الفصل الثاني

كيف سقطتُ في امتحان العالمية!

لم يكد صاحبنا يتصل بالجامعة حتى رثَّت الأسباب بينه وبين الأزهر، فأصبح لا يمنحه من الوقت إلا أقصره، ولا يعطيه من الجهد إلا أيسره، ولم تكن الجامعة وحدها هي التي صرفته عن الأزهر، وإنما صرفه عنه قبل ذلك زهده فيه، وضيقه به، ومَلَله من أحاديثه المُعادة، وقد انصرف صاحباه عن الأزهر أيضًا: ذهب أحدهما إلى كلية الفرير يُعلِّم فيها اللغة العربية، وذهب الآخر إلى المطبعة الأميرية يُصحح فيها ما كانت تطبع من الكتب، فلم يبقَ لصاحبنا في الأزهر أَرَب، وقد ضاق حتى بأحبَّ ما كان في الأزهر إلى نفسه، وهو المدرس الشيخ سيد المرصفي، فأعرض عنه كل الإعراض، لا زهدًا فيه، ولا نفورًا منه، ولكن سخطًا على الشيخ رحمه الله؛ لأنه أذعن لشيخ الأزهر وأسرف في الإذعان، وأعرض عن معابثة تلاميذه، وتوهَّم أن الجواسيس قد أرصدت له، وبُثَّت عليه، فتحفَّظ في كل ما كان يقول، وكره أن يسمع من تلاميذه بعض ما كانوا يأخذون فيه إذا جلسوا إليه من عبث الشيوخ وخوض في حديثهم! وقال للفتى ذات يوم حين أخذ في بعض ذلك: «لا، لا، لا، دعنا نأكل العيش!» فتركه الفتى يأكل العيش … وأصبح لا يلقاه إلا يوم الجمعة يسعى إليه في بيته، فينفق معه الساعات حلوة حُرَّة، يقول فيها ما يشاء، ويسمع ما يشاء الشيخ أن يقول، وما أكثر ما كان الشيخ يقول!

ومنذ ذلك الوقت أيضًا سلك الفتى في حياته طريقًا لم يكن يُقدِّر أن سيتاح له سلوكها، فاتصل بالجريدة ومديرها الأستاذ لطفي السيد، وقوِيَت الصلة بينهما حتى كان يلقاه مرات في كل أسبوع، وكان يلقى عنده من شيوخ المطربشين وشبابهم قومًا كثيرين، وكانت أحاديث الأستاذ وزائريه تفتح للفتى أبوابًا من العلم والمعرفة لم تكن تخطر له ببال من قبل، ولم يكن يقدر وجودها فضلًا عن اتصاله بها من قريبٍ أو بعيدٍ.

واتصل الفتى كذلك بالشيخ عبد العزيز جاويش رحمه الله فأكثر الاختلاف إليه والاستماع له، وما هي إلا أن أخذ يجرِّب نفسه في الكتابة، كما جرب نفسه في الشعر بين يدي أستاذه المرصفي. ولم يكد الفتى يأخذ في الكتابة حتى عُرف بطول اللسان والإقدام على ألوان من النقد، قلما كان الشباب يقدمون عليها في تلك الأيام، ولكنه كان نقدًا محافظًا غاليًا في المحافظة، إلا أن يعرض لشئون الأزهر، فهنالك كان يخرج حتى عن طور الاعتدال، ويغلو في العبث بالشيوخ، ويجد التشجيع كل التشجيع على ذلك من الشيخ عبد العزيز جاويش، وربما وجد منه إغراءً بذلك وحثًّا عليه. وكان صاحبنا موزَّعًا بين مذهبين من مذاهب الكتابة في ذلك الوقت، أحدهما: مذهب الاعتدال والقصد، ذلك الذي كان الأستاذ لطفي السيد يدعوه إليه ويزينه في قلبه، والآخر: مذهب الغلو والإسراف، ذلك الذي كان الشيخ عبد العزيز جاويش يغريه به ويحرِّضه عليه تحريضًا، وكان الفتى يستجيب للمذهبين جميعًا، فإذا اقتصد في النقد نشر في الجريدة، وإذا غلا نشر في صحف الحزب الوطني.

ولم ينسَ الفتى قط كلمة كتبها فأورثته ألمًا لاذعًا وحزنًا مُمِضًّا، واضطرته إلى أن يسعى معتذرًا متوسِّلًا بالصديق إلى مَن كُتبت فيه هذه الكلمة. كان ذلك حين اختصم الناس حول سؤال من أسئلة الامتحان في الشهادة الثانوية في الأدب، فكان ممن شارك في هذه الخصومة زميل أزهري من زملائه كان يُعلِّم في كلية الفرير، وكان هذا الزميل ينتمي إلى أسرة كبيرة ويَعدُّ انتماءه إليها من مفاخره، ولكنه لم يكن من هذه الأسرة إلا لأن أباه كان من عتقائها، فلما ردَّ صاحبنا عليه نسبَه إلى الأسرة وبيَّن طبيعة انتسابه إليها لم يُرد إيذاء زميله، وإنما أعجبه هذا التعريض فاستجاب له، ولم يُراجع نفسه فيه إلا حين قرأه مطبوعًا في الصحيفة، ولامه فيه صاحباه، هنالك أُسْقِطَ في يده ولم يَرضَ زميله إلى بعد جهدٍ وعناءٍ. وقد رضي الزميل وصفح، ولكن الفتى لم ينسَ هذا الإثم قط، وما أكثر ما ازدرى نفسه، وحاول أن يأخذها بألا تضع كلمة في مقال حتى تفكر وتقدِّر وتتجنب الإيذاء ما وجدت إلى ذلك سبيلًا!

ولم يكن هذا الندم كل ما جرَّ عليه طول اللسان من ألم، فما أكثر ما كان يَكْلَفُ بالنقد فيمضي فيه مؤمنًا به حريصًا عليه لا يحسب لعواقبه حسابًا.

ثم تمضي الأيام في إثر الأيام، وإذا هو قد نسي ما كتب، وشُغل عنه بأشياء أخرى، ولكن الناس لم ينسَوه وإنما حفظوه له، وقيَّدوه عليه، وأخذوه به حين سنحت الفرصة. وطول اللسان هو الذي قطع الصلة قطعًا حاسمًا بين صاحبنا وبين الأزهر، ودفعه دفعًا إلى حياته التي أتيحت له، وعرَّضه لسخط أيِّ سخط، وحزن أيِّ حزن، وعناء أيِّ عناء. والغريب أنه قد تلقَّى السخط والحزن والعناء باسمًا موفور الرضا، طيب النفس، فلم تتعلق نفسه قط بالجلوس إلى عمود من أعمدة الأزهر، ولا بإلقاء الدرس في حلْقة من حلقاته.

لم يأسَ إذن على انقطاع الصلة بينه وبين الأزهر، وإنما ملأ قلبه الحزن والأسى حين عرف سخط أبيه الشيخ، وحزن أمه التي كان يختصَّها بالحبِّ والبرِّ والحنان.

كان ذلك حين أنشأ الشيخ رشيد رضا رحمه الله شيئًا سمَّاه مدرسة الدعوة والإرشاد، وأعلن أن هذه المدرسة ستُعِدُّ طلابها من الأزهريين لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، ولإرشاد المسلمين أنفسهم إلى دينهم الصحيح المبرأ من أوهام القرون وأباطيلها. وقد ضاق المجدِّدون من أبناء الأزهر بهذه المدرسة أشدَّ الضيق، وسخطوا عليها أعظم السخط. رأوا فيما أحاط بإنشائها من الظروف انحرافًا عن الوفاء للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده من رجل كان يرى نفسه أقرب تلاميذ الشيخ إليه، وأخصهم به وأوفاهم له، فقد عطف الخديو على هذه المدرسة وأعانها وأغرى شيوخ الأزهر بتأييدها. ورأى تلاميذ الأستاذ الإمام أن في عطف الخديو على هذه المدرسة وإعانته لها ما أثار في نفوسهم الرَّيْب فنفَّروا الناس منها، وأطلقوا ألسنتهم فيها، وعابوا على الشيخ رشيد أنه ثاب إلى من أخرج الأستاذ الإمام من الأزهر وعرَّضه لكثير من الشر والأذى وأغرى به الشيوخ، حتى أذاعوا عن الشيخ ما أذاعوا من السوء، ونالوه بما نالوه من المكروه.

وفي ذات يوم أقام الشيخ رشيد وأصحابه حفلًا بهذه المدرسة، واجتمعوا حول مائدة العشاء في فندق من فنادق القاهرة يقال له: فندق «سافوي»، ونشرت بعض الصحف أنباء زعمت فيها أن أكواب الشمبانيا أديرت حول هذه المائدة، وكان جماعة من شيوخ الأزهر يتقدمهم شيخهم الأكبر قد شهدوا هذا العشاء، ورأوا ما أدير فيه من الأكواب فلم يُنكروا بالعمل ولا بالقول.

هنالك ثارت ثائرة المخلصين للأزهر، فلهجوا بالشيوخ وقالوا فيهم فأكثروا القول. ودافع المدافعون عن الشيوخ بأن زجاجاتٍ فُتحت في ذلك العشاء وكان لفتحها فرقعة، ولكنها لم تكن زجاجات الشمبانيا، وإنما كانت زجاجات الكازوزة! ولكن خصوم الشيوخ من أبناء الأزهر لم يقبلوا هذا الدفاع، ولم يُصدِّقوه، وإنما مضَوْا يلهجون ويقولون في الشيوخ فيُكثرون القول، وكان صاحبنا الفتى أطولهم لسانًا، وأجرأهم قلمًا، وأجرحهم لفظًا. عاب الشيوخ شعرًا ونثرًا، ونشر عبد العزيز جاويش له ذلك في صحيفة «العلم» فرضِيَ المجددون وأغرقوا في الرضا، وسخط المحافظون وأسرفوا في السخط، وتناقل أولئك وهؤلاء هذه الأبيات الثلاثة من شعر الفتى الذي لم ينسبه إلى نفسه، وإنما زعم أنه تلقاه في البريد:

رعَى اللهُ المشايخَ إذ توافَوْا
إلى سافواي في يومِ الخميسِ
وإذ شهدوا كؤوسَ الخمر صِرْفًا
تدورُ به السُّقاة على الجلوسِ
رئيسَ المسلمين عداك ذمٌّ
ألا لله درُّك من رئيسِ

ثم مضت الأيام وتتابعت فيها الأحداث، حتى إذا دار العام رأى الفتى نفسه يتهيأ للامتحان في الأزهر لينال درجة العالمية. وقد تلقَّى الفتى ما كان يسمى حينئذٍ بالتعيين، وهو الدروس التي يجب أن يعدها ليلقيها أمام لجنة الامتحان، ويثبت لمناقشة الممتحنين فيها.

فاستعد الفتى وأحسن الاستعداد، وحفظ فأحسن الحفظ، حتى إذا لم يبق بينه وبين شهود الامتحان إلا سواد الليل، وأقبل عليه شيخه المرصفي رحمه الله فأنبأه هذا النبأ العجيب الذي لم يحمله إليه في ضوء النهار، وإنما حمله إليه في ظلمة الليل، بعد أن صُلِّيت العشاء.

قال الشيخ: إذا أصبحت يا بُني فاستقلْ من الامتحان ولا تحضره من عامك هذا، فإن القوم يأتمرون بك ليسقِّطوك.

قال الفتى: وما ذاك؟!

قال الشيخ: تعلم أني عضو في لجنة الامتحان التي ستحضر أمامها غدًا، والتي يرأسها الشيخ دسوقي العربي، فقد دُعِيَ رئيس اللجنة إلى الشيخ الأكبر وأُمِر بإسقاطك مهما تكن الظروف.

قال الفتى: ولكني سأحضر أمام لجنة أخرى يرأسها الشيخ عبد الحكم عطا.

قال الشيخ: فإن هذه اللجنة لن تجتمع؛ لأن رئيسها أبَى أن يسمع للشيخ الأكبر حين أمره بإسقاطك، فلما ألحَّ الشيخ الأكبر عليه ألحَّ هو في الإباء، فلما خيره الشيخ الأكبر بين إسقاطك وبين ألا تجتمع لجنته، آثر ألا تجتمع اللجنة، وقال: إنما هو غداء وثلاثون قرشًا!

وأبَى الفتى أن يستقيل على رغم إلحاح الشيخ المرصفي عليه في ذلك، ونام ليله هادئًا موفورًا، واستقبل صباحه راضيًا مسرورًا، وغدا على لجنة الامتحان، وكانت مجتمعة في مكان في الدرَّاسة لا يعرف الفتى أقائم هو أم درس فيما درس من المنازل والدور.

غدا على لجنة الامتحان فألقى التحية، وجلس، وكان أعضاء اللجنة يشربون الشاي.

قال الرئيس للفتى: هل أفطرت؟

قال الفتى: نعم.

قال الرئيس: فأتمم هذا الكوب الذي شربت نصفه لتحصل لك البركة.

وأخذ الفتى من الشيخ كوبه مُبتسمًا، وشرب ما فيه متكرِّهًا، ثم أخذ في الدرس الأول فأنفق فيه ساعتين ونصف ساعة، ولقِيَ فيه من المناقشة أشدها، ومن الجدال أعنفه. وفي أثناء ذلك دخل الشيخ الأكبر، فلم يسلِّم، وإنما قال: حرام عليك يا شيخ دسوقي، حرام عليك، ارفق به! ارفق به! ثم انصرف.

ولم يرفق الشيخ دسوقي بالفتى، وإنما أضاف شدة إلى شدة، وعنفًا إلى عنفٍ، وانقضى الدرس الأول، وقيل للفتى: اذهب فاسترح.

وخرج الفتى فإذا كرسيٌّ قد وُضع إلى جانب الباب، وجلس عليه الشيخ الأكبر كأنه ينتظر شيئًا.

ولم يكد يرى الفتى حتى دعا شيخًا من الشيوخ كان هناك وقال له: خذه يا شيخ إبراهيم فاسْقِهِ فنجانًا من القهوة!

وفي انتظار هذا الفنجان أقبل من حمل المحفظة إلى الفتى إيذانًا بأنه قد سقط، وبأن اللجنة لا تريد أن يُتمَّ ما بقي له من الدروس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤