الفصل السادس عشر

وكانت العشاء قد صليت حين نزل الصبيان من القطار، فلم يجدا في المحطة أحدًا، فأنكرا ذلك شيئًا، ولكنهما وصلا إلى الدار، فإذا كل شيء كان يجري فيها كما كانت تجري الأمور في كل يوم؛ قد فرغت الأسرة من عشائها منذ وقت طويل، وأتمَّ الشيخ صلاته ثم خرج كعادته فجلس مع أصحابه غير بعيد من الدار، وتناوم الصبية، وجعلت أختهم الصغرى تحملهم واحدًا واحدًا إلى مضاجعهم. واضطجعت أمُّ الصبي على فراش من اللِّبد تحت السماء تستريح، والنوم يُلِمُّ بها ثم يصرف عنها، ومن حولها بناتها قد جلسن يتحدثن كعادتهن في كل ليلة، حتى يقضي الشيخ سمره القصير ثم يعود إلى الدار، فتأوي الأسرة كلها إلى مضاجعها، ويشمل الدار سكون وهدوء لا يقطعهما إلا تنابح الكلاب وتصايح الديكة في داخل الدار وفي أطراف القرية.

فلما دخل الصبيان وجمت الأسرة لدخولهما ولم تكن قد أُنبئت بعودتهما، فلم تعدَّ لهما عشاءً خاصًّا، ولم تنتظرهما بالعشاء المألوف، ولم ترسل أحدًا لتلقيهما عند نزولهما من القطار.

وكذلك أُضيعَ على الصبيِّ ما كان يدير في نفسه من الأمانيِّ، وما كان يقدِّر من أنه سيستقبل كما كان يستقبل أخوه الشيخ في ابتهاج وحفاوة واستعداد عظيم. على أن أمه نهضت فقبَّلته، ونهضت إليه أخواته فضممنه إليهن. وقُدِّم إليه وإلى صاحبه عشاء كعشائهما في القاهرة. وأقبل الشيخ فأعطى ابنه يده ليقبلها ثم سأله عن أخيه في القاهرة، وأوت الأسرة كلها إلى مضاجعها، ونام الصبي في مضجعه القديم، وهو يكتم في صدره كثيرًا من الغيظ وكثيرًا من خيبة الأمل أيضًا.

ومضت الحياة بعد ذلك في الدار والقرية كما كانت تمضي قبل أن يذهب الصبيُّ إلى القاهرة ويطلب العلم في الأزهر، كأنه لم يذهب إلى القاهرة ولم يجلس إلى العلماء ولم يدرس الفقه والنحو والمنطق والحديث. وإذا هو مضطر كما كان يُضطر من قبل إلى أن يلقى «سيدنا» بالتحية والإكرام، ويقبِّل يده كما كان يفعل من قبل، ويسمع منه كلامه الفارغ الكثير كما كان يسمعه من قبل. وإذا هو مضطر إلى أن يذهب بين وقتٍ وآخر إلى الكتاب لينفق الوقت، وإذا التلاميذ يلقوْنه كما كانوا يلقوْنه قديمًا، لا يكادون يشعرون بأنه غاب عنهم، ولا يكادون يسألونه عما رأى أو سمع في القاهرة، ولو قد سألوه لخبَّرهم بالكثير.

وأكثر من هذا كله أنه لم يُقْبِلْ أحد من أهل القرية على الدار لِيسلِّمَ على الصبيِّ الشيخ بعد أن عاد إليها وقد غاب عنها سنة دراسية كاملة، وإنما كان يلقاه منهم هذا الرجل أو ذاك، فيلقي عليه في فتور وإعراض هذا السؤال: ها أنت ذا؟ أعدت من القاهرة؟ كيف أنت؟ ثم يلقي عليه هذا السؤال الآخر معنيًا به رافعًا به صوته: وكيف تركت أخاك الشيخ؟

وقد استقر إذن في نفس الصبي أنه ما زال، كما كان قبل رحلته إلى القاهرة، قليلَ الخطر ضئيلَ الشأن لا يستحقُّ عنايةً به ولا سؤالًا عنه، فآذى ذلك غروره، وقد كان غروره شديدًا، وزاده ذلك إمعانًا في الصمت وعكوفًا على نفسه وانصرافًا إليها.

ولكنه لم يكد يقضي أيامًا بين أسرته وأهل قريته حتى غيَّرَ رأي الناس فيه ولفتهم إليه، لا لفت عطف ومودة، ولكن لفت إنكار وإعراض وازورار؛ فقد احتمل من أهل القرية ما كان يحتمل قديمًا يومًا ويومًا وأيامًا، ولكنه لم يطق على ذلك صبرًا، وإذا هو ينبو على ما كان يألف، وينكر ما كان يعرف، ويتمرَّد على مَن كان يُظهر لهم الإذعان والخضوع. كان صادقًا في ذلك أول الأمر، فلما أحسَّ الإنكار والازورار والمقاومة، تكلَّف وعاند وغلا في الشذوذ، سمع «سيدنا» يتحدَّث إلى أمه ببعض أحاديثه في العلم والدين، وببعض تمجيده لحفظة القرآن وحملة كتاب الله، فأنكر عليه حديثه وردَّ عليه قوله، ولم يتحرَّجْ من أن يقول: هذا كلام فارغ، فغضب «سيدنا» وشتمه، وزعم أنه لم يتعلم في القاهرة إلا سوء الخلق، وأنه أضاع في القاهرة تربيته الصالحة.

وغضبت أمه وزجرته، واعتذرت إلى «سيدنا» وقصَّت الأمر على الشيخ حين عاد فصلَّى المغرب وجلس للعشاء، فهز رأسه وضحك ضحكة سريعة في ازدراء للقصة كلها وشماتة «بسيدنا»؛ فلم يكن يحب «سيدنا» ولا يعطف عليه.

ولو وقف الأمر عند هذا الحد لاستقامت الأمور، ولكن صاحبنا سمع أباه يقرأ «دلائل الخيرات» كما كان يفعل دائمًا إذا فرغ من صلاة الصبح أو من صلاة العصر، فرفع كتفيه وهز رأسه ثم ضحك، ثم قال لإخوته: إن قراءة «الدلائل» عبث لا غناء فيه.

فأما الصغار من إخوته وأخواته فلم يفهموا عنه ولم يلتفتوا إليه، ولكن أخته الكبرى زجرته زجرًا عنيفًا ورفعت بهذا الزجر صوتها، فسمعها الشيخ ولم يقطع قراءته، ولكنه مضى فيها حتى أتمها، ثم أقبل على الصبي هادئًا باسمًا يسأله ماذا كان يقول؟ فأعاد الصبي قوله، فلما سمعه الشيخ هز رأسه وضحك ضحكة قصيرة وقال لابنه في ازدراء: «ما أنت وذاك! هذا ما تعلمته في الأزهر!» فغضب الصبي وقال لأبيه: «نعم، وتعلمت في الأزهر أن كثيرًا مما تقرؤه في هذا الكتاب حرام يضر ولا ينفع؛ فما ينبغي أن يتوسل إنسان بالأنبياء ولا بالأولياء، وما ينبغي أن يكون بين الله وبين الناس واسطة، وإنما هذا لون من الوثنية.»

هنالك غضب الشيخ غضبًا شديدًا، ولكنه كظم غضبه واحتفظ بابتسامه وقال فأضحك الأسرة كلها: «اخرس قطع الله لسانك، لا تعد إلى هذا الكلام، وإني أقسم لئن فعلت لأمسكنك في القرية، ولأقطعنك عن الأزهر، ولأجعلنك فقيهًا تقرأ القرآن في المآتم والبيوت.» ثم انصرف، وتضاحكت الأسرة من حول الصبي، ولكن هذه القصة على قسوتها الساخرة لم تَزِدْ صاحبنا إلا عنادًا وإصرارًا.

وقد نسيها الشيخ بعد ساعات، وأقبل على عشائه ومِن حوله أبناؤه وبناته كعادته، وجعل يسأل الصبيَّ عن الشيخ الفتى ماذا يصنع في القاهرة؟ وماذا يقرأ من الكتب؟ وعلى مَن يختلف مِن الأساتذة؟

وكان الشيخ يجد لذة عظيمة في إلقاء هذه الأسئلة وفي الاستماع لأجوبتها. كان يلقيها على ابنه الشيخ الفتى إذا عاد إلى القرية، فيجيبه مُتَكَلِّفًا أوَّل مرة، فإذا أعيدت أعرض الفتى عن أبيه وبخل عليه بالجواب. ولم يكن أبوه يُنْكِرُ ذلك منه جهرة، ولكنه كان يتأذَّى به ويشكو منه لزوجه إذا خلا إليها.

فأما الصبي فكان سمحًا طيعًا، لا يُعرض عن أبيه ولا يمتنع عن إجابته، ولا يدركه السأم مهما تتكرر الأسئلة ومهما يكن موضوعها. وكان الشيخ من أجل ذلك يحب أن يسأله ويستمتع بالتحدُّث إليه في أثناء العَشاء وأثناء الغداء، ولعله كان يعيد على صاحبه بعض ما كان ابنه يقص عليه من زيارات الشيخ الفتى للأستاذ الإمام وللشيخ بخيت، ومن اعتراض الشيخ الفتى على أساتذته في أثناء الدرس وإحراجه لهم، وردهم عليه بالعنف وبالشتم وبالضرب أحيانًا.

وكان الصبي يشعر بلذة أبيه لهذه الأحاديث ورضاه عنها، فيتزيَّد ويتكثَّر ويخترع منها ما لم يكن، ويحفظ ذلك في نفسه ليقصه على أخيه إذا عاد إلى القاهرة.

وكان الشيخ بهذا كله سعيدًا وله مغتبطًا وعلى تجديده حريصًا. فلما جلستِ الأسرة للعَشاء في تلك الليلة وجدَّدَ الشيخ أسئلته عن ابنه الفتى: ماذا يصنع في القاهرة؟ وماذا يقرأ من الكتب؟ قال الصبي في دهاء وخبثٍ وكيدٍ: إنه يزور قبور الأولياء، وينفق نهاره في قراءة «دلائل الخيرات».

ولم يكد الصبي ينطق بهذا الجواب حتى أغرقت الأسرة كلها في ضحك شديد شَرِقَ له الصغار بما كان في أفواههم من طعام وشراب، وكان الشيخ نفسه أسرعهم إلى الضحك وأشدهم إغراقًا فيه.

وكذلك استحال نقد الصبي لأبيه في قراءته للدلائل والأوراد موضوعًا للهو الأسرة وعبثها أعوامًا وأعوامًا. والظريف من هذا الأمر أن هذا النقد كان يُحْفِظُ الشيخَ حقًّا، ويؤذيه في نفسه وفيما ورث من عادة واعتقاد. ولكن الشيخ على ذلك كان يدعو ابنه إلى هذا النقد ويغريه به، ويجد في هذا الألم لذةً ومتاعًا.

ومهما يكن من شيء فإن شذوذ الصبي لم يلبث أن تجاوز الدار إلى مجلس الشيخ قريبًا منها، وإلى دكان الشيخ محمد عبد الواحد، وإلى المسجد حيث كان الشيخ محمد أبو أحمد رئيس الفقهاء في المدينة يُقرئ القرآن للصبية والشباب، ويُصلي بالناس في أثناء الأسبوع ويفقههم في دينهم أحيانًا، وحيث كان الشيخ عطية — رجل من التجار الذين طلبوا العلم في الأزهر أعوامًا، ثم عادوا إلى الريف فاشتغلوا بأمور الدنيا ولم ينصرفوا عن أمور الدين — يجلس للناس بعد صلاة العصر من حين إلى حين، فيعظهم ويفقههم، وربما قرأ لهم شيئًا من الحديث.

بل وصل شذوذ الصبي إلى المحكمة الشرعية، فسمعه القاضي وسمعه خاصة ذلك الشيخ الذي كان يكتب للقاضي، ويرى أنه أعلم من القاضي بالشرع، وأفقه منه بالدين، وأحق منه بالقضاء، لولا أنه لم يظفر بهذه الورقة التي تُسمى درجة العالِمية والتي تُشترط لتولي منصب القضاء، والتي تُنال بالجِدِّ والاجتهاد قليلًا وبالحظ والتملق في أكثر الأحيان.

تسامع هؤلاء الناس جميعًا بمقالات هذا الصبي وإنكاره لكثير مما يعرفون، واستهزائه بكرامات الأولياء، وتحريمه التوسل بهم وبالأنبياء، وقال بعضهم لبعض: إن هذا الصبي ضال مضل، قد ذهب إلى القاهرة فسمع مقالات الشيخ محمد عبده الضارة وآراءه الفاسدة المفسدة، ثم عاد بها إلى المدينة ليضلل الناس.

وربما سعى بعضهم إلى مجلس الشيخ وأصحابه قريبًا من الدار وطلبوا إلى الشيخ أن يريهم ابنه ذلك الشاذ الغريب، فيقبل الشيخ هادئًا باسمًا حتى يدخل الدار، فيرى ابنه آخذا في اللعب أو الحديث مع أخواته، فيأخذه بيده في رفق ويقوده إلى مجلسه؛ فإذا سلم على القادمين أجلسه، ثم أخذ بعض القادمين في التحدث إليه رفيقًا أول الأمر، فإذا اتصل الحديث ذهب الرفق وقام مقامه الحوار العنيف. وكثيرًا ما كان مُحَاوِرُ الصبيِّ ينصرف غاضبًا متحرجًا يستغفر الله من الذنب العظيم، ويستعيذ به من الشيطان الرجيم.

وكان الشيخ وأصحابه من الذين لم يدرسوا في الأزهر ولم يتفقهوا في الدين يرضَون عن هذه الخصومات ويعجبون بها، ويبتهجون لهذا الصراع الذي كانوا يشهدونه بين هذا الصبي الناشئ وهؤلاء الشيوخ الشُّيَّبْ.

وكان أبو الصبي أشدهم غبطةً وسرورًا، ومع أنه لم يصدق قط أن التوسل بالأولياء والأنبياء حرام، ولم يطمئن قط إلى عجز الأولياء عن إحداث الكرامات، ولم يساير قط ابنه فيما كان يقول من تلك المقالات، فقد كان يحب أن يرى ابنه مُحاورًا مُخاصمًا ظاهرًا على مُحاوريه ومُخاصميه، وكان يتعصَّب لابنه تعصبًا شديدًا.

وكان يسمع ويحفظ ما كان الناس يتحدثون به ويخترعونه أحيانًا من أمر هذا الصبي الغريب، ثم يعود مع الظهر أو مع المساء فيعيد ذلك كله على زوجته راضيًا حينًا وساخطًا حينًا آخر.

وعلى كل حال فقد انتقم الصبي لنفسه، وخرج من عزلته وشغل الناس في القرية والمدينة بالحديث عنه والتفكير فيه، وتغير مكانه في الأسرة، مكانه المعنوي إن صح هذا التعبير؛ فلم يهمله أبوه، ولم تُعرض عنه أمه وإخوته، ولم تقم الصلة بينهم وبينه على الرحمة والإشفاق، بل على شيء أكثر وآثر عند الصبي من الرحمة والإشفاق.

وانقطع ذلك النذير الذي سمعه الصبي في أول الإجازة بأنه قد يبقى في القرية ويُقطع عن الأزهر فقيهًا يقرأ القرآن في المآتم والبيوت، وآية ذلك أنه أصبح ذات يوم فنهض مع الفجر ونهضت الأسرة كلها مع الفجر أيضًا، ورأى الصبيُّ نفسَه بين ذراعَيْ أمه وهي تقبُّله وتذرف دموعًا صامتة. ثم رأى الصبيُّ نفسه في المحطة مع صاحبه وأبوه يُجلسه في القطار رفيقًا به، ثم يعطيه يده ليقبلها، ثم ينصرف عنه وهو يسأل الله أن يفتح عليه.

ورأى الصبي نفسه يعبث مع صاحبه أثناء السفر، ثم رأى الصبي نفسه ينزل من القطار في محطة القاهرة، وإذا أخوه يتلقَّاه مبتسمًا له. ثم يدعو حمَّالًا ليحمل ما كان معه من متاع قليل وزاد كثير، فإذا تجاوز باب المحطة دعا عربة من عربات النقل فحمل عليها الزاد وصاحب أخيه، ثم عربة أخرى من عربات الركوب، فأجلس فيها أخاه رفيقًا به، وجلس عن يمينه وأعطى السائق عنوان «الربع».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤