الفصل الخامس

أستاذي يدعو عليَّ بالشقاء!

وكانت حياة الجامعة في أول عهد المصريين بها عيدًا متصلًا يَحيَوْنه إذا أقبل المساء من كل يوم، حين يزدحمون على غرفات الدرس على اختلاف منازلهم من الفقر والغنى، وعلى اختلاف حظوظهم من الثقافة، وعلى اختلاف أزيائهم أيضًا. فكان منهم الغني المترف والفقير الذي لا يجد ما ينفق، وكان منهم القاضي والطبيب والطالب والموظف والمجاور في الأزهر الشريف.

وكان منهم غير أولئك قومٌ لم يأخذوا من العلم إلا بأيسر أسبابه، ولكنهم كانوا يختلفون إلى هذه الدروس والمحاضرات ليروا ويسمعوا ويُمتعوا أنفسهم إن أتيح لهم المتاع. وقد جعلت غرفات الجامعة تضيق بهؤلاء المختلفين إليها والمزدحمين عليها. وعجز الأساتذة عن أن يُسمعوا هذه الأعداد الضخمة التي كانت تكتظ بها الغرفات، فقرر بعضهم أن يُلقي محاضرته مرتين. ولم يرَ الطلاب بهذا بأسًا، كانوا يستبقون ليسمعوا الأستاذ في محاضرته الأولى، فمن حيل بينه وبين ذلك انتظر المحاضرة الثانية. وكانوا ينتظرون في أبهاء الجامعة وحديقتها، وكان أهل السَّعَة منهم يذهبون إلى قهوة كوبري قصر النيل القريبة، فيشربون أو يطعمون، حتى إذا قرُب موعد المحاضرة أسرعوا إليها مشغوفين بها إلى أقصى غايات الشغف. واضطرت الجامعة إلى أن تنظم دخول غرفات الدرس، فلا تأذن به إلا لمن قدموا بطاقات الانتساب، وصدَّت بذلك عددًا غير قليل من الذين كانوا يَسْعَوْنَ إلى هذه الدروس كما كانوا يسعون إلى المحاضرات العامة.

وأقبل الفتى ذات مساء بصحبة غلامه الأسود، فلما بلغ الغرفة أظهر بطاقته، وقد كان بها ضنينًا وعليها حريصًا، وقيل له: تستطيع أن تدخل، فأما غلامك هذا فلا حق له في الدخول.

وأظهر الفتى شيئًا من ضيق، ولكن صاحب الباب لم يحفِل بضيقه ولا بإنكاره، ولا بتوسل من كان حوله من الطلاب، ولا بحاجته إلا أن يصحبه هذا الغلام حتى يجلسه في مكانه ثم يرجع أدراجه فينتظر من وراء الباب حتى ينقضي الدرس.

واضطر الفتى إلى أن يفزع إلى السكرتير العام أحمد زكي بك شاكيًا، وصحبه بعض الطلاب الساخطين على جهل صاحب الباب وعُنْفَه وغلظة ذوقه. وأدخِل الفتى وأصحابه على السكرتير العام، وقصُّوا عليه قصتهم، ولكنهم لم يجدوا عنده شيئًا، وإنما قال لهم في هدوءٍ: النظام هو النظام.

وهمَّ بعض الطلاب أن يُجادله في ذلك فقال له متجهمًا: وماذا نصنع وقد أراد الله لصاحبك ألا يشهد هذه المحاضرات؟

وانصرف أولئك النفر من الطلاب ساخطين على السكرتير العام سخطًا أشد وأعظم من سخطهم على صاحب الباب، وقالوا للفتى: لا بأس عليك، سنصحبك نحن إلى مجلسك.

وصحبوه إلى مجلسه متلطفين له مُتحببين إليه، وردوه إلى غلامه بعد انقضاء الدرس، وجعلوا منذ ذلك اليوم لا يروْن الفتى مقبلًا حتى يحيطوا به من قريبٍ، فإذا بلغ باب الغرفة أخذ أحدهم بيده، وصحبه إلى مجلسه، ثم رده إلى غلامه بعد ذلك، ولو أطاع الفتى نفسه في ذلك المساء لانصرف عن الجامعة ولحرَّم على نفسه الاختلاف إلى دروسها.

ولكن الجامعة كانت أحب إليه وآثر عنده من كبريائه تلك السخيفة.

وهو على ذلك لم ينم ليلته تلك، وإنما أنفقها مسهدًا محزونًا، يذكر كيف لقِيَ مثل هذه القسوة حين أراد أن ينتسب إلى الأزهر في آخر الصبا وأول الشباب، وحين تقدَّم لأداء الامتحان في حفظ القرآن، فقال له أحد ممتحنيه: اقرأ يا أعمى سورة الكهف!

وذكر الفتى بعد سنين قصته هذه في الجامعة، وقصته تلك في الأزهر، حين دخل غرفة الدرس لأول مرة في جامعة مونبلييه، فسمع الأستاذ يقول لصاحبه: أيكون زميلك هذا مكفوفًا!

قال الزميل: نعم.

قال الأستاذ: فإني أراه قد دخل الغرفة دون أن يرفع قلنسوته.

وكان الفتى حديث عهدٍ بأوروبا لم يعرف بعد أن الناس يرفعون قلانسهم حين يدخلون مكانًا مسقوفًا، وأنهم يحضرون الدروس حاسري الرءوس.

وكذلك قُضِيَ على الفتى أن يستقبل طَلَبهُ العلم في الأزهر والجامعة المصرية والجامعة الفرنسية بكلمة عن آفته تلك تؤذي نفسه وتفرض عليه ليلة ساهرة، ثم يُعرض عنها بعد ذلك؛ لأنه لم يكن يرى بُدًّا مما ليس منه بدٌّ، وما أكثر ما ذكر بيت أبي العلاء:

وهل يأبَقُ الإنسانُ من مُلْكِ ربِّه
فيخرجَ من أرضٍ له وسماء؟!

وما أسرع ماكان الفتى ينسى هذه الكلمات المؤذية بعد أن يشتري هذا النسيان بليلةٍ ينفقها مُسهدًامحزونًا! ثم يُقبل بعد ذلك على ما لم يكن بدٌّ من الإقبال عليه من العلم في الأزهر، وفي الجامعة المصرية، وفي جامعات فرنسا.

كان الفتى يرى حياته في الجامعة عيدًا متصلًا، كما كان يراها غيره من المصريين، ولكنها كانت بالقياس إليه عيدًا تختلف فيه ألوان اللذة والغبطة والرضا والأمل، كانت تخرجه من بيئته تلك الضيقة المقلقة في الأزهر، وفي حوش عطا أو درب الجماميز إلى بيئة أخرى واسعة لا حَدَّ لسعتها؛ فهي كانت تتيح له أن يملأ رئتيه من الهواء الطلق حين يسعى إلى الجامعة وحين يعود منها، وأن يملأ عقله من العلم الطلق الذي لا يقيده تحرج الأساتذة الأزهريين فيما كانوا يلقون من الدروس، ولا يُفسده الإسراف في القنقلة والجدال حول هذا اللفظ أو ذاك، وإضاعة الوقت في الإعراب حين لا يكون بين الدرس وبين الإعراب صلة.

وكانت هذه البيئة تتيح له كذلك علمًا يخلق نفسه خلقًا جديدًا لا يتصل بالنحو ولا بالفقه ولا بالمنطق ولا بالتوحيد، وإنما يذهب به مذاهب مختلفة في الأدب وفي ألوان من التاريخ لم يكن يُقدِّر أنه سيعرفها في يوم من الأيام. ولم ينسَ الفتى يومًا خاصم فيه ابن خالته الذي كان طالبًا في دار العلوم ولجَّ بينهما الخصام، فقال الدرعميُّ للأزهريِّ: ما أنت والعلم! إنما أنت جاهل لا تعرف إلا النحو والفقه، لم تسمع قطُّ درسًا في تاريخ الفراعنة! أسمعت قطُّ اسم رمسيس أو إخناتون؟!

وبُهِت الفتى حين سمع هذين الاسمين، وحين سمع ذكر هذا النوع من التاريخ. واعتقد أن الله قد كتب عليه حياة ضائعة لا غَناء فيها. ولكنه يرى نفسه ذات ليلة في غرفة من غرفات الجامعة يسمع الأستاذ أحمد كمال رحمه الله يتحدث عن الحضارة المصرية القديمة، ويذكر رمسيس وإخناتون وغيرهما من الفراعنة، ويحاول أن يشرح للطلاب مذهبه في الصلة بين اللغة المصرية القديمة وبين اللغات السامية، ومنها اللغة العربية.

ويستدل على ذلك بألفاظ من اللغة المصرية القديمة يردها إلى العربية مرة وإلى العبرية مرة وإلى السريانية مرة أخرى، والفتى دهش ذاهل حين يسمع كل هذا العلم، وهو أعظم دهشةً وذهولًا حين يلاحظ أنه يفهمه ويسيغه في غير مشقة ولا جهد.

وهو يعود إلى بيته ذلك المساء وقد ملأه الكبر والغرور، ولا يكاد يلقى ابن خالته حتى يرفع كتفيه ساخرًا منه ومن دار علومه تلك التي كان يستعلي بها عليه. وهو يسأل ابن خالته أتتعلمون اللغات السامية في دار العلوم؟! فإذا أجابه بأن هذه اللغات لا تدرَّس في المدرسة أخذه التِّيه، وذكر العبرية والسريانية ثم ذكر الهيروغليفية، وحاول أن يشرح لزميله كيف كان المصريون القدماء يكتبون، وتنقلب الآية ويُصبح المغلوب غالبًا والغالب مغلوبًا.

ويمضي العام الأول من الحياة الجامعية عيدًا كله، لا يحسُّ الفتى سأمًا منه أو ضيقًا به، وإنما يحس الحزن الممضَّ حين تبدو طلائع الصيف.

وينفق الإجازة كلها مفكرًا فيما سمع، ومشوَّقًا إلى ما سيسمع في العام المقبل، ومتسائلًا عمن يبقى من الأساتذة الذين عرفهم ومن يُدْعَى من أساتذة لم يعرفهم. ثم لا يلبث أن تستأثر الجامعة بعقله كله وجهده كله، وأن تشغله عن كل شيء آخر؛ فقد أقبل أساتذة جُدُد ملكوا عليه أمره واستأثروا بهواه، فهذا الأستاذ كارلو نالِّينو المستشرق الإيطالي يدرِّس باللغة العربية تاريخ الأدب والشعر الأمويِّ. وهذا الأستاذ سنتلانا يدرِّس بالعربية أيضًا، وفي لهجة تونسية عذبة، تاريخ الفلسفة الإسلامية وتاريخ الترجمة خاصة. وهذا الأستاذ ميلوني يدرِّس باللغة العربية كذلك تاريخ الشرق القديم، ويتحدث إلى الطلاب عن أشياء لم يتحدث عنها أستاذ قبله في مصر؛ فهو يفصِّل تاريخ بابل وآشور، ويذكر الكتابة المسمارية، ويتحدَّث عن قوانين حامورابي، والفتى يفهم عن هؤلاء الأساتذة كلَّ ما يقولون، لا يجد في فهمه التواءً أو عسرًا، وهو لا يكره شيئًا كما يكره انتهاء الدروس، ولا يتشوق إلى شيء كما يتشوق إلى ما سيستقبل منها.

وهذا أستاذ ألماني، هو الأستاذ ليتمان، قد أقبل يتحدُّث إلى الطلاب عن اللغات السامية والمقارنة بينها وبين اللغة العربية، ثم يأخذ في تعليمهم بعض هذه اللغات. وإذا الفتى يخرج من حياته الأولى خروجًا يوشك أن يكون تامًّا لولا أنه يعيش بين زملائه من الأزهريين والدرعميين وطلاب مدرسة القضاء وجه النهار وشطرًا من الليل.

ولكن عقله قد نأى عن بيئته هذه نأيًا تامًّا، واتصل بأساتذته أولئك اتصالًا متينًا، فكلهم قد عرفه، وكلهم قد آثره بالحب والرفق والعطف، وكلهم قد أدناه من نفسه، ودعاه إلى أن يزوره في فندقه، وأحب أن يقول له ويسمع منه. ولم ينسَ الفتى موعدًا ضربه لأستاذه سنتلانا ذات صباح، ليحضر معه درسًا من دروس الأزهر، وقد أقبل الأستاذ إلى حيث كان ينتظره تلميذه أمام الرواق العباسيِّ، وذهب مع الفتى إلى درس الشيخ الأكبر الشيخ سليم البشرى رحمه الله، وكان يُلقي درسه في التفسير مع الصباح بالرواق العباسيِّ، وجلس الأستاذ والتلميذ بين الطلاب، وأخذ الشيخ يفسر آية كريمة من سورة الأنعام هي قول الله عز وجل: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ.

وفسّر الشيخ رحمه الله فأحسن التفسير، وخاض في حديث الجَبْر والاختيار، وجعل يردُّ على الجَبْريين ويدفع مقالتهم، ويأخذ الفتى في حوار الشيخ على عادة الأزهريين، فيسمع الشيخ له ويردُّ عليه ردًّا لا يقنعه، ويأبى الفتى إلا اللجاج، فينهره الشيخ بهذه الكلمات: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن! الله أكبر على العلم والإيمان، حضرتك مسلم؟

ويهمُّ الفتى أن يجيب، ولكن الشيخ ينهره في سخرية غاضبة قائلًا: اسكت يا شيخ جاتك الكلاب خلينا نقرأ.

ثم يمضي في حديثه غير حافل بالفتى، ولكن الفتى يهمُّ أن يتكلم، وإذا أستاذه الإيطالي يمسُّ كتفه مسًّا متصلًا، وهو يقول له هامسًا بعربيته التونسية العذبة: اسكت، اسكت، ليضربك!

يميل بالضاد إلى الظاء، ويرى الفتى نفسه مغرقًا في ضحك خفيٍّ، لا يدري أكان مصدره سخرية الشيخ منه أم رفق الأستاذ الإيطالي به وإشفاقه عليه؟!

فإذا انتهى الدرس ذهب الفتى بأستاذه الإيطالىِّ إلى إدارة الأزهر، واستأذن له على الشيخ الأكبر، فأذن له، وتلقَّاه حفيًّا به متلطفًا له في الحديث، ثم ينظر إلى الفتى فيسأله في رفق: أأنت الذي كان يجادل في الدرس؟

قال الفتى: نعم.

قال الشيخ متضاحكًا: ما شاء الله! ما شاء الله! فتح الله عليك وأشقاك بتلاميذك كما يشقى بك أساتذتك!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤