الفصل التاسع عشر

لم يكد الصبي يبلغ القاهرة ويستقر فيها حتى سمع ذكر الأدب والأدباء، كما سمع ذكر العلم والعلماء، سمع حديث الأدب بين هؤلاء الطلاب الكبار حين كانوا يذكرون الشيخ الشنقيطي رحمه الله وحماية الأستاذ الإمام له وبره به. وقد وقع هذا الاسم الأجنبي من نفس الصبي موقعًا غريبًا، وزاد موقعه غرابة ما كان الصبي يسمعه من أعاجيب الشيخ وأطواره الشاذة وآرائه التي كانت تضحك قومًا وتغضب قومًا آخرين.

كان أولئك الطلاب الكبار يتحدثون بأنهم لم يروا قط ضريبًا للشيخ الشنقيطي في حفظ اللغة ورواية الحديث سندًا ومتنًا عن ظهر قلب. وكانوا يتحدثون بحدته وشدته وسرعته إلى الغضب وانطلاق لسانه بما لا يُطاق من القول. وكانوا يضربونه مثلًا لحدة المغاربة، وكانوا يذكرون إقامته في المدينة ورحلته إلى قسطنطينية، وزيارته للأندلس، وربما تناشدوا شعره في بعض ذلك. وكانوا يذكرون أن له مكتبة غنية بالمخطوط والمطبوع في مصر وفي أوروبا، وأنه لا يقنع بهذه المكتبة وإنما ينفق أكثر وقته في دار الكتب قارئًا أو ناسخًا. ثم كانوا يذكرون بعد ذلك متضاحكين قصته الكبرى تلك التي شغلته بالناس وشغلت الناس به، وعرضته لكثير من الشر والألم، وهي رأيه في أن «عمرَ» مصروف لا ممنوع من الصرف.

وكان الصبي يسمع حديث «عمرَ» هذا فلا يفهم منه شيئًا أول الأمر، ولكنه لم يلبث أن فهمه في وضوح حين تقدَّم في درس النحو وعرف المصروف والممنوع من الصرف، وعرف غير المتمكِّن والمتمكِّن، والمتمكِّن الأمكن من الأسماء. وكان أولئك الشباب يذكرون مناظرات الشيخ مع جماعات من علماء الأزهر في صرف «عمر» هذا أو منعه من الصرف، ويتحدثون ضاحكين بأن العلماء اجتمعوا للشيخ ذات يوم في الأزهر يرأسهم شيخ الجامع، فطلبوا إليه أن يعرض عليهم رأيه في صرف عمر، فقال الشيخ في لهجته المغربية المتحضرة: لا أعرض عليكم هذا الرأي حتى تجلسوا مني مجلس التلاميذ من الأستاذ، فتردد الشيوخ، ولكن واحدًا منهم ماكرًا ماهرًا نهض عن مجلسه وسعى حتى كان بين يدي الشيخ فجلس على الأرض متربعًا، وأخذ الشيخ في عرض رأيه فقال: أنشد الخليل:

يا أيها الزاري على عُمَرٍ
قد قلت فيه غير ما تعلم

قال الشيخ الجالس مجلس التلميذ بصوته الماكر النحيف: لقد رأيت الخليل أمس فأنشدني البيت على هذا النحو: «يا أيها الزاري على عُمَرَ»، ولم يدعه الشيخ الشنقيطي يتم إنشاده، وإنما قطع عليه الإنشاد محتدًّا وهو يقول: «كذبت! كذبت! لقد مات الخليل منذ قرون طويلة فكيف يمكن لقاء الموتى؟!» وجعل بعد ذلك يُشهد الشيوخ على تعمُّد صاحبهم للكذب، وعلى جهله بالنحو والعروض، وضحك القوم وتفرق المجلس دون أن يُقضى في أمر عمر أممنوع من الصرف كما يقول النحاة أم مصروف كما يقول هذا الشيخ الغريب؟ وكان الصبيُّ يسمع هذا الكلام فيحفظه، ويجد اللذة فيما فهم منه، ويعجب بما لم يفهم.

وكان الشيخ يقرأ لبعض الطلاب هذه القصائد التي تُعرف بالمعلقات، وكان أخو الصبي وبعض أصدقائه يسمعون هذا الدرس في يوم الخميس أو في يوم الجمعة من كل أسبوع، وكانوا يعدون هذا الدرس كغيره من الدروس، وكذلك سمع الصبي لأول مرة:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل

وما أسرع ما انصرف هؤلاء الطلاب الكبار عن هذا الدرس الذي لم يسيغوه! ولكن أخا الصبي حاول أن يحفظ المعلقات، فحفظ منها معلقة امرئ القيس ومعلقة طرفة. كان يردد الأبيات بصوت مرتفع والصبي يسمع فيحفظ، ثم لم يلبث أن أشرك الصبيَّ معه في الحفظ. ولكنه لم يتجاوز هاتين المعلقتين وانصرف إلى دروسه الأزهرية الأخرى، واستقرَّت المعلقتان في نفس الصبي يحفظهما ولا يفهم منهما إلا قليلًا.

وكان هؤلاء الطلاب يتحدثون عن درس آخر كان يلقى في الأزهر ليعلم الأزهريين صناعة الإنشاء. وكان يلقيه شيخ سوريٌّ من خاصة الأستاذ الإمام، وقد اختلف إليه هؤلاء الطلاب فاشتروا الدفاتر وكتبوا موضوعات الإنشاء، ولكنهم عدلوا عنه بعد قليل كما عدلوا عن درس الشنقيطي، وأقبل أخو الصبي ذات يوم ومعه مقامات الحريري، فجعل يحفظ بعضها رافعًا صوته بالقراءة والصبيُّ يحفظ صامتًا، ثم أشركه في الحفظ كما أشركه في حفظ المعلقات، ومضيا في ذلك حتى حفظا عشر مقامات، ثم انصرف الشيخ الفتى إلى الأصول والفقه والتوحيد كما انصرف عن المعلقات ودرس الإنشاء.

وأقبل مرة أخرى ومعه كتاب ضخم يُسمى «نهج البلاغة» فيه خطب الإمام عليٍّ وقد شرحها الأستاذ الإمام نفسه، فجعل يحفظ من هذه الخطب ويحفظ الصبي معه، ثم أعرض عن هذا الكتاب كما أعرض عن غيره بعد أن حفظ الصبيُّ طائفة من الخطب.

وصنع الشيخ الفتى هذا الصنيع نفسه بمقامات بديع الزمان الهمذاني، ولم ينسَ الصبي قط قصيدة أبي فراس:

أراك عصيَّ الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمر

فقد أقبل بها أخوه وقد طبعت مشطرة أو مخمسة، شطرها أو خمسها بعض الأزهريين، فجعل يقرأ في هذه القصيدة، ثم لم يلبث أن أعرض عن تشطير الأزهريِّ أو تخميسه وأخذ في حفظ القصيدة نفسها مع أخيه.

وإنما ذكر الصبيُّ هذه القصيدة؛ لأنه صادف في أثنائها بيتًا كان يقع في أذنه موقعًا غريبًا، وهو قول أبي فراس:

بدوت وأهلي حاضرون لأنني
أرى أن دارًا لسْتِ من أهلها قفر

فقد قرأه الشيخ الفتى وحفظه وأحفظه أخاه:

… … … … لأنني
أرى أن دار الستِّ من أهلها قفر

وكان الصبي يسأل نفسه عن معنى هذا البيت، كما كان يرى غريبًا أن تأتي كلمة «الست» في بيت من الشعر، فلما تقدمت به السن وتقدمت به المعرفة أيضًا قرأ البيت على وجهه ففهمه، وعرف كذلك أن كلمة «الست» ربما جاءت في شعر المحدثين من العباسيين ونثرهم أيضًا.

وكذلك اتصل صاحبنا بالأدب على هذا النحو المضطرب المختلط، وجمع في نفسه أطرافًا من هذا الخليط من الشعر والنثر. ولكنه لم يقف عند شيء من ذلك ولم يفرغ له، وإنما كان يحفظ منه ما يمر به حين تتاح له الفرصة، ثم يمضي لشأنه وفناقله.

وفي ذات يوم من أول العام الدراسي أقبل أولئك الشباب متحمِّسين أشدَّ التحمُّس لدرسٍ جديدٍ يُلقى في الضحى، ويُلقى في الرواق العباسي، ويلقيه الشيخ سيد المرصفي في الأدب، وسمُّوا: «ديوان الحماسة».

وكانوا قد فُتنوا بهذا الدرس حين سمعوه فلم يعودوا إلى غرفاتهم حتى اشتروا هذا الديوان، وأزمعوا أن يحضروا الدرس وأن يُعنوا به وأن يحفظوا الديوان نفسَه، وأسرع أخو الصبيِّ كعادته دائمًا، فاشترى «شرح التبريزي» لديوان الحماسة وجلَّده تجليدًا ظريفًا، وزيَّن به دولابه ذاك، وإن كان قد نظر فيه بين حين وحين. وقد جعل أخو الصبي يحفظ ديوان الحماسة ويُحفِّظه لأخيه، وربما قرأ عليه شيئًا من «شرح التبريزي»، وكان يقرؤه على نحو ما كان يقرأ كتب الفقه والأصول، ويَتَفَهَّمُه على نحو ما يَتَفَهَّمُ هذه الكتب.

وكان الصبي يحس أن هذا الكتاب لا ينبغي أن يُقرأ على هذا النحو ولا أن يفهم على هذا النحو. كان الشيخ الفتى وأصحابه يرون «ديوان الحماسة» متنًا، و«كتاب التبريزي» شرحًا، وكانوا يأسفون على أن أحدًا لم يكتب على هذا الشرح حاشية. وكانوا كثيرًا ما يقصُّون حديث الشيخ إليهم وعبثه بهم وتندُّره على أساتذتهم وعلى كتبهم الأزهرية.

يقصون ذلك ضاحكين منه معجبين به، ماضين على الرغم منه في درسهم الأزهري لا يفترون عنه ولا يُقصرون فيه.

وكان صاحبنا يسمع أحاديثهم، فيبتهج لهم أشد الابتهاج، ويشتاق إلى هذا الدرس أشد الشوق. ولكن أولئك الشباب لم يلبثوا أن أعرضوا عن هذا الدرس كما أعرضوا عن غيره من دروس الأدب؛ لأنهم لم يَرَوْهُ جِدًّا، ولأنه لم يكن من الدروس الأساسية في الأزهر، وإنما كان درسًا إضافيًّا من هذه الدروس التي أنشأها الأستاذ الإمام، والتي كانت تسمى دروس العلوم الحديثة؛ وكانت منها الجغرافيا والحساب والأدب، ولأن الشيخ كان يسخر منهم فيسرف في السخرية، ويعبث بهم فيغلو في العبث.

ساء ظنه بهم، فرآهم غير مُستعدين لهذا الدرس الذي يحتاج إلى الذوق ولا يحتمل الفنقلة، وساء ظنهم به، فرأوه غير متمكن من العلم الصحيح ولا بارع فيه، وإنما هو صاحب شعر ينشد وكلام يقال، ونكت تضحك ثم لا يبقى منها شيء.

وكانوا مع ذلك حُرَّاصًا على أن يحضروا هذا الدرس؛ لأن الأستاذ الإمام كان يحميه، ولأن الشيخ كان مقربًا من الأستاذ الإمام، ينتهز كل فرصة لينشئ في مدحه قصيدة يرفعها إليه ثم يمليها على الطلاب، ويأخذ بعضهم بحفظها على أنها من جيد الشعر ورائعه، وكانوا يرونها جيدة رائعة؛ لأنها كانت في مدح الأستاذ الإمام.

وقد بذلوا ما استطاعوا من الجهد للمواظبة على هذا الدرس، ولكنهم لم يطيقوا عليه صبرًا، فانصرفوا عنه وعادوا إلى شايهم يستمتعون به في الضحى على مهل، وانقطع عن صاحبنا ذكر الأدب بعد أن حفظ من ديوان الحماسة جزءًا صالحًا. ثم أشيع ذات يوم أن الشيخ المرصفي سيخصص يومين من أيام الأسبوع لقراءة «المفصل» للزمخشري في النحو، فسعى صاحبنا إلى هذا الدرس الجديد. ولم يسمع للشيخ مرة ومرة حتى أحبه وكلف به، وحضر درس الأدب في أيامه من الأسبوع، ولزم الشيخ منذ ذلك الوقت.

وكان الصبي قويَّ الذاكرة، فكان لا يسمع من الشيخ كلمةً إلا حفظها، ولا رأيًا إلا وعاه، ولا تفسيرًا إلا قيده في نفسه. وكثيرًا ما كان يعرض البيت وفيه كلمة قد مضى تفسيرها أو إشارة إلى قصة قد قصها الشيخ فيما قدم من درسه، فكان صاحبنا يعيد على الشيخ ما حفظ من قصصه وتفسيره وما قيَّد من آرائه وخواطره ونقده لصاحب الحماسة وشراحها، وتصحيحه لرواية أبي تمام، وإكماله للمقطوعات التي كان أبو تمام يرويها.

وإذا الشيخ يحب الفتى ويكلف به، ويوجه إليه الحديث في أثناء الدرس، ويدعوه إليه بعد الدرس فيصحبه إلى باب الأزهر، ثم يدعوه إلى أن يصحبه في بعض الطريق. وقد دعاه ذات يوم إلى أن يُبعدَ معه في السير، حتى انتهى الشيخ وتلميذه هذا وتلاميذ آخرون إلى قهوة فجلسوا فيها، وكان هذا أول عهد الفتى بالقهوات. وقد طال المجلس منذ صُلِّيت الظهر حتى دعا المؤذن إلى صلاة العصر، وعاد الفتى سعيدًا مغتبطًا قوي الأمل شديد النشاط.

ولم يكن للشيخ حديث إلى تلاميذه إذا تجاوز درس الأدب إلا الأزهر وشيوخه وسوء مناهج التعليم فيه. وكان الشيخ قاسيًا إذا طرق هذا الموضوع، وكان نقده لاذعًا وتشنيعه على أساتذته وزملائه أليمًا حقًّا، ولكنه كان يجد من نفوس تلاميذه هوًى، وكان يؤثر في نفس هذا الفتى خاصة أبلغ تأثير وأعمقه.

وإذا الفتى يؤثر هذا الدرس على غيره من الدروس شيئًا فشيئًا، ويختص اثنين من التلاميذ المقربين إلى الشيخ بمودته ثم بوقته. وإذا هم يلتقون إذا كان الضحى فيسمعون للشيخ، ثم يذهبون إلى دار الكتب فيقرءون فيها الأدب القديم، ثم يعودون إلى الأزهر بعد العصر فيجلسون في هذا الممر بين الإدارة والرواق العباسي، يتحدَّثون عن شيخهم وعمَّا قرءوا في دار الكتب، ويعبثون بشيوخهم الآخرين، ويعبثون بالداخلين والخارجين من الشيوخ والطلاب. فإذا صُلِّيتِ المغرب دخلوا الرواق العباسي فسمعوا درس الشيخ بخيت الذي كان يقرأ في تفسير القرآن مكان الأستاذ الإمام بعد أن توفي.

ولكن الفتية لم يكونوا يسمعون للشيخ الذي يقرأ كما كان يسمع له غيرهم من الطلاب، وإنما كانوا يسمعون له ليضحكوا منه وليقيدوا عليه أغلاطه، وكانت كثيرة ولا سيما حين كان يعرض للغة والأدب، وليشنعوا عليه بهذه الأغلاط بعد الدرس، وليعرضوا هذه الأغلاط من الغد على شيخهم المرصفي، فيقدموا إليه مادة جديدة للتشنيع على أساتذته وزملائه من الشيوخ.

وقد كانت نفوس هؤلاء الفتية ضيقة بالأزهر، فزادها الشيخ ودرسه به ضيقًا، وكانت نفوسهم شيقة إلى الحرية، فحط الشيخ ودرسه عنها القيود والأغلال.

وما أعرف شيئًا يدفع النفوس، ولاسيما النفوس الناشئة، إلى الحرية والإسراف فيها أحيانًا كالأدب، وكالأدب الذي يُدرَّس على نحو ما كان الشيخ المرصفي يدرسه لتلاميذه حين كان يفسر لهم «الحماسة» أو يفسر لهم «الكامل» بعد ذلك؛ نقد حر للشاعر أولًا، وللراوي ثانيًا، وللشرح بعد ذلك، وللغويين على اختلافهم بعد أولئك وهؤلاء، ثم امتحان للذوق ورياضة له على تعرف باطن الجمال في الشعر أو النثر، في المعنى جُملةً وتفصيلًا، وفي الوزن والقافية وفي مكان الكلمة بين أخواتها، ثم اختبار للذوق الحديث في هذه البيئة التي كان يلقى فيها الدرس، وموازنة بين غلظة الذوق الأزهري ورقة الذوق القديم، وبين كلال العقل الأزهري ونفاذ العقل القديم، وانتهاء من هذا كله إلى تحطيم القيود الأزهرية جملة، وإلى الثورة على الشيوخ في علمهم وذوقهم وفي سيرتهم وأحاديثهم بالحق في كثير من الأحيان، والإسراف والتجني في بعض الأحيان.

ومن أجل هذا لم يثبت حول الشيخ من تلاميذه الذين كثروا أول الأمر إلا نفرٌ قليل، وامتاز منهم هؤلاء الثلاثة خاصة، فكونوا عصبة صغيرة ولكنها لم تلبث أن بعد صوتها في الأزهر، وتسامع بها الطلاب والشيوخ، وتسامعوا خاصة بنقدها للأزهر وثورتها على التقاليد، وبما كانت تنظم من الشعر في هجاء الشيوخ والطلاب، وإذا هي بغيضة إلى الأزهريين مهيبة منهم في وقت واحد.

ولم يكن الشيخ أستاذًا فحسب، ولكنه كان أديبًا أيضًا، ومعنى ذلك أنه كان يصطنع وقار العلماء إذا لقي الناس أو جلس للتعليم في الأزهر، فإذا خلا إلى أصدقائه وخاصته عاش معهم عِيشة الأديب، فتحدَّث في حرية مطلقة عن كل إنسان وعن كل موضوع، وروى لخاصته من شعر القدماء ونثرهم وسيرتهم ما يثبت أنهم كانوا أحرارًا مثله، يقولون في كل شيء وفي كل إنسان لا متنطعين ولا متحفظين، كما كان يقول.

وكان أيسر شيء وأهونه أن يذهب الطلاب مذهب شيخهم، ولا سيما إذا أحبوه وأكبروه، ورأوا فيه المثل الأعلى للصبر على المكروه والرضا بالقليل، والتعفف عما لا يليق بالعلماء، والترفع عما كان ينغمس فيه كثير من شيوخ الأزهر من ألوان السعاية والنميمة والكيد والتقرب إلى الرؤساء وأصحاب السلطان.

كان تلاميذ الشيخ يرون منه ذلك رأيَ العين ويلمسونه بأيديهم، ويعيشون معه، في حين كانوا يزورونه في منزله، ذلك المتهدم الخَرِب القديم في حارة قذرة من حارات باب البحر يقال لها: «حارة الركراكي»، هناك في أقصى هذه الحارة كان يسكن الشيخ، يسكن بيتًا قذرًا متهدمًا، تدخل فيه من بابه، فإذا أنت في ممر ضيق رطب تنبعث فيه روائح كريهة، قد خلا من كل شيء إلا هذه الدَّكة الخشبية الضيقة الطويلة العارية التي قد أُسندت إلى حائط يتساقط منه التراب.

وكان الشيخ ينزل لتلاميذه فيجلس معهم على هذه الدكة، ولكنه يجلس راضيًا مطمئنًّا، يسمع لهم باسمًا ويتحدَّث إليهم أرقَّ الحديث وأعذبه وأصفاه وأبرأه من التكلف، وربما كان مشغولًا حين يقبل تلاميذه لزيارته، فيدعوهم إلى غرفته، فيصعدون إليه في سلم متهدم، ويسلكون إليه دهليزًا خاليًا من كل شيء قد انتشر فيه ضوء الشمس، حتى إذا بلغوا غرفته دخلوا على شيخ منحنٍ قد جلس على الأرض، ومن حوله عشرات الكتب يبحث فيها عن مقطوعة يريد أن يتمها، أو بيت يريد أن يفسره، أو لفظ يريد أن يحققه، أو حديث يريد أن يصحح الرأي فيه، وعن يمينه أدوات القهوة.

فإذا دخلوا عليه لم يقم لهم، وإنما تلقَّاهم مستبشرًا فرحًا، ثم دعاهم إلى الجلوس حيث يستطيعون، ودعا أحدهم إلى صنع القهوة وإدارتها عليه وعليهم، ثم تحدث إليهم لحظات، ثم دعاهم إلى أن يشاركوه فيما كان بسبيله من بحثٍ أو تحقيق.

ولم ينسَ الفتى وأحد صديقيه أنهما زارا الشيخ ذات يوم حين صليت العصر، فلما صعدا إليه لقيا شيخًا قد جلس على فراش متواضع أُلقي في هذا الدهليز، وإلى جانبه امرأة محطمة قد انحنت حتى كاد رأسها يبلغ الأرض والشيخ يطعمها بيده، فلما رأى تلميذيه هش لهما، وأمرهما أن ينتظراه في غرفته شيئًا، ثم أقبل عليهما بعد حين وهو يقول ضاحكًا راضي النفس: «كنت أعشِّي أمي.»

كان هذا الشيخ إذا خرج من داره صورة الوقار والدعة، وأمن النفس وطمأنينة القلب وصفاء الضمير. وكان صورة الغنى واليسار، لا يحس من يتحدث إليه إلا رجلًا قد يُسِّرَّ عليه في الرزق، فهو يعيش عيشة أمن وهناءة وهدوء.

ولكن تلاميذه وخاصته كانوا يعلمون حق العلم أنه كان من أشد الناس فقرًا وأضيقهم يدًا، وأنه كان ينفق الأسبوع أو الأسابيع لا يطعم إلا خبز الجراية يغمسه في شيء من المِلح، وكان على ذلك يُعَلِّمُ ابنه تعليمًا ممتازًا، ويرعى غيرَه من أبنائه الذين كانوا يطلبون العلم في الأزهر رعاية حسنة، ويُدلِّل ابنتَه تدليلًا مؤثرًا، يصنع هذا كله براتبه الضئيل الذي لم يكن يتجاوز ثلاثة جنيهات ونصف الجنيه. كان من أصحاب الدرجة الأولى، فكان يتقاضى جنيهًا ونصف جنيه لذلك، وكان الأستاذ الإمام قد كلفه درسَ الأدب فكان يتقاضى لذلك جنيهين، وكان يستحي أن يقبض راتبه أول الشهر، ويكره أن يختلط بالعلماء وهم يتهافتون على «المباشر» ليتقاضوا منه رواتبهم، فكان يدفع خاتمه إلى تلميذ من خاصته ليقبض له هذا الراتب الضئيل في الضحى ويؤديه إليه بعد الظهر.

كذلك كان يعيش هذا الشيخ، وكان تلاميذه يرونه ويشاركونه في حياته تلك البائسة الحرة الممتازة، وكانوا يرون ويسمعون من أمر شيوخ آخرين ما كان يملأ قلوبهم غيظًا وحقدًا، ونفوسهم ازدراءً واحتقارًا، فأي غرابة في أن يُفتنوا بشيخهم ويتأثروه في سيرته وفي مذهبه وفي ازدرائه للأزهريين وثورته بما كان لهم من تقاليد!

لم ينكر تلاميذ الشيخ عليه في ذلك العهد إلا أنه انحرف ذات يوم عن الوفاء للأستاذ الإمام حين تولى الشيخ الشربيني مشيخة الأزهر، فنظم الشيخ قصيدة يمدح فيها الشيخ الجديد، وكان تلميذًا للشيخ ومحبًّا له، وكان الشيخ الشربيني خليقًا بالحب والإعجاب. وأملى الشيخ المرصفي على تلاميذه قصيدته التي سماها ثامنة المعلقات، والتي عارض بها قصيدة طرفة، فلما فرغ من إملائها والتف حوله تلاميذه، مضى في الثناء على أستاذه، وعرَّض بالأستاذ الإمام شيئًا، فرده بعض تلاميذه في رفق، فارتد أَسِفًا خَجِلًا واستغفر الله من خطيئته.

وكذلك اندفع هؤلاء التلاميذ فيما دفعهم إليه حبهم للشيخ وتأثرهم به، فأسرفوا على أنفسهم وعلى شيخهم أيضًا.

لم يكتفوا بهذا العبث الذي كانوا يعبثونه بالشيوخ والطلاب، ولكنهم جعلوا يجهرون بقراءة الكتب القديمة وتفضيلها على الكتب الأزهرية، يقرءون «كتاب سيبويه» أو كتاب «المفصل» في النحو، ويقرءون كتابي عبد القاهر الجرجاني في البلاغة، ويقرءون دواوين الشعراء لا يتحرجون في اختيار هذه الدواوين ولا في الجهر بإنشاد ما كان فيها من شعر المجون أحيانًا في الأزهر. ويقلدون هذا الشعر، ويتناشدون ما ينشئون من ذلك إذا التقوا، والطلاب ينظرون إليهم شزرًا، ويتربصون بهم الدوائر، وينتهزون بهم الفرص. وربما أقبل عليهم بعض الطلاب الناشئين يسمعون منهم ويتحدثون إليهم، ويريدون أن يتعلموا منهم الشعر والأدب، فيغيظ ذلك نظراءهم من الطلاب الكبار ويزيدهم موجدةً عليهم وائتمارًا بهم.

وفي ذات يوم كان صاحبنا يعدُّ مع صديقيه درس «الكامل»، فعرضت لهم هذه الجملة من كلام المبرد: «ومما كفَّرت الفقهاء به الحجاجَ قوله والناس يطوفون بقبر النبيِّ ومنبره: إنما يطوفون برمةٍ وأعواد.» فأنكر صاحبنا أن يكون في كلام الحجاج ما يكفي لتكفيره، وقال: لقد أساء الحجاج أدبَه وتعبيرَه، ولكنه لم يَكْفُرْ، وسمع بعض الطلاب ذلك فأنكروه، ثم تناقلوه.

وإن فتياننا الثلاثة لفي مجلسهم حول الشيخ عبد الحكم عطا، وإذا هم يدعون إلى حجرة شيخ الجامع، فيذهبون واجمين لا يفهمون شيئًا، فإذا دخلوا على الشيخ «حسونة» لم يجدوه وحدَه وإنما وجدوا من حوله أعضاء مجلس إدارة الأزهر وهم من كبار العلماء؛ فيهم الشيخ بخيت، والشيخ محمد حسنين العدوي، والشيخ راضي وآخرون، ويلقاهم الشيخ متجهمًا، ثم يأمر رضوان رئيس المشدين أن يدعو مَن عنده مِن الطلاب، فيُقبل جماعة من الطلاب فيسألهم الشيخ عما عندهم، ويتقدَّم أحدهم فيتهم هؤلاء الفتية بالكفر لمقالتهم في الحجاج، ثم يقص من أمرهم الأعاجيب.

وكان هذا الطالب ماهرًا حقًّا؛ فقد أحصى على هؤلاء الفتية كثيرًا جدًّا مما كانوا يعيبون به الشيوخ، ومما كانوا يعيبون به الشيخ بخيت والشيخ محمد حسنين والشيخ راضي والشيخ الرفاعي، وكانوا جميعًا حاضرين، فسمعوا بآذانهم آراء هؤلاء الفتية فيهم. وشهد طلاب آخرون بصدق هذا الطالب في كلِّ ما قال. وسئل الفتية فلم ينكروا مما سمعوا شيئًا، ولكن الشيخ لم يحاورهم ولم يداورهم، وإنما دعا إليه رضوان فأمره في شدة بمحو أسماء هؤلاء الطلاب الثلاثة من الأزهر؛ لأنه لا يريد مثل هذا الكلام الفارغ. ثم صرفهم عنه في عنف، فخرجوا وَجِلين قد سُقِطَ في أيديهم لا يعرفون ماذا يصنعون، ولا كيف يصورون هذه القصة لأهلهم.

ولم يقف أمرهم عند هذا الحد ولا عند نظر الطلاب إليهم في ضحكٍ منهم وشماتةٍ بهم، ولكنهم أقبلوا بعد صلاة العشاء ليلقوا شيخهم المرصفي وليسمعوا منه درس «الكامل». وأقبل الشيخ، فلقيه رضوان وأنبأه في أدب ولطف بأن شيخ الجامع قد ألغى درس «الكامل»، وبأنه ينتظره في مكتبه إذا كان الغد.

فانصرف الشيخ محزونًا، ومضى معه تلاميذه الثلاثة خَجِلِينَ وَجِلِينَ، والشيخ يسرِّي عنهم مع ذلك، حتى إذا كانوا في بعض الطريق خطر لهم أن يذهبوا إلى الشيخ بخيت ليستعطفوه ويوسطوه عند شيخ الجامع، وقال لهم شيخهم: «لا تفعلوا، فلن تبلغوا من سعيكم هذا شيئًا.» ولكنهم مضَوا مع ذلك إلى دار الشيخ بخيت، فلما أُدخلوا عليه عرفهم فتلقاهم ضاحكًا، ثم سألهم عن جلية أمرهم في فتور، فلما أخذوا يدافعون عن أنفسهم، قال لهم في فتور أيضًا: ولكنكم تدرسون «الكامل» للمبرد، وقد كان المبرد من المعتزلة، فدرس كتابه إثم.

وهنالك نسي الفتية أنهم جاءوا مستعطفين، وأخذوا يجادلون الشيخ حتى أحفظوه، وانصرفوا عنه وقد ملأه الغضب وملأهم اليأس، ولكنهم مع ذلك تضاحكوا من الشيخ وأعادوا بعض كلماته، وتفرقوا وقد تعاهدوا على أن يخفوا الأمر على أهلهم حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.

ولقوا شيخهم من الغد، فأنبأهم بأن شيخ الجامع قد حظر عليه قراءة «الكامل»، وكلفه قراءة «المُغْنِي» لابن هشام، ونقله من الرواق العباسي إلى عمود في داخل الأزهر.

ثم جعل الأستاذ يعبث بشيخ الجامع، ويزعم لتلاميذه أنه لم يخلق للعلم ولا للمشيخة، وإنما خلق ليبيع العسل الأسود في سرياقوس، وكان قد فقد أسنانه فكان ينطق السين ثاء، وكان يتكلم لغة القاهرة فكان يجعل القاف همزة، ويمد الواو بينها وبين السين، وكان يتكلم هامسًا، فلم ينس تلاميذه قط هذه الجملة التي طبعوا بها الشيخ حسونة رحمة الله فسَمُّوه: «بائع العثل في ثرياؤوث.»

ولكن بائع سرياقوس هذا كان شديدًا حازمًا وكان مهيبًا صارمًا، يخافه الشيوخ جميعًا ومنهم الشيخ المرصفي؛ فقد أخذ يقرأ كتاب «المُغني»، وذهب إليه تلاميذه مطمئنين، وما يعنيهم أن يقرأ الشيخ هذا الكتاب أو ذاك، حسبهم أن يقرأ الشيخ وأن يسمعوا منه ويقولوا له وقد سمعوا منه، فلما همَّ الفتى أن يقول له بعض الشيء أسكته في رفق وهو يقول: «لأ، لأ، عاوزين ناكل عيش.» ولم يعرف الفتى أنه حزن منذ عرف الأزهر كما حزن حين سمع هذه الجملة من أستاذه، فانصرف عنه ومعه صديقاه وإن قلوبهم ليملؤها حزن عميق.

على أنهم لم يرضَوا بهذه العقوبة التي فرضها عليهم شيخ الجامع، وإنما فكروا في الطريق التي يجب أن يسلكوها ليرفعوا عن أنفسهم هذا الظلم. فأما أحدهم فقد آثر العافية وفارق صاحبيه واتخذ لنفسه مجلسًا في جامع المؤيد بمعزل من العدو والصديق حتى تهدأ العاصفة. وأما الآخر فقصَّ الأمر على أبيه، وجعل أبوه يسعى في إصلاح شأن ابنه سعيًا رفيقًا، ولكن الفتى لم يفارق صاحبه ولم يعتزل عدوًا ولا صديقًا، وإنما كان يلقى صاحبه كل يوم فيتخذان مجلسهما بين الرواق العباسي والإدارة، ويمضيان فيما تعوَّدا أن يمضيا فيه من العبث بالطلاب والشيوخ.

وأما صاحبنا فلم يَحْتَجْ إلى أن يقصَّ الأمر على أخيه، فقد انتهى الأمر إلى أخيه عن طريق لا يعرفها، ولكن أخاه لم يَلُمْهُ ولم يُعَنِّفْ عليه، وإنما قال له: «أنت وما تشاء فستجني ثمرة هذا العبث وستجدها شديدة المرارة.» ولكن الفتى لم يكن يعرف رفقًا ولا لينًا؛ فلم يسعَ إلى أحد ولم يتوسل إلى الشيخ بأحد، وإنما كتب مقالًا عنيفًا يُهاجم فيه الأزهر كلَّه وشيخ الأزهر خاصة ويطالب بحرية الرأي. وماذا يمنعه من ذلك وكانت الجريدة قد ظهرت وكان مديرها يدعو كل يوم إلى حرية الرأي!

وذهب صاحبنا بمقاله إلى مدير الجريدة فتلقاه لقاء حسنًا فيه كثير من العطف والإشفاق، وقرأ المقال ثم دفعه ضاحكًا إلى صديق له كان في مجلسه يومئذٍ، فألقى الصديق نظرة على هذا المقال ثم قال غاضبًا: لو لم تكن قد عوقبت على ما جنيت من ذنب لكانت هذه المقالة وحدها كافية لعقابك. وهمَّ الفتى أن يرد على هذا الصديق، ولكن مدير الجريدة قال له مترفقًا: إن الذي يحدثك هو حسن بك صبري مفتش العلوم الحديثة في الأزهر. ثم قال له: أتريد أن تشتم الشيخ وتعيب الأزهر، أم تريد أن يرفع عنك هذا العقاب؟ قال الفتى: بل أريد أن يُرفع عني هذا العقاب، وأن أستمتع بحقي من الحرية. قال مدير الجريدة: فدعْ لي هذه القصة وانصرف راشدًا.

وقد انصرف الفتى، ثم لم يلبث أن تبين وتبين معه صاحباه، أن شيخ الجامع لم يعاقبهم ولم يمحُ أسماءهم من سجلات الأزهر، وإنما أراد تخويفهم ليس غير.

ومنذ ذلك الوقت اتَّصل الفتى بمدير الجريدة وجعل يتردد عليه، حتى جاء وقت كان يلقاه فيه كل يوم.

وفي مكتب مدير الجريدة ظفر الفتى بشيء طالما تمناه، وهو أن يتصل ببيئة الطرابيش بعد أن سئم بيئة العمائم، ولكنه اتصل من بيئة الطرابيش بأرقاها منزلةً وأثراها ثراء، وكان وهو فقير متوسط الحال في أسرته، سَيِّئَ الحال جدًّا إذا قام في القاهرة، فأتاح له ذلك أن يفكر فيما يكون من هذه الفروق الحائلة بين الأغنياء المترفين والفقراء البائسين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤