الفصل الخامس

ولكنه لا يعرف كيف حفظ القرآن، ولا يذكر كيف بدأه ولا كيف أعاده، وإن كان يذكر من حياته في الكُتَّاب مواقف كثيرة، منها ما يُضحكه الآن، ومنها ما يُحزنه؛ يذكر أوقاتًا كان يذهب فيها إلى الكُتَّاب محمولًا على كتف أحد أخويه؛ لأن الكُتَّاب كان بعيدًا، ولأنه كان أضعف من أن يقطع ماشيًا تلك المسافة، ثم لا يذكر متى بدأ يسعى إلى الكُتَّاب. ويرى نفسه في ضحى يوم جالسًا على الأرض بين يدي «سيِّدنا» ومِن حوله طائفة من النعال كان يعبث ببعضها، وهو يذكر ما كان قد أُلصق بها من الرُّقَع، وكان «سيِّدنا» جالسًا على دَكَّةٍ١ من الخشب صغيرة ليست بالعالية ولا بالمنخفضة؛ قد وُضعت على يمين الداخل من باب الكُتَّاب بحيث يمر كلُّ داخلٍ «بسيِّدنا»، وكان «سيِّدنا» قد تعوَّد متى دخل الكُتَّاب أن يخلع عباءته، أو بعبارة أدقَّ «دِفِّيَّتَهُ» ويَلُفُّها لفًّا يجعلها في شكل المِخَدَّة، ويضعها عن يمينه، ثم يخلع نعله ويتربَّع على دكته، ويُشعل سيجارته، ويبدأ في نداء الأسماء، وكان «سيِّدنا» لا يُعفي نعليه إلا إذا لم يجد من ذلك بُدًّا، كان يَرْقعُهما من اليمين ومن الشِّمال ومن فوقُ ومن تحتُ. وكان إذا أخلَّتْ به إحدى نعليه دعا أحد صِبيان الكُتَّاب وأخذ النعل بيده، وقال له: تذهبُ إلى «الحزيِّن» وهو هنا قريب، فتقول له: «يقول لك سيِّدنا: إن هذه النعل في حاجة إلى لَوْزة من الناحية اليمنى.» انظر أترى؟ هنا حيث أضع أصبعي، فيقول لك «الحزيِّن»: «نعم سأضع هذه اللوزة.» فتقول له: «يقول لك سيِّدنا: يجب أن تتخير الجلد متينًا غليظًا جديدًا، وأن تحسن الرَّقع بحيث لا يظهر، أو بحيث لا يكاد يظهر.» فيقول لك: «نعم سأفعل هذا.» فتقول له: «ويقول لك سيِّدنا: إنه عميلك منذ زمن طويل، فاستوصِ بالأجر خيرًا!» ومهما يقُل لك فلا تقبل منه أكثر من قرش، ثم عُدْ إليَّ مسافة ما أغمض عيني ثم أفتحها، وينطلق الصبي ويلهو عنه سيِّدنا، ثم يعود وقد أغمض سيِّدنا عينه وفتحها مرةً ومرةً ومراتٍ.
figure

على أن الرجل كان يستطيع أن يغمض عينه ويفتحها دون أن يرى أو يكاد يرى شيئًا، فقد كان ضريرًا إلا بصيصًا ضئيلًا جدًّا من النور في إحدى عينيه، يُمثِّل له الأشباح دون أن يُمكِّنه أن يتميزها، وكان الرجل سعيدًا بهذا البصيص الضئيل … وكان يخدع نفسه ويظن أنه من المبصرين … ولكن ذلك لم يكن يمنعه من أن يعتمد في طريقه إلى الكتَّاب وإلى البيت على اثنين من تلاميذه، يبسط ذراعيه على كتفي كل واحد منهما، ويمشي الثلاثة في الطريق هكذا! قد أخذوها على المارَّة، حتى إنهم ليتنحَّون لهم عنها.

وكان منظر سيِّدنا عجبًا في طريقه إلى الكتَّاب وإلى البيت صباحًا ومساءً، كان ضخمًا بادنًا وكانت دِفِّيَّته تزيد في ضخامته، وكان كما قدمنا يبسط ذراعيه على كتفي رفيقيه، وكانوا ثلاثتهم يمشون وإنهم ليضربون الأرض بأقدامهم ضربًا. وكان سيِّدنا يتخير من تلاميذه لهذه المهمة أنجبهم وأحسنهم صوتًا؛ ذلك أنه كان يحب الغناء، وكان يحب أن يعلم تلاميذه الغناء، وكان يتخير الطريق لهذا الدرس، فكان يغنِّي ويأخذ رفيقيه بمصاحبته حينًا، والاستماع له حينًا آخر، أو يأخذ واحدًا منهما بالغناء على أن يصاحبه هو والرفيق الآخر. وكان سيِّدنا لا يغني بصوته ولسانه وحدهما، وإنما يغني برأسه وبدنه أيضًا؛ فكان رأسه يهبط ويصعد، وكان رأسه يلتفت يمينًا وشمالًا، وكان سيِّدنا يغني بيديه أيضًا، فكان يوقِّع الأنغام على صدر رفيقه بأصابعه. وكان سيِّدنا يعجبه «الدَّوْر» أحيانًا؛ ويرى أن المشي لا يلائمه فيقف حتى يُتمَّه، وأبدعُ من هذا كله أن سيِّدنا كان يرى صوته جميلًا، وما يظن صاحبنا أن الله خلق صوتًا أقبح من صوته، وما قرأ صاحبُنا قول الله عز وجل: إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ إلَّا ذكر سيِّدَنا وهو يوقع أبياتًا من «البُرْدة» في طريقه إلى الجامع منطلقًا لصلاة الظهر، أو في طريقه إلى البيت منصرفًا من الكُتَّاب.

يرى صاحبُنا نفسه، كما قدَّمنا، جالسًا على الأرض يعبث بالنعال من حوله، وسيِّدنا يُقْرِئه سورة الرحمن، ولكنه لا يذكر أكان يقرؤها بادئًا أم معيدًا.

وكأنه يرى نفسه مرة أخرى جالسًا لا على الأرض ولا بين النعال، بل عن يمين سيِّدنا على دَكَّة أخرى طويلة، وسيِّدنا يُقرئه: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، وأكبر ظنه أنه كان قد أتم القرآن بَدْءًا وأخذ يعيده. وليس غريبًا أن ينسى صاحبنا كيف حفظ القرآن؛ فقد أتم حفظه ولمَّا يُتم التاسعة من عمره، وهو يذكر في وضوح وجلاءٍ ذلك اليوم الذي ختم فيه القرآن، ذلك أن سيِّدنا كان يتحدث إليه قبل هذا اليوم بأيام عن خَتْم القرآن، وعن أن أباه سيبتهج به، وكان يضع لذلك شروطًا ويطالب بحقوقه، ألم يكن قد علَّم قبل صاحبنا أربعةً من إخوته ذهب واحد منهم إلى الأزهر، والآخرون إلى المدارس، وصاحبنا هو الخامس! فكم لسيِّدنا على الأسرة من حقوق! وحقوق سيِّدنا على الأسرة كانت تتمثل دائمًا طعامًا وشرابًا وثيابًا ومالًا، فأمَّا الحقوق التي كان يقتضيها إذا ختم صاحبنا القرآن فَعشْوةٌ دَسِمةٌ قبل كلِّ شيء، ثم جُبَّة وقُفطان، وزوجٌ من الأحذية، وطربوش مغربيٌّ، وطاقيَّة من هذا القماش الذي تُتخذ منه العمائم، وجنيْه أحمر، لا يرضى بشيء دون ذلك … فإذا لم يؤدَّ إليه هذا كله فهو لا يعرف الأسرة، ولا يقبل منها شيئًا، ولا صلة بينه وبينها، وهو يقسم على ذلك بمُحْرِجات الأيْمان،٢ وكان هذا اليوم يوم أربعاء، وكان سيِّدنا قد أنبأ في الصباح بأنَّ صاحبنا سيختم القرآن في هذا اليوم، وأقبلوا في العصر؛ يمشي سيِّدنا معتمدًا على رفيقيه، ويمشي صاحبنا من ورائه يقوده يتيمٌ من أيتام القرية، حتى إذا بلغوا البيت دفع سيِّدنا الباب دفعًا، وصاح صيحته المعتادة: «يا ستَّار»، واتَّجه إلى المَنظَرة، فإذا فيها الشيخ قد انفتل٣ من صلاة العصر وهو يقرأ شيئًا من الأدعية كعادته، فاستقبلهم مبتسمًا مطمئنًّا، وكان صوته هادئًا، وكان صوت سيِّدنا عاليًا، وكان صاحبنا لا يقول شيئًا، وكان اليتيم مبتهجًا. أجلس الشيخ سيِّدنا ورفيقيه، ووضع في يد اليتيم قطعةً من فِضَّة، ودعا الخادم وأمره أن يأخذ هذا اليتيم إلى حيث يُصيب شيئًا من الطعام، ومسح على رأس ابنه وقال: «فتح الله عليك! انصرف إلى أمك، وقل لها: إن سيِّدنا هنا.»

وكانت أمه قد سمعت صوت سيِّدنا، وكانت قد أعدَّت له ما لا بُدَّ منه في مثل هذا الوقت، وهو كُوزٌ ضخم طويل من السكر المذاب لا شيء عليه، أُخرِج إلى سيِّدنا هذا الكوز فعبَّه عبًّا، وشرب رفيقاه كوبين من السكر المذاب أيضًا، ثم أخرجت القهوة فشربها سيِّدنا مع الشيخ، وكان سيِّدنا يُلحُّ على الشيخ في أن يمتحن الصبي فيما حفظ من القرآن، وكان الشيخ يجيب: «دعه يلعب إنه صغير.» ثم نهض سيِّدنا لينصرف، فقال له الشيخ: «نصلي المغرب معًا إن شاء الله.» وكانت هذه هي الدعوة إلى العَشاء، وما أحسبُ أن سيِّدنا نال شيئًا آخر أجرًا على ختم صاحبنا للقرآن؛ فقد كان يعرف الأسرة منذ عشرين سنة، وكان له فيها عادات غيرُ مقطوعة، وكانت الكُلفة بينه وبينها مرفوعة، وكان واثقًا أن الحظ إن يُخطئه معها هذه المرَّة فلن يُخطئه مرةً أُخرى.

١  تُطلق الدكة في مصر على سرير من الخشب يُجلس عليه، له في جوانبه العليا ما عدا مقدمه سياج، وأصل الدَّكة — بفتح الدال — بناء يسطح أعلاه ويجلس عليه، فأطلقها المصريون على هذا السرير، ولكنهم يكسرون الدال.
٢  محرجات الأيمان: الأيمان المغلظة التي توقع في الحرج، وهو: الإثم.
٣  انفتل: انصرف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤