍ جيد، وفُتِحت فروعٌ للشركة في لندن وشنغهاي وأوساكا وبريمن ونيويورك وسنغافورة والبرازيل.

آل فولكرت وآل راينهارت

بعد وفاة الأخوَين فولكرت، التحق بالشركة شابٌّ يُدْعَى تيودور راينهارت، وأصبح إلى جانب جورج فولكرت — ابن سلُمون فولكرت — من الوجوه البارزة في الشركة، ولكن التوتُّرات والخلافات نشأت بين الرجلين؛ ما أدَّى في عام ١٩٠٨ إلى انفصال جورج فولكرت عن الشركة، وبعد مرور ستين عامًا على تأسيس الشركة، انتقلت ملكيتها بالكامل إلى عائلة راينهارت، واستطاعت الشركة أن تخرج سليمةً نسبيًّا من الحرب العالَمية الأولى بالرغم من تدهور العلاقات بين سويسرا والهند. أمَّا في سنواتِ ما بين الحربَين، فقد شهِدت الشركة أكثرَ الفترات نجاحًا في تاريخها. كانت عمليات إعادة البناء في البلدان التي تضرَّرت من الحرب قد صاحبتها زيادةٌ كبيرة في الطلب على المواد الأولية والبضائع بجميع أنواعها. وخلال الحرب العالمية الثانية، ركَّزت الشركةُ نشاطَها على تزويد سويسرا بالأطعمة الأجنبية والسلع الاستهلاكية الأساسية، وأقامت علاقاتٍ تجارية مع بلدانٍ أخرى محايدة في أوروبا، وفي أواخر أربعينيات القرن العشرين أُنشِئت فروعٌ إضافية في الأمريكتَين الشمالية والجنوبية؛ حيث شهِدَت تجارة القطن والبن والكاكاو زيادةً مستقرة، وبحلول عيدها المئوي في عام ١٩٥١، كانت الشركة توظِّف ٦٠٠٠ شخص في جميع أنحاء العالم.

figure
أواخر القرن التاسع عشر: جزء من عمليات تجارة البن التابعة للإخوة فولكرت في الهند. كانت شركة فولكرت، التي تأسَّست في عام ١٨٥١، إحدى الشركات القليلة التي ازدهرت هناك في مُواجَهةِ احتكارِ شركة الهند الشرقية لقطاع التجارة.
مما لا شكَّ فيه أن كلًّا من عائلة آل فولكرت وآل راينهارت قد تركت بصمتَها على الحياة الثقافية في فينترتور، وعلى سبيل المثال، اهتمت مؤسسةُ فولكرت — التي أُنْشِئَت عام ١٩٥١ — بإدارة متحف فينترتور للتصوير الفوتوغرافي، كما عُرِضت مجموعاتٌ فنية هامة للجمهور في متحف أوسكار رايتهارت، إضافةً إلى عرض مجموعة أوسكار راينهارت الخاصة، وفي عام ١٩٨٥ اشترى أندرياس راينهارت حصصَ الشركة المتبقية لدى أفراد الأسرة ليتولى بنفسه إدارة الشركة؛ ومِنْ ثَمَّ باشَرَ باعتمادِ سياسةِ تنويعٍ مدروسة مسبقًا في مجال النظام المالي.١ وفي عام ١٩٨٩ بِيعَ قسمُ تجارة البن إلى مجموعة إيرب، التي عمِلَت تحت اسم فولكافيه، وفي عام ٢٠٠٤ بِيعَتْ شركةُ فولكافيه إلى الشركة البريطانية إي دي آند إف مان، وهي واحدةٌ من أكبر شركات تتسويق السلع الأساسية في العالم.

علاقات سويسرا مع اليابان

بالرغم من أن شركة دي كيه إس إتش ليست من الأسماء المعروفة في العالم، فإنها من أكبر الشركات التجارية العالمية، وهذه التسمية تتألف من الأحرف الأولى لأسماء مؤسِّسيها الأربعة: ديتهيلم وكيلر وسيبر وهيجنر، وهم من الروَّاد الذين أسَّسوا هذا العملاق السويسري في منتصف القرن التاسع عشر، وكان ذلك بفضلِ فرصةٍ هائلة ظهرت فجأةً في عام ١٨٥٤، عندما قرَّرت الولايات المتحدة أن ازدهارَ العالَم يتوقف على الانفتاح على الإمبراطورية اليابانية.

كان سكرتير البعثة السويسرية التي وصلت إلى اليابان في عام ١٨٦٣ شابًّا يُدْعَى جاسبار برينفالد، وكان قد سبق له أن تَعَرَّف على البلاد وعلى اقتصادها، وبعد عودته إلى سويسرا أقنع صانعَ حريرٍ شابًّا يُدْعَى هيرمان سيبر، يبلغ من العمر ٢٣ عامًا، بالانضمام إليه في مشروعه لإنشاء شركةٍ تجارية في يوكوهاما، وهكذا تأسَّست شركة سيبر وبرينفالد في عام ١٨٦٥. كانت الشركة تبيع المنتجاتِ الصناعيةَ السويسرية لليابان، وتستورد كميةً كبيرة من الحرير الخام لصناعة النسيج في سويسرا. وفي عام ١٩٠٠ أدخَلَ سيبر إلى الشركةِ ابن أخته روبرت هيجنر الذي كان قد عمل سابقًا في مجال غزل الحرير في بيجامو وليون، وبعد أن وسَّعت الشركة أعمالَها إلى الهند، تغيَّرَ اسمها ليصبح سيبر-هيجنر وشركاؤهما.

كان إدوارد أنطون كيلر — الذي بدأ مسيرته في الفلبين — واحدًا من الشخصيات الأخرى التي ساهمت في تأسيس شركة دي كيه إس إتش، وكان بالكاد يبلغ عمره ٢٠ عامًا عندما أبحر إلى الأرخبيل وحصل على وظيفة في شركة للاستيراد والتصدير في مانيلا، وكانت الشركة التي عمل فيها تستورد السلع الاستهلاكية من العديد من البلدان الأوروبية كالمنسوجات من سويسرا، والبيرة وورق السجائر من النمسا، والزجاج من ألمانيا، والأثاث من إسبانيا، وورق الكتابة من بلجيكا. أصبح كيلر شريكًا في هذه الشركة التجارية، وفي النهاية تملَّكها بالكامل في عام ١٨٩٧ وأعاد تسميتها لتصبح إي آي كيلر وشركاؤه.

أمَّا العضو الخامس في فريق شركة دي كيه إس إتش فهو فيلهيلم هاينريخ ديتهيلم، الذي بدأ مسيرته المهنية في مستعمرة التاج البريطاني؛ سنغافورة، وكان قد هاجَرَ إلى هناك من كانتون تورجاو في عام ١٨٧١، وكان عمره ٢٣ عامًا، حيث حصل على وظيفة في شركة استيراد وتصدير هولندية، ولم يلبث أن أصبح شريكًا فيها، ولكنه ما لبث أن أسَّسَ شركته الخاصة في زيورخ باسم فيلهيلم هاينريخ ديتهيلم وشركاؤه، التي قامت بدورِ وكيلٍ تجاريٍّ عامٍّ لحساب الشركة الهولندية في سنغافورة. وبالنسبة إلى فيلهيلم ورجالِ أعمالٍ سويسريين شُبَّان آخَرين في الهند والشرق الأقصى، أدى افتتاح قناة السويس للملاحة في عام ١٨٦٩ إلى إعطاء دفعةٍ هائلة للتجارة، وبعد ذلك فتح فيلهيلم فرعًا في بانكوك إلى جانبِ عملياتِ استحواذٍ أخرى في هونج كونج وفي البر الرئيسي في الصين.

من تجار إلى دبلوماسيين

في مطلع القرن العشرين، كانت زيورخ مقرًّا لثلاث شركاتٍ هامة للاستيراد والتصدير عبر القارات، وهي شركة سيبر-هيجنر وشركاؤهما، وشركة فيلهيلم هاينريخ ديتهيلم وشركاؤه وشركة إدوارد أنطون كيلر، ومما ساعد الأعمال التجارية إلى حدٍّ بعيد هو أن ممثلي هذه الشركات المذكورة أصبحوا في غالب الأحيان ممثلين دبلوماسيين غير رسميين؛ ففي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كانت لا مركزية الإدارة في سويسرا — بالإضافة إلى حجمها الصغير — لا يسمحان بتوفير ميزانية لإرسال بعثاتٍ دبلوماسية إلى كل بلدٍ أجنبي، وبهذا أخذت الشركات التجارية هذه المهمة على عاتقها.

كما أن الأعمال التجارية السويسرية غالبًا ما كانت تحكمها قواعدُ غيرُ مكتوبةٍ واتفاقاتٌ غير مُعلَنة، وفي هذه الحالة كانت إحدى هذه القواعد بين أصحاب الشركات التجارية الثلاث في زيورخ هي ألا يدخل أحدهم سوق الآخر، ولم يتغير هذا الأمر إلا خلال الاضطرابات الاقتصادية الكبرى التي حصلت في الماضي القريب وغيَّرت الوضع بشكلٍ كبير.

إلغاء القانون غير المكتوب

figure
صورة تاريخية للعلامة التجارية لشركة سيبر-هيجنر وشركاؤهما في آسيا، التي كانت شركةً رائدة في التجارة بين سويسرا واليابان في أواخر القرن التاسع عشر.

في ربيع عام ١٩٩٧، شَهِدَت تايلاند أوَّلًا ثم بُلْدانٌ أخرى في جنوب شرق آسيا انفجارَ فقاعةٍ مالية كانت نتيجةً للتضخم الحاصل في حجم الائتمان، فضلًا عن الارتفاع الحاد في أسعار العقارات وفي تقييم الشركات. ولقد عجز العديد من هذه البلدان المذكورة التي كانت تُنْعَت ﺑ «النمور الآسيوية» عن الإيفاء بالتزاماتِ ديونها المُقوَّمة بالدولار، ودخلت فترةَ ركودٍ كان عميقًا بقدرِ ما كان مفاجئًا، وتسبَّبت هذه الأزمة الاقتصادية أيضًا في تقليص أحجام مبيعات شركات الاستيراد والتصدير وأرباحها.

figure
صورة تاريخية للعلامة التجارية لشركة كيلر وشركاؤه في آسيا، وهي الشركة الوحيدة التي ما زالت تواصل نشاطَها من بين العديد من الشركات التجارية التي كانت ناشطة في الشرق الأقصى.

كانت شركة سيبر-هيجنر بين أول المُتضرِّرِين؛ إذ سرعان ما ظهرت حاجتها المُلِحَّة لتوفيرِ رأسِ مالٍ جديد ممَّا أدَّى إلى بيعِ جزءٍ من ملكيتها إلى إرنست مولر موهل، وهو رجلُ أعمالٍ ورجلُ اقتصادٍ اشترى حصةً تساوي ٣٠٪ من الشركة، وفي المقابل عيَّنَ إرنست مولر موهل رئيسًا تنفيذيًّا جديدًا يُدْعَى يورج فولِّي، الذي شرع في إعادة تنظيم الشركة لتصبح محترفةً في مجال «تقديم الحلول» للشركات الراغبة في القيام بأعمال تجارية في آسيا.

figure
مستودع الخدمات اللوجيستية الحديث لشركة دي كيه إس إتش في بانكوك، تحت إدارة أدريان كيلر. دخلت الشركة سوق الأسهام في عام ٢٠١٢، وتبلغ قيمتها ٣٫٢ مليارات دولار.

وتبِعَت ذلك عملياتُ استحواذٍ أخرى، وخاصةً شراء كوزا ليبرمان، وهي شركةٌ سويسرية متخصصة في تجارة السلع الاستهلاكية في الشرق الأقصى، وكذلك الفروع الآسيوية لشركةٍ سويسرية أخرى تُسَمَّى داسكو. وبحلول عام ٢٠٠٨، كانت شركة دي كيه إس إتش قد وحَّدت معظم شركات الاستيراد والتصدير السويسرية، وعزَّزت مكانتها بصفتها شركةً رائدة في مجال توفير الخِدمات، كما مهَّدت الطريق لمزيدٍ من التوسُّع في السوق الآسيوية.

من جبال الألب إلى آسيا

وتمامًا مثل شركة دي كيه إس إتش، هناك مجموعة تسويليج، وهي أيضًا شركةٌ غير معروفة نسبيًّا، وكانت نشأتها في آسيا، ولكن على عكس شركة دي كيه إس إتش كان مقرها الرئيسي في هونج كونج بدلًا من زيورخ. تُعتبَر مجموعة تسويليج نموذجًا عن الطابع العالمي لسويسرا لكونها شركة ركَّزت نشاطَها التجاري على الأسواق الآسيوية، إلا أنها حافظت على علاقاتٍ وثيقة مع سويسرا على مدى عدة أجيال. كما أن إحدى أكبر الشركات ذات الملكية الخاصة في آسيا أسَّستها (وتملكها حاليًّا) عائلةٌ سويسرية تقوم مكاتبها في مدينة رابرسفيل، ورئيسها التنفيذي الحالي هو ويليام ماني الذي انضمَّ إلى المجموعة بعدَ أنْ كان يعمل رئيسًا للشئون التجارية في شركة الطيران الدولية السويسرية.

لقد مرَّ على تأسيس شركة تسويليج للاستيراد والتصدير ما يقارب قرنًا من الزمن، إلا أن الشركة قد حقَّقت انطلاقتها الحقيقية بعد الحرب العالمية الثانية، ورسميًّا تأسَّست إف إي تسويليج المتحدة في عام ١٩٢٢، إلا أن جذورها تعود إلى ما قبل هذا التاريخ بقرنٍ من الزمن، عندما انضمَّ فريدريك إدوارد تسويليج إلى مؤسسة لوتز وشركاؤه، وهي شركةٌ تجارية سويسرية كان مقرها في مانيلا، وبعد مرور ٤ سنوات أصبح تسويليج شريكًا، وأصبح بذلك اسم الشركة لوتز وتسويليج، ثم بعد مرور ٦ سنوات أخرى، اشترى تسويليج الشركة بأكملها. واليومَ تركِّز مجموعة تسويليج نشاطَها التجاري بشكلٍ خاصٍّ على بيع وتوزيع منتجات الرعاية الصحية. غير أن إف إي تسويليج كانت قد دخلت قطاع الصيدلة في أواخر الثلاثينيات بعد أكثر من عَقدٍ من العمل بشكلٍ رئيسي في قطاع النسيج، وفي الوقت نفسه تقريبًا، أنشأت الشركة فرعًا لها في سنغافورة.

أعمال تجارية اشتد عودها في زمن الحرب

كانت الأربعينيات أصعبَ عقدٍ عرفته الشركة. كان تسويليج في مدينة نيويورك في عام ١٩٤٣ عندما أُصِيب بسكتةٍ دماغية مفاجئة أودت بحياته، وفي تلك الأثناء كان أولاده الثلاثة مُرغَمِين على البقاء في الفلبين التي كانت تحت سيطرة اليابان في منتصف الحرب العالمية الثانية، بينما كانت والدتهم مُقِيمةً في سويسرا. كان إذًا على ستيفن تسويليج الابن البالغ من العمر ٢٦ عامًا أن يدير الشركة بصحبة أخيه الصغير جيبلرت. كان ستيفن قد وُلِدَ في مانيلا، ولكن عائلته أرسلته لاحقًا إلى سويسرا للدراسة، ولم يكن قد مرَّ على رجوعه إلى الفلبين أكثر من عامَين عندما وجد نفسه على رأس شركة إف إي تسويليج إلى جانب أخيه الذي لم يمرَّ على رجوعه إلى الفلبين سوى خمس سنوات. وفي عام ١٩٤١ حصل ستيفن على دكتوراه في علم الاقتصاد من جامعة زيورخ، وكان حلمه أن يصبح أستاذًا جامعيًّا، إلا أن تولِّيه مهامَّ إدارةِ الشركة المفاجئ قد دفعه للتخلِّي عن آماله.

وإلى جانب صِغَر سنِّهما وعدم خبرتهما، كان على ستيفن وأخيه جيلبرت أن يواجِهَا مصاعبَ تجسَّدت في شكلِ تهديدٍ على حياتهما من طرف المحتلين اليابانيين، وفي وقتٍ لاحق، واجَهَا محاولاتٍ من الأمريكيِّين تهدف إلى طردهما من البلد. بصفةٍ عامة، كانت الحرب تجربةً حزينة ومؤلمة، ولكنها عزَّزت الروابطَ بين أفراد هذه الأسرة، وبعد الحرب كانت الشركة قد انهارت، ولم يكن الأَخَوانِ يملكان لإعادة بنائها غيرَ القليل إلى جانب دفتر عناوين والدهما الذي لا يُستهان به؛ لأنه كان محبوبًا ويحظى بالثقة، كما كانت له علاقاتٌ مهنية جيدة خاصة في أوروبا والولايات المتحدة؛ ونتيجةً لذلك عادت الأعمال التجارية في الفلبين إلى الأَخَوَينِ أثناء مرحلة إعادة البناء وازدهرت الشركة من جديد.

التداوُل بموجب قواعد خطة مارشال

اتَّسَمت فترةُ ما بعد الحرب بالحيطة والحذر مُقارَنةً بالتجارة خلالَ فترةِ ما قبل الحرب. ولم يكن لستيفن روح المغامرة التي كانت لدى والده، ولكن كان يتعين عليه خوض بعض الرهانات؛ فالحرب كانت قد دمَّرت بلدانًا بأكملها، وشكَّل النقصُ في توافُر السلع بوادرَ تُبشِّر بأملِ تعافي الشركة من وعكتها الاقتصادية. وبدايةً كان الأخوان يتاجران في كلِّ ما تقع عليه أيديهما، ويقومان بدور حلقةِ اتصالٍ هامة للأمريكيين بصفتهم مشترين في إطار خطة مارشال للمشتريات. وكانت خطة مارشال هديةً لا تُقدَّر بثمن؛ فمنذ أن عمل الأخوان تسويليج في إطارها نجحا في تأسيسِ علاقاتٍ جيدة مع الولايات المتحدة، وكذلك مع الدول التي تعاني نقصًا شديدًا في المُنتَجات.

أدخلت الحكومة الفلبينية سريعًا ضوابطَ رقابةٍ على صرف العملات وعلى الاستيراد؛ مما جعل الأخوين تسويليج يوجِّهان اهتمامهما نحو ماليزيا وتايلاند للتوسُّع. كما تخلَّتِ الشركة عن بعض الأعمال الأقل ربحيةً، وبدأت تركِّز على المستلزمات الطبية والعلاجية والتأمين، إلى جانب تصنيع الأغذية؛ ولذلك قاما بإنشاء مجموعة جولد كوين في عام ١٩٥٣. كان الأخوان قادرَيْن على الحفاظ على ميزةِ تفوُّقٍ على منافسيهم من خلال العمل على نطاق أوسع، وهو ما جعل الفرصَ قليلةً أمام المنافسة خاصةً في قطاعات الصيدلة. وبدأت المجموعة خلال الثمانينيات بالقيام بعملياتِ استحواذٍ هامة، واستمرت على ذلك المنوال لفترةِ عقدٍ آخَر. وبالرغم من أن ستيفن يؤكد أن حظوظ الشركة كانت هائلةً بفضل النمو الاستثنائي الذي شهدته المنطقة؛ فإنه من المؤكد أن بعض القرارات التي اتُّخِذت لم تكن صائبة. واليومَ تُعتبَر مجموعة تسويليج رائدةً في مجال التزويد بمستلزمات الرعاية الصحية في آسيا، كما أنها تمتلك شركاتٍ صناعيةً رائدة في القطاع الزراعي.

أعلى درجات التحفظ والتكتم

يُعتبر ستيفن تسويليج رمزًا في البلدان التي تنشط فيها مجموعة شركات تسويليج، وهو الآن رجلٌ مثقف من نبلاء العهد القديم. وبالرغم من سنواته التسعين، فهو يواصل توجيهَ الشركة إلا أنه لم يَعُدْ يُدِيرها، وهو بطريرك عائلة تسويليج الكبير، والقنصل العام الفخري للفلبين في موناكو، وعضو في المجلس الاستشاري الدولي لرئيس الفلبين. وهو كذلك شريكٌ مع وَرَثة أخيه الراحل جيلبرت في مجموعة ماينجتانج، وهي واحدة من أكبر وأرقى وأعرق مجموعات تُحَف الخزف الصيني القديم، وتُقَدَّر قيمتها بأكثر من مليار دولار. عندما وُلِدَ ستيفن، كان الناس يسافرون إلى آسيا بالسفن البخارية ويتواصلون عن طريق التلكس، ولكنه واكَبَ أيضًا عصر اختراع السفر الجوي والهاتف الجوال والإنترنت. ومن جانبه قام ستيفن بتغييرِ تجارةِ وتوزيع الإمدادات الطبية في قطاع الصيدلة في آسيا والمحيط الهادئ.

وبالرغم من كل ذلك تبقى مجموعةُ تسويليج محاطةً بالغموض إلى حدٍّ ما، وفي بلدٍ يأوي العديدَ من التجار الذين يحبون صبغةَ الخصوصية، يمكن القول إنها الشركةُ الأقل شهرةً والأكثر تحفُّظًا. وحتى ماريوس بورن، رئيس تحرير برنامج إيكو للأعمال الرائدة في سويسرا، وهو برنامج تلفزيوني يُبَثُّ أسبوعيًّا على القناة الوطنية السويسرية الأولى، التي تعادل قناة بي بي سي؛ اعترف أنه لم يسمع بهذه المجموعة من قبل، ففي أيِّ مكانٍ آخَر — غير سويسرا — يمكن أن تُوجد شركةٌ تبلغ عائداتها ١٢ مليار دولار، وتشغِّل ما يزيد عن ١٠ آلاف شخص في ١٩ بلدًا، ومكاتبها لا تبعد سوى ٢٠ دقيقة فقط عن العاصمة زيورخ، وتبقى غير معروفة بعد ما يقارب قرنًا من مزاولتها النشاط التجاري؟

التنقل في خضمِّ أسواق لا تخضع للمنطق

تُبين هذه اللمحة السريعة عن تاريخ شركات الاستيراد والتصدير خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بوضوح، صفاتِ المغامرة والمُثابَرة التي تتحلَّى بها البلاد. إلا أن بعض التطورات الحديثة في مجال التجارة العالمية للسلع الأساسية كانت بدورها مثيرةً للإعجاب؛ إذ إنها وضعت الشركات السويسرية في مكانةٍ ريادية فريدة من نوعها. وعندما بدأ اقتصاد البلدان الناشئة بالتصنيع، أصبح هناك طلبٌ هائل على المواد الخام، وبات التداول بهذه السلع يحوز على أهمية استراتيجية كبيرة، فهذه تجارة غالبًا ما تجمع بين شُركاءَ مختلفين، ويتعين إجراء الصفقات بينهم عن طريقِ وسطاءَ مستقلين وجديرين بالثقة من ذوي الموهبة في مجالَيِ الاتصالات والتحفُّظ، وهذه كلها صفاتٌ تجري في عروق السويسريين.

كيف لبلدٍ صغيرِ الحجم مثل سويسرا أن يحتلَّ مكانةً بهذه الأهمية في تجارة السلع؟ ممَّا لا شكَّ فيه أن روَّاد القرن التاسع عشر كانوا من تجار السلع الأساسية، غير أنه باستثناء حالتَين فقط، لم تُوفَّق أيُّ شركة في الحفاظ على مكانةٍ مرموقة في مضمار التجارة الحديثة للسلع الأساسية؛ ففي عام ٢٠٠١ أفلسَت شركة أندريه وشركاؤه التي أُنشِئت في لوزان في عام ١٨٧٧، والتي كانت واحدةً من أشهر خمسِ شركاتٍ عالمية لتجارة الحبوب، ومن بين أسباب هذا الإفلاس كان سوء التخطيط للخلافة في إدارة الشركة، وهذه مُعضلة طالما واجهَتْها الشركاتُ العائلية؛ إذ يصعب دائمًا إيجادُ خلفاءَ يتمتعون بالحماس والحنكة والموهبة اللازمة لهذه المهمة. ويعود هذا جزئيًّا إلى أن إنشاءَ شركةٍ ما هو مصدرُ فخرٍ لأصحابها، إلا أن إدارتها أمرٌ أقلُّ أهميةً. كما أن فشلَ شركة أندريه قد سلَّطَ الضوء على المخاطر الكامنة في مجال الاتِّجار بالسلع ومنها الأسعار، وعلى وجه الخصوص: أسعار الحبوب التي من الممكن أن تكون متقلِّبةً للغاية، وحيث تكون المحاصيل رهنَ أحداثٍ غير متوقَّعة مثل الجفاف أو الفيضانات، فهل يُعقَل — على سبيل المثال — أن ينخفض سعرُ الذُّرَة من شهر يوليو ٢٠٠٨ إلى شهر يونيو ٢٠١٠ بنسبة ٦٥ بالمائة، ليعود ويرتفع خلال شهر يوليو فقط من عام ٢٠١١ بنسبة ٢٠٠ في المائة؟ ولقد لخَّصَ جون ماينارد كينز الوضعَ أحسنَ تلخيصٍ عندما قال: «ستبقى الأسواق غيرَ منطقيةٍ لفترةٍ أطول مما ستبقى أنت أو أنا قادرَيْن على الدفع.»

كانت مجموعة فولكرت واحدةً من الشركات السويسرية التي تمكَّنت من الهيمنة على الصعيد العالمي في مجال تجارة البن من خلال شركتها فولكافيه هولدينج، التي كان مقرُّها في مدينة تسوج، والتي اشترَتْها إي دي آند إف مان من المملكة المتحدة في عام ٢٠٠٤ عن طريقِ مجموعة إيرب من فينترتور. وبالرغم من أن فولكافيه لم تَعُدْ شركةً سويسرية، فإنها نشأت وكبرت في سويسرا، وتبلغ حصتها الآن في تجارة البن العالمية حوالي ١٣ في المائة؛ مما يجعلها في المركز الثاني بعد مجموعة نيومان من هامبورج.

تجارة القطن على مدى قرنَيْن من الزمن

هناك مثالٌ ثانٍ يجدر ذكره عن التجار السويسريين البارزين وتعود جذوره إلى القرن الثامن عشر؛ ففي عام ١٧٨٨ أسَّس كاسبر جايلينجر وكريستوف بلوم شركةً لتجارة القطن تحت اسم جايلينجر وبلوم في فينترتور، وكانت سويسرا آنذاك أكبرَ مستوردٍ للقطن في أوروبا القارية؛ نظرًا لقوة قطاع المنسوجات فيها. وفي عام ١٨٢٣ أصبح يوهان كاسبر راينهارت — وهو صهرُ أحدِ المؤسسين — شريكًا في المؤسسة التي ركَّزت نشاطها لاحقًا على أعمال الوكالة في الولايات المتحدة ومصر.

واليومَ تحمل الشركةُ المذكورة اسمَ بول راينهارت المحدودة، وتملك حصةً تقارب ٦ في المائة من سوق القطن العالمية؛ مما يجعلها إحدى أهم ستِّ شركات لتجارة القطن في العالَم، غير أن مقرَّها الرسمي في فينترتور لا يُشغِّل أكثر من ١٢٥ عاملًا (دون حساب الوكالات وبعض حصص أقلية في ملكية شركاتٍ أخرى)، وتتزود الشركة بالقطن من غرب أفريقيا وآسيا الوسطى والبرازيل والولايات المتحدة، لتشحنه بشكلٍ أساسي إلى آسيا وتركيا. هذا ولم يَعُدْ لسويسرا بصفتها مستهلكًا مباشِرًا للقطن أهميةٌ تُذكَر اليوم، ولم يبْقَ في سويسرا غيرُ شركةِ غزلٍ واحدة هي بوهلر ميل، في سينهوف قُرْب فينترتور، التي لا تزال تشتري القطن من شركة بول راينهارت.

ذروة التميز بين رجال الأعمال

إن أكبر تجار السلع الأساسية اليومَ ليسوا من أصولٍ سويسرية، ولم يستقروا فيها إلا منذ بضعة عقود، وبغية فهم الأسباب الكامنة وراء ذلك، لا بد من عرضِ قصةِ رجلٍ مميَّز هو أحدُ ألمعِ التجار الذين لم تشهد لهم سويسرا مثيلًا من قبل، وهو مارك ريتش الذي يُعتبَر المهندسَ المؤسس لتجارة السلع الأساسية الحديثة، والذي ساعد سويسرا على احتلال المركز الرئيسي الرائد في تجارة البترول والمعادن في العالم.

وُلِدَ ريتش — واسمه الحقيقي مارسيل دافيد رايخ — في بلجيكا في عام ١٩٣٤، وفي عام ١٩٤٠ عندما اقتَحمَت قوات هتلر البلاد، هربت عائلته من الاضطهاد النازي إلى الولايات المتحدة؛ حيث حصل أفرادها على الجنسية الأمريكية في عام ١٩٤٧، وغيَّروا اسمهم العائلي إلى ريتش، وفي منطقة كوينز في نيويورك، كان ريتش الأب يعمل في تجارة المجوهرات وقطع الغيار والتبغ وأكياس الألياف النباتية.

بدأ ريتش مسيرته العملية في سنة ١٩٥٤ متدربًا في شركة فيليب وإخوته، وهي شركةٌ لتجارة المعادن، وظل يعمل فيها لمدة عشرين عامًا، حتى نشب خلافٌ بينه وبين رئيسه في العمل اضطرَّه إلى المغادرة. بعد ذلك أنشأ — بصحبة بينكوس جرين — شركتَه الخاصة باسم مارك ريتش وشركاؤه لتجارة السلع في مدينة تسوج السويسرية. وكان حيادُ سويسرا ميزةً ذات فائدةٍ حاسمة في حقل الألغام السياسي المتجسِّد في تجارة السلع الأساسية العالمية، ولم يكن سبب اختياره مدينةَ تسوج مجردَ مصادفة، بل لأنها كانت نفس المدينة التي اختارتها شركة فيليب وإخوته لإنشاء مقرها الأوروبي. ومنذ ذلك الحين أصبحت تسوج قبلةَ تجَّارِ السلع الأساسية من جميع أنحاء العالم، ويعود ذلك كله إلى القرار الذي اتخذه ريتش بمحض المصادفة؛ كانت هناك مدن سويسرية أخرى تتميز بنسبة ضرائبَ منخفضةٍ مماثلة وبموقعٍ جغرافي مركزي. غير أن تسوج كانت تحظى بما يميزها عن غيرها من المدن؛ فهي لا تبعد إلا مسافة ٣٠ دقيقة عن زيورخ مما يتيح للشركات القائمة فيها استقطابَ قُوَاها العاملة من بين المتعلِّمين من كلتا المدينتَين.

كيف تؤسِّس شركةً قيمتُها ستون مليار دولار؟

كان ريتش ينعم بحسٍّ مميزٍ لرؤية الفرص التي لا يراها الآخرون، وقد أسَّس تجارة تبلغ عائداتها ٣٠ مليار دولار، وعمل في ١٢٨ بلدًا حول العالم، وكانت له علاقاتٌ حميمة مع مسئولين حكوميين من أعلى مستوًى. وبالرغم من محاولات شركة جلينكور التملُّصَ من جذورها التي تعود إلى مؤسِّسها مارك ريتش، فإن الشركة في الواقع هي من صنع يدَيْه، وهي — حتى الآن — تواصِلُ ممارسةَ نفسِ الأنشطة التجارية وبنفس الطريقة تقريبًا، وعلى أيدي مساعدين كان قد اختارهم هو بنفسه. وحتى قبل عملية اندماجها مع شركة إكستراتا، كانت عائدات جلينكور ١٤٤٫٩ مليار دولار سنويًّا وقيمتها في السوق تفوق ٣٠ مليار دولار تقريبًا؛ أيْ ستين ضِعْفَ ما دفعته الإدارة عند شراء الشركة من مارك ريتش في أوائل التسعينيات.

كيف تمكَّنَ ريتش من تشييدِ إمبراطوريةِ تجارةِ السلع الأساسية هذه؟ وما الذي ميَّزَه أو جعله مختلفًا عن غيره من المنافسين؟ كيف نشأت شركتا جلينكور وإكستراتا؟ وإلى أي مدًى تطوَّرَتا بشكلٍ يتعارض مع نوايا مؤسسهما الأصلي مارك ريتش؟ ما هو تأثير شركتَيْ جلينكور وإكستراتا على الأسواق العالمية للسلع؟ وهل في إمكان الشركتَين الحفاظ على هيمنتهما في السوق؟ ما مدى أهمية قطاع تجارة السلع في الاقتصاد السويسري؟ وهل ستستمر هذه الأهمية؟ كل هذه أسئلة سيكون باقي هذا الفصل عبارة عن محاولة للإجابة عنها.

عالم متغير

لقد انتهز ريتش الفرصة التي نشأت في واحدة من أهم عمليات إعادة توزيع الثروات التي عرفتها البشرية؛ فبعد الحرب العالمية الثانية، تحوَّلَ تنظيم الصناعات التحويلية تدريجيًّا وبشكلٍ جذري من وحداتٍ صغيرة نسبيًّا لإنتاج المواد الأساسية (وخاصةً الفولاذ)، وقريبة من الأسواق ومن مصادر المواد الخام (مثل الحديد الخام والفحم)، وتُوزِّع منتجاتها في الأسواق المحلية، لتصبح مواقعَ إنتاجٍ ساحلية عملاقة تُزوَّد بواسطة سفنٍ ضخمة بالحديد الخام والفحم من المناجم الأكثر إنتاجيةً في العالم مهما كانت بعيدة. إن نتاج هذه المواقع العملاقة من المواد الصناعية، كاللفائف والصحائف والقضبان والعوارض — التي وُفِّرت في كافة الأسواق العالمية — كان قد قوَّض من مكانة التجار المحليين.

وقد شَمِل هذا التغييرُ معادنَ أخرى تُستخدَم أيضًا في التصنيع مثل النحاس والزنك، وشيئًا فشيئًا تبِعَت جميع المواد المصنَّعة الهامة هذا النمط نفسه، وكمثالٍ على ذلك كانت السيَّارات في السابق تُصنَّع في مواقعَ قريبةٍ من أسواقها المحلية، أمَّا الآن فتُوزَّع في جميع أنحاء العالم عن طريق الشحن. وحتى المواد الغذائية قلَّما كان تُتداوَل عبر البلدان في العقد الأول من القرن العشرين، باستثناء بعض عمليات التصدير للحبوب الأساسية من المنتجين الكبار مثل أستراليا وكندا والولايات المتحدة والأرجنتين، ولكنها كانت تخضع لأشكال مختلفة من الحماية الاقتصادية مثل حماية «خيارات المستعمر». أمَّا في الوقت الحالي، فهناك أنشطة تجارية عالمية ضخمة للسلع الغذائية مثل البذور الزيتية والفواكه والخضار وحتى الزهور والأسماك. وقد أدَّت كلُّ هذه التغيُّرات إلى نشوء حاجةٍ ماسَّة إلى وسطاء لتحديد الأسعار وإبرام العقود على نطاقٍ لم يسبق له مثيلٌ من قبلُ. هنا أدرك ريتش أن الفرصة باتت سانحة، وكان على قناعة أنه يستطيع كسب ثقةِ ووفاءِ عملاءَ يرون فيه رجلَ أعمالٍ قادرًا على التعامل مع شروط ومتطلباتِ قوانينِ حظرِ نقل السلع والعقوبات الاقتصادية المرتبطة بها.

كسر شوكة «السبعة الكبار»

أشار دانييل يرجن في كتابه الشهير الحائز على جائزة بوليتزر بعنوان «الجائزة»، الذي يتحدث فيه عن «السعي التاريخي الطويل وراء النفط والمال والسلطة»، أن الأغلبية العظمى من المصادر العالمية للنفط كانت تملكها أو تسيطر عليها مجموعةُ شركاتِ ما يُسَمَّى «السبع الكبار»، ومنها شركة بريتيش بتروليوم وشركة إكسون وشركة شيل وشركة تكساكو حتى عام ١٩٧٣. والآن لا تسيطر هذه الشركات إلا على أقل من ١٠ في المائة من إمدادات النفط في العالم؛ إذ حلَّتْ محلَّها سلطاتُ البلدان المنتجة للنفط في الشرق الأوسط وأفريقيا وروسيا وفنزويلا. كما حدثت في الوقت نفسه نقلةٌ مماثِلة فيما يخصُّ مواردَ طبيعيةً أخرى مثل المعادن الصناعية؛ فالبلدان التي تُوجد فيها هذه الموارد غالبًا ما تكون فقيرة، ونسبة الدخل من الضرائب فيها منخفضة جِدًّا، وهي بلدان خرجت حديثًا من تحت حكم الاستعمار أو سيطرته، كما كانت تتعرض للضغط لكي تُثبت أن اختيارها للاستقلال كان مجديًا. رأى ريتش في هذا الوضع فرصةً سانحة لإقناع المسئولين في هذه البلدان بأنهم لم يعودوا بحاجةٍ إلى التعامُل مع «السبع الكبار»، وأن باستطاعته هو نفسه أن يعمل وسيطًا لحساب المشترين لكي يتفادَوا التعامل مع الشركات السبع المذكورة، وبذلك يحقق نِسَبَ أرباحٍ أكبر للبلدان النامية ويُقلِّص من اعتماد هذه البلدان على منتجي النفط وتَبعِيَّتها لهم. وكان هذا انتقالًا هائلًا للثروات أدى إلى فتح مجالٍ واسع مماثل من فرص القيام بأعمال الوساطة.

رأى ريتش كيف يُمكن أن يكون الوضع مستقبلًا، ولكنه لم يتوقف عند مجرد الرؤية، بل ساعد على تحقيق التغيير.

كانت وصفته السحرية سهلةً ومباشرة؛ فقد بنى علاقاتٍ وطيدةً مع قادة رجال الأعمال والسياسة في البلدان الغنية بالموارد الطبيعية الذين أقصاهم المسيطرون على قنوات التوزيع القائمة بحجةِ تجنُّبِ مخاطرِ تفشِّي الفساد. كان ريتش يعرف بالبديهة أيُّ هذه البلدان هي الأكثر عُرضةً للمخاطر، وكان يستغل هذا الوضع من خلال تعامُله معها؛ ما مكَّنه من شراء السلع بأسعارٍ أدنى بكثير من الأسعار التي يشتري بها منافسوه من البلدان الأكثر أمنًا واستقرارًا. كما أن الحروب والانقلابات والكوارث الطبيعية كانت تُفزع معظم الناس، إلا أن ريتش كان يرى فيها فرصًا للمتاجرة. وفي سبعينيات القرن العشرين أبرم عقودًا مربحةً وطويلةَ الأمد مع سلطات بلدانٍ غير مستقرة مثل أنجولا وكوبا والإكوادور وإيران وجامايكا ونيجيريا، وكان تعليق ريتش على ذلك كالتالي: «هم يريدون المال وأنا أريد سلعهم.» لقد أدرك ريتش هذه الحاجة، وبذلك ازدهرت شركته بصفتها وسيطًا بين أطرافٍ متباعِدة تمامًا تشمل شركاتٍ ووكالات وحكوماتٍ لم يكن من المفترض أن تكون بينها أيُّ علاقةٍ مشتركة، وأحيانًا لا تعترف إحداها بوجود الأخرى (رسميًّا على الأقل). ومن بين الذين تداوَلَ معهم ريتش هناك الاتحادُ السوفييتي والصين وكوبا وأنجولا وبوروندي وجنوب أفريقيا وشاه إيران، وبعد خلع هذا الأخير عن العرش في عام ١٩٧٩، تعامل مع القائد الثوري آية الله الخميني. ولعلَّ أفضلَ دليلٍ على موهبة ريتش اللافتة للنظر في ميدان التداول، ومهارتِه في إقامة شبكات التواصل، هو أنه نجح في ترتيبِ صفقةٍ مع إيران لتزويد إسرائيل بالنفط عبر أنبوبٍ سريٍّ في السبعينيات.

تجارة قذرة لكنها مربحة

فتحت علاقات ريتش الوثيقة هذه أيضًا البابَ أمامَ الآخرين ليوجِّهوا له اتهاماتٍ مزعومةً بالرشوة، ولكن لم يستطع أحدٌ إثباتَها. وقال جيف جونز الأستاذ في كلية هارفارد للأعمال: «لا شكَّ في وجود الفساد ما دام المسئولون الحكوميون يملكون قوةً أكبرَ قيمةً بكثيرٍ ممَّا تعكسه رواتبهم.» ويُقال إن البنوك السويسرية الخاصة وفَّرت ستارًا لإخفاء وتمرير دفعات أموال الفساد، وقد كتب دانييل أمَّان في كتابه عن حياة مارك ريتش تحت عنوان «ملك النفط» (صفحة ١٧٧-١٧٨) ما يلي:

بالرغم من أنه رفض الحديثَ في التفاصيل حول هذا الموضوع وغيره من مواضيع الفساد، فإنه لم ينكر أنه سمح بها في الماضي، قائلًا: «كانت الرشاوى تُدْفَع لكي يصبح المرء قادرًا على عقد صفقاتٍ تجارية بنفس الأسعار التي يكون الآخرون على استعدادٍ لدفعها، وهي أسعارٌ ليست بالضرورة غيرَ ملائِمةٍ لمصالح الحكومة في البلد الذي يبيع أو يشتري.»

وتجدر الإشارة إلى أن الرشوة كانت ممارسةً شائعة في ذلك الوقت، وكانت تُعتبَر أمرًا ضروريًّا في مجال الأعمال التجارية، وكانت رشوةُ المسئولين الأجانب قانونيةً في الولايات المتحدة حتى تاريخ اعتماد القانون المتعلق بممارسات الفساد في الخارج في عام ١٩٧٧، وفي سويسرا بقيت ممارسات الرشوة قانونيةً حتى عام ٢٠٠٠، ولأن قطاع تجارة السلع الأساسية هو على الأرجح أكثر القطاعات الصناعية السويسرية سريةً، فمن الصعب جِدًّا معرفة مدى تفشِّي الرشوة فيه.

السعي لكسب كل سنت ممكن

كانت الثمانينيات والتسعينيات فترةَ نشاطٍ وازدهارٍ شهدت ظهورَ مفهوم «التاجر» الذي أصبح اليومَ عبارة عن مجموعة تجارٍ تجتمع مصالحُهم التجارية لتؤدِّي بدورها إلى نشوءِ ما يُسَمَّى اليومَ «صناديق التحوط». وأصبحت شركة مارك ريتش وشركاؤه عبارة عن مصنع لإنتاج أصحاب الملايين، وكان كلُّ تاجر مسئولًا عن معدنٍ معين، وله حسابٌ خاص للمُتاجَرة، وبذلك كان بمثابة مركزِ ربحٍ مستقل بذاته. وكان على التجار تأمين الطلبات لشراء معدن الزنك مثلًا، لكن مع ضمان إيجاد عددٍ من المشترين مسبقًا، ولكن نظرًا لأن الأسواق لم تكن على قدْرٍ كبيرٍ من الكفاءة، كان يُمكن للتجار إيجاد المزيد من الراغبين بالشراء أو الصمود (تأجيل البيع)؛ لأنهم كانوا يعرفون أن الطلب على السلع سيرتفع، وسيكون بإمكانهم البيع بأسعارٍ أعلى. وكانت فلسفة التعامُل مع شركة مارك ريتش وشركاؤه بسيطة للغاية؛ فعندما سألتُ مارك ريتش عن دوافعه لممارسة هذا النشاط، كانت إجابته أيضًا بسيطة عندما قال: «أنا أستمتع بكسب المال.» كان ريتش يكافئ التجار الناجحين الذين يعرفون كيف يكسبون المال، ويتخلى عن خدمات أولئك الذين يخسرون المال، وبعض التجار — مثل ماني فايس — كان قد نجح ثم عاد وأخفق مرارًا في المؤسسة، وكان التجار أبطالًا عندما يربحون المبالغَ الكبيرة من المال، وبسرعةٍ يفقدون بريقَهم عندما يخسرونه.

كان ريتش بمثابة «المايسترو» الذي يشرف على فرقته من التجار ويتصدى لجميع المخاطر الكامنة، وعندما سألته عن معنى المخاطر بالنسبة إليه، أجاب: «أن يكون هناك احتمالٌ بألَّا يُدفَع لنا ثمن السلع.» هذه الطريقة التي تختصر العمليات التجارية في شخصِ تاجرٍ محنَّكٍ واحد، أصبحت معروفةً باسم «المؤسسات التجارية الفردية»، وهو نموذجٌ باتَ اليومَ يميِّز مُقوِّماتِ صناعة صناديق التحوُّط. كانت شركة كوموديتيز كوربوريشن المماثلة لشركة مارك ريتش قد صَنعَت عددًا من التجار المتميزين، مثل لويس بيكون وبروس كوفنر وبول تيودور جونز، الذين أصبحوا اليومَ من بين أنجح مديري صناديق التحوُّط في العالم.

وبمرور الوقت، طوَّرَ ريتش نموذجَ عمله بإضافةِ عددٍ من الخدمات لعمليات الوساطة التي كان يقوم بها، فأضاف خدمةً متمِّمةً مثل التمويل والتأمين والإجراءات الجمركية والنقل البحري والتخزين المؤقت في أهم الموانئ في العالم؛ مما مكَّنَه من تعزيزِ مكانته لدى الزبائن، وتحقيقِ نسبةٍ أكبرَ من القيمة المُضافة في كل صفقة. واليومَ تملك جلينكور التي خلفت شركةَ «مارك ريتش وشركاؤه» ١٧٠ سفينة، تبلغ سعةُ تخزين أصغرها ٦٠ ألف طن إلى جانب ٧٥ صومعةَ تخزينٍ موزَّعة في عدة موانئ حول العالم.

تُقدِّم سويسرا بيئةً مثالية لهذا النوع من تجارة السلع الأساسية والخدمات المتمِّمة لها؛ فالنظامُ القانوني فيها بسيطٌ وفعال ويتفادى الإجراءات القانونية الباهظة التكلفة، وبطبيعة الحال هو جديرٌ بالثقة أكثر من النُّظُم الموجودة في العديد من البلدان النامية. وإلى جانب إمكانية عدم الإفصاح عن جميع المعلومات، تقدِّم البلاد أيضًا غطاءً من السرية لشركات القطاع الخاص ورجال الأعمال؛ مما يُسهِّل لهم إخفاءَ الأرباح ويجنِّبهم لفْتَ اهتمامِ المنافسين. كما أن الضرائب منخفضةٌ والبنوك السويسرية تتقاضى أدنى معدَّلاتِ تكلفةٍ على رأس المال، إضافةً إلى عمليات التمويل الوفيرة التي تشكِّل مفتاح ضمان لإبرام العقود الكبيرة على نطاقٍ واسع. كما أن البلاد لها تاريخٌ طويل من القدرات اللوجستية المميزة؛ إذ إن ثلاثًا من أكبر شركات الشحن في العالم تقوم مَقرَّاتها في سويسرا، وهي: دانزاس، كُووني وناجل، وبان ألبينا (انظر الفصل العاشر).

لماذا لا تشتري منجمًا؟

بدأتِ المرحلة التالية في عملية بناء إمبراطورية ريتش عندما قرَّرَ شراءَ أصول في قطاع التعدين؛ وذلك لتأمين مصادرَ مضمونةٍ من الإمدادات مع الحصول على حقوق تسويقٍ حصرية تضمن بدورها عمولاتٍ متكرِّرة. وكانت هذه هي السياسة التي اتبعتها جلينكور بلا هوادة حتى بعدما غادَرَ مارك ريتش الشركة.

ولكن في ذلك الوقت في بداية التسعينيات، كانت شركة مارك ريتش وشركاؤه شركةً خاصة، وعلى الرغم من أن الشركاء فيها أصبحوا من الأثرياء جِدًّا، فإن شراء أصولٍ في قطاع التعدين كان أمرًا يفوق إمكانياتهم المادية، ولحلِّ هذه المشكلة قام ريتش في عام ١٩٩٣، وبمساعدة بنك يو بي إس، بشراءِ حصةٍ كبيرة تجعل منه صاحبَ القرار في شركة سود إليكترا، وهي شركة سويسرية مُدرجة في سوق الأسهم. تأسست سود إليكترا في عام ١٩٢٦، وكانت ناشطةً في مجال إمدادات الكهرباء في أمريكا اللاتينية، إلا أن ريتش غيَّرَ هذا النشاط ليستغلها وسيلةً لشراء المناجم، وغيَّرَ اسمَها لاحقًا إلى إكستراتا. كانت فكرته ترتكز على استخدام الشركة المُدرجة في البورصة للحصول على أموال ذات تكلفةٍ منخفضة من عموم المستثمرين لشراء أصولٍ في قطاع التعدين، والعمل على إعادة هيكلة نظام الصفقات بحيث يحقِّق شركاؤه أرباحًا هامة. وكلما اشتُرِيَ منجم، كانت إكستراتا تتنازل عن جميع حقوق التسويق حصريًّا لشركة مارك ريتش وشركاؤه؛ أيِ المساهِم الأكبر فيها، لبيع إنتاجها مقابل عمولة عن طريقِ عقودٍ طويلة الأمد. كان ذلك نموذجًا جذَّابًا للبنوك أيضًا؛ لأنه يُولِّد لها رسومًا تقلِّل من حدة المخاطر على أرصدة الائتمان المُتاحة لشركة مارك ريتش وشركاؤه.

تضارُب المصالح أمر طبيعي لا مفرَّ منه

كان النشاط السابق ذِكْره سببًا في نشأةِ تضارُب في المصالح استمرَّ حتى إتمام عملية الاندماج بين الشركتَين في عام ٢٠١٢. على سبيل المثال، عندما حاولَت شركة جلينكور في عام ٢٠٠٨ بيْعَ ما كان يُعتبَر حصتها المسيطرة في شركة إكستراتا إلى شركة فال البرازيلية للمصادر الطبيعية. لم يكن من الممكن التوصُّل إلى اتفاق؛ لأنه حسبما زعَمَ أصحابُ الشأن كان من الصعب فصْلُ حقوقِ التسوية التابعة لجلينكور عن حقوق الملكية التابعة لإكستراتا.

figure
مناجم ذهب في أستراليا. قرار شركة مارك ريتش وشركاؤه بشراء المناجم أفضى إلى إنشاء شركة إسكتراتا المساهمة العامة.

وبحلول عام ١٩٩٢، أصبحت شركة «مارك ريتش وشركاؤه» أكبرَ شركة للاتجار بالسلع الأساسية في العالم. ولا شك أن تحقيق الثروات الكبيرة يجذب الاهتمام، ومارك ريتش لم يكن استثناءً لهذه القاعدة.

ليس مفاجئًا أن يصبح رجلٌ مثل مارك ريتش — الذي يعمل ما بين عدة جبهات بهذا الأسلوب — هو نفسه مستهدَفًا؛ ففي بداية الثمانينيات، شنَّ مدَّعٍ عامٌّ طَمُوحٌ يُدْعَى رودولف جولياني (الذي أصبح لاحقًا عمدةَ نيويورك) حملةً ضدَّ ريتش، متَّهِمًا إياه بانتهاك قوانين الأسعار والتجارة مع العدو، وكان العدو هو آية الله الخميني، الذي بعد خلع الشاه عن عرشه بعث بقواته لاقتحام سفارة الولايات المتحدة في طهران، وأخذ مواطنين أمريكيين رهائن، كما اتهمه أيضًا بارتكابِ مُخالَفاتٍ ضريبية، معتمدًا في ذلك على وجود مادةٍ قانونية فريدة في نظام الضرائب في الولايات المتحدة تسمح بفرض الضرائب على مواطنيها حتى لو كانوا يعيشون ويعملون في الخارج. وبحسب لائحة الاتهام كان ريتش مهدَّدًا بالسجن لمدة ٣٢٥ عامًا، وطوالَ أَشْهُرٍ عدَّة كان على ريتش أن يدفع غرامةً مالية قدرها ٥٠ ألف دولار يوميًّا؛ لأنه رفض الكشفَ عن وثائقَ معينة.

خطوة متقدِّمة تسبق القانون

في عام ١٩٨٣، انتقل ريتش إلى سويسرا وأصبح سجينًا افتراضيًّا في البلاد؛ لأن سلطات الولايات المتحدة كانت تطارده في جميع أنحاء العالم. وبالرغم من أن اسم ريتش بقي مُدرَجًا في قائمة الأشخاص المطلوبين من مكتب التحقيقات الفيدرالي، فإن سويسرا لم تسلِّمه قطُّ إلى الولايات المتحدة؛ لأن أنشطته لم تكن ممنوعةً بموجب القانون السويسري.

إن التاريخ حافلٌ بالأمثلة عن رجالِ أعمالٍ انتهزوا الفرص التجارية المربحة المتاحة وراء خطوط العدو، وفي ظلِّ مثلِ هذه الظروف تحديدًا تكون الأرباح في أعلى مستوًى ممكن. ومثالًا على ذلك، قامت شركة ريتر — وهي شركةٌ سويسرية تعمل في قطاع المنسوجات — بالتحايل على مقاطعة نابليون للسلع البريطانية بتهريب القطن من أمريكا الجنوبية عبر بحر القطب الشمالي إلى روسيا؛ حيث شقَّت هذه السلع طريقها إلى أوديسا ثم إسطنبول لتصل بعدها إلى فينترتور، وكذلك بدأت صناعة الأدوية في سويسرا عمليًّا بقرصنة براءات الاختراع التكنولوجية من فرنسا؛ تمامًا كما فعلَت قطاعات صناعة الأدوية الهندية والصينية خلال الجيل الماضي. وروتشيلد — الذي ربما يكون الاسم الأكثر احترامًا في مجال الخدمات المصرفية — كان قد بنى ثروتَه بنشْرِ معلوماتٍ خاطئة عمْدًا في سوق لندن، بأن دوق ولينجتون قد انهزم في معركة ووترلو؛ ممَّا مكَّنَه من شراء الأسهم بأسعارٍ منخفضة بطريقةٍ مصطنعة، وما لبثَتْ أسعارُ هذه الأسهم أن تصاعدت بشكلٍ مذهل مجددًا عندما جاءت الأخبار — بعد أيام — لتفيد أن نابليون هو الذي خسر المعركة وليس دوق ولينجتون.

العفو الرئاسي

لم تصل الدعوى القضائية المرفوعة ضد ريتش إلى مرحلة المحاكمة؛ ففي عام ٢٠٠١ منحه الرئيس كلينتون العفوَ قبل انتهاء مدة ولايته بوقتٍ قصير، وهو أمرٌ كان مثيرًا للجدل في حينه، ولكن في ذروة الفضيحة، واجَهَ ريتش انتقاداتٍ شعبيةً علنية شَرِسة كان لها أثرٌ سلبي على أعمال الشركة. واقترح ويلي ستروثوت — أحد أهم رجال ريتش — إطلاقَ حملاتِ دعاية لمواجَهة الانتقادات التي تنشرها الصحف، ولكن كلًّا من هذَين الرجلَين كان يتميَّز بطبعٍ مختلفٍ تمامًا عن الآخَر؛ مما أدى إلى حصول اشتباكٍ بينهما. كان ريتش من أصولٍ يهودية وتاجرًا بالفطرة، كما كان من مُحِبِّي حياة الترف واللهو والملذات، وفي المقابل كان ستروثوت ألمانيًّا من أصولٍ جرمانية، وكان يفضِّل حلَّ المشكلات بدلًا من ممارسة التجارة.

كان ريتش ذا طبيعةٍ خجولة، وكان يفضِّل أن يضمِّدَ جراحه بعيدًا عن الأعين، وكان معارضًا لتوصيات ستروثوت باللجوء إلى الدعاية، إلا أن ستروثوت ألقى خطابًا في جامعة زيورخ شرَحَ فيه كيف أثَّرَ الانتقادُ العلني سلبًا على أعمال شركة مارك ريتش وشركاؤه، وفي اليوم التالي أُقِيلَ بعذْرِ محاولةِ الإطاحة بريتش، وحوَّلَ ريتش مكتبَ ستروثوت إلى قاعةِ انتظارٍ لإظهار قوته ومحاولة محْوِ اسم ستروثوت من الذاكرة.

غلطة ريتش الكبرى

ولكن بعد ذلك بوقتٍ قصير، ارتكب ريتش خطأً تجاريًّا جسيمًا؛ ففي عام ١٩٩٢ خسر ١٧٢ مليون دولار في محاولةٍ فاشلةٍ لاحتكار سوق الزنك. آنذاك كانت شركة مارك ريتش وشركاؤه تسير نحو الانحلال في جوٍّ مليءٍ بالمعارضين والمكائد. وكان ستروثوت قد أقنع آليك هاكل — أحد أهم شركاء ريتش — أنه من الأفضل له بيع حصته؛ لأن الشركة لن تصبح لها قيمة في غضون عام، وافَقَ آليك هاكل على ذلك، تمامًا كما فعل ريتش الذي باع حصته البالغة ٥١ في المائة من الأسهم إلى إدارة الشركة مقابل ٤٨٠ مليون دولار، ثم حصل لاحقًا على ١٢٠ مليون دولار إضافية عندما أُعِيد تقييم الشركة. ولم تكن هذه الصفقة من أحسن أو أنجح الصفقات التي أبرمها رجلٌ يعتبره الكثيرون أعظمَ تجارِ عصره. وبعد مرور ثمانية عشر عامًا، أصبحت قيمة شركة جلينكور — وهو الاسم الذي أُعطِيَ لشركة ريتش بعد بيعها — تساوي ١٠٠ ضعف ثمن بيعها. عاد ستروثوت في وقتٍ لاحق إلى الشركة رئيسًا تنفيذيًّا، ومنذ ذلك الحين فصلَتِ الشركةُ نفسها كليًّا عن اسم ريتش.

figure
مارك ريتش، مؤسِّس إحدى أكبر الشركات الرائدة في بيع السلع، ومُنشئ شركتَيْ جلينكور وإكستراتا.

كان إيفان جلاسنبيرج — الرئيس التنفيذي الحالي لجلينكور — أحدَ المقرَّبين من ريتش. كان قد قرَّرَ الالتحاق بالشركة مباشَرةً بعد إنهاء دراسته؛ لأنها كانت أكبر شركةٍ لبيع السلع في العالم، وكان والد جلاسنبيرج قد هاجر من ليتوانيا إلى جنوب أفريقيا لاجئًا تمامًا كما كان الحال مع ريتش. لاحَظَ ريتش أن جلاسنبيرج على درجةٍ عاليةٍ من الكفاءة، فساعده على تطوير موهبته، وكان جلاسنبيرج قد أدار أعمالَ الشركة في هونج كونج ثم في بكين قبل أن يعود إلى تسوج في سويسرا ليجعل من تجارة الفحم في الشركة أكبر الفروع وأكثرها ربحًا. وبصفته بطلًا سابقًا في رياضة المشي، تحلَّى جلاسنبيرج بروحِ مُنافَسةٍ خارقة، ولم يَكُن متسامحًا مع الأشخاص الذين اعتبرهم مغفَّلين، وبذلك كان يجسِّد نموذجَ التاجر المخلص الذكي بالفطرة المتعطش لعمله والواثق من قدراته، والمتحدِّر من أصولٍ متواضعة ميَّزت أيضًا مارك ريتش والفريق العامل في شركته.

كَسْب الكثير من المال ثم خسارته

لطالما كانت تجارة السلع الأساسية دائمةَ التقلب ولا يمكن التنبؤ بنتائجها؛ فهناك تجارٌ كثرٌ ازدهروا كلما نمت الأسواق، ثم اختفوا مثل الذباب كلما انهارت بشكلٍ غير متوقَّع. إن الطبيعة البشرية تشجع الناس على الشراء عندما ترتفع الأسعار خوفًا من تفويت الفرصة، وعندما تسود الثقة العالية بالأسواق، يبدأ التجار بالعمل على أساس «هوامش السوق» ويشترون باستخدام أموال الآخرين؛ ممَّا يؤدي — عند تكرار هذا السلوك — إلى نشوء فقاعاتٍ لا بدَّ أن تنفجر في نهاية المطاف. ومقابرُ عالَمِ التجارة مليئةٌ بأولئك الذين جمعوا الكثيرَ من المال ليعودوا ويخسروه بنفس السرعة.

وخلال القرن الماضي فشل متوسط أسعار السلع في مُواكَبة معدلات التضخم، لا بل إنه قد تراجَعَ من حيث القيمة الحقيقية. كان ذلك في مجال الصناعة الذي لم يَعُدْ يستطيع استقطاب العقول المتميزة؛ لأنه أخفق آنذاك في إعطائهم المكافآت التي تستحقها مواهبهم. كان ستروثوت وجلاسنبيرج يعرفان جَيِّدًا طبيعة سوق السلع المتقلبة، وكانا أول مَنْ واكَبَ الرهان الخاسر على تجارة الزنك، الذي كان قرارًا خاطئًا تمامًا، ولأنهما ذاقا ويلات هذا الإخفاق، لم يرغبا في اللعب بالنار ثانيةً فأقلعا عن الدخول في المضاربات، بل ركَّزَا أنشطةَ الشركة على عمليات وساطةٍ بسيطة بهوامشَ منخفضة ولكن بأحجام مبيعاتٍ ضخمة؛ حيث يتعين على كل بائعٍ إيجاد الشاري قبل إبرام أي اتفاقٍ تجاري، وكان الحل يكمن في تأمينِ المزيدِ من أحجام السلع، وكانت هذه هي المهمة المُوكَلة إلى شركة إكستراتا.

إمبراطورية إكستراتا

كان مايك دافيس الرجل الذي أُنيطت به إدارة الشركة، وكان عنيدًا وعمليًّا وصاحب عزيمة قوية، وكان قد أشرف منذ وقتٍ قصير على دمج الشركة الهولندية بروكن-هيل-بروبرياتوري مع منافستها شركة بيليتون، وهذه كانت أكبرَ عمليةِ اندماجٍ شهدها قطاع الصناعة حتى ذلك الحين، واعتُبِرت ناجحةً جِدًّا. كان جلاسنبيرج زميلَ دراسةٍ قديمًا لدافيس، فوظَّفه ليصبح لاحقًا رئيسًا تنفيذيًّا. تدرَّبَ دافيس بصفته محاسبًا، وكان مُلِمًّا بعمل شركات المناجم بحكم أنه كان مقيمًا في ميناء إليزابيت في جنوب أفريقيا. وتحت إدارة دافيس شرعت إكستراتا في تشييد إمبراطورية عن طريقِ شراءِ ودمْجِ شركات المناجم حول العالم. وعلى مدى العقد السابق، ضاعفَتْ مداخيلها السنوية بأكثر من خمسين ضِعْفًا نتيجةَ حملةٍ شَرِسة من عمليات الاستحواذ شملت مناجمَ زنك في الأرجنتين وبوليفيا وألبيرو، ومناجمَ نحاسٍ في الكونغو وزامبيا والفلبين، ومناجمَ رَصاصٍ في إيطاليا وكزاخستان، ومناجمَ فحمٍ في جنوب أفريقيا وكولمبيا.

figure
إيفان جلاسنبيرج، الرئيس التنفيذي لشركة جلينكور وأحد المُقرَّبين من مارك ريتش. زرع في شركة جلينكور ثقافةَ التجارة بأساليبَ جريئة.

وبصفته رئيسًا لشركتَيْ جلينكور وإكستراتا، كان ستروثوت يفرح كلما أضاف دافيس سهمًا جديدًا إلى جمعية إكستراتا؛ لأنه على درايةٍ بأن جلينكور تملك حقوقًا حصريةً لبيع معادن المناجم بهوامشِ ربحٍ مُغرِية طوالَ فترةِ حياة المنجم؛ مما يؤمِّن لها مداخيل وأرباحًا سهلةَ التحقيق ودون عناء. وكان القدر الأكبر من عائدات إكستراتا البالغ ٣٠٫٥ مليار دولار يمر عبر جلينكور التي كانت تتقاضى هامشَ ربحٍ على كل عملية. وقد ساهمت إكستراتا مباشَرةً بقرابة ٣٠٪ من أرباح جلينكور في عام ٢٠١١، كما أنها كانت مسئولة عن جزءٍ كبير من عمليات الوساطة التي قامت بها. لكن الأمر الذي فشل ريتش وستروثوت وجلاسنبيرج في تقديره عند تأسيس إكستراتا هو أن العالَم كان على وشك الدخول لتوِّه في أهمِّ وأطولِ فترةٍ تزايدت فيها أسعارُ السلع بشكلٍ مستمر لم يسبق له مثيل.

وهذا الازدهار لم يشمل فقط شركاء ريتش، بل أيضًا المستثمرين الأفراد الذين وفَّروا في البداية الكثيرَ من التمويل لشركة سود إليكترا؛ ومن ثَمَّ حقَّقوا أرباحًا لا بأسَ بها. كان تقييم إكستراتا عند قدوم دافيس في عام ٢٠٠١ يوازي مبلغ مليار دولار، ولم تكن لها قيمةٌ كبيرة مقارَنةً بعمالقة السوق الصناعية مثل شركة أنجلو أميريكان، وبروكن-هيل-بروبرياتوري وريو تينتو. أمَّا اليومَ فتبلغ قيمة إكستراتا ٣٦ مليار دولار، وهذا الارتفاع المذهل في قيمتها يعادل نسبة ٤٠٠٠ في المائة، ويُظهِر أنها أصبحت من بين الشركات الأكثر احترامًا وخشيةً في عالم الصناعة.

قوة أسواق البورصة

نتيجةً للتوسُّع الهائل الذي حقَّقه دافيس، وبسبب ارتفاع أسعار السلع، أصبح لإكستراتا — أكثر من أيِّ وقتٍ مضى — نفوذٌ أكبر من نفوذ جلينكور، وفاقَتْ قيمتُها بكثيرٍ قيمةَ جلينكور نفسها، كما أثبتت إكستراتا مرارًا وتكرارًا أنها أكثر سرعةً ومهارةً من منافسِيها الرصينِين من أمثال أنجلو أميريكان وريو تينتو. وكان لدافيس أيضًا ميزةٌ لم تكن متوافرةً لدى ستروثوت، وهي وجود الشركة في سوق البورصة التي بواسطتها يستطيع الحصول على المزيد من النقد من أجل تحقيق المزيد من عمليات الاستحواذ.

figure

وهكذا كان من المرجح أن تواصل إكستراتا تفوُّقَها على جلينكور من حيث الحجم والنفوذ. دافيس أيضًا كان له تأثيرٌ كبير في مدينة لندن حيث كان يحقِّق ويوزِّع باستمرارٍ عائداتٍ هائلةً وبشكلٍ مباشِر وشفاف، في حين كان أصحاب السلطة في جلينكور يَجْنُون الأرباحَ — بفضل إكستراتا — لأنفسهم ويتخفَّوْن وراء ستار السرية الذي تؤمِّنه سويسرا.

نشأ المزيد من الصراعات الأخرى بين الشركتَين؛ لأن جلينكور كانت تتنافس مع إكسترتا بشراء أصول التعدين لنفسها بشكلٍ منفرد. وإلى جانب امتلاكها ٣٤٫٥ في المائة من إكستراتا، كانت أيضًا تسيطر على ٩ في المائة من روسال، أكبر شركة لتعدين الألمنيوم في العالم، و٧٠ في المائة من مينارا ريسورسيز، و٧٤ في المائة من شركة كاتانجا ماينينج، و٤٤ في المائة من سنتشوري ألومنيوم، هذا إلى جانب الشركات الأخرى غير المُدرَجة في أسواق البورصة. وكانت جلينكور كذلك تمتلك العديد من الممتلكات الخاصة في الولايات المتحدة وآسيا والشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

حانت ساعة المواجهة

تفاقمت التوترات بين الشركتين بشكلٍ أدَّى إلى صدامٍ في عام ٢٠٠٨، عندما سعت جلينكور إلى خفض ديونها عن طريق بيع حصتها في إكستراتا إلى شركة فال، إلا أن الطرفين لم يتوصَّلا إلى اتفاقٍ على الشروط؛ إذ يبدو أن شركة جلينكور تشبَّثت بالاحتفاظ بحقوقها الشاملة لتوزيع منتجات التعدين التابعة لشركة إكستراتا، التي تشكِّل أساسًا علةَ وجودها ومورد رزقها؛ وبذلك انهار الاتفاق.

جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية إثرَ ذلك لتكشف الواقعَ بأن قاعدة رأس مال جلينكور هشَّة. وفي ديسمبر ٢٠٠٨ خفضت شركة ستاندار أند بورز التصنيفَ الائتماني لشركة جلينكور إلى مستوى BBB، وهو أدنى تصنيف لها إطلاقًا (أيْ إنها قد لامست القاع)؛ مما أثار قلقَ الدائنين، خاصةً عندما انخفضَت مداخيلها بنسبة ٤٠ في المائة في عام ٢٠٠٩. وأصبحت الأسعار التي كان على جلينكور دفعها لتأمين التمويل اللازم باهظة، وكشفت تقارير محلِّلي الاستثمار قبل ظهور الاكتتاب العام الأولي لجلينكور أنه كان من الممكن للشركة أن تخسر مبلغ ٤٢٫٥ مليون دولار في أيِّ يومٍ من أيام العام المنصرم فقط من خلال تقلُّبات بسيطة في أسعار السلع الأساسية اليومية باستخدام معايير التقدير لما يُسَمَّى «القيمة المُعرَّضة للمخاطر»، وهذا يفوق القيمةَ الكلية للمخاطر التي تتعرض لها شركة جولدمان ساكس على أساسٍ يومي. ولا عجبَ أن تتعرض جلينكور بعد ذلك إلى ضغوطات من طرف المصارف وحاملي أسهمها للدخول في سوق البورصة وتأمين «رأس مالٍ ثابت».

ولادة العملاق

كان دخول سوق البورصة يعني أن على جلينكور كشْفَ بعضِ أسرار أعمالها، وعلى سبيل المثال، أظهرت الوثائق العامة المُقدَّمة بصفتها جزءًا من متطلَّبات الاكتتاب العام الأُولى أنها تهيمن على مختلف السلع الأساسية في السوق، وأن عملية الاندماج بين جلينكور وإكستراتا تُعيد في الواقع توحيد الإمبراطورية التي بناها مارك ريتش. وقد تحوَّلت الشركتان المجتمعتان فورًا إلى عملاق يعمل في أسواقٍ لا تحكمها قواعد، وبرأس مالٍ عام يساوي ٨٨ مليار دولار. وفي وقتٍ كان فيه الطلب العالمي على السلع يكاد يفوق العرض، وكانت شركتا جلينكور وإكستراتا تحصلان على أفضل أنواع المنتجات والاحتياطات من السلع في هذا القطاع الصناعي؛ كلُّ هذه كانت عواملَ تبشِّر بمستقبل زاهر، إضافةً إلى أن المجموعة تحتل المركز الأوَّل في تجارة السلع الأساسية، وتبلغ حصتها في سوق تجارة الفحم ١١ بالمائة، وفي تجارة الزنك ١٢ بالمائة، وفي تجارة الرصاص ٨ بالمائة، كما تملك حصصًا كبيرةً في تجارة النحاس والنيكل، وهي كذلك المجموعة الوحيدة التي تسيطر بنفسها على كل أوجه نشاطها وبشكل كامل، ابتداءً من عملية التنقيب وصولًا إلى عملية المتاجرة.

figure

كلُّ هذه الحكاية بدأت لأن رجلًا قرَّرَ إنشاء شركة في تسوج بسويسرا، بعد أن حصل خلافٌ بينه وبين رئيس عمله في شركة فيليب وإخوته التي صادَفَ أن مَقرَّها الأوروبي كان في نفس المدينة. وطوالَ مسيرةِ مارك ريتش المهنية تقريبًا، رأى فيه العموم رجلًا محتالًا ولعوبًا يتهرَّب من دفع الضرائب ويقضي حياته طريدًا، ولكنَّ شركتَيْ جلينكور وإكستراتا مجتمعتين تشكِّلان اليومَ أكبرَ قوةٍ هائلة في صناعة السلع الأساسية، في الوقت الذي تتجه فيه المصادر الطبيعية نحو اكتسابِ أهميةٍ كبيرة على الصعيدَين الاقتصادي والسياسي.

وأيًّا تكُن وجهاتُ النظر بخصوص هذا الرجل الغامض والطموح والبعيد المنال، فلا شكَّ أنه حقَّقَ إنجازًا عظيمًا، خاصَّةً أنه كان لاجئًا سابقًا بدأ العمل بصفته مجردَ وسيط، ولم يكن يملك شيئًا. وخلال الجيلَين القادمَين — أو ربما أقل — قد ينظر السويسريون إلى ما حقَّقَ مارك ريتش من إنجازات، ويرون فيه أحدَ أعظمِ التجار على الإطلاق.

مزيد من العمالقة يعملون في الظل

إلى جانب الشركتَين العملاقتَين: جلينكور وإكستراتا، هناك عددٌ من تجار السلع الذين اتخذوا من مدينة تسوج مقرًّا رسميًّا لهم، ومنهم شركة ستامكور-أوروبا، وهي جزءٌ من أكبر شركة فولاذ في العالم (ستامكور البريطانية الملكية)، وبيتروبلاس هولدينج وهي شركة مُشغِّلة لمصافي النفط تأسَّست في الأصل في هولندا في عام ١٩٩٣. وهناك شركاتٌ أخرى تجدر الإشارة إليها مثل روس أوكر إينيرجو للاتِّجار بالغاز الطبيعي، وهي شريكٌ مقرَّب من شركة غاز بروم الروسية، وأمكور لتجارة المعادن وهذه شركةٌ تمارس نشاطًا سريًّا على الصعيد العالمي ومقرها الرئيسي في زيورخ.

أمَّا المحور الثاني — بعد مدينة تسوج — لتجارة السلع في سويسرا، فهو مدينة جنيف التي تأوي شركة فيتول؛ أكبر شركة بترول في العالم (وأكبر شركة لتجارة السلع الأساسية)، قُدِّر حجم مبيعاتها المعلن بمبلغ ١٤٣ مليار دولار للعام ٢٠٠٩. وبالرغم من أنها غير معروفة عمومًا، تشحن الشركة يوميًّا ٤ ملايين برميل من النفط الخام والمنتجات النفطية إلى الأسواق العالمية؛ ومن ثَمَّ تحقِّق مبيعاتٍ يفوق حجمُها مبيعاتِ جلينكور بقليل. يشغِّل المقر الرسمي لشركة فيتول في جنيف ١٠٠ شخصٍ فقط مع مجموع عمال في جميع أنحاء العالم يقارب ٨٠٠ شخص، وللشركة مكتبٌ رئيسيٌّ آخر في روتردام (أسَّسه هناك رجالُ أعمالٍ هولنديون في عام ١٩٦٦)، ولها أيضًا مقراتٌ في كلٍّ من هيوستن وسنغافورة ولندن، كما أن مجموعة غَنفور وهي ثالث أكبر شركات تجارة النفط الخام في العالم، وتبيع بشكلٍ أساسي البترول الروسي، وشركة مركوريا وهي واحدة من أكبر الشركات العالمية في تجارة النفط ويقوم مقرُّها أيضًا في جنيف، وفرع شركة كارجيل الدولية في جنيف التابع لعملاق القطاع الزراعي الأمريكي كارجيل ومقره مينيابوليس، بينما يعمل فرع جنيف مركزًا لوجستيًّا للتجارة العالمية بالحبوب وزيت الطعام والسكر إلى جانب النفط الخام والفحم والكهرباء، ويأتي في المرتبة الثامنة من حيث تصنيف الشركات السويسرية بحسب حجم دورة أعمالها.

أخصائيو الدعم

حيثما تجد شركاتٍ تمارس أعمالًا تجاريةً في جميع أنحاء العالم، فلا بد من وجود شركات متخصِّصة في المجال التجاري لخدمتها، وربما كانت أهم شركة لتقديم الخدمات هي إس جي إس (الشركة العامة للكشف والمراقبة)، وهي شركة تضطلع بالمهمة السويسرية الجوهرية المتمثلة في مراقبة السلع والتصديق عليها، وهذا قطاع تُمثَّل فيه الاستقلالية والمصداقية والجودة مقوماتٍ حاسمة، وهذه أكبر الشركات العالمية المستقلة للمراقبة والتصديق، وتأتي أمام شركة إنترتيك تيستينج سيرفيسز في المملكة المتحدة ومكتب فيريتاس في فرنسا. وقد أُسِّست إس جي إس في روان في عام ١٨٧٨ على يد هِنري جولدشتوك من لاتفيا، ويوهان هاينزه من بوهيميا، تحت اسم جولدستوك وهاينزه وشركاؤهما، وكانا في البداية يقدِّمان خدمات بصفتهما مراقبَيْ حبوب لكبار تجار الحبوب في أوروبا، ولكن سرعان ما توسَّعت أعمالهما لتصل إلى جميع أنحاء العالم. خلال الحرب العالمية الأولى واصلت الشركة تعامُلَها التجاري مع ألمانيا، فأُدرِج اسمُها على القائمة السوداء في فرنسا، وفي عام ١٩١٥ نُقِل المكتب الرئيسي إلى جنيف في ربوع سويسرا الحيادية، تمامًا كما حصل مع شركة مارك ريتش وشركاؤه، ولكن بعد مرور ٧٠ عامًا تقريبًا، وبتاريخ ٢٣ سبتمبر ١٩١٩ تأسَّست رسميًّا الشركة العامة للكشف والمراقبة إس جي إس.

خلال القرن الماضي، نوَّعَتِ الشركة نشاطاتها لتشمل مراقبةَ السلع في قطاع التصنيع والمواد الكيميائية والبترول والغاز الطبيعي. وفي عام ١٩٨١ أُدرِجت الشركة في سوق البورصة، واليومَ تقوم الشركة بعمليات كشف ومراقبةٍ مستقلة لجودة السلع وكمياتها إلى جانب المرافق الاستثمارية والسلع الاستهلاكية والمنتجات الزراعية، لتؤكد أنها تتوافق مع المعايير الصناعية، وتَفِي بالشروط الرسمية وبمتطلبات المعاهد التجارية، كما تصادق أيضًا على العمليات الصناعية وتدابير السلامة. وهناك مجال يتزايد الطلب عليه شيئًا فشيئًا، وهو مجال التكنولوجيا البيئية؛ ففي الصين على سبيل المثال، تقوم الشركة العامة للمراقبة حاليًّا ببناء أكبر منشأة لاختبار دوَّارات مُولِّدات الطاقة التي تعمل بالرياح. وبالرغم من أن لديها ٦٥٠٠٠ عامل في ٩٠ بلدًا، تبقى الشركة سويسرية في العمق، وتشكِّل أكبرَ مصدرٍ للعمالة في جنيف.

صناع الثروات

تمثِّل تجارة السلع الأساسية ٣ في المائة من الناتج المحلي الإجمالي السويسري، وهي نسبة تفوق نسبة القطاع السياحي، وما يكشف المزيد عن حجم التدفُّقات التجارية هو أن عائدات العمليات التجارية التي تم التداوُل بها عبر سويسرا خلال عام ٢٠١٠ فاقت ١٠٠٠ مليار دولار؛ أيْ تقريبًا ضِعْف الناتج المحلي الإجمالي السويسري لنفس العام، وتجارة السلع هي من بين القطاعات الأكثر نموًّا في الاقتصاد، كما أنها مصدرٌ قَيِّم للإيرادات الضريبية للحكومة السويسرية.

figure

كانت شركة مارك ريتش وشركاؤه وشركتا جلينكور وإكستراتا من بين أكبر صُنَّاع الثروات خلال العقود القليلة الماضية في سويسرا، لا بل في العالم أجمع أيضًا. ولعل الثروة التي حقَّقتها هذه الفئة من الشركات مجتمعة — على سبيل المثال — قد تجاوزَتِ الثروة التي حقَّقتها شركاتٌ أخرى في صناعاتٍ أكثرَ تألقًا مثل أمجين وأمازون وإي باي.

يُعَدُّ رجالُ الأعمال الذين صنعوا الثروات المذكورة من بين أكبر دافعي الضرائب في سويسرا، فمارك ريتش هو واحد من أغنى الأغنياء في العالم، وإيفان جلاسنبيرج تبلغ قيمة حصته في شركة جلينكور ما يقارب ١٠ مليارات فرنك سويسري، في حين أن قيمة حصة ويلي ستروثوت قبل إدراج الشركة في البورصة كانت تساوي ٦ مليارات فرنك سويسري (ويُرجَّح أنه قد باع جزءًا كبيرًا من حصته أو حتى بأكملها). كما أن جلينكور كانت بمثابة «مصنع لأصحاب الملايين» بالنسبة إلى العديد من أعضائها البالغ عددهم ٤٨٥.

وتتعدَّى أهمية هذه الثروات المجالَ الضيق لرجال الأعمال الذين صنعوها؛ إذ إن قطاع بيع السلع الأساسية في سويسرا قد أصبح قائمًا بذاته بشكل نظامِ «تكتُّل»، وهي عبارةٌ صاغها لأول مرة ميخائيل بورتر، وهو أستاذ في كلية هارفرد للأعمال.

نهاية زمن الاحتكار تقترب

في غياب القوانين والتشريعات المنظِّمة (إذ إن المصادر الطبيعية تتوفر في بلدانٍ تفتقر إلى التنظيم الصارم، وتُمارَس المنافسة على صعيدٍ عالمي وليس وطني)، استطاعت شركة جلينكور أن «تنجو بجلدها» من العقاب، رغم أنها شركة تمارس احتكارًا شبه كلي، لكنْ هل ستبدأ الضغوطات السياسية بالتصاعُد في حال استمرار جلينكور في السيطرة على حصة الأسد في قطاع المعادن التي تندر بشكلٍ متزايد ومتسارع؟

لقد ازدهَرَت جلينكور حتى اليوم عن طريق الشراكات، ولكن من المرجح أن صانعي الثروات سيتقاعدون ويبيعون حصصهم يومًا ما، تاركين المهمة لهيكليةٍ إدارية كلاسيكية يكون أطرافها من المساهمين العاديين والموظفين والدائنين، الذين قد يكونون أكثرَ ملاءَمةً لإدارة هذه الأعمال بدلًا من صنع الثروات.

لطالما كانت التجارة العالمية في الاقتصاد السويسري مجالًا مكَّنَ الشركات من العمل في كنف السرية بشكلٍ مقصود، وبقدْرِ ما لهذا المجال من أهميةٍ ضخمة بقدْرِ ما يصعب الاطلاع على مقوماته. وأحد أسباب ذلك هو أن الإحصائيات التجارية نادرًا ما تُكشَف للعيان؛ فعلى سبيل المثال، لا تستورد سويسرا إلا ما يقارب ١ في المائة من الإنتاج العالمي للقهوة الخضراء. وفي المقابل هناك شركاتٌ تقوم مقراتها في سويسرا تسيطر على ما يتراوح بين ٦٠ و٧٠ في المائة من التجارة العالمية للسلعة المذكورة. كما أن أغلب الشركات التجارية السويسرية ليست مُدرجة في أيٍّ من أسواق الأسهم، وعمليًّا لا تنشر أيَّ أرقامٍ عن أعمالها.

شركات تنجو من العقاب

تحت ستار السرية السويسري، استطاعت شركة جلينكور وشركاتٌ تجارية أخرى — مثل قطاع المصارف الخاصة في سويسرا — أن تنجو من أيِّ عقاب لاعتمادها أساليبَ عملٍ تبقى محظورةً على الآخرين. وبحكم أن جلينكور أصبحتِ الآن مُدرَجةً في أسواق البورصة، فهي تقبع تحت مجهر المحللين والصحفيين والمدوِّنين ممَّا يحدُّ من حريتها، وهذا من شأنه أن يؤثر على الأرباح التي يمكن أن تحقِّقها الشركة. وإذا ثبت أن إدراج جلينكور في أسواق البورصة وإخراجها إلى النور كانت عمليةً ناجحة، فمن المحتمل أن تحذو شركاتٌ تجارية أخرى حذْوَها لتخلع عنها عباءةَ التخفِّي التي طالما ارْتَدَتْهَا حتى الآن.

figure
أكبر الشركات التجارية السويسرية في ٢٠١١.*
١٩٥٠ ١٩٧٠ ١٩٨٠ ٢٠٠٠ ٢٠١١
إكستراتا (١٩٩٠)
العائدات بالمليون فرنك سويسري ١٦ ٥٩٨ ٣١٦٧٦
عدد الموظفين الإجمالي ٤ ٤٠٠٠ ٣٩٦٤٣
عدد الموظفين في سويسرا ٤ ١٥ ٢٥
جلينكور (١٩٩٤)
العائدات بالمليون فرنك سويسري ١٧٤٠٦٠
عدد الموظفين الإجمالي ٦١٠٠٠
عدد الموظفين في سويسرا ٦٨٠
دي كيه إس إتش (٢٠٠٢)
العائدات بالمليون فرنك سويسري ٤٧٠٠ ٧٣٤٠
عدد الموظفين الإجمالي ١٣٣٠٠ ٢٤٣٤٢
عدد الموظفين في سويسرا ١٠٠ ١٢٠
الجدول يبين الأرقام حيثما تكون متوافرة. الأرقام مُقرَّبة إلى الأعلى أو الأسفل حسب الحاجة. الشركات السلف التي سبقت شركة دي كيه إس إتش يعود تاريخها إلى منتصف القرن التاسع عشر. العديد من الشركات التجارية تقع مقراتها في سويسرا مثل جلينكور التي لا تنشر أرقامًا عن حجم المبيعات أو عدد العمال. (المصدر: مجلة فورتشن.)

غير أن الأمر الذي ليس من المحتمل أن يتغير هو مكانة سويسرا القوية بصفتها مركزًا للتجارة العالمية، حتى لو كانت السلع المُتداوَل بها — في الواقع — تكاد لا تمر أبدًا في البلاد، وليس من المفاجئ بحد ذاته أن تكون التجارة قد ازدهرت في سويسرا؛ وذلك لأنها طالما قدَّمَتِ الظروفَ المثالية اللازمة لنجاحِ وازدهارِ الشركات التجارية التي تمارس نشاطَها على صعيد عالمي؛ مثل: تسهيلاتِ ائتمانٍ بسعرٍ تنافسي من خلال اتصالاتٍ وثيقة مع المصارف السويسرية، وعُملةٍ مستقرة بشكلٍ استثنائي، وغياب الرقابة على أسعار صرف العملات. وحسب شركة كيه بي إم جي للخدمات المهنية، فإن معدلات ضريبة الدخل لشركات تجارة السلع في سويسرا منخفضةٌ بشكلٍّ لا تتعدَّى معه نسبة ٨ في المائة فقط، أمَّا الأنشطة التمويلية فتخضع لضريبةٍ فعلية لا تتجاوز ١ في المائة، إضافة إلى أن الضريبة على القيمة المضافة التي تبلغ ٨ في المائة هي الأدنى إطلاقًا في أوروبا حتى الآن.

وبحسب مجلة التايمز الاقتصادية، فإن سويسرا قد تفوقَت على لندن بصفتها مركزَ التجارة الأهم في العالَم لسلع الطاقة بما في ذلك النفط؛ إذ إن ٣٥ في المائة من النفط الخام العالمي، و٧٥ في المائة من صادرات النفط الروسية، تُتداوَل عبر سويسرا، كما أنها أكبر مركزٍ عالمي لتجارة الحبوب والحبوب الزيتية والبن (حصتها تعادل ٥٠ في المائة من حجم السوق العالمية)، والسكر (٥٠ في المائة أيضًا من السوق العالمية)، وهي أيضًا مركزٌ عالمي لتجارة المعادن الثمينة، وكذلك فإن ١٠ في المائة من مُنتَج تجارة الفولاذ العالمية يُتداوَل به في سويسرا.

تواريخ رئيسية.
قبل ١٨٠٠
١٧٨٨ كاسبر جَيلينجر وكريستوفر بلوم ينشئان شركة جَيلينجار وبلوم في فنترتور، التي كانت في البداية شركة بول راينهارت.
١٨٠٠–١٨٩٩
١٨١٥ نشأة البعثة الإنجيلية في بازل التي كانت نواة شركة التجارة بي إتش جي التي أصبحت بدورها تُدار عن طريق شركة التجارة المتحدة يو تي سي.
١٨٢٨ المبشرون يصلون من بازل إلى ساحل الذهب (غانا حاليًّا).
١٨٥١ سلُمون فولكرت ويوهان جورج فولكرت ينشئان شركة الإخوة فولكرت في فينترتور وبومباي.
١٨٦٤ المعاهدة التجارية بين سويسرا واليابان، سفر رجل يُدعَى كاسبر برينفالد إلى اليابان.
١٨٦٥ كاسبر برينفالد وهيرمان سيبر ينشئان شركة سيبر وبرينفالد.
١٨٧٨ إدوارد أنطون كيلر ينشئ شركة إي آي كيلر وشركاؤه في مانيلا.
١٨٨٧ فيلهيلم هاينريخ ديتهيلم ينشئ شركة إف إتش ديتهيلم وشركاؤه.
١٩٠٠–١٩٩٩
١٩١٢ انتقال ملكية شركة الإخوة فولكرت إلى عائلة راينهارت.
١٩١٧ نشأة شركة بازل للتجارة.
١٩٢١ بي فيلهيلم برايسفيرك ينشئ شركة التجارة المتحدة يو تي سي.
١٩٢٦ نشأة شركة سود إلكترا.
١٩٧٤ مارك ريتش ينشئ شركة مارك ريتش وشركاؤه في مدينة تسوج.
١٩٩٤ نشأة شركة جلينكور.
١٩٩٩ تغيير اسم شركة سود إلكترا لتصبح شركة إكستراتا.
منذ عام ٢٠٠٠
٢٠٠٢ نشأة شركة دي كيه إس إتش.
٢٠١٢ عملية دمج شركة جلينكور مع شركة إكستراتا.
٢٠١٢ شركة دي كيه إس إتش تدخل الاكتتاب العام بمبلغ ٣ مليارات فرنك سويسري.

المكان المثالي ومزاياه

هذه الأرقام المثيرة للإعجاب ليست نتيجةَ الحوافز المالية فحسب؛ فموقع البلد في الحيز الزمني الفاصل بين أمريكا وآسيا مثالي، كما أن اثنتَين من أكبر شركات المراقبة العالمية تتَّخِذان من سويسرا مقرًّا رسميًّا لهما، وهي أيضًا مقرٌّ للعديد من شركات الشحن المتعددة الجنسية الرائدة، و٢٢ في المائة من الشحن الجاف العالمي تُدار عَبْر سويسرا، إضافةً إلى مستوى العيش المرتفع (مدارس دولية من الطراز الأوَّل، نظام رعاية صحية متميز، انخفاض معدلات الجريمة، أنظمة قوية لحماية البيئة)؛ كل هذه عوامل تستقطب المواهب وتشجِّعها على البقاء في سويسرا، والنتيجة: بيئة متعددة الثقافات، تشمل ٢٢ بالمائة من الأجانب، وتشكِّل أرضيةً مثالية لازدهار التداول التجاري.

وفي الواقع، يمكن القول إن التداول التجاري هو المسئول — أكثر من أي قطاعٍ آخر — عن الطابع العالمي الذي تتميَّز به إدارة الأعمال في سويسرا. وبالنسبة إلى سويسرا ليست التجارة مجرد إدارة أعمال فحسب، ولا مصدر عمالة وعائداتِ ضرائبَ فحسب، بل هي جزءٌ لا يتجزأ من طبيعة البلد وروحه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤