الفصل الحادي عشر

وانقطع الصبيُّ عن الكُتَّاب، وانقطع سيِّدنا عن البيت، والتمس الشيخ فقيهًا آخر يختلف إلى البيت١ في كل يوم؛ فيتلو فيه سورة من القرآن مكان سيِّدنا، ويُقرئ الصبيَّ ساعة أو ساعتين. وظلَّ الصبيُّ حرًّا يعبث ويلعب في البيت متى انصرف عنه الفقيه الجديد، حتى إذا كان العصر أقبل عليه أصحابه ورفاقه مُنْصَرَفَهم٢ من الكتَّاب، فيقصُّون عليه ما كان في الكتَّاب، وهو يلهو بذلك، ويعبث بهم وبكتَّابهم، وبسيِّدنا وبالعريف، وكان قد خُيل إليه أن الأمر قد انبتَّ٣ بينه وبين الكتَّاب ومن فيه، فلن يعود إليه، ولن يرى الفقيه ولا العريف، فأطلق لسانه في الرجلين إطلاقًا شنيعًا، وأخذ يُظهر من عيوبهما وسيئاتهما ما كان يُخفيه، وأخذ يلعنهما أمام الصبيان ويصفهما بالكذب والسرقة والطمع، ويتحدَّث عنهما بأشياءَ مُنكَرةٍ؛ كان يجد في التحدث بها شفاءً لنفسه، ولذة لهؤلاء الصبيان. وما له لا يطلق لسانه في الرجلين، وليس بينه وبين السفر إلى القاهرة إلَّا شهر واحد؟ فسيعود أخوه الأزهريُّ من القاهرة بعد أيام، حتى إذا قضى إجازته استصحبه إلى الأزهر، حيث يُصبح مجاورًا، وحيث تنقطع عنه أخبار الفقيه والعريف.

الحقّ أنه كان سعيدًا في هذه الأيام؛ كان يشعر بشيء من التفوق على رفاقه وأترابه؛ فهو لا يذهب إلى الكتَّاب كما يذهبون، وإنما يسعى إليه الفقيه سعيًا، وسيسافر إلى القاهرة حيث الأزهرُ، وحيث «سيِّدنا الحسين»، وحيث «السيدة زينب» وغيرهما من الأولياء، وما كانت القاهرة عنده شيئًا آخر، إنما كانت مستقر الأزهر، ومشاهد الأولياء والصالحين.

ولكن هذه السعادة لم تدم إلا ريثما يَعقبها شقاء شنيع؛ ذلك أن سيِّدنا لم يطق صبرًا على هذه القطيعة، ولم يستطع أن يحتمل انتصار الشيخ عبد الجواد عليه، فأخذ يتوسل بفلان وفلان إلى الشيخ، وما هي إلَّا أن لانت قناة٤ الشيخ، وأمر الصبيَّ بالعودة إلى الكتَّاب متى أصبح. عاد كارهًا مقدِّرًا ما سيلقاه من سيِّدنا وهو يقرئه القرآن للمرة الثالثة، ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد؛ فقد كان الصبيان ينقلون إلى الفقيه والعريف كلَّ ما يسمعون من صاحبهم. ولله أوقات الغداء طَوَالَ هذا الأسبوع، وما كان سيِّدنا ينال به الصبيَّ من لوم، وما كان العريف يُعيد عليه من ألفاظه، تلك التي كان يطلق بها لسانه مقدِّرًا أنه لن يرى الرجلين!
في هذا الأسبوع تعلَّم الصبيُّ الاحتياط في اللفظ، وتعلَّم أن من الخطل والحمق٥ الاطمئنانَ إلى وعيد الرجال، وما يأخذون أنفسهم به من عهد، ألم يكن الشيخ قد أقسم لا يعود الصبيُّ إلى الكتَّاب أبدًا؟ وها هو ذا قد عاد! وأيُّ فرق بين الشيخ يقسم ويحنث! وبين سيِّدنا يرسل الطلاق والأيمان إرسالًا، وهو يعلم أنه كاذب؟ وهؤلاء الصبيان يتحدَّثون إليه، فيشتمون له الفقيه والعريف، ويُغْرُونَه٦ بشتمهما، حتى إذا ظفروا منه بذلك، تقرَّبوا به إلى الرجلين، وابتغَوا٧ به إليهما الوسيلة، وهذه أمُّه تضحك منه، وتُغري به سيِّدنا حين أقبل يتحدث إليها بما نقل إليه الصبيان، وهؤلاء إخوته يشمتون به، ويعيدون عليه مقالة سيِّدنا من حين إلى حين، يغيظونه ويثيرون سخطه، ولكنه كان يحتمل هذا كلَّه في صبر وجلد، وما له لا يصبر ولا يتجلَّد وليس بينه وبين فراق هذه البيئة٨ كلها إلا شهر أو بعض شهر!
١  يختلف إلى البيت: يتردد عليه.
٢  منصرفهم: وقت انصرافهم.
٣  انبت: انقطع.
٤  لين القناة هنا: كناية عن الرضا.
٥  الخطل والحمق: قلة العقل وفساده.
٦  أغراه به: أولعه به وحضه عليه.
٧  ابتغوا: طلبوا. والوسيلة: ما يُقرَّب به إلى الغير.
٨  البيئة بالكسر: اسمٌ من تبوأ المكان إذا حله، ويراد بها: المكان الذي يأويه الإنسان وكل ما يُحيط به فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤