الفصل الثالث

وكان هذا الطَّور أحبَّ أطوار حياته تلك إليه وآثرها عنده، كان أحب إليه من طَوره ذاك في غرفته التي كان يشعر فيها بالغربة شعورًا قاسيًا؛ لأنه لا يعرفها ولا يعرف مما اشتملته من الأثاث والمتاع إلا أقلَّه وأدناه إليه؛ فهو لا يعيش فيها كما كان يعيش في بيته الريفي وفي غرفاته وحجراته تلك التي لم يكن يجهل منها ومما احتوت عليه شيئًا، وإنما كان يعيش فيها غريبًا عن الناس وغريبًا عن الأشياء؛ وضيقًا حتى بذلك الهواء الثقيل الذي كان يتنفسه فلا يجد فيه راحة ولا حياة؛ وإنما كان يجد فيه ألمًا وثقلًا.

وكان أحبَّ إليه من طَوره الثاني في طريقه تلك بين البيت والأزهر؛ فقد كان في ذلك الطَّور مشردًا مفرَّق النفس مضطرب الخطى ممتلئ القلب بهذه الحيرة المضلة الباهظة التي تفسد على المرء أمره وتجعله يتقدم أمامه لا على غير هدًى في طريقه المادية وحدها — فقد كان ذلك محتومًا عليه — بل على غير هدى في طريقه المعنوية أيضًا؛ فقد كان مصروفًا عن نفسه بما يرتفع حوله من الأصوات وما يضطرب حوله من الحركات، وقد كان مستخذيًا في نفسه من اضطراب خطاه وعجزه من أن يلائم بين مِشيته الضالة الحائرة الهادئة ومِشية صاحبه المهتدية العازمة العنيفة.

فأما في طوره الثالث هذا فقد كان يجد راحة وأمنًا وطمأنينةً واستقرارًا. كان هذا النسيم الذي يترقرق في صحن الأزهر حين تصلَّي الفجرُ يتلقَّى وجهه بالتحية فيملأ قلبه أمنًا وأملًا، وما كان يشبِّه وقع هذا النسيم على جبهته التي كانت تندى بالعرق من سرعة ما سعى، إلا بتلك القبلات التي كانت أمه تضعها على جبهته بين حين وحين في أثناء إقامته في الريف حين يقرئها آياتٍ من القرآن أو يمتِّعها بقصةٍ مما قرأ في الكتب أثناء عبثه في الكُتَّاب، أو حين كان يخرج ضعيفًا شاحبًا من خلوته تلك التي كان يتوسل فيها إلى الله بعدِّيَّة يس ليقضي هذه الحاجةَ أو تلك من حاجات الأسرة.

كانت تلك القبلات تُنعش قلبه وتُشيع في نفسه أمنًا وأملًا وحنانًا، وكان ذلك النسيم الذي كان يتلقَّاه في صحن الأزهر يُشيع في نفسه هذا كله ويرده إلى الراحة بعد التعب، وإلى الهدوء بعد الاضطراب، وإلى الابتسام بعد العبوس. ومع ذلك فلم يكن يعلم من أمر الأزهر شيئًا، ولم يكن يعرف مما يحتويه الأزهر شيئًا، وإنما كان يكفيه أن تمسَّ قدميه الحافيتين أرضُ هذا الصحن، وأن يمس وجهَه نسيمُ هذا الصحن، وأن يُحسَّ الأزهر من حوله نائمًا يريد أن يستيقظ، وهادئًا يريد أن ينشط ليعود إلى نفسه أو لتعود إليه نفسه، وإذا هو يشعر أنه في وطنه وبين أهله، لا يحس غربةً ولا يجد ألمًا، وإنما هي نفسه تتفتح من جميع أنحائها، وقلبه يتشوق من جميع أقطاره ليتلقَّى … ليتلقَّى ماذا؟ ليتلقَّى شيئًا لم يكن يعرفه، ولكنه كان يحبه ويُدفع إليه دفعًا، طالما سمع اسمه وأراد أن يعرف ما وراء هذا الاسم، وهو العلم.

وكان يشعر شعورًا غامضًا ولكنه قوىٌّ بأن هذا العلم لا حدَّ له، وبأن الناس قد ينفقون حياتهم كلها ولا يبلغون منه إلا أيسره. وكان يريد أن ينفق حياته كلها وأن يبلغ من هذا العلم أكثر ما يستطيع أن يبلغ مهما يكن في نفسه يسيرًا. وكان قد سمع من أبيه الشيخ ومن أصحابه الذين كانوا يجالسونه من أهل العلم أن العلم بحر لا ساحل له، فلم يأخذ هذا الكلام على أنه تشبيه أو تجوز، وإنما أخذه على أنه الحق كل الحق.

وأقبل إلى القاهرة وإلى الأزهر يريد أن يُلقيَ نفسه في هذا البحر فيشرب منه ما شاء الله له أن يشرب ثم يموت فيه غرقًا، وأيُّ موت أحب إلى الرجل النبيل من هذا الموت الذي يأتيه من العلم ويأتيه وهو غَرِقٌ في العلم!

كانت هذه الخواطر كلها تثور في نفسه الناشئة فجأة، فتملؤها وتملكها وتنسيها تلك الغرقة الموحشة وتلك الطريق المضطربة الملتوية، بل تنسيها الريف ولذَّاتِ الريف، وتشعرها بأنها لم تكن مخطئة ولا غالية حين كانت تتحرق شوقًا إلى الأزهر وضيقًا بالريف.

وكان الصبي يسعى أمامه مع صاحبه حتى يقطع الصحن ويصعد هذه الدرجة اليسيرة التي يبتدئ بها الأزهر نفسه، فيمتلئ قلبه خشوعًا، وخضوعًا، وتمتلئ نفسه إكبارًا وإجلالًا. ويخفف الخطو على هذه الحُصُر المبسوطة البالية التي كانت تنفرج أحيانًا عمَّا تحتها من الأرض، كأنها تريد أن تتيح لأقدام الساعين عليها شيئًا من البركة بلمس هذه الأرض المطهرة. وكان الصبي يحب الأزهر في هذه اللحظة حين ينفتل المصلون من صلاة الفجر وينصرفون وفي عيونهم النعاس، ليتحلقوا حول هذا العمود أو ذاك، وينتظروا هذا الأستاذ أو ذاك، فيسمعوا منه درس الحديث أو درس التفسير أو درس الأصول أو درس التوحيد.

كان الأزهر في هذه اللحظة هادئًا لا ينعقد فيه ذلك الدويُّ الغريب الذي كان يملؤه منذ تطلع الشمس إلى أن تُصلى العشاء، وإنما كنت تسمع فيه أحاديثَ يتهامس بها أصحابها، وربما سمعت فتًى يتلو القرآن في صوت هادئ معتدل، وربما مررت إلى جانب مصلٍ لم يدرك الجماعة أو أدركها ولكنه مضى في التنفُّل بعد أن أدى الفريضة. وربما سمعت أستاذًا هنا أو هناك يبدأ درسه بهذا الصوت الفاتر، صوت الذي استيقظ من نومه فأدى صلاته ولم يطعم بعد شيئًا يبعث في جسمه النشاط والقوة، فهو يقول في صوت هادئ حلو منكسر بعض الشيء: «بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المؤلف رحمه الله تعالى، ونفعنا بعلمه، آمين!»

والطلاب يسمعون لهذا الصوت في هدوء وفتور يشبهان هدوء الشيخ وفتوره، وما أكثر ما كان الصبي يوازن في نفسه بين أصوات الشيوخ حين ينطقون بهذه الصيغة في درس الفجر، وأصواتهم حين ينطقون بها في درس الظهر! فأما أصوات الفجر فكانت فاترةً حلوة فيها بقية من نوم. وأما أصوات الظهر فكانت قوية عنيفة ممتلئة فيها شيءٌ من كسل أيضًا، تصوِّر امتلاء البطون بما كانت تمتلئ به من طعام الأزهريين في ذلك الوقت الذي كان الأزهريون يعيشون فيه على الفول والمخلل وما يشبه الفول والمخلل من ألوان الطعام.

كان في أصوات الفجر دعاء للمؤلفين يشبه الاستعطاف، وكان في أصوات الظهر هجوم على المؤلفين يوشك أن يكون عدوانًا، وكانت هذه الموازنة تعجب الصبي وتثير في نفسه لذةً ومتاعًا.

وكان يسعى مع صاحبه حتى يرقى هاتين الدرجتين اللتين يبتدئ بهما الليوان، وهناك إلى جانب عمود من هذه الأعمدة المباركة قد شُدَّ إليه كرسيٌّ بسلسلة غليظة يُجلسه صاحبه ويقول له: انتظر هنا فستسمع درسًا في الحديث، فإذا فرغتُ من درسي فسأعود إليك.

وكان درس صاحبه في أصول الفقه، وكان أستاذ صاحبه الشيخ راضي رحمه الله، وكان الكتابُ الذي يدرِّسه الشيخُ راضي كتابَ «التحرير» للكمال بن الهمام، وكان الصبي يسمع هذه الألفاظ كلها فيمتلئ لها قلبه رهبًا ورغبًا ومهابةً وإجلالًا؛ أصول الفقه! ما عسى أن يكون هذا العلم؟ الشيخ راضي! من عسى أن يكون هذا الشيخ؟ التحرير! ما معنى هذه الكلمة؟ الكمال بن الهمام! ما أعظم هذين الاسمين! حقًّا إن العلم بحر لا ساحل له، والخير كلُّ الخير للرجل الذكي أن يغرق فيه، وكان إجلال الصبيِّ لهذا الدرس خاصة يزداد ويعظم من يوم إلى يوم حين كان يسمع أخاه ورفاقه يطالعون الدرس قبل حضوره فيقرءون كلامًا غريبًا ولكنه حلو الموقع في النفس.

كان الصبي يسمعه فيتحرَّق شوقًا إلى أن تتقدَّم به السن ستة أعوام أو سبعة ليستطيع أن يفهمه وأن يحل ألغازه ويفك رموزه، ويتصرف فيه كما كان يتصرف فيه أولئك الشبان البارعون، ويجادل فيه أساتذته كما كان يجادل فيه أولئك الشبان البارعون، ولكنه الآن مضطر إلى أن يسمع ولا يفهم، وما كان أكثر ما يقلِّب في نفسه هذه الجملة أو تلك لعله يجد وراءها شيئًا فلا يظفر بطائل، ولا يزيده ذلك إلا إكبارًا للعلم، وإجلالًا للعلماء، وإصغارًا لنفسه، واستعدادًا للعمل والجد!

وقد سمع جملةً بعينها شهد الله أنها أرَّقته غير ليلة من لياليه، ونغَّصت عليه حياته غير يوم من أيامه، ولعلها أن تكون قد صرفته عن غير درس من دروسه اليسيرة؛ فقد كان يفهم دروسه الأولى في غير مشقة، وكان ذلك يُغريه بالانصراف عن حديث الشيخ إلى التفكير في بعض ما سمع من أولئك الشبان النجباء.

وكانت هذه الجملة التي ملأت نفسه وقلبه غريبة في حقيقة الأمر، وقعت على أذنه وهو في أول النوم وآخر اليقظة، فردته إلى اليقظة ليله كله، وهي: «والحق هدم الهدم.» ما معنى هذا الكلام؟ كيف يهدم الهدم؟ وما عسى أن يكون هذا الهدم؟ وكيف يكون الهدم حقًّا؟ وجعلت هذه الجملة تدور في رأسه كما يدور هذيان الحمى في رأس المريض، حتى صُرِف عنها ذات يوم بإشكال من إشكالات الكفراوي، أقبل عليه ففهمه وجادل فيه، وأحس أنه بدأ يشرب من ذلك البحر الذي لا ساحل له وهو بحر العلم.

وكان الصبي يجلس إلى جانب ذلك العمود، يعبث بتلك السلسلة، ويسمع للشيخ وهو يلقي دروسه في الحديث، فيفهم عنه في وضوح وجلاء، ولا ينكر منه إلا تلك الأسماء التي كانت تسَّاقطُ على الطلبة يتبع بعضها بعضًا، تسبقها كلمة «حدثنا» وتفصل بينها كلمة «عن».

وكان الصبي لا يفهم معنًى لهذه الأسماء ولا لتتابعها ولا لهذه «العنعنة» المملة، وكان يتمنَّى أن تنقطع هذه العنعنة وأن يصل الشيخ إلى الحديث، فإذا وصل إليه سمعه الصبي مُلقيًا إليه نفسه كلَّها فحفظه وفهمه، وأعرض عن تفسير الشيخ؛ لأنه كان يُذكِّره ما كان يسمع في الريف من إمام المسجد، ومن ذلك الشيخ الذي كان يعلِّمه أوليات الفقه.

وبينما كان الشيخ يمضي في دروسه كان الأزهر يستيقظ شيئًا فشيئًا، كأنما كانت تنبهه أصوات أولئك الشيوخ الذين كانوا يُلقون دروسهم، وما كان يثور بينهم وبين طلابهم من حوار يبلغ العنف أحيانًا، فهؤلاء الطلاب يُقبلون، وهذه الأصوات ترتفع، وهذا الدويُّ ينعقد، وهؤلاء الشيوخ ترتفع أصواتهم لتبلغ آذان التلاميذ، بل هؤلاء الشيوخ يضطرون أن ينطقوا بهذه الصيغة التي تؤذن بانتهاء الدرس، وهي: «والله أعلم»؛ لأن الطلاب قد أقبلوا ينتظرون درس الفقه من شيخ غير هذا الشيخ، أو من الشيخ نفسه؛ فلا بُدَّ من أن ينتهي درس الفجر ليبدأ درس الصبح.

هنالك كان يُقبل على الصبي صاحبُه فيأخذه بيده في غير كلام ويجذبه في غير رفق، ويمضي إلى مجلس آخر فيضعه فيه كما يضع المتاع وينصرف عنه.

وقد فهم الصبي أنه قد نُقل إلى درس الفقه، وأنه سيسمع هذا الدرس وسيفرغ منه، وسينصرف الشيخ ويتفرَّق الطلاب، ويبقى هو في مكانه لا يتحوَّل عنه حتى يعود إليه صاحبه من سيدنا الحسين حيث كان يسمع درس الفقه الذي كان يلقيه الشيخ بخيت رحمه الله.

وكان الشيخ بخيت يحب الإطالة في الدرس، وكان طلابه يلحون عليه في الجدال؛ فلم يكن يقطع درسه حتى يرتفع الضحى، وهنالك يعود إلى الصبي صاحبُه فيأخذه بيده في غير كلام، ويجذبه في غير رفق، ويمضي به حتى يخرجه من الأزهر وحتى يردَّه إلى طَوره الثاني، فيقطع به الطريق بين الأزهر والبيت، ثم إلى طَوره الأول، فيلقيه في مكانه من الغرفة على ذلك البساط القديم الذي أُلقي على حصير بالٍ عتيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤