الفصل الثامن عشر

وفي الحق أن إقبال الفتى على درس الأدب لم يصرفه عن علومه الأزهرية أول الأمر؛ فقد كان يظن أنه يستطيع الملاءمة في نفسه بين هذين اللونين من ألوان المعرفة. وهو لم يُرسل إلى القاهرة ولم يُنسب إلى الأزهر ليكون أديبًا ينظِم الشعر أو ينشئ النثر، وإنما أُرسل إلى القاهرة وانتسب إلى الأزهر ليسلك طريقه الأزهرية الخالصة، حتى يبلغ الامتحان ويظفر بالدرجة، ويسند ظهره إلى عمود من الأعمدة القائمة في ذلك المسجد العتيق، ويتحلَّق الطلاب من حوله فيسمعوا منه درسًا في الفقه أو في النحو أو فيهما جميعًا.

كذلك كان يتمنى أبوه، وبذلك كان يتحدَّث إلى الأسرة في شيءٍ من الأمل والإعجاب بابنه هذا الشاذ الغريب. وكذلك كان يريد أخوه، وكذلك كان يريد هو. وماذا كان يمكن أن يريد غير ذلك وقد فرضت الحياة على أمثاله من المكفوفين الذين يريدون أن يحيوا حياة محتملة إحدى اثنتين: فإما الدرس في الأزهر حتى تنال الدرجة وتضمن الحياة بهذه الأرغفة التي تؤخذ في كل يوم، وبهذه القروش التي تؤخذ آخر الشهر لا تزيد عن خمسة وسبعين قرشًا إن كانت الدرجة الثالثة، ولا عن مائة قرش إن كانت الدرجة الثانية، ولا عن خمسين ومائة قرش إن كانت الدرجة الأولى، وإما أن يتجر بالقرآن فيقرأه في المآتم والبيوت كما أنذره بذلك أبوه في وقت من الأوقات.

فلم يكن للفتى بُدٌّ إذن من أن يمضيَ في طريقه الأزهرية حتى يبلغ غايتها. وكانت هذه الطريق تتشعَّب إلى شعبتين إذا قضى الطالب ثلاثة أعوام أو أربعة في الأزهر؛ إحداهما علمية: وهي الاختلاف إلى الدروس والتنقل في مراحل العلم، وكان الفتى ماضيًا فيها، أقبل عليها مشغوفًا بها، ثم فترت همته، ثم ازدراها وانصرفت عنها نفسه حين استيأس من الأساتذة وساءَ ظنه بالشيوخ.

والثانية مادية: وكانت تتألَّف من مراحل ثلاث: مرحلة المنتسب، ومرحلة المنتظر، ومرحلة المستحق. أما مرحلة المنتسب: فهي المرحلة التي يبدأ الطالب بها حياته الأزهرية بعد أن يتم تقييده في سجلات الأزهر. ولم يكن له بُدٌّ من أن ينتسب إلى أحد الأروقة، وقد انتسب صاحبنا كما انتسب أخوه إلى رواق الفشنية. وأما مرحلة المنتظر: فقد كانت المرحلةَ الثانية، ينتقل إليها الطالب بعد أن يقيم أعوامًا في الأزهر، وسبيله إلى ذلك ورقة يكتبها ويرفعها إلى شيخ الرواق يُعين فيها ما أنفق في الأزهر من عام وما حضر فيه من درس، ويَشهد على صدقه فيما سجَّل فيها شيخان من شيوخه. ويطلب إلى شيخ الرواق أن يُقيِّد اسمه بين أسماء المنتظرين. حتى إذا خلا مكان بين المستحقين للجراية ارتقى إليه فبلغ المرحلة الثالثة ونال جرايته رغيفين أو ثلاثة أو أربعة، على اختلاف بين الأروقة في ذلك.

فلم يكن بُدٌ لصاحبنا من أن يرقَى إلى مرحلة المنتظرين، وقد كتب الورقة وختمها بالجملة التي كانت شائعة إذ ذاك: «جعلكم الله ملجأً للقاصدين.»

وشهد شيخان أنه لم يقل في هذه الورقة إلا حقًّا. وذهب إلى الشيخ في داره فرفع إليه الورقة بعد أن قبَّل يده وانصرف. فانتظر وطال الانتظار، ولم يظفر بالجراية قط في هذا الرواق، ولكن ارتقاءه إلى مرحلة المنتظرين أرضى أباه وملأ فمه فخرًا على كل حال.

وبينما كان ينتظر في طائل أو في غير طائل خرج الأستاذ الإمام من الأزهر في تلك القصة المعروفة، وبعد تلك الخُطبة المشهورة التي ألقاها الخديوي على بعض العلماء.

وكان الفتى يظن أن تلاميذ الشيخ — وكانوا كثيرين يكتظُّ بهم الرواق العباسيُّ في كل مساء — سيحدثون حدثًا، وسينبئون الخديوي بأن شباب الأزهر قد تغيَّروا، وبأنهم سيذودون عن شيخهم، وسيبذلون في سبيل ذلك لا أوقاتَهم وحدَها بل أرواحَهم أيضًا.

ولكن الشيخ ترك الأزهر واتخذ دارًا للإفتاء؛ فلم يزد تلاميذه على أن حزنوا وتحدَّثوا بالأسف فيما بينهم وبين أنفسهم، وزار قليلٌ منهم الشيخَ في داره بعين شمس، وانصرف عنه أكثرهم، وانتهى الأمر عند هذا الحد. فامتلأت نفس الفتى حزنًا وغيظًا، وساء ظنه بالطلاب كما ساء ظنه بالشيوخ، ولم يكن مع ذلك قد عرف الأستاذَ الإمام أو قُدِّم إليه.

وبعد ذلك بقليل تُوفيَ الأستاذ الإمام، فاضطربت مصر لوفاته، وكانت البيئة الأزهرية أقل البيئات المصرية اضطرابًا لهذا الحادث الجلل. وأسف تلاميذ الشيخ، ولعلَّ قليلًا منهم سفحوا بعض الدموع، ولكنهم أقبلوا بعد الصيف على دروسهم، كأن الشيخ لم يمت، أو كأن الشيخ لم يكن، لولا أن الخاصة من تلاميذه كانوا يذكرونه بالخير بين حين وحين.

وكذلك عرف الفتى في ألم لاذع ولأول مرة في حياته الناشئة أن ما يقدم إلى عظماء الرجال من ألوان الإكبار والإجلال وضروب التملُّق والزلفى لغو لا طائل تحته ولا غناء فيه، وأن وفاء الناس يَنْحَلُّ في أكثر الأحيان إلى كلام لا يفيد.

وزاد سوء الظن بالناس في نفس الفتى قوةً ما لاحظه في بعض البيئات من انتهاز وفاة الشيخ فرصة للاتجار باسمه، واستغلال الصلة به، يتوسَّلون إلى ذلك بالشعر حينًا وبالنثر حينًا آخر، وبالإعلان في الصحف والمجلات دائمًا.

ولكن الفتى أحس شيئًا آخر زاد به انحرافًا عن الأزهر وانصرافًا عن شيوخه وطلابه، أحس أن الذين بكَوا الشيخ صادقين وحزنوا عليه مخلصين لم يكونوا من أصحاب العمائم، وإنما كانوا من أصحاب الطرابيش، فوجد في نفسه ميلًا خفيًّا إلى أن يقرب من أصحاب الطرابيش هؤلاء، وإلى أن يتصل ببيئاتهم بعض الاتصال. ومن له بذلك وهو فتًى ضرير قد فُرضت عليه الحياة الأزهرية فرضًا فلم يجد عنها منصرفًا!

وكان الأستاذ الإمام شيخًا لرواق الحنفية، فلما خرج من الأزهر أو لما خرج من الحياة أصبح خَلَفُه على الإفتاء خَلَفًا له على الرواق أيضًا.

كان ابن المفتي الجديد أستاذًا لصاحبنا الفتى، سمع عليه في صباه شرح السيد الجرجاني على إيساغوجي في المنطق، وكان يقوم عن أبيه بأمر الرواق، فأغرى الفتى بالانتساب إلى رواق الحنفية والانتظار فيه، وكانت الجراية في رواق الحنفية أيسر منالًا وأكثر عدد أرغفة منها في غيره من الأروقة، ولم يكن الانتساب إلى رواق الحنفية أيام الأستاذ الإمام سهلًا ولا يسيرًا وإنما كان الامتحان سبيلًا إليه. وقد احتفظ المفتي الجديد بهذه السنة، وكان ابنه هو الذي يمتحن المتقدمين للانتساب في موعد بعينه في العام، فقيل لصاحبنا الفتى: ما لك لا تنتسب إلى هذا الرواق وقد انتسب إليه أخوك من قبلُ وأصحابه النجباء أيام الأستاذ الإمام، وهم يأخذون منه جراياتهم أربعة أرغفة لكل واحد منهم في كل يوم؟ وزيَّن ذلك له وحثَّه عليه أخوه وأصحابه. وأرسل إلى الامتحان ذات مساء ومعه كتاب إلى الممتحن. فلما أُدخل الفتى على الممتحن حيَّاه وأخذ منه الكتاب فنظر فيه ثم ألقى عليه سؤالًا ورد الفتى جواب السؤال خطأ أو صوابًا لم يدرِ، ولكن الممتحن قال له: «انصرف يا علَّامة!» فانصرف راضيًا، ولم يمضِ إلا وقت قليل حتى أصبح الفتى مستحقًّا ونال رغيفين في كل يوم، فكثر الخبز في الغرفة، وفرحت الأسرة في الريف.

على أن الفتى لم ينل رغيفين فحسب، وإنما نال معهما خِزانة في الرواق كانت آثر عنده من الرغيفين، فقد كان يستطيع إذا دخل الأزهر في الصبح أن يذهب إلى خزانته فيضع فيها نعليه ورغيفيه أو أحدهما، ويقضي نهاره حرًّا لا يُعنى بهاتين النعلين اللتين كان يبذل جهدًا غير قليل لحمايتهما من عدوان الخاطفين والسارقين، وما أكثرَ ما كانت تُسرق النعال في الأزهر! وما أكثرَ ما كانت تلصق على جدران الأزهر من حول الصحن أوراق يعلن فيها أصحابها أن نعالهم قد ضاعت، وأنَّ من ظفر بها فردها إلى صاحبها في مكان كذا، أو رواق كذا، فله الأجر والثواب، ومن احتفظ بها متعديًّا قطعه الله من هذا المكان!

كان الفتى إذن سعيدًا بخزانته ورغيفيه، ولكنه لم يكن سعيدًا بما كان يُحصِّل من العلم أو يسمع من الدرس، وقد كان يُكرِه نفسه إكراهًا على أن يسمع بعد الفجر درسًا في التوحيد كان يلقيه الشيخ راضي رحمه الله، وكان يقرأ كتاب «المقاصد»، ويسمع في الصبح درس الفقه على الشيخ بخيت وكان يقرأ كتاب «الهداية»، ويسمع في الظهر درس البلاغة على الشيخ عبد الحكم عطا وكان يقرأ «شرح السعد».

وكان درس الفقه يُسَلِّي الفتى ويلهيه بما كان يسمع فيه من غناء الشيخ إذا خلَّى الطلاب بينه وبين الغناء، وحدة الشيخ ونُكته الأزهرية إذا قطع الطلاب عليه غناءه فجادلوه في بعض ما كان يقرأ أو كان يقول. وربما كان الشيخ ينشد طلابه أحيانًا من شعره إذا صفا وطابت نفسه للإنشاد. وقد حفظ عنه الفتى بيتًا من الشعر لم ينسَ قط صوت الشيخ وهو يتغنَّى به مُترنحًا:

كأنَّ عمته من فوق هامته
شِنفٌ من التبن محمول على جمل

وقد روى الفتى هذا البيت لأخيه وأصحابه فتضاحكوا وتذاكروا شعر الشيخ وتناشدوا بعضه. وروى الفتى إلى البيت السابق بيتًا آخر ليس أقل منه طرافةً وظَرفًا، وهو مطلع قصيدة قالها الشيخ رحمه الله في رثاء بعض العلماء، وهو:

خَطْبٌ جليلٌ بعدَ موتك يا نَبِيِّ
فَقْدُ الأئمة كالإمام المَغْرِبِيِّ

وقد روى المصريون جميعًا عن الشيخ بعد ذلك العهد بأعوام طوال بيتًا آخر لم ينسه ظرفائهم بعدُ، وقد سار فيهم كما تسير الأمثال، وهو:

إنَّا مع الأمرا والوفد والوزرا
على وفاق له في القلب تأييد

وكان الفتى ربما جادل الشيخ فأطال الجدال. وقد أسرف الجدال مرة في الطول حتى تأخر الدرس عن إبَّانه، وتصايح الطلاب من جوانب المسجد الحسيني بالشيخ أن حَسْبُكَ فقد نفد الفول. فأجابهم الشيخ في غنائه الظريف: لا والله لا نقوم حتى يقتنع هذا المجنون. ولم يكن بُدٌّ للمجنون من أن يقتنع؛ فقد كان هو أيضًا حريصًا على أن يُدرك الفول قبل أن ينفد.

وكان درس البلاغة أثيرًا عند الفتى، لا لما كان يُحصِّل فيه من علم؛ فقد مضى منذ وقت طويل إقبال الفتى على الدروس في الأزهر لتحصيل العلم، وإنما كان يُقبل عليه أداءً للواجب وقطعًا للوقت والتماسًا للفكاهة. وكان درس البلاغة أثيرًا عنده؛ لأنه كان يجد فيه هذه الفكاهة، ولأن الشيخ — نضَّر الله وجهه — كان سمح النفس رَضِيَّ الخُلق مخلصًا في درسه للعلم وللطلاب، ولأنه بعد ذلك كان يكلف نفسه في الفهم والإفهام جهدًا عظيمًا وعناءً ثقيلًا، وكان إذا بلغ منه الجهد رفَّهَ على نفسه بهذه الجملة يوجهها إلى طلابه بين حين وحين، في لهجة منياوية عذبة مضحكة: «فاهمين يا سيادي؟»

وكان إذا انتصف الدرس أشفق على نفسه وعلى الطلاب فقطع القراءة والتفسير وأقام دقائق صامتًا لا ينطق، وأقبل على نشوقه فالتهم منه بأنفه ما استطاع في تؤدة وروية وأناة. وكان الطلاب ينتهزون هذه الفرصة ليُطفئوا ما كان يتأجج في بطونهم من نار الفول والطعمية والكراث بِقَدَحٍ من أقداح الشراب الذي كان يطوف به الباعة عليهم في أثناء الدروس، ويدعونهم دعاءً لطيفًا بهذا النقر الخفيف الذي كان يمس به الزجاج فيبعث إلى الآذان صوتًا خفيفًا ظريفًا.

وفي ذات يوم كان الفتى يستريح مع بعض أصحابه أثناء هذه السكتة، وكان الشيخ مُقبلًا على نشوقه والطلاب على شرابهم، وإذا أحد المشدين يأتي فيدعو الفتى وصاحبيه في رفق إلى غرفة شيخ الجامع.

ولكن هذه قصة لم يأت وقتها بعدُ، وإن كان الناس قد عرفوها منذ وقت بعيد، وقد قام الفتى وصاحباه عن الدرس ثم لم يعودوا إليه بعد ذلك.

وفي هذا الوقت أو قريبًا من هذا الوقت، وقعت قصة دخل فيها الفتى ومضى فيها إلى غايتها، ولكنها قضت في نفسه على كل أمل في أن يظفر بنجاح في الأزهر قليل أو كثير.

غضب القصر على شيخ كبير من شيوخ الأزهر، فمنع الشيخ من إلقاء دروسه، ورأى الناس أن في هذا المنع ظلمًا للشيخ وعدوانًا على حقوق الأزهر، ولكنهم لم يصنعوا شيئًا، وكان الأزهريون أشدهم فتورًا وخضوعًا. ولكن صديقًا من أصدقاء الفتى — كانت له فيما أقبل من الأيام مواقف مشهورة يحمدها له الناس — أقبل عليه ذات يوم فقال له: ألست ترى فيما حل بشيخنا ظلمًا وعدوانًا؟ قال الفتى: بلى، وأي ظلم وأي عدوان! قال له الصديق: ألا تشارك في الاحتجاج على هذا الظلم؟ قال الفتى: وكيف السبيل إلى ذلك؟ قال الصديق: نجمع نفرًا من أصدقائنا الذين كانوا يسمعون دروس الشيخ ونسعى إليه نتمنى عليه أن يمضي في إلقاء دروسه علينا في بيته، فإذا قبل انتفعنا بالدرس وأعلنَّا ذلك في الصحف، فعرف الظالمون للأزهر أن بين الأزهريين من لا يُقِرُّون الظلم ولا يُذْعِنون له، فقال الفتى: هذا حسن.

واجتمع نفر من طلاب الشيخ فسعَوا إليه بما أرادوا، وأجابهم إلى ما طلبوا، فأعلنوا ذلك في الصحف، وأعلنوا أن الشيخ سيقرأ لهم «سلم العيون» في المنطق، و«مسلم الثبوت» في الاصول، يُقسم الأسبوع بين هذين الكتابين.

وبدأ الشيخ دروسه في بيته، وكثر الطلاب المقبلون على هذه الدروس حين علموا بها، ورضي هؤلاء الشباب عن أنفسهم وعن شجاعتهم، وعاد إلى الفتى شيء غير قليل من الأمل.

ولكنه في ذات يوم جادل الشيخ في بعض ما كان يقول، فلما طال الجدال غضب الشيخ وقال للفتى في حِدَّةٍ ساخرة: «اسكت يا أعمى ما أنت وذاك!» فغضب الفتى وأجاب الشيخَ في حِدَّةٍ: «إن طول اللسان لم يُثْبِتْ قَطُّ حقًّا ولم يَمْحُ باطلًا.» فوجم الشيخ ووجم الطلاب لحظة، ثم قال الشيخ لطلابه: «انصرفوا اليوم فهذا يكفي.»

ولم يعد الفتى منذ ذلك اليوم إلى دروس الشيخ، بل جهل كل ما كان من أمرها.

وكذلك عاد الفتى إلى يأسه من الأزهر، ولم يبقَ له أمل إلا في درس الأدب الذي آن وقتٌ للتحدث عنه وعن آثاره البعيدة في حياة هذا الشاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤