الفصل الأول

أقام في القاهرة أسبوعين أو أكثر من أسبوعين، لا يعرف من أمره إلا أنه ترك الريف وانتقل إلى العاصمة؛ ليطيل فيها المقام طالبًا للعلم مختلفًا إلى مجالس الدرس في الأزهر، وإلا أنه يقضي يومه في أحد هذه الأطوار الثلاثة التي يتخيَّلها ولا يحققها.

فهو يسكن بيتًا غريبًا يسلك إليه طريقًا غريبة أيضًا، ينحرف إليها نحو اليمين إذا عاد من الأزهر، فيدخل من باب يفتح أثناء النهار ويغلق في الليل، وتفتح في وسطه فجوة ضيقة بعد أن تُصلى العشاء، فإذا تجاوز هذا الباب أحس عن يمينه حرًّا خفيفًا يبلغ صفحة وجهه اليمين، ودخانًا خفيفًا يداعب خياشيمه، وأحس من شماله صوتًا غريبًا يبلغ سمعه ويثير في نفسه شيئًا من العجب.

وقد ظل أيامًا يسمع هذا الصوت إذا عاد من الأزهر مصبحًا وإذا عاد منه ممسيًا، يسمعه ويُنكره، ويستحيي أن يسأل عنه، ثم فهم من بعض الحديث أنه قرقرةُ الشيشة يدخِّنها بعض تجار الحي، ويهيئها صاحب القهوة التي كان ينبعث منها ذلك الحر الخفيف وذلك الدخان الرقيق. فإذا مضى أمامه خطوات وجاوز ذلك المكان الرطب المسقوف الذي لم تكن تستقر فيه القدم لكثرة ما كان يصب فيه صاحب القهوة من الماء، خرج إلى طريق مكشوفة، ولكنها ضيقة قذرة تنبعث منها روائح غريبة معقدة لا يكاد صاحبنا يحققها، تنبعث هادئة بغيضة في أول النهار وحين يقبل الليل، وتنبعث شديدة عنيفة حين يتقدم النهار ويشتد حر الشمس.

وكان صاحبنا يمضي أمامه في هذه الطريق الضيقة، وقلما كانت تستقيم له هذه الطريق، وما أكثر ما كان صاحبه ينحرف به ذات اليمين أو ذات الشمال ليجنبه عقبة قائمة هنا أو هناك! فكان يسعى حينئذٍ مستعرضًا قد أدار وجهه نحو هذا البناء عن يمين أو ذلك البناء عن شمال، حتى إذا جاوز هذه العقبة استقلَّ الطريق كما بدأها ساعيًا أمامه في خطًى رفيقة قلقة، تأخذ أنفه تلك الروائح المنكرة، وتأخذ أذنيه أصوات مختلطة مصطخبة تنحدر من علٍ وتصعد من أسفل، وتنبعث من يمين وتنبعث من شمال وتلتقي كلها في الجو؛ فكأنما كانت تنعقد فتؤلف من فوق رأس الصبي سحابًا رقيقًا ولكنه متراكم قد غشى بعضه بعضًا.

وكانت هذه الأصوات مختلفةً أشد الاختلاف: أصوات النساء يختصمن، وأصوات الرجال يتنادون في عنف ويتحدثون في رفق، وأصوات الأثقال تُحطُّ وتُعْتل، وصوت السقَّاء يتغنى ببيع الماء، وصوت الحوذيِّ يزجر حماره أو بغله أو فرسه، وصوت العربة تئزُّ عجلاتها أزًّا، وربما شق هذا السحاب من الأصوات نهيق حمار أو صهيل فرس.

وكان صاحبنا يمضي بين هذا كله مشرَّدَ النفسِ قد غفل أو كاد يغفل عن كل أمره، حتى إذا بلغ من هذه الطريق مكانًا بعينه سمع أحاديث مختلطة تأتيه من باب قد فتح عن شماله، فعرف أنه سينحرف بعد خطوة أو خطوتين إلى الشمال ليصعد في السلم الذي سينتهي به إلى حيث يقيم. وكان هذا السلم متوسطًا ليس بشديد السعة ولا بشديد الضيق، قد اتخذ درجه من الحجر، ولكن كَثُر التصعيد فيه والهبوط منه ولم يُتعهَّد بالغسل ولا بالتنظيف، فتراكم عليه تراب كثيف، ثم انعقد ولزم بعضه بعضًا حتى استخفى الحجر استخفاءً، وخُيِّل إلى المُصعِد فيه والهابط منه أنه إنما يتخذ سُلَّمًا من الطين.

ومع أن الصبيَّ كان كَلِفًا بإحصاء الدَرَج كلما صعد في سُلَّمٍ أو هبط منه، فقد أقام ما شاء الله له أن يقيم في ذلك المكان، وصعد في ذلك السُّلم وهبط منه ما شاء الله له أن يصعد أو يهبط، ولم يخطر له قط أن يُحصيَ درَج هذا السلم، وإنما علم بعد أن اتخذه مرتين أو مراتٍ أنه إذا صعد منه درجات فلا بُدَّ من أن ينحرف قليلًا نحو الشمال ليمضي في التصعيد تاركًا عن يمينه فجوة لم يَلِجْها قط، ولكنه كان يعلم أنها كانت تؤدي إلى الطبقة الأولى من ذلك البناء الذي أقام فيه أعوامًا طوالًا.

كان يترك إذن عن يمينه مدخل تلك الطبقة من الطبقات التي لم يكن يسكنها طلاب العلم، وإنما كان يسكنها أخلاط من العمال والباعة، ويمضي مُصعدًا حتى يبلغ الطبقة الثانية، فلا يكاد يبلغها حتى تجد نفسه المكدودة شيئًا من الراحة يأتيه من هذا الهواء الطلق الذي كان يبيح له التنفس بعد أن كاد يختنق في ذلك السلم القذر، وتأتيه من صوت تلك الببغاء التي كانت تصوِّت في غير انقطاع، كأنما تُشهد الناس جميعًا على ظلم صاحبها الفارسي الذي سجنها في ذلك القفص البغيض، ليبيعها غدًا أو بعد غدٍ لرجلٍ آخر يسجنها في قفصٍ بغيضٍ؛ حتى إذا تخفَّف منها وقبض ثمنها نقدًا اشترى بدلها خليفة تقوم في ذلك السجن مقامها وتدعو فيه دعاءها وتنتظر فيه مثل ما كانت تنتظر صاحبتها؛ أن تنقل من يدٍ إلى يدٍ ومن قفصٍ إلى قفصٍ، وأن ينتقل معها دعاؤها الحزين الذي يبتهج الناس به من مكانٍ إلى مكانٍ.

كان صاحبنا إذا بلغ أعلى السلم استقبل الهواء الطلق بوجهه، ودعاه صوت الببغاء إلى أن ينحرف نحو اليمين، فيفعل ويمضي في طريق ضيقة فيمر أمام بيتين يسكنهما رجلان من فارس: أحدهما لا يزال شابًّا، والآخر قد تقدمت به السن، في أحدهما شراسة وغلظة وانقباض عن الناس، وفي الآخر دعة ورقة وتبسط للناس.

ثم يبلغ الصبي بيته، فيدخل إلى غرفة هي أشبه بالدهليز، قد تجمعت فيها المرافق المادية للبيت، وهي تنتهي به إلى غرفة أخرى واسعة غير مستقيمة قد تجمعت فيها المرافق العقلية للبيت، وهي على ذلك غرفة النوم، وغرفة الطعام، وغرفة الحديث، وغرفة السمر، وغرفة القراءة والدرس، فيها الكتب وفيها أدوات الشاي، وفيها بعض رقائق الطعام. وكان مجلس الصبي من هذه الغرفة معروفًا محدودًا كمجلسه من كل غرفةٍ سكنها واختلف إليها، كان مجلسه عن شماله إذا دخل الغرفة، يمضي خطوة أو خطوتين فيجد حصيرًا قد بسط على الأرض أُلقيَ عليه بساطٌ قديم ولكنه قيِّم. هنالك يجلس أثناء النهار، وهنالك ينام أثناء الليل؛ تُلقى له وسادة يضع عليها رأسه ولحاف يلتف فيه. وكان يحاذي مجلسَه من الغرفة مجلسُ أخيه الشيخ، وهو أرقى في مجلسه قليلًا أو كثيرا؛ حصير قد بسط على الأرض وأُلقي عليه بساط لا بأس به، ثم أُلقيَ على البساط فراش آخر من اللبد، ثم أُلقيَ من فوق هذا الفراش حشية طويلة عريضة من القطن، ثم بُسطت من فوقها ملاءة. على هذه الحشية كان يجلس الفتى الشيخ ويجلس معه أصفياؤه، ولم يكونوا يسندون ظهورهم إلى الحائط كما كان يفعل الصبي، وإنما كانوا يسندونها إلى وسائد قد رُصَّتْ على الحشية رصًّا؛ فإذا كان الليل استحال هذا المجلس سريرًا ينام عليه الفتى الشيخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤