الفصل التاسع عشر

رفضت أن أحضر مؤتمرًا للعميان!

وبدأت حياة الزوجين في مصر متعثرة، يبسم لها الأمل فتخفُّ وتشرق، وتعبس لها الضرورة فتثقل وتظلم. كانا ضيفًا على أخي الفتى، ولكنهما كانا يعلمان أن هذه الضيافة لا ينبغي لها أن تطول، وأن ليس لهما بدٌّ من أن يستقلَّا بحياتهما ولا يكونا عيالًا على قريبٍ أو غريبٍ. واستقلال الأفراد كاستقلال الجماعات، لا يهبط لهم من السماء ولا ينجم لهم من الأرض، وإنما يُكتسب اكتسابًا، وتُبتغى إليه الوسائل، وتسلك إليه السبل التي تستقيم بأصحابها حينًا وتلتوي بهم حينًا آخر. وكانا يعرفان هذا كله، ويعرفان السبيل إلى استقلالهما، ولكن صاحبنا لم يكن يملك الوسائل إلى سلوك هذه السبيل؛ فهو لا يملك درهمًا ولا دينارًا، وقد بخلت الجامعة عليه بما كانت تمنحه الناجحين من طلابها إذا عادوا إلى مصر من المكافأة ليهيئوا أنفسهم لاستقبال حياتهم الجامعية. وأكبر الظن أنها لم تبخل عليه بهذه المكافأة عن رضا واختيار، بل عن كرهٍ واضطرارٍ، فقد رأى صاحبنا نفسه إذن مضطرًّا إلى أن يقترض من المال ما يتيح لزوجه وله أن يأويا إلى دارٍ يعيشان فيها كما يريدان، لا كما يُراد لهما.

وهوَّن عليه الأمر صديقٌ كريمٌ هو الأستاذ محمد رمضان رحمه الله صحبه إلى شركة كانت تسمَّى شركة التعاون المالي، وضمنه عند هذه الشركة، فأقرضته مئة من الجنيهات واقتطعت منها الفائدة وأعطته سائرها. وظن الفتى حين وقع في يده هذا المال أنه أصبح على رأس ثروة ضخمة، فهو لم يملك مثل هذا المقدار من المال قبل اليوم. وقد أتى عليه حين من الدهر كان أقصى ما يمكن أن يقع في يده من المال لا يبلغ الجنيه غالبًا ولا يتجاوزه بحال من الأحوال، ثم أتى عليه حين آخر من الدهر كان أقصى ما وصل إليه من المال لا يزيد على عشرين جنيهًا.

أتيح له هذا المقدار الذي كان يراه ضخمًا حين نجح في الجامعة بمصر، وحين نجح في السوربون بباريس، وهو اليوم يعدُّ الجنيهات التي صارت إليه بالعشرات الكثيرة، على أنه لم يلبث أن رأى هذه العشرات تتناقص شيئًا فشيئًا، فقد أدَّى دينه إلى زميله ذاك الفتى الذي أعانه على انتظار آخر الإضراب في مارسيليا.

ومرَّ مع زوجه بمصرف الكريدي ليونيه، ولا أدري كيف كان ذلك، فقرأت عليه زوجه إعلانًا ينبئ بأن المصرف يعرض منذ اليوم للبيع سهامًا في قرض فرنسي جديد. ومن مزايا هذه السهام أن القرعة تجري بينها من حين إلى حين، وأن بعض هذه السهام يمكن أن يربح مليونًا من الفرنكات، وكانت قيمة هذا المليون في تلك الأيام عشرين ألفًا من الجنيها. ولم يسمع الفتى هذا الإعلان حتى عزم على زوجه لتدخلن معه المصرف وليشترين لها سهمًا من هذه السهام، وقد أبت عليه أشد الإباء، ولكنه ألحَّ وغلا في الإلحاح حتى استجابت له كارهة. وما هي إلا ساعة حتى رأى الفتى زوجه مسهمة في هذا القرض الفرنسي، وجعلت الآمال تداعبه، وجعل يقيس ما بقي له من مال إلى الألوف العشرين التي يمكن أن تساق إلى زوجه إن ربح سهمها بعد حين، فيأخذه شيء يشبه الدوار.

ولكن الاقتراع الأول قد أُجرِيَ، وربح فيه سهم مصري لم يكن سهم زوجه، وإنما كان يملكه مظلوم باشا رحمه الله.

وما أكثر ما ضحك الزوجان حين قرأا ذلك النبأ، وحين صح لهما ما كانا يسمعان من أن المال يدعو المال، ومن أن العسر لا يدعو اليسر إلا قليلًا!

وقد مرت الشهور والأعوام وجعل الفرنك ينحلُّ ويتضاءل، وتنحل معه قيمة هذه الأسهم وتتضاءل، حتى بلغت قيمة السهم الذي اشتراه الفتى لزوجه سبعة جنيهات، ثم خمسة، ثم انتهى إلى ثلاثة، ثم انقطعت أنباؤه وذاب كما يذوب الملح في الماء. مهما يكن من شيء فقد نظر صاحبنا بعد أداء دينه وشراء سهمه إلى ما بقي له من المال، فإذا هو لا يبلغ العشرات الخمس، وإذا هو أقصر يدًا وأضيق ذراعًا من أن يبلغ ما يريده ويؤسس لزوجه ولنفسه دارًا يرضيان عنها وعما فيها، ولا بُدَّ لهما مع ذلك من دارٍ ومن أثاثٍ في تلك الدار، فاستأجر لهما الأستاذ محمد رمضان دارًا في حيِّ السكاكيني، وعمدا ومعهما الأستاذ محمد رمضان إلى سقط المتاع، فاشتريا منه ما يقوم بأمر تلك الدار من الأثاث.

وما أشد ما شقيت نفس الفتى حين كان يرى زوجه تغالب دموعها وهي تختار بين ذلك السخف الذي لم يكن بدٌّ من الاكتفاء به حتى يجعل الله بعد عسرٍ يسرًا، وبعد ضيقٍ سعة، وبعد حرج فرجًا.

وقد أوى الزوجان آخر الأمر إلى دارهما، وخادعا نفسيهما عما فيها، واطمأنا إلى ما لم يكن بدٌّ من الاطمئنان إليه.

وكان صاحبنا قد صرف هذا الوقت الطويل عما كان ينبغي أن يفكر فيه منذ بلغ القاهرة. فستبدأ الدراسة في الجامعة بعد أيام، وليس له بدٌّ من أن يعد درسه الأول ويتهيَّأ لإلقائه في ذلك الحفل الذي سيقدمه فيه إلى المستمعين عضو من أعضاء مجلس الإدارة. وما أسرع ما عاد إلى الكتب، وعاد الصوت العذب إلى القراءة، وعاد اشتراك الزوجين في هذه الحياة الصافية النقية التي لا يكدرها المال ولا ينغصها الحرمان، والتي تسلِّي عن اليأس والبؤس والحرمان.

وجاء اليوم الموعود، وأقبل صاحبنا إلى قاعة الدرس، فتلقاه ثروت باشا رحمه الله، وقدَّمه إلى المستمعين أحسن تقديم، وألقى صاحبنا درسه، فرضي عنه الناس، ورضي عنه هو أيضًا.

وعاد الزوجان من ليلتهما تلك موفورين محبورين، قد ملأ الأمل قلبيهما، وأزالا عنهما وَضَر ما احتملا من شقاء، وكان حظهما من السعادة والغبطة والرضا أعظم وأعمق بعد أن ألقى صاحبنا درسه الثاني.

وكان تاريخ اليونان هو الموضوع الذي اختاره صاحبنا لدروسه في هذا العام، ولا سبيل إلى الأخذ في درس التاريخ إلا إذا قُدِّم بين يديه وصف جغرافي للبلاد التي يدرس تاريخها، فكان على صاحبنا أن يعرض الوصف الجغرافي لبلاد اليونان، وشهد الله لقد عرض هذا الوصف فملك قلوب الذين استمعوا له، وملأ نفوسهم رضا عنه وإعجابًا به، وهو لم يصنع في إعداد هذا الدرس إلا أن سمع لزوجه وأطاع.

أرادت زوجه أن تفهمه الوصف الجغرافي لبلاد اليونان، فأخذت قطعة من الورق وصاغتها في شكلها على نحو ما صاغت الطبيعة تلك البلاد، ثم أرادت أن تصوِّر ما في هذه البلاد من الجبل والسهل الذي يضيق حينًا ويتسع حينًا، ومن البحار التي تأخذها من أكثر جهاتها. فصوَّرت ذلك بارزًا في هذه القطعة من الورق ثم أخذت يد الفتى وجعلت تمرُّها على هذه الورقة، بعد أن افترضت معه أنها تبدأ من الجنوب وتمضي إلى الشمال، وتنحرف مرة إلى الشرق ومرة إلى الغرب، لتبين له مواقع البحر، ولتبين له الأماكن التي تضيق حينًا وتتسع حينًا، والتي كانت تقوم فيها المدن القديمة، وما زالت به حتى فهم ذلك حق الفهم وأعاده عليها فاطمأنت إليه.

وكان أول ما عجب له الموظفون في الجامعة أن صاحبنا طلب قبل الدرس أن تعرض الصورة الجغرافية لبلاد اليونان في قاعة الدروس. سمع الموظفون ذلك فأنكروه، ولكنهم أضمروا إنكارهم وأجابوه إلى ما أراد، وأقبل الفتى على مجلسه فأنبأ المستمعين بأنه سيصف لهم بلاد اليونان من جنوبها إلى شمالها، وليس عليهم إلا أن يتبعوه بأبصارهم على هذه اللوحة المصورة. ثم أخذ في الحديث فلم يلجلج ولم يتردد، والطلاب يسمعون بآذانهم ويتبعون بأبصارهم حتى انقضت ساعة الدرس وقد أتم الفتى ما أراد من الوصف الجغرافي لبلاد اليونان.

وكان ثروت باشا حاضرًا هذا الدرس، فلما تفرق الطلاب دعا الفتى إليه فأشبعه ثناءً وتقريظًا وتشجيعًا.

ولم تمضِ أيام بعد تلك الليلة السعيدة حتى أقبل على دار الفتى ذات ضحى شاب من موظفي القصر، فأنبأه بأنه قد أقبل يدعوه للقاء رئيس الديوان.

قال الفتى: وماذا يريد مني رئيس الديوان السلطاني وأنا لم أعرفه، وما أظنه رآني قط؟

قال الموظف: لا أدري، ولكنه أمرني أن أدعوك للقائه، وأن أصحبك إلى مكتبه.

وبعد ساعة كان الفتى عند رئيس الديوان شكري باشا رحمه الله فرأى رجلًا سمح النفس، عذب الحديث، خفيف الظل، له مشاركة في الأدب العربي، ولكن في الأدب العربي الذي كان الناس يحبونه في القرن الماضي، فهو كان يتحدث عن الجناس والطباق وحسن الفكاهة وبراعة التورية، ويروي لكل هذا أمثلة من الشعر المتأخر لم يحفظ الفتى منها إلا بيتًا واحدًا؛ لأنه لم يكد يسمعه حتى غلبه الضحك على ما كان ينبغي له من الأدب والوقار في ذلك المجلس المهيب، وضحك شكري باشا لضحك الفتى، وقال في نغمة لا تخلو من حزن: كان هذا البيت يملؤنا رضًا وإعجابًا وها أنتم أولاء شباب اليوم تضحكون وتتندرون به وبأمثاله، والبيت هو:

أخذ الكِرا منِّي وأحرمني الكَرى
بيني وبينك يا ظلوم الموقف

ويجب أن تقرأ الكِرا مكسور الكاف في أول البيت وهو الأجر ومفتوح الكاف في آخر الشطر الأول وهو النوم، وأن تعرف أن «الموقف» هو ذلك المكان الذي كانت تجتمع فيه الحُمُر لتحمل إلى حيث يريدون من المدينة.

والشاعر يريد أن يقول: إن صاحب الحمار قد أخذ منه الأجر، واشتطَّ عليه فيه، فذاد عنه النوم، ثم هو يشكو من ظلم صاحب الحمار، ويجعل موقف الحساب يوم القيامة بينه وبينه لينصفه الله منه.

وظاهر أن الجناس بين الكِرا والكَرَى والتورية بالموقف لموقف الحُمُر هما مصدر الجمال الذي فتن رئيس الديوان وأضحك الفتى؛ ولا عليك من هذه الهمزة التي زيدت في حرمني فقد دعت إليها ضرورة الوزن، والضرورات تبيح المحظورات!

وطال مجلس الفتى عند رئيس الديوان حتى إذا أقبل بعض الزائرين، استأذن في أن ينصرف، فأذن له الرئيس وهمس في أذنه: إن مولانا يحبُّ أن يراك.

ولم يعرف صاحبنا كيف يقول، ولكنه لم يُمْسِ من ذلك اليوم حتى عاد إليه موظف القصر يحمل إليه كتابًا من كبير الأمناء بأن المقابلة التي الْتمسَ التشرف بها قد حُدِّد لها تمامُ الساعة الحادية عشرةَ من صباح غدٍ.

وسمع الفتى ذلك الكتاب فلم يملك نفسه أن قال: ولكني لم ألتمس شيئًا.

قال موظف القصر في صوتٍ يجري فيه الخوف: لا تقل هذا، فمراسم التشرف بمقابلة مولانا تقتضي دائمًا أن تطلب المقابلة.

وسكت الموظف قليلًا ثم قال: هل عندك سترة الردنجوت؟

قال الفتى: نعم.

قال الموظف: ما شاء الله! كنت أريد أن أعيرك سترتي.

قال الفتى: لقد اتخذت هذه السترة حين كنت أتهيأ للزواج.

ولم تتم الساعة العاشرة من صباح غد حتى أقبل موظف القصر ذاك رحمه الله فصحب الفتى إلى حيث أسلمه لأحد الأمناء الذي أخذ يحدثه حتى حان موعد المقابلة، فصحبه إلى مكتب السلطان، وخفَّ السلطان للقائه كأحسن ما يكون اللقاء، ثم أجلسه غير بعيد من المائدة التي كان يجلس إليها، وتلطف له في الحديث، وشمله بعطفٍ كثيرٍ، وسأله: ماذا درس في فرنسا؟ وماذا نال من الدرجات الجامعية؟ فلما أنبأه الفتى بما درس وما نال من الدرجات أظهر الرضا، وأثنى على الفتى ثناءً حسنًا لأنه درس اللغتين القديمتين، ثم قال مترفقًا: تعلم أني كنت رئيس الجامعة حين كنت أنت طالبًا فيها

فأطرق الفتى ولم يُجب، قال السلطان: إنما ذكَّرتك بذلك لأدعُوَك إلى أن تلجأ إليَّ كلما ضقت بشيء أو احتجت إلى عون.

واضطرب لسان الفتى بالشكر، ولكن السلطان دقَّ الجرس ووقف، فوقف الفتى، وأقبل الأمين فصحبه إلى خارج الغرفة، وأسلمه إلى موظف القصر ليردَّه إلى داره.

وكان الفتى مضطربًا قبل أن يلقى السلطان لقصة كانت له معه حين كان رئيسًا للجامعة، وكان صاحبنا طالبًا فيها.

انعقد في مصر مؤتمر للمكفوفين في سنة من تلك السنين، واهتم له سكرتير الجامعة أحمد زكي «بك»، فألقى فيه حديثًا وقدم إليه كتابًا عربيًّا قديمًا ينبئ فيما يظهر بأن العرب قد سبقوا إلى اختراع الكتابة البارزة.

وفي ذات مساء كان الفتى يسعى إلى غرفة الدرس، وإذا رجل يأخذ بمجامع جبته وقفطانه ويقول له في لغةٍ ملتوية: تعرف أن في مصر الآن مؤتمرًا منعقدًا يبحث في شئون العميان!

قال الفتى في عنف: وما أنا وذاك؟!

قال الرجل: تلقي فيه خطبة.

قال الفتى: لن ألقي شيئًا.

فخلاه الرجل ومضى وهو يقول: مش فاهم، مش فاهم.

ولم يكد الفتى يبلغ غرفة الدرس حتى أحاط به ثلاثة أو أربعة من أعضاء مجلس إدارة الجامعة وجعلوا يسألونه: أتعرف من حدثك؟

قال الفتى: لا أعرفه، ولا يعنيني أن أعرفه.

قال قائلٌ منهم وهو يضع يده على كتف الفتى: إنه أفندينا الأمير! إنه رئيس الجامعة، فلا أقل من أن تجيبه في أدب حين يتحدث إليك.

وهزَّ الفتى رأسه ولم يقل شيئًا، فتفرقوا عنه، وإن أحدهم ليقول: «دعوه فإنه شيخ!»

ذكر صاحبنا هذه القصة في طريقه إلى القصر فاضطرب لها، فلما ذكره السلطان بأنه كان رئيسًا للجامعة وقع في نفسه أن السلطان يريد أن يذكره بتلك القصة، فكاد الاضطراب يغلبه على أمره لولا أن السلطان رده إلى الهدوء بما مضى فيه من حديثه ذاك.

ولم يمضِ وقت طويل حتى تعقدت الأمور بين الجامعة وبين صاحبنا، فهو قد تبين أن زوجه لا تستطيع أن تمنحه من وقتها كل ما يحتاج إليه للقراءة وإعداد الدروس، ولا تستطيع أن تصحبه دائمًا إلى الجامعة، ولا أن تخرج معه كلما أراد الخروج، فليس لها بدٌّ من أن تُعنى بصبيَّتها ومن أن تقوم على دارها، وإذن فهو محتاج إلى رفيق يقرأ له أكثر النهار، ويغدو معه ويروح كلما أراد غدوًّا أو رواحًا، ولا سبيل إلى أن يقتطع أجر هذا الرفيق من مرتبه، وكان ثلاثة وثلاثين جنيهًا يقتطع منه في كل شهر ما يؤدي به بعض دينه لشركة التعاون، فطلب إلى الجامعة أن تزيد في مرتبه ما يعينه على أجر ذلك الرفيق، وأبت عليه الجامعة ما طلب كأنها ضاقت بكثرة مطالبه، فاستقال في لهجةٍ شديدةٍ غضب لها مجلس الإدارة أشد الغضب.

وقال سكرتير الجامعة لصاحبنا ذات مساء: إن المجلس مزمع أن يقبل استقالتك وأن يطالبك بأن تردَّ على الجامعة ما أنفقت عليك في أثناء إقامتك في فرنسا.

وسمع صاحبنا ذلك فضاق به، واكتأب له، وراح إلى أهله محزونًا كاسف البال؛ فلما قصَّ الأمر على زوجه هوَّنت عليه الصعب، ويسرت عليه العسير، وأقنعته بأنه كغيره من الناس يخطئ ويصيب، وبأنه أخطأ حين أسرع إلى الاستقالة، والرجوع إلى الصواب خيرٌ من الإصرار على الخطأ، وأسرف حين أساء إلى الجامعة التي أحسنت إليه، والرجوع إلى القصد خيرٌ من التمادي في الإسراف، فليس عليه بأس أن يسترد استقالته، وليس عليه بأس أن يعتذر من لهجته تلك القاسية.

وأصبح صاحبنا فاستردَّ استقالته راغمًا، واعتذر إلى الجامعة راغمًا أيضًا، واقتطع من مرتبه منذ ذلك اليوم أجر ذلك الرفيق الشيخ الذي كان يقرأ له ويغدو معه ويروح.

ولم يعلم الفتى كيف ارتفع أمر هذه الخصومة بينه وبين الجامعة إلى السلطان، ولكن موظف القصر يزوره ذات مساء ويقول له في صوتٍ متضاحكٍ: لقد التمستَ التشرف بمقابلة عظمة السلطان، وقد حدد لهذه المقابلة منتصف الساعة الثانية عشرةَ من الغد.

ويدفع إليه كتابًا من كبير الأمناء بهذا المعنى، فإذا انصرف عنه قال: سأصحبك غدًا إلى القصر.

وتلقى السلطان صاحبنا لقاءً حسنًا، وتحدث إليه فأطال الحديث، ثم قال له فجأة: لقد بلغني نبأ استقالتك من الجامعة، وقد أحسنت بالعدول عن هذه الاستقالة، ولا بد من صبرٍ طويلٍ واحتمال كثيرٍ من الجهدِ، فبين هؤلاء الناس وبين حسن الذوق وقت ما زال طويلًا، ولكن اذكر دائمًا ما قلته لك حين لقيتك في المرة الأولى.

ثم دق الجرس ووقف، فوقف الفتى، وأقبل الأمين فقاده إلى خارج الغرفة.

وشعر صاحبنا بأن عليه منذ اليوم للسلطان دَينًا يجب أن يُؤدَّى، ولم تمض شهور حتى كان قد أتم أول كتاب أصدره بعد عودته من أوروبا: «صحفٌ مختارةٌ من الشعر التمثيلي اليوناني»، فأهداه إلى السلطان، ورفعه إليه في مقابلة ثالثة التمسها هو وأجيب إليها، وظن أنه قد أدَّى إلى السلطان حقه وشكر له عطفه عليه وبرَّه به، ولكن السلطان كان يرى شيئًا آخر، وينتظر شكرًا آخر غير إهداء كتاب مهما يكن موضوعه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤