الإطار العام

(١) الموضوع

من المعروف أن السيرة الذاتية هي ما يكتبه الإنسان بنفسه عن نفسه، ساردًا تاريخ حياته مسجلًا أعماله وآثاره؛ وهذا السرد والتسجيل نابع من رغبته الشخصية في البقاء، لشعوره بتفرده وتميزه، فيقرر في أعماقه بأحقيته في الخلود، عن طريق نقل خبرته وتجاربه وحياته للقراء. ومن هذا المنطلق كتب طه حسين سيرته الذاتية في الأيام، وكتب المازني سيرته في قصة حياة، وأحمد أمين في حياتي، وتوفيق الحكيم في سجن العمر … إلخ.

وبالرغم من ذلك، لُوحِظ أن السير الذاتية المكتوبة والمنشورة في أدبنا العربي الحديث، تُعتبَر قليلة نسبيًّا، إذا قُورِنت بعدد المتفردين والمتميزين في مجال الأدب؛ والسر في ذلك — من وجهة نظري — راجع إلى أن أغلب المتفردين والمتميزين لم يكتبوا سيرهم الذاتية، ظنًّا منهم أن حياتهم لا تستحق التسجيل، أو أن حياتهم شيء خاص لا يجب نشره أو تعريته أمام الجميع، أو أن في حياتهم أسرارًا لا يجب البوح بها، أو أن القدر لم يمهلهم العيش حتى يكتبوا سيرهم … إلخ هذه الأسباب والاعتبارات.

وغالبًا ما يجود الزمان بأشخاص يقدرون قيمة المتفردين والمتميزين في مجال الأدب، فيأخذون على عاتقهم مهمة كتابة سيرهم، فيقدمون للقراء نماذج مشرفة تستحق الخلود الأدبي، وتستحق أن تكون نبراسًا للأجيال القادمة. وهذا النوع من السير، معروف بالسيرة الغيرية، ويُقصَد بها قيام شخص بكتابة سيرة شخص آخر، شريطة أن يكون هذا الآخر معروفًا على مستوى الأدب أو الاجتماع أو السياسة … إلخ، أي أن يكون فذًّا ومتفردًا ومتميزًا في مجال ما.

وغالبًا ما يكتب الشخص سيرة غيرية لشخص آخر، لصداقة بينهما دامت سنوات، أو سدادًا لدَين أدبي ومعنوي من تلميذ لأستاذه، أو تأبينًا له لإحياء ذكراه، أو إعلاءً لشأنه، أو خدمة للعلم أو … إلخ. ولا أظن أن من يكتب مثل هذا النوع من السير يجد معاناة كبيرة في الحصول على معلومات المُترجَم له؛ فكفى به أن يتذكَّر سنوات الصداقة ليكتب السيرة باعتباره شاهدًا عليها، أو أن يتذكر مواقف أستاذه وحياته معه إذا أراد أن يسدد الدين لأستاذه، أو أن يسأل أفراد أسرة المُترجَم له أو أن يطلع على وثائقه — المحفوظة لديهم — ومكتبته — الموجودة بالفعل — في حال تأبينه وإحياء ذكراه، أو أن يقرأ ما كُتِب عن المُترجَم له سابقًا من أجل إعلاء شأنه، أو من أجل الكتابة عنه خدمة للعلم.

(٢) أهمية الدراسة وأسباب اختيار الموضوع

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: ماذا يفعل المرء إذا أراد أن يكتب سيرة غيرية لشخص ما، لم يجد عنه غير معلومات شحيحة، لا ترقى لأن تكون نواة للكتابة عنه؟! وربما يعلِّق القارئ قائلًا: هذا الشخص من المؤكَّد أنه لا يمثِّل شيئًا في مجال الأدب، ولم يكن متفردًا أو متميزًا، وبالتالي لم يهتم به الآخرون فلم يكتبوا عنه، ومن هنا شحت المعلومات الخاصة به. ورغم وجاهة هذا التعليق، إلا أن الشخص المُراد الكتابة عنه، كان في زمنه متميزًا وفي مجاله الأدبي متفردًا! وربما يعلِّق آخَر قائلًا: من المؤكد أنه من الأدباء المنسيين! فأجيبه قائلًا: نعم … نعم … إنه عباس حافظ الأديب المنسي، الذي قال قبل وفاته عام ١٩٥٩: «إن الأدباء يموتون فطيسًا، فقلة منهم هي التي تستأثر باهتمام الباحثين بعد رحيلهم، أما الكثرة الكاثرة فيغلفها النسيان، ربما إلى يوم الدين.»١ وكأنه — بهذا القول — كان يتحدث عن نفسه شاعرًا بدنو أجله، وأنه سيكون ضمن الكثرة المنسية إلى يوم الدين!

وهناك سؤال ربما يدور في خلد القارئ: لماذا أكتب عن عباس حافظ؟ وأجيبه قائلًا: أكتب عنه استكمالًا لمنهجي في الكتابة عن الشخصيات المنسية، التي كان لها دور بارز في الحياة الأدبية، ولم يلتفت إليها الكثيرون، لندرة ما يُعرَف عنهم، أو لصعوبة البحث عنهم، أو لوعورة الكتابة عنهم، أو لتوفر معلومات مغلوطة عنهم، أو … إلخ، أمثال: إسماعيل عاصم، ويعقوب صنوع، وتادرس وهبي، وحسن مرعي، وغيرهم.

ومن هذا المنطلق دار النقاش بيني وبين الدكتور سامح مهران — رئيس المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية — حول نشر بعض المخطوطات المسرحية، التي تجسد مراحل فنية معينة مثل مسرحية «عنوان التوفيق في قصة يوسف الصديق»، التي تعتبر ريادة مصرية في مجال مسرحة المناهج الدراسية، ومسرحية «الأزهر وقضية حمادة باشا»، التي ترجح ريادة مصر التطبيقية للمسرح التسجيلي؛ وقد أصدر المركز هاتين المسرحيتين في العامين الماضيين.

واستمرارًا في استكمال هذا المشروع، وقع اختيارنا هذا العام، على مجموعة النصوص المسرحية المخطوطة التي ترجمها عباس حافظ — والمنشورة في هذا الكتاب — والتي تمتد من عام ١٩١٦ إلى عام ١٩٥٢. وعلى الرغم من قيمة النصوص المنشورة، إلا أن قيمتها الحقيقية لا تكمن في ترجمتها، بقدر ما تكمن في دفعي إلى تعريف القراء بعباس حافظ، ومحاولة كتابة سيرة غيرية عنه، حتى أخرجه من كثرة الأدباء المنسيين، لينضم إلى الصفوة ممن لهم سير منشورة؛ فهذا حق الرجل على المركز الذي يحتفظ بمجموعة لا بأس بها من مخطوطاته المسرحية، وحقه عليَّ أنا شخصيًّا، طالما نذرت نفسي للكتابة عن المنسيين أمثاله!

(٣) الدراسات السابقة

لم تُعنَ دراسة سابقة — على حد اطلاعي — بحياة أو أعمال عباس حافظ الأدبية. وكل ما هو متوفر عنه حتى الآن عدة أسطر قليلة كُتبت عن إحصاء لبعض أعماله عام ١٩٤٩،٢ وأسطر أخرى كُتِبت في نعيه عام ١٩٥٩.٣ وقد جمع خير الدين الزركلي هذه الأسطر عندما تحدث عن عباس حافظ في موسوعته «الأعلام».٤ كما كان لي شرف كتابة هامش عن عباس حافظ في كتاب سابق لي عام ٢٠٠٣، أجملت فيه أهم سنوات حياته الوظيفية، مع إحصاء مختصر لأهم أعماله الأدبية.٥
وعباس حافظ كما شغلني، شغل غيري أمثال الكاتب نبيل فرج، الذي نشر له خطابًا، كان قد أرسله إلى طه حسين عام ١٩٥٥ بخصوص ترجمة إحدى مسرحيات شكسبير. وحاول نبيل فرج الحصول على معلومات تسعفه عن عباس حافظ دون جدوى — رغم اعتقاده بقيمة الرجل في مجال التأليف والترجمة — فعلق على ذلك قائلًا: «من الأسماء التي كان لها دورها في مجال التأليف والترجمة، في النصف الأول من هذا القرن، [ويقصد القرن العشرين] ولم يعد يذكرها أحد؛ الكاتب والمترجم عباس حافظ.»٦ وقد صدق الكاتب في اعتقاده وتعليقه، كما سنرى.

(٤) المنهج والأدوات

ربما أنسب منهج لهذه الدراسة، هو المنهج التاريخي، طالما سنتعرض إلى سيرة أحد الأدباء المنسيين، معتمدين فيها على الوثائق والحقائق والأحداث التاريخية المتعلقة بالمترجم له، وذلك من أجل الوقوف على أعماله الأدبية في زمنها وعصرها، وبيان قيمة تفرده وتميزه في عصره، وصولًا إلى كتابة سيرته.

ومن أجل تطبيق هذا المنهج، وصولًا إلى تحقيق أهداف الدراسة، اطلعنا على بعض وثائق عباس حافظ الرسمية، من خلال ملفه الوظيفي الرسمي المحفوظ بدار المحفوظات العمومية بالقلعة، ورصدنا عناوين إنتاجه الأدبي من الفهارس المتاحة بدار الكتب المصرية، وببعض المكتبات الأخرى، وأخيرًا بحثنا عن مقالاته وأخباره المنشورة في الدوريات المعاصرة لحياته، وتحديدًا مقالاته المتعلقة بنشاطه المسرحي.

(٥) أهداف الدراسة

إذا كانت لدراستنا هذه أهداف تطمح إلى تحقيقها، فقد اخترنا موضوع «عباس حافظ … حياته وأدبه»، من أجل الوصول إلى:
  • (أ)

    الكشف عن حياة عباس حافظ العملية والوظيفية.

  • (ب)
    الوقوف على إنتاج ونشاط عباس حافظ الأدبي، من خلال:
    • (١)

      الإنتاج الأدبي المنشور والمخطوط.

    • (٢)

      المسرحيات المُمثلة على خشبة المسرح.

    • (٣)

      النقد المسرحي المنشور.

١  مجلة الحرية الإلكترونية، عدد ١١١٣، ١٩ / ١١ / ٢٠٠٦.
٢  جاء في مجلة «الاثنين والدنيا»، عدد ٨٠٣، بتاريخ ٣١ / ١٠ / ١٩٤٩، ص١٩: «بدأ الأستاذ عباس حافظ يؤلف الكتب وهو طالب منذ نحو ٣٨ عامًا! ففي عام ١٩١١ ترجم عن الإنجليزية كتاب «كنوز الملك سليمان» للسير ريدر هجارد، وكان مقررًا على الطلبة في ذلك العهد، فربح فيه عشرة جنيهات شجعته على الاستمرار في ترجمة الكتب ونشرها؛ وقد نقل إلى العربية ١٨ مسرحية عالمية، وألَّفَ عشرة كتب أخرى، أحدثها كتاب «علم النفس الاجتماعي» الذي نشر في عام ١٩٤٨ … وهو يعتز بثلاثة كتب هي «الزعامة والزعيم»، و«العقل الباطن»، و«سلمى». ويقول الأستاذ عباس حافظ إنه ألَّفَ كتابًا باع حقوق نشره لأحد الناشرين وأتفق معه على أن يقبض ثمنه بعد طبعه وتوزيعه في الأسواق، ولكن الناشر طبع الكتاب وباعه في الأسواق الشرقية، ثم اختفى من القاهرة؛ فكان مقلبًا هو الأول والأخير من نوعه في حياته الأدبية.»
٣  جاء في جريدة الأهرام بتاريخ ٢٤ / ٦ / ١٩٥٩: «انتقل إلى رحمة الله الكاتب الكبير عباس حافظ، والد أنور حافظ المحامي، وحرم كل من القائمقام محمود السباعي مدير المباحث الجنائية بالداخلية، والبكباشي محمد بدوي الخولي مدير عام الشئون الإدارية بوزارة التربية والتعليم، والبكباشي أحمد السباعي برئاسة هيئة إدارة الجيش، وحرم المرحوم المهندس إبراهيم رائف. وعم أحمد حافظ المدرس الأول وإخوته، وخال السادة أحمد كامل منيب وكيل حسابات العدل، وعلي حسني منيب بالشركة العامة للألمنيت، وحرم حسين عبد الحميد النمر سكرتير عام مطبعة مصر، وحرم علي الشريعي عضو مجلس الأمة، وأحمد محمد حافظ مراقب الحسابات المساعد بالسكة الحديد، وزوج شقيقة الأستاذ محمود فؤاد السيد بوزارة المالية سابقًا، وقريب السادة عثمان منيب … إلخ. وستشيع الجنازة اليوم الساعة الحادية عشرة صباحًا من منزله ٧ شارع القصر العالي بجاردن سيتي، حيث تقام ليلة المأتم.» كما جاء بجريدة الأهرام أيضًا بتاريخ ٢٧/ ٦ / ١٩٥٩، تحت عنوان (شكر): «ترفع أسرة الكاتب الكبير المرحوم الأستاذ عباس حافظ أصدق آيات الشكر للسيد رئيس الجمهورية [والمقصود جمال عبد الناصر] على جميل مواساته في مصابها الأليم. كما تتقدم بخالص الشكر لنائبي الرئيس: السيد عبد اللطيف البغدادي، والمشير عبد الحكيم عامر، والسادة الوزراء: زكريا محيي الدين، وكمال الدين حسين، وحسين الشافعي، وأنور السادات، وسيد مرعي، وأحمد نجيب هاشم، وتوفيق عبد الفتاح، وعباس رضوان، وفضيلة شيخ الجامع الأزهر، والسيد صلاح دسوقي، والسادة الوزراء السابقين، ووكلاء الوزارات، والسادة المحافظين، والمديرين، والحكمداريين، ومديري المصالح، ورجال الجيش والبوليس والتربية والتعليم، وجميع من تفضل بتقديم العزاء. ونسأل الله ألا يريهم مكروهًا في عزيز لديهم.»
٤  قال خير الدين الزركلي، في موسوعته «الأعلام» [المجلد الثالث، ص٢٥٩]: «عباس حافظ (١٨٩٣–١٩٥٩) كاتب مصري، كثير الترجمة عن الإنجليزية، كان محررًا بجريدة البلاغ المصرية، وتوفي بالقاهرة. نقل إلى العربية ١٨ مسرحية، وكتبًا منها: «العقل الباطن وعلاقته بالأمراض النفسية» مطبوع، والأصل لسادلر، «سلمى»، «الشهداء»، «الفردوس المسموم». ومن تآليفه المطبوعة: «علم النفس الاجتماعي»، و«الزعامة والزعيم»، و«دموع وضحكات» و«مصطفى النحاس».»
٥  حول ذلك ينظر: د. سيد علي إسماعيل، مسيرة المسرح في مصر ١٩٠٠ / ١٩٣٥، الجزء الأول «فرق المسرح الغنائي»، الهيئة المصرية العامة للكتاب ٢٠٠٣ هامش ص١٢٧.
٦  نبيل فرج، طه حسين ومعاصروه، دار الهلال، كتاب الهلال، عدد ٥٢١، مايو ١٩٩٤، ص٣٠٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤