الفصل التاسع

من ذلك اليوم انقطعت صلة الصبي التعليمية «بسيِّدنا»، واتصلت بالعريف، ولم يكن العريف أقل غرابة من سيِّدنا؛ كان شابًّا طويلًا نحيفًا أسود فاحمًا، أبوه سوداني، وأمه مولَّدة، وكان سيئ الحظ، لم يوفق في حياته لخير، جرَّب الأعمال كلها فلم يُفلح في شيء منها، أرسله أبوه عند كثير من الصُّناع ليتعلَّم صنعةً فلم يُفلِح، وحاول أن يجد له في معمل السُّكَّر شُغلَ العامل أو الخفير أو البوَّاب أو الخادم، فلم يُفلح في شيء من هذا، وكان أبوه ضيِّق الصدر به، يَمقته ويزدريه، ويُؤثر١ عليه إخوته الذين يعملون جميعًا ويكسبون، وكان قد ذهب إلى الكُتَّاب في صباه فتعلَّم القراءة والكتابة، وحفظ سُورًا من القرآن لم يلبث أن نسيها، فلما ضاقت به الحياة وضاق بها أقبل إلى سيِّدنا فشكا إليه أمره، قال له سيِّدنا: فتعالَ هنا فكن عريفًا، عليك أن تُعلِّم الصبيان القراءة والكتابة وتلاحظهم وتمنعهم من العبث، وتقوم مقامي متى غبت، وعليَّ أن أُقرئهم القرآن وأحفِّظهم إيَّاه، وعليك أن تفتح الكُتَّاب قبل أن تَطلُع الشمس، وتُشرف على تنظيفه قبل أن يحضر الصبيان، وعليك أن تُغلق الكُتَّاب متى صُلِّيتِ العصرُ، وتأخذ مفتاحه، وعليك مع هذا كله أن تكون يدي اليمنى، ولك رُبع ما يأتي به الكُتَّاب من نقد، تقتضي ذلك في كل أسبوع أو في كل شهر، وتم هذا العقد بين الرجلين وقرأ عليه الفاتحة، وبدأ العريف عمله.
وكان العريف يبغض سيِّدنا بُغضًا شديدًا ويزدريه، ولكنه يُصانعه،٢ وكان سيِّدنا يكره العريف كرهًا عنيفًا ويحتقره، ولكنه يتملَّقه.
فأمَّا العريف فكان يكره سيِّدنا؛ لأنه أَثِرٌ٣ غشاش كذَّاب، يخفي عليه بعض موارد الكُتَّاب، ويستأثر٤ بخير ما يحمل الصبيان معهم من طعام، ويزدريه؛ لأنه كان ضريرًا يتكلَّف الإبصار، وكان قبيح الصوت، يتكلَّف حسْن الصوت. وأمَّا سيِّدنا فكان يكره العريف؛ لأنه مكَّارٌ داهيةٌ، ولأنه يخفي عليه كثيرًا ممَّا ينبغي أن يعلمه، ولأنه سارقٌ؛ يسرق ما يوضع بين يديهما من الطعام وقتَ الغداء، ويختلس أطايبه، ولأنه يأتمر٥ مع كبار الصبيان في الكتَّاب، ويعبث معهم على غفلةٍ منه، فإذا صُلِّيَت العصر وأُغلق الكُتَّاب كان بينه وبينهم مواعيدُ هناك عند شجر التوت، أو عند «القنطرة» أو في «معمل السكر».
ومن غريب الأمر أن الرجلين كانا صادقيْن مُصيبيْن، وأنهما كانا مُضْطَرَّيْن إلى أن يتعاونا على كُرهٍ ومَضَضٍ؛٦ أحدهُما محتاج إلى أن يعيش، والآخر محتاج إلى من يدبِّر له أمور الكُتَّاب.
اتصل صبينا بالعريف، وأخذ يتلو القرآن بين يديه، ستة أجزاء في كلِّ يوم، ولكن ذلك لم يستمرَّ ثلاثةَ أيام، ضاق الصبي بهذه التلاوة منذ اليوم الأول، وضاق العريف بها منذ اليوم الثاني، وتكاشفا٧ بهذا الضيق في اليوم الثالث، واتفقا منذ اليوم الرابع على أن يتلو الصبيُّ في سرِّه ستةَ أجزاء بين يَدَي العريف، حتى إذا أحسَّ اضطرابًا، أو غاب عنه لفظ، سأل عنه العريف. وأخذ الصبي يأتي في كل يوم، فيسلِّم على العريف، ويجلس على الأرض بين يديه، ويحرك شفتيه مهمهمًا٨ كأنه يقرأ القرآن، ويسأل العرِّيفَ من حين إلى حين عن كلمة، فيجيبه مرة، ويتثاقل عنه مرة أخرى. ويأتي سيِّدنا في كل يوم قبيل الظهر؛ فإذا سلَّم وجلس، كان أول عمل يأتيه أن يدعو الصبي فيسأله: أقرأت؟

– نعم.

– من أين إلى أين؟

وكان الصبيُّ يجيب: من البقرة إلى لَتَجِدَنَّ في يوم السبت، ومن: لَتَجِدَنَّ إلى وَمَا أُبَرِّئُ في يوم الأحد، وكذلك قسَّم القرآن ستة أقسام اصطلح عليها الفقهاء، وخصَّ لكل يوم من الأيام الخمسة، قسمًا من هذه الأقسام يخبر به سيِّدنا متى سأله.

ولكن العريف لم يكن ليكتفي بهذا الاتفاق الذي يريحه ويريح الصبيَّ، وإنما كان يطمع في أن يستفيد من موقف الصبي بين يديه، وكان يُنذر الصبي من حين إلى حين بأنه سيخبر سيِّدنا أنه قد وجد بعض السور «متعتعة» سيئة الحفظ عند الصبي: «سورة هود»، أو «سورة الأنبياء»، أو «سورة الأحزاب»، وإذ كان القرآن كله «متعتعًا» عند الصبي؛ لأنه أهمل قراءته منذ أشهر، فقد كان يكره أن يمتحنه سيِّدنا، ويشتري صمت العريف بكل شيء، وكم دفع إلى العريف ما كان يملأ جيبه من خبز، أو فطير، أو تمر! وكم دفع إليه هذا القرش الذي كان يعطيه إياه أبوه من حين إلى حين، والذي كان يريد أن يشتري به أقراص النعناع! وكم احتال على أمه، ليأخذ منها قطعة ضخمة من السكر، حتى إذا وصل إلى الكتَّاب دفعها إلى العريف، وإنه ليشتهيها كلَّها أو بعضها، فيأخذها العريف ويدعو بالماء يغمس فيه السكر، ثم يمصُّه مصًّا شديدًا، ثم يزدرد السكَّر وقد ذاب أو كاد! وكم نزل عن طعامه الذي كان يُحمل إليه من البيت ظُهر كلِّ يوم، وإنه لشديد الجوع، ليأكل العريف مكانه؛ لئلَّا يخبر سيِّدنا بأن القرآن عنده «متعتع».

على أن هذه الصِّلات المستمرة لم تلبث أن ضَمِنَتْ له مودَّة العريف، فقد اتخذه العريف صديقًا، وأخذ يستصحبه إلى الجامع بعد الغداء ليصلي معه الظهر، ثم أخذ يعتمد عليه، ويثقُ به، ويطلب إليه أن يُقرئ القرآن بعض الصبيان، أو يسْمعه من بعض الذين أخذوا يُعيدون ويحفظون. وهنا كان صاحبنا يسلك مع تلاميذه مسلك العريف معه بالدِّقَّة؛ كان يُجلس الصبيان بين يديه، ويأخذهم بالتلاوة، ثم يتشاغل عنهم بالحديث مع أترابه، حتى إذا فرغ من حديثه، التفت إليهم، فإذا آنس منهم عبثًا أو إبطاء أو اضطرابًا؛ فالنذير، ثم الشتم، ثم الضرب، ثم إخبار العريف. والحق أنه لم يكن أحسن حفظًا للقرآن من تلاميذه، ولكنَّ العريف قد اتَّخذ معه هذه الخطة، فيجب أن يكون هو عريفًا حقًّا. وإذا كان العريف لا يشتُمُهُ ولا يضربه، ولا يرفع أمره إلى سيِّدنا؛ فذلك لأنه يدفع ثمن ذلك كله غاليًا، وقد فهم الصبيان هذا فأخذوا يدفعون له الثمن غاليًا أيضًا، وأخذ هو يستردُّ بالرشوة ما كان يدفع إلى العريف. على أن رشوته كانت متنوعة؛ فلم يكن محرومًا في بيته، ولم يكن في حاجة إلى الخبز ولا إلى التمر ولا إلى السكر، ولم يكن يستطيع أن يقبل «الفلوس»، وماذا يصنع بالفلوس وهو لا يستطيع أن يُنفقها وحده! فهو إن قَبِلها دلَّ على نفسه، وافتُضح أمرُه، وإذن فقد كان عسيرًا وكان إرضاؤه شاقًا، وكان الصبيان يتفننون في إرضائه فيشترون له أقراص النعناع «والسكر النبات» و«اللُّبَّ» و«الفول السودانيَّ»، وكان يتفضَّل بكثير من ذلك على العريف.

ولكنَّ لونًا من الرشوة خاصًّا كان يُعجبه ويَفتنه، ويُشجِّعه على أن يُهمل واجبه أشنع إهمال، وهذا اللون هو القصص والحكايات والكتب، فإذا استطاع الصبيُّ أن يقصَّ عليه أحدوثةً، أو يشتري له كتابًا من هذا الرجل الذي يتنقَّل بالكتُب في قُرى الريف، أو يتلو عليه فصلًا من قصة «الزير سالم» أو «أبي زيد»، فهو واثقٌ بما شاء من رضاه، ورفْقه ومُحاباته، وكان أمهر تلاميذه في هذه، صبيَّةً مكفوفة البصر، يقال لها: نفيسة، أرسلها أهلها إلى الكُتَّاب لتحفظ القرآن فحفظته، وأتقنت حفظه، وَوكَلها٩ سيِّدنا إلى العريف ووكلها العريف إلى صاحبنا، وأخذ صاحبنا يسلُك معها مسلك العريف معه، وكان أهلُ هذه الفتاة أغنياء، ولكنهم من المُحْدَثين، كان أبوها حمَّارًا ثم أصبح تاجرًا مُثريًا، وكان يُنفق على أهله من غير حساب، ويُسبغ١٠ عليهم سعةً غريبة من العيش، فلم تكن تنقطع الفلوس من يد نفيسة، وكانت أقدر الصبيان على تخيُّر الرِّشا، ثم كانت أحفظهم للقصص، وأقدرهم على الاختراع، وأحفظهم لألوان الغناء المُفرح، «والتعديد» المُبكي، وكانت تحسن الغناء والتعديد معًا. وكانت غريبة الأطوار، في عقلها شيء من الاضطراب، فكانت تُلهي صاحبنا أكثر وقته بحديثها وتعديدها، وأقاصيصها وألوان رشوتها، وبينما كان صاحبنا يرشو ويرتشي، ويَخْدع ويُخْدعُ، كان القرآن يُمحى من صدره آية آية وسورة سورة، حتى كان اليوم المحتوم … ويا له من يوم!
١  يُوثر عليه إخوته: يُفضِّلهم عليه.
٢  يصانعه: يلاينه ويُداريه.
٣  أثر: يؤثر نفسه بالخير.
٤  استأثر بالشيء: استبدَّ به وخصَّ به نفسه.
٥  يأتمر معهم، هنا: يتشاور معهم على عمل شيء.
٦  المضض: الألم.
٧  تكاشفا: كشف كلُّ منهما للآخر ما في نفسه.
٨  الهمهمة: الكلام الخفي.
٩  وكَلها إليه: تركها له وجعل أمرها إليه.
١٠  أي يُضفيها عليهم ويوسعها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤