بيت جيتى

الرين والغابة السوداء

قضينا في شافوزن ليلة واحدة، بلغناها عصر اليوم الثاني من أغسطس وغادرناها بكرة الصباح من اليوم الثالث منه، ولم نكن نتوقع أن نرى عيدها المحلي الذي أشرت في الفصل السابق إليه، فلم يكن هذا العيد داعية سفرنا إليها، إنما دعا إلى هذا السفر أن بها مساقط الرين، وأنها على أبواب الغابة السوداء، وفرض على عشاق الرين أن يروا مساقطه، وعلى الذين يقصدون الرين أن يمروا بالغابة السوداء.

ومساقط الرين تقع عنه بلدة نوهاوزن المتصلة بالترام مع شافوزن، ولا يستغرق الترام في مسيرته بين البلدين أكثر من عشر دقائق، ولقد ركبناه بعد وصولنا شافوزن، وتركنا متاعنا في أحد فنادقها القروية البحتة، فلما نزلنا منه دلتنا أعلام الطريق على اتجاه المساقط، فتبعناها حتى كنا عند الجسر الذي يتخطى الناس ويتخطى القطار الرين من فوقه، ونحن نحسب أنا سنرى عنده كل مناظر المساقط التي أسمعتنا طول طريقنا إليها دوي انحدارها، وأطمعتنا بذلك في جمال لم تكذبنا إياه، لكنا لم نرَ من فوق الجسر إلا جمالًا عاديًّا: مياه تنحدر هابطة نحو صخور تتلقاها فترغي وتثير حولها زبدًا، له كما للانحدار جماله، لكنه ليس الجمال الذي وصف لنا الواصفون، والذي تتحدث عنه الكتب كأنه من عمل الجن أو كأنه بعض مناظر السحر.

هذا جمال كم رأينا من مثله في مختلف المنحدرات في سويسرا وفي فرنسا، بل في لبنان نفسها. وإن في منحدر مساقط ديوزا على مقربة من سان جرفيه، وفي دوي مياهها المهوب، وفي تجهم قطع الجبل التي تنحدر المياه عنها، لمَا يلفت النظر أكثر من هذا المنظر. كذلك قلنا ونحن نتخطى الجسر إلى الناحية الثانية من النهر، فلما كنا في الناحية الثانية قابلنا لوح مكتوب عليه: «إن شئت أن ترى المساقط في كل روعتها فسر ثلاث دقائق أخرى.»

وكان لزامًا أن نسير؛ إنَّا لم نجئ إلى هنا إلا لرؤيتها، فلنسر، ثم لنصعد، ثم لنأخذ تذاكر دخول، ثم لنصعد من جديد لنرى من المساقط منظرًا جديدًا، منظرًا غير ما شهدنا من قبل في سويسرا وفي لبنان وفي فرنسا، ثم لنهبط من جديد لنكون أقرب من المساقط ولنراها أشد روعة، ثم لنهبط ثالثة ولنهبط رابعة، لننسى في كل مرة ما شهدنا من صور الجمال غير هذا الجمال، ولنستغفر الرين ما كفرنا بجماله قبل أن نقف على حقيقة جماله، ولنعترف أمامه أن الكفر بالشيء أثر من آثار الجهل به.

سرنا إذن بعدما تخطينا الجسر، وصعدنا في طريق كثير الالتواء غير معبد، ثم قابلنا مدخل بناء قديم كتب عليه أنه قصر لاوفن، وطلب منا أن ندفع فرنكًا مقابل دخول عن كل شخص، ودفعنا مترددين، وتقدمتنا سيدة تهدينا السبيل، وتخطت بنا وسط غرف فيها أشغال من الخشب معروضة للبيع، وجعلت تحدثنا كي نشتري منها تذكارًا لزيارتنا، فازداد أسفنا لما أضعنا من جهد، وخيل إلينا أن هذا المكان ليس إلا شباكًا نصبت لبيع ما به باسم الفرجة على مساقط الرين. فلما بلغنا الشرفتين المطلتين على المساقط من أعلى القصر القديم تركتنا السيدة وقالت: أمامكم أربعة مناظر متعاقبة للمساقط، فاهبطوا إليها بسلام.

وكان لهذا المنظر الأول جمال وكانت له روعة: تبدت الصخور الثلاث الجاثمة خلال مجرى النهر، ولكل واحدة منها صورة الصخرة الأخرى، وتبدى التواء النهر عند هذه الصخور التواء يزيد في انحدار مياهه قوة وفي مضارب زبدها بشاطئه الأيسر روعة وحشية تأخذ الفؤاد كما تأخذه كل مناظر القوة والوحشية. وبدا الجسر بعيدًا وراء الصخور، فلم نلتفت إليه إلا ريثما نعرف منها موقعه، ثم ثبت نظرنا على الصخور قامت إحداها ضخمة مرتفعة فوق الماء يضربها فيرتد عنها هائجًا طائرًا رشاشه حولها سخطًا واستسلامًا. أما الثانية فخالية من وسطها لا يدري أحد كيف نقرت، والماء يدور من حولها مرغيًا مزبدًا، ثم ينحدر بينها وبين الصخرة الأولى إلى هاوية لم نقدر مدى عمقها من مكاننا العالي الرفيع. أما الثالثة فصغرى الصخرات الثلاث، وهي أشبه ما تكون في تواضعها بصخور شلال حلفا، وهي مثلها جاثمة مجثم الفيل الضخم العظيم، والماء يرطم الصخرات والصخرات ترطمه، فيستحيل زبدًا ينحدر إلى القاع العميق تحته، وسحب الماء فوق ذلك تحول دون شعاع الشمس أن يصل إلى الماء وإلى الصخور.

وانحدرنا إلى غرفة فيها زجاج ملون يحيل لون الزبد إلى مختلف ألوانه الحمراء والصفراء والزرقاء، لترى فيه العين أمثال مناظره ساعة الغروب وساعة مطلع الفجر وفي ضحوة النهار، حتى لا يأسف زائر على أن لم يزره في الساعات جميعًا، ثم انحدرنا بعد ذلك إلى مكان صفت حوله مناضد هو أقرب إلى المساقط وأشد تجلية لروعة جمالها. وعلى هذه المقاعد يجلس الناس يمتعون أنظارهم بفتنة هذا العمل الجميل من أعمال الطبيعة الذي لا قبل للإنسان بمثله. فجلسنا مع الجالسين، وأخذنا الإعجاب فأنسانا الجسر وما رأينا عنده، وأنسانا الصعود إلى هذا القصر، بل أنسانا ما حولنا من أمثالنا المعجبين، وطال بنا المجلس أن حسبنا أن ليس بعده مزيد من جمال، وأصرت زوجي على أن تظل في مكان الإعجاب هذا لا تبرحه، وانحدرت أنا نحو المنظر الثالث الذي يلي هذا الموقع، فهبطت طريقًا ضيقًا استدار في طريق آخر، ثم إذا بي أمام صخرة لا يرى الإنسان معها من مساقط الرين شيئًا، ولكني ما لبثت أن رأيت رجلًا خارجًا من جوف الصخرة، خلال نقر فيها، فدخلت من حيث خرج، واستدرت مع الصخرة، فإذا بالمنظرين السابقين من مناظر المساقط دون هذا المنظر الثالث روعة بمراحل، وإذا بي أعود أدراجي صائحًا بزوجي أن تنزل لترى. ويضيع صوتي في خوار الهدير فلا تسمعه، فأصعد وأصعد حتى صرت إلى جانبها وأنا أكرر الصياح: تعالي تعالي! إن ما ترين هنا ليس شيئًا، إن الجمال كل الجمال في المنظر الثالث! وهبطنا معًا، واجتزنا الصخرة، ووقفنا تتحرك في صدورنا آهات الإعجاب والتقديس. لم يبقَ جسر، ولم تبقَ صخور، ولم يبقَ ماء، وإنما هو زبد ورغاء يندفعان بقوة أشد قوة في هذا الالتواء، فيخيل للإنسان أن الصخر سيميد، وأن الأرض ستنشق، وأن ستسقط السماء وتنهد الجبال هدًّا، وهذا الزبد والرغاء ينبعث من قوة انحدارها رشاش كأنه البخار امتلأ به الجو كله أمام النظر، فكأنما النهر كله بخار لا ماء فيه، والدوي الهائل يزلزل السمع ويزلزل النفس ويزلزل الوجود كله زلزالًا عظيمًا. والشمس في السماء تحاول أن تخرق السحب لتبعث بشعاع إلى هذا المنظر، فيستحيل الشعاع رشاشًا وبخارًا، كأنه بعض هذا الماء الهائج في انحداره، وكأنه له ما للماء من دوي وزئير. ونحن والذين جاءوا ليشهدوا هذا المنظر وقوف نقدس القوة الهائلة تقديس إعجاب بل عبادة؛ وكيف لا نقدسها ولم يبقَ لنا عاصم منها غير الصخرة التي قد تتحطم تحت سلطانها فإذا نحن هباء! ويصيبنا الوقت بعد الوقت منها رشاش، فنستريح له كأنه ماء زمزم أو ماء بعض البقع المباركة. أليس هو أثر هذه القوة الطبيعية الكبرى؟ أليس مظهر عظمة الوجود في بعض أركانه؟ أوليس كلها مظهرًا للعظمة مقدسًا؟ ورشاش العظمة مقدس كالعظمة نفسها، أو له على الأقل بعض قداستها!

وأطلنا الانتظار أمام هذه الصورة البديعة من صور المساقط، حتى كادت موليات النهار تنذرنا بضرورة الإسراع بالأوبة، لكن منظرًا رابعًا لا يزال باقيًا، ويجب أن نهبط إليه، فهبطنا. أتراني مستطيعًا وصف كل شيء من هذا الذي نرى! لقد أصبحنا لا نرى من المساقط إلا رشاشًا يندفع اندفاع القذيفة ويكاد يحطم ما أمامه تحطيمًا. على أن هذا الرشاش انتشر أمامنا فأصبح عالمًا استغرق كل حواسنا وكل حديثنا وكل تفكيرنا، واستبقانا أمامه زمنًا جاء خلاله جماعة تقدموا على سلم من الحديد إلى ناحية، فإذا بهم قد امتدت إليهم من ألسنة رجعتهم القهقرى في خيفة وإعجاب. وفي هذه اللحظة تكشف بعض السحب، فإذا الشمس قد انحدرت وراء الجبال وأرسلت من أشعتها ما ألهب الأفق، لكن الرغاء والرشاش لم يعبآ بهذا اللهب وبقيا في ناصع بياضهما، وكأنهما يقذفان إلى لجة النهر ثلجًا مندوفًا ما يكاد يصل إلى اللجة حتى يستحيل ماء مثلها، له زرقه كزرقتها. ولما آن للنفس أن تستجم لتبتعث في أطوائها هذه المناظر البديعة النادرة، عدنا أدراجنا وقد تولانا من البهر ما ألقى علينا من وجوم الصمت بما لا مستطاع معه لأكثر من ألفاظ الإعجاب بقدس الجمال في أحد مناظر الطبيعة البديعة. وارتقينا طريقنا حتى كنا عند المقاعد، فإذا الناس قد بدءوا ينصرفون أن كانت لجة الليل قد بدأت تدعوهم إلى الانصراف، وأن كان مطلع القمر متأخرًا تلك الليلة. وانصرفنا نحن أيضًا نحدث أنفسنا ويتحدث كل إلى صاحبه بما تكنه نفسه وبفاحش ما يدعو إليه حكم النظرة الأولى من خطأ.

وعاد بنا الترام إلى شافوزن، فرأينا فيها عيد الموسيقى البلدية، ثم غادرناها بكرة الغد قاصدين اختراق الغابة السوداء. ترى أنكتفي منها بالمرور أم ننزل بها؟ لكنا يجب أن نكون بكولونيا بعد غد كي نستعد لمؤتمرها. والذهاب من ماينس إلى كولونيا بطريق الرين الذي اعتزمنا ركوبه يقتضي يومًا كاملًا. إذن فلنذهب مباشرة إلى ماينس، ولنخترق هذه الغابة في القطار. وكثيرًا ما كان طريق القطار في أجمل المواقع، ولعله كذلك كان في هذه الغابة؛ فلقد كان يجري بنا بين أشجار كثيفة قاتم لون ورقها، لعله هو الذي دعا إلى تسميتها السوداء، فلما كنا على مقربة من تريبرج، إذا بنا أمام جبال شاهقة ليست دون جبال سويسرا رفعة، وإذا الأودية والغوطات عند سفوح الجبال منحدرة انحدارها في سويسرًا، وإذا القطار يشق النفق إثر النفق حتى اجتاز أربعة عشر نفقًا. مناظر رائعة تجعل للذين يغرمون بجمال هذه الغابة السوداء الحق كل الحق فيما هم به مغرمون.

وظللنا بين الأشجار بعد ذلك حتى بلغ القطار «بادن بادن»، وحتى اقترب بذلك من محاذاة الرين، لكن مجرى النهر ظل بعيدًا منا، وظللنا نمر بسهول في أثر سهول تقوم عليها المزروعات المختلفة، وبين حين وحين ترتفع في الجو مداخن المصانع معلنة أن هذه المنطقة الغنية التي استهوت أفئدة الحلفاء في أعقاب الحرب بما فيها من فحم ومعادن إلى جانب ما يكسو أرضها من شجر ونبات، هي منطقة صناعية بمقدار ما هي منطقة زراعية. وفيما نحن نشهد هذه المناظر في روعة تعاقبها وننتظر السويعة الباقية على بلوغ ماينس، إذا بلد كامل زرعت أرضه كرومًا، لعلها من الكروم التي جعلت لنبيذ الرين شهرته، ثم تبدى النهر محاذيًا القطار، وظل كذلك حتى دخلنا ماينس نقضي بها ليلتين ثم نغادرها توًّا إلى كولونيا لنشهد معرض الصحافة، ولنحضر مؤتمرها.

وقصدنا أحد فنادق ماينس فقيل لنا إنه ليس به مكان، فقصدنا آخر فقوبلنا بهذه العبارة، وقصدنا ثالثًا ورابعًا، وجعلنا ندور ومعنا في العربة متاعنا، حتى انتهينا إلى فندق واضطررنا إلى الإقامة به اضطرارًا. ومع أن ماينس مدينة جوتنبرج، ومع وقوعها على الرين، ومع ما بها من أشياء تستحق الوقوف عندها، فقد كانت هذه الصعوبة التي قابلتنا في الفنادق مما صرف أنفسنا عنها إلى حد كبير. ولقد لاحظنا في أسفارنا جميعًا أن أول أثر يتركه بلد من البلاد في نفس النازل به يتعلق بالفندق الذي يأوي إليه، وبمقدار ما يجد فيه من راحة وطمأنينة، فهو عنوان المدينة عند الإنسان، وفضلًا عن هذا فإن لطمأنينة الحياة المادية أثره في الحياة النفسية. ألست تجدك إذا نزل بك همٌّ أو مرض رغبت عن كثير من ألوان التفكير والإحساس والشعر مما كنت ترغب من قبل فيه؟ ولذلك كان توفير الطمأنينة المادية للناس من كل الطبقات مما يزيدهم إقبالًا على الحياة ويزيدهم إنتاجًا فيها. بذلك قال الاقتصاديون بعد أن رآه أرباب الأعمال رأي العين، وعلى أساسه طلبوا للناس مزيدًا من العلم بالحياة بكل ما فيها ليزدادوا بها استمتاعًا، وعليها حرصًا، وفيها إنتاجًا. على أن هذا الذي لقينا في ماينس وصرفنا إلى حد كبير عن زيارة أماكنها المختلفة كان له من ناحية أخرى أثر حسن، ذلك أنَّا اعتزمنا أن نقضي اليوم الذي كان مقدرًا أن نقيمه بها في فرانكفورت التي تبعد عنها في القطار السريع نصف ساعة. وفرانكفورت مدينة كبيرة فيها ضعف ما في ماينس من متاع، ثم إن في فرانكفورت بيت الشاعر الفيلسوف الألماني الكبير جيتى، ومهما يكن في ماينس مما يجذب النظر ويلفت الحواس فهو ليس ببالغ شيئًا إلى جانب ما تبلغه من النفس زيارة بيت جيتى. إذن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا.

وذهبنا في اليوم التالي إلى فرانكفورت. ما هذه المحطات الضخمة التي تقابلك في كل مكان في ألمانيا؟ فمنذ تركنا شافوزن ودخلنا الغابة السوداء ونحن لا نفتأ نرى بين حين وحين محطات دونها محطة عاصمتنا، مع أن هذه البلاد ليست عواصم، وما كان منها عاصمة فهو عاصمة مقاطعة نعدها نحن مديرية. ومحطة ماينس ومحطة فرانكفورت من أكبر هذه المحطات وأفخمها، فإذا أنت خرجت من المحطة قابلتك فرانكفورت بعظمة وفخامة وجلال، وتسير فإذا طرق متسعة جميلة الرصف بالأسفلت متسعة الأرصفة، تظلها على الجانبين أشجار لا أدري ما حاجة أهل هذه البلاد الشمالية إلى ظلالها، وفي القاهرة العظيمة لا نرى في الشوارع شجرة تظل المارة في أشد أيام الهجير. وتنتقل من ميدان المحطة الفسيح فإذا بك بعد زمن قصير في ميدان ليس أقل منه سعة، وهو محاط بالحدائق والتماثيل، وفي أحد جوانبه تمثال بسمرك العظيم، وعلى مقربة من هذا الميدان ميدان آخر فيه من ناحية تمثال لجوتمبرج تحف به من حول القاعدة تماثيل نسوة تمسك كل واحدة بيدها أثرًا من آثار الطباعة أول عهد الناس بها، وفيه من الناحية الأخرى تمثال لجيتى يطل على الحدائق البديعة نسقت من حوله، وكذلك تجدك تجتاز طريقًا فسيحًا إلى ميدان كالأولين أو أعظم منهما، وكذلك تظل حتى تصل إلى فرانكفورت القديمة التي لم تكن قد عرفت الأوتموبيلات والأوتوبيسات والتراموايات، والتي كانت كذلك في غنى عن هذه السعة في الشوارع، فإذا بك ترى طرقًا ضيقة ومنازل قديمة، وإذا في إحدى هذه الطرق بيت جيتى.

وأخذنا تذاكر الدخول، ودخلنا وفي النفس للمكان إجلال ومنه هيبة؛ هنا ولد وتربى شاعر ألمانيا وفيلسوفها العظيم، وعلى هذا السلم الذي ترتقي للأدوار العليا ثم تهبط — ومن يدري فلعلنا لا نعود إليه بعد أبدًا — وطئت قدماه مئات المرات بل ألوفها. وفي تلك الحديقة الصغيرة التي تراها في فناء الدار جلس يفكر ويستوحي آلهة الشعر والحكمة، وبوحي هذه الآلهة كتب آياته في «فوست» وفي «فرتر» وفي غيرهما من كتبه الخالدة التي جعلته رجل العالم كله بدل أن يكون رجل ألمانيا وحدها. نعم! هنا ولد جيتى وتربى ونشأ وكتب، وإلى هنا قصدنا ويقصد الناس لتمتلئ نفوسهم هيبة بذكرى جيتى وما خلد على الزمن من أثر عظيم. وسواء لديهم أكانت دار جيتى كوخًا أم قصرًا، وسواء أكان أثاثها مخملًا أم صوفًا، فليس ذلك يعنيهم إلا لأن فيه تجلت آثار هذه الروح الكبيرة التي وجهت تفكير العالم وشعوره وجهة أسمى، وجعلت للحياة شعرًا أغزر مادة وأقوى إلهامًا، وهدت الناس السبيل إلى متاع بحياة العاطفة أعمق غورًا وأبعد أثرًا.

وهذه الدار التي نشأ فيها جيتى هي دار أبويه، وهي تدل على أنهما كانا على حظ من السعة غير قليل، وأن أباه كان رجل علم ودراسة، فنشأ هو بين الكتب والموسوعات فتذوق منها خياله وتذوق عقله، كما نشأ على ضفاف نهر المين وعلى مقربة من الرين وبدائع جماله، فأحب الحكمة والجمال جميعًا، وعرف الفلسفة والشعر معًا، وأولع بالعلم وما يقتضيه من منطق، كما هام بالخيال الفسيح تمد بدائع الرين فيه وتزيده سعة وفسحة. ترتقي إلى الطابق الأول على سلم خشبي متسع، فتقابلك عند وصولك إلى هذا الطابق صالة فسيحة وضع فيها تمثال لجيتى حين كان في الثانية والثلاثين من عمره، كما ترى بها مكتبة أبيه وفيها من الكتب الفرنسية والكتب الألمانية ما يغطي أكثر جدرانها، أما مكتبته هو ففي الطابق الثاني، وهي لا تزيد على رفوف قليلة من صنع يده حين كان صبيًّا، وبها بعض كتب هي كتبه المختارة. أما المكتب الذي كتب عليه «فوست» و «فرتر» والدواة والريشة اللتان خطتا هذين الكتابين العالميين، فكلها بسيطة أشبه ما تكون بأدوات تلاميذ المدارس الثانوية. وليس حول المنزل مما كان قائمًا أثناء حياة الشاعر الفيلسوف ما يوحي معاني الجمال أو الحكمة؛ فحكمة جيتى وصور الجمال التي صورها إنما كانت قائمة في نفسه، وكانت أثرًا من آثار دراسته وجولاته بين مختلف صور الطبيعة يختزنها ثم يقلبها، ثم يتمثلها، ثم تصبح بعضًا منه، ثم تفيض عنه، فلا يرى مفرًّا من تسطيرها على الورق لتكون هذه الآيات البينات التي أورثنا. وغير مكتبة الأب ومكتب الابن ترى مخلفات جيتى في هذا المنزل بالغة كلها غاية البساطة، فإذا عدت إلى الطابق الأرضي ودخلت إلى مطبخ البيت، وجدت من عناية أم الشاعر به ما يدلك على أن القوم كان لهم بالطعام ولع، ولفن الطعام إكرام وتقدير؛ فليس شيء من معدات طهي النشويات والحلويات وغيرها إلا تجده كاملًا. وإلى جانب المطبخ غرفة الطعام بها غير المائدة والمقاعد عدة تطريز لأم جيتى ما يزال باقيًا عليها أثر من آثار يدها، ولعلها كانت تظل في هذه الغرفة أثناء طهي الطعام لتباشره ولتشرف عليه، ولتستوثق من أنها وزوجها وابنها سينالون من شهي الغذاء ما تطمئن له بطونهم وقلوبهم، وتستريح له نفوسهم وأعصابهم.

على أنك واجد إلى جانب حديقة الفناء متحفًا صغيرًا يدلك على أن الشاعر الكبير كان يعنى بالجمال لذاته عناية معناها أن الجمال كان بعض جوانب نفسه، أو أنه كان ضياء هذه النفس فأضاءت به على الوجود كله. فهذه الصور والمناظر البديعة النقش والتلوين تدل على دقة في الاختيار وعلى ذوق للجمال يقدر حقًّا معنى الجمال. وهذه الموضوعات التي تمثلها الصور من مظاهر العواطف المختلفة تحدث عن نفس دقيقة الحس هي نفس الشاعر بمعنى كلمة الشاعر في كماله، فإذا أضفت هذه الناحية من نواحي نفس جيتى إلى الناحية التي يدل عليها ولعه بالكتب ناحية الحكمة والفلسفة، وإلى الناحية التي تكونت من عناية أمه بطعام الأسرة جميعًا، عرفت كيف تأتَّى لهذه المواهب الممتازة أن تؤتي كل تلك الثمرات الشهية الخالدة.

وغادرت هذا البيت البسيط القديم ونفسي تحدثني كيف يترك هذا المنزل من الأثر فيها أبلغ مما تركت آثار الملوك وذوي التيجان بالغة ما بلغت عظمتهم، وكيف يكون له من الإجلال والاحترام أكثر مما كان للقصور التي رأيت في الآستانة وفي بودابست وفي فينا وفي فرساي وفي وندسور، ولم يكن جواب نفسي عن سؤالها عسيرًا؛ فتلك القصور الفخمة الضخمة كانت تأخذ العين عمارتها والنفس عظمتها؛ وعمارتها البديعة وعظمتها الفخمة ليست من صنع الملوك الذين أقاموا بها والذين جعلوا أنفسهم أربابًا فيها، وإنما هي من صنع موهوبين في الفن وفي العمارة، كما كان جيتى موهوبًا في الشعر وفي الحكمة؛ فنحن إذن لا نذكر الملوك الذين نزور قصورهم، وإنما نذكر بديع صنع الصانعين فيها. وإذا كان لهؤلاء الملوك أنفسهم من ذكر فقلما يخلو مما تغص به النفس ويضيق له الصدر. أما هذا البيت البسيط القديم فعظمته ليست في عمارته ولا في أثاثه ولا في نقوشه، وإنما عظمته في عظمة ذكرى الروح العظيم الذي أفاض ويفيض على الإنسانية جميعًا حكمة وشعرًا وجمالًا.

•••

وعدنا آخر النهار إلى ماينس، حتى إذا كان الصباح بكرنا باليقظة وذهبنا إلى الباخرة النهرية التي تقلنا على نهر الرين إلى كولونيا، وكما تقع فرانكفورت مسقط رأس جيتى على أحد روافد الرين كذلك تقع «بون» مسقط رأس الموسيقار النابغة العظيم بتهوفن. والرين وشواطئه بين كولونيا وبون قصيدة جديرة بعبقرية جيتى، وأنشودة جديرة بنبوغ بتهوفن؛ تقع العين من هذه الهضاب الخضراء على شعر وعلى أنغام تشيع في النفس البهجة والطرب، وتستثير في جوانب الفؤاد لحن المسرة الذي اقتضى بتهوفن كل حياته الموسيقية ليضعه وليطرب له. ولقد كنت أعجب لكاتب كبير مثل «لوتي» كيف تتكرر في كتاباته عبارات الإعجاب والهيام والبهر والجمال والروعة في وصف المناظر المختلفة التي تقع عليها عينه، وكيف يقف فنه البديع عند هذه الألفاظ العامة، وكيف لا تترجم له المناظر التي يراها عن أفكار مختلفة، أما اليوم وأنا أتخطى من سويسرا إلى الغابة السوداء إلى شاطئ الرين، فأرى «للوتي» أبلغ العذر. إن أغنى اللغات لأعجز عن أن تعبر عن هذه الصور المتتالية من الجمال الساحر بأكثر من هذه الألفاظ، ولست أدري أتستطيع أنغام الموسيقى التي تتحدث إلى النفس دون استعانة بغيرها أن تعوضنا عن هذا الجمال ألحانًا. وأنا الآن إذا حاولت أن أصف ضفاف الرين بين كولونيا وبون فلن أجد من العبارات إلا ما سبق لي ذكره؛ فهي جبال قليلة الارتفاع، تغطيها الخضرة المختلفة الألوان، فتضحك، أو بعبارة أدق، تبتسم أمام النظر ابتسامة الغبطة والنعيم، وتبعث إلى النفس بهذه المشاعر. والنهر خلال هذه الجبال يتلوى يمنة تارة ويسرة تارة أخرى، ويتجلى أمام عينك على سفوح هذه الجبال الزاهية بخضرتها المزدهرة منازل وقرى ومدائن وقصور. وبينا أنت بالمنظر الذي أمامك مأخوذ إلى حد البهر، إذ ترى النهر يستدير من جديد، وإذا منظر آخر هو الجبل والخضرة كذلك، ولكنه جبل غير الجبل، وخضرة غير الخضرة، وجمال غير الجمال، فبهر غير البهر وغبطة غير الغبطة ونعيم غير النعيم. وهذه الحصون القديمة تمر بك فتحدثك عن تاريخ قديم ما تكاد تذكره حتى تنسيك إياه الخضرة المتجددة الحياة مع كل يوم جديد، وتحسب نفسك كلما تلوَّى النهر حبيسًا في بحيرة من بحيرات سويسرا أسيرًا لفتنة جمالها، لولا أن الجبال دون الجبال ارتفاعًا وإن كانت الأشجار وخضرتها لا تقل عن الخضرة والأشجار رواءً وروعة، ويبلغ منك هذا الجمال حتى تود لو ترى جبلًا أجرد السفح أو سهلًا يمرح النظر في امتداده، ولا ينيلك الرين ولا شواطئه من مبتغاك شيئًا، وتذكر من تلوِّي الرين تلوي البسفور وتلوي الدانوب عند أبواب الحديد. والفسفور، ولا ريب، أروع بمياهه البديعة الزرقة، وبجباله المختلفة الألوان، لكن خضرة سفوح جبال الرين أكثر نضرة وأبهى غضارة وأدعى للإعجاب بالإنسان ومعونته الطبيعية لتزداد على جمالها جمالًا. وأبواب الحديد على الدانوب أكثر مهابة بعظيم ارتفاعها، فالإنسان بينها في شعور دائم بالرهبة والجلال، لكن ابتسامة الرين العذبة أشهى وأحلى، ويزيدها عذوبة أنها ليست ابتسامة متكررة في صورة واحدة، بل هي تختلف، كما تختلف ابتسامة المرأة الجميلة بين ابتسامة السرور وابتسامة الرضا وابتسامة الإعجاب وما شئت من ابتسامات هي للنفس نعيم وغبطة ومسرة. وتقف الباخرة عند كوبلنز وعند بون، ويتغير أثناء ذلك لون السماء، ويهتن المطر فلا يزيدها هذا التغير في الجو والمناظر إلا بهاء وروعة، وتخطر الباخرة الضخمة بعد بون والناس مطمئنون لما يجدونه فيها من كل ألوان المتاع، حتى تصل إلى كولونيا بعد الساعة الخامسة، أو بعد الساعة السابعة عشرة كما يقول الأوربيون.

وكذلك وصلنا كولونيا، وكذلك كنا في المدينة التي أقيم فيها أول معرض عالمي للصحافة، والتي يعقد فيها أول مؤتمر عالمي للصحافة كذلك، وهي كذلك المدينة التي تقوم فيها أبدع كنائس ألمانيا القديمة. فلنقم بها حتى نشهد المعرض والمؤتمر، وحتى نرى ما يهيئ لنا المعرض والمؤتمر فرصة رؤيته من مشاهد وآثار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤